التخطي إلى المحتوى

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس

(ميرنا).

شغلت الموسيقى بأعلى صوت وقدت السيارة بأقصى سرعة رغم رغبتي الشديدة لو ان الطريق يطول اكثر، لو ان الزمن يتوقف لبرهة، اريد ان اشعر اني اتنفس ولكني كلما اردت الشعور بذلك كلما زدتُ اختناقاً، انهما ينتظراني بالتأكيد. واستطيع تخيلهما في هذه اللحظة. امي لايمكنها الجلوس الان من شدة غضبها وستبدأ بالتحرك ذهاباً واياباً. اما ابي فهو سيكون عكسها تماماً، سيجلس بسكون ويختار نقطة معينة في الجدار الذي امامه ليحدق بها ويركز. ويفكر. ويخطط، ثم عندما يحين الوقت. سينفجر! انا اعرف هذا جيداً فأنا قد ورثت هذه الصفة منه…

دخلت الممر الحجري بسيارتي ووقفت امام الباب الداخلي للمنزل واطفأتها. ولكني لم انزل فوراً. انها لحظات الهدوء الاخيرة واريد عيشها لأطول فترة ممكنة قبل ان ادخل لساحة المعركة، اغمضت عيناي لبرهة. اخذت نفساً عميقاً وطويلاً. رفعت اصابعي نحو ميدالية قلادتي لأتلمسها. لأستجمع منها بعض الشجاعة، ثم فتحت الباب اخيراً ونزلت. فالامر واقع لامحالة ولامهرب منه.

اخرجت المفتاح من حقيبتي اليدوية لأفتح باب المنزل وادخل، فتحته بهدوء وبطئ كي لايصدر صوتاً عسى ان لايدركا عودتي ويتركاني وشأني، وضعت قدمي داخل المنزل واغلقت الباب من بعدي بنفس الهدوء، توقفت للحظة في مكاني اتطلع من حولي. كل شيء كان ساكناً. اضواء الصالة كانت خافتة. اضواء غرفة المعيشة مطفأة، ألم يعودا بعد؟ ام انهما يحاولان ان يسببا لي الرعب فقط بهذه الاجواء؟ لحظة ماهذه السخافة؟ هل نحن في فيلم رعب؟.

سرت بحذر بأتجاه السلم اريد الهرب نحو غرفتي، نحو سريري الدافئ لأحظى بالراحة والنوم العميق بعد هذا اليوم الطويل والمتعب، ولكن ماان وضعت قدمي على السلمة الاولى حتى وصلني صوت امي الحاد من خلفي:
ميرنا! علينا التحدث.
التفت اليها بهدوء فوجدتها قد دخلت نحو المكتب مرة اخرى. زفرت بضيق ومررت اصابعي بين خصلات شعري بتململ ثم سرت بأتجاه مكتب ابي فأنا لااملك خياراً اخر…

تركت امي الباب مفتوحاً من بعدها لذلك لم اضطر لطرقه ودخلت مباشرةٍ، حاولت قدر الامكان ان ابدو واثقة وثابتة امامهما ولكن عيونهما النارية تسلب شجاعتي فوراً وتتركني قطعة هلامية غير مستقرة…
رفع ابي بصره إلى فور دخولي وقال لي بنبرة لاتختلف كثيراً عن نبرة امي:
اجلسي…

تخطيت امي التي كانت تقف في وسط المكتب تكتف يديها لصدرها وتقف على آهبة الاستعداد لبدأ الشجار وجلستُ على الاريكة الجلد التي تحتل الجدار الايسر لمكتب ابي، جلست فوقها فأصدر جلدها صوتاً اكرهه بشدة ولكنه كان كأشارة البدأ لأمي لتنفجر بوجهي فوراً هاتفة بغضب:
هلا فسرتي لي السخافة التي قلتها بالمطعم امام السيد رشيد وزوجته ياانسة ميرنا؟
رفعت كتفاي بعدم مبالاة واجبتها ببرود:.

بالنسبة لكِ كلامي كله كان سخيفاً. فعن اي جزء تتحدثين انتِ الان؟
ارتعش جسدي بفزع فوراً من ضربة ابي القوية بيده فوق سطح مكتبه وهو يهتف بي:
الوقت ليس مناسباً على الاطلاق لتتحامقي معنا، اجيبي فوراً.
كل شيء بداخلي منتفض وخائف. كل شيء يرتعش ومتوتر، ولكني لم ابين هذا ابداً، فهو وقت المواجهة، من اجل يوسف سأكون اكثر شجاعة. اكثر تماسكاً. فهو كان سيفعل الشيء ذاته معي بل واكثر.

نهضت من مكاني وتطلعت نحو ابي بحدة وانا اقول:
لااظن اني انا من اتحامق ياابي، فأنا قد قلت الحقيقة بمنتهى الصراحة، ولكن انتم.
ادرت رأسي مع هذه العبارة نحو امي البركان الهائج لأكمل بحزم وثقة:
انتم تستمرون بخداع انفسكم وخداع من حولكم وتظنون ان الجميع حمقى ولن يدركو الحقيقة.
ثم تبسمت ساخرة لأكمل:
نعم في الحقيقة هم كذلك!.
ثم رفعت نبرة صوتي لأعود بأبصاري نحو ابي:.

لأنه لم يتسائل احداً فيهم كيف اصبحت ثروة عاصم اليوسفي لأدهم اليوسفي فجأة وكل مايهمهم هو مدى ثرائكم الفاحش واموالكم.
نهض ابي من فوق مكتبه وصرخ بوجهي بحدة:
اخبرتك الف مرة ان اخي كتب شركته ومنزله بأسمي. ولدي كل الاوراق التي تثبت ذلك.
انا لم اعد صغيرة ابي. ولم اعد حمقاء، لما سيفعل ذلك وهو لديه زوجة وابن؟ أكنت الان ستسجل كل شيء بأسم شخص اخر حتى لو كان هذا الشخص اخيك وتتركني انا وامي من دون اي شيء؟

ثم تقدمت نحوه بخطوات ثابتة وانا اضيق عيناي بتشكيك واكمل:
وعلى ذكر زوجته وابنه. فلما اختفيا فجأة بعد وفاة عمي ولم يظهرا بعدها ابداً؟
كز ابي على اسنانه بغيظ وهو يجيب بحنق:
اخبرتكِ انهما سافرا، ارادا ان يبدآ حياة جديدة.

بقيت انظر نحوه وشبه ابتسامة ساخرة تعلو ثغري. هل اخبره بما وجده السيد شهاب؟ هل اريه الصورة؟ لا. لااريد ان اتسرع، فقد يكون لأبي يد في اختفائهما ويصل الان ليوسف قبلي ويبعده مجدداً، سأكشف كل شيء. ولكن ليس الان، عندما يحين الوقت فقط سأظهر اوراقي الرابحة…

سحبت حقيبتي وتلك الابتسامة الساخرة تعلو فمي وخرجت من المكتب، ولكن لحظة، ألا ترون ان السيدة سلوى الموقرة قد اكتفت بجملة واحدة وبعدها صمتت وهي تحدق بي بتلك النظرات النارية؟ الامر يقلقني بالفعل. فليس من عادة امي ان تصمت في مواقف كهذه. وليس من عادة مشاجراتي معهم ان تنتهي بهذه السرعة، حسناً. المهم انها انتهت! صعدت السلم بخطوات سريعة واتجهت نحو غرفتي واول ماوضعت قدمي داخل حدود الغرفة حتى شعرت بالهواء كله يتدافع نحو رئتاي وعضلاتي المشدودة ترتخي، انها عالمي الخاص في المنزل. مكاني المريح. ملاذي الامن…

رميت حقيبتي بأهمال فوق طاولة التزيين ونزعت عني مجوهراتي وملابسي ودخلت نحو الحمام لأحظى بأستحمام دافئ ينشط لي خلاياي الضامرة، انتهيت بعد15دقيقة تقريباً وارتديت مئزر الحمام القطني الابيض وخرجت، ولكني اول مافتحت بابه تجمدت في مكاني لثواني وانا احدق بعدم استيعاب بأمي التي تجلس على الكرسي بغرفتي تضع ساقاً فوق اخرى وتحدق بجمود بنقطة وهمية امامها، اول ماخرجت نظرت نحوي ببرود ولم تقل شيئاً. فأدعيت انا عدم المبالاة وخرجت بشكل طبيعي وجلست على الكرسي امام مرآة التزيين وبدأت بتمشيط شعري وانا اقول في اثناء ذلك:.

هل هناك شيء امي؟

لم اسمع اجابتها فنظرت اليها من خلال المرآة ووجدتها تنظر إلى بنفس الملامح الباردة والمتصلبه، ماخطبها؟ انها بالفعل تثير خوفي اكثر من ابي! لم اقل بعدها كلمة واحدة وانا اراها تقوم من مكانها بهدوء وتتجه الي. وقفت خلفي وسحبت الفرشاة من يدي بصمت وبدأت تمشط لي شعري ببطئ، هدوئها غريب! وصمتها مخيف، ولكنه لم يستمر طويلاً، تركت الفرشاة فوق المنضدة بعد ان سرحت شعري ووضعت يديها فوق كتفاي وحدقنا ببعضنا من خلال المرآة فشدت قبضتيها على كتفي قليلاً وهي تقول:.

ماقلته اليوم امام السيد رشيد. وماقلته قبل قليل في المكتب هو مجرد هذيان سأتجاهله واوهم نفسي اني لم اسمعه.
فتحت شفتاي لأجيب ولكني نطقت حرفاً واحداً وخرجت باقي حروفي بصرخة تألم وهي تعصر كتفاي بقوة وقسوة ثم انحنت بأتجاهي وهي تهمس لي ووجهها يزداد اقتضاباً مع كل حرف:
انا لااطلب منك هذا، هذا شيء انتِ مجبورة على تنفيذه. هل فهمتني؟
سقطت بعض دموعي التي احاول كبحها ولم اعلق بشيء فأكملت هي:.

يوسف، اسم لااريد سماعه مجدداً في هذا المنزل. انهم شيئاً من الماضي وسيبقون في الماضي. لن اسمح لكِ بأعادتهم نحو حاضرنا.
ثم زادت من الضغط على كتفاي وزدت انا توجعاً ولكني كتمت تأوهي هذه المرة وانا اضم شفتاي لبعضهما واستمع لبقية همسها:
اظن ان كلامي واضح صغيرتي، أليس كذلك؟
بقيت احدق بها من بين دموعي بصمت فهتفت بي بحدة:
انه واضح. صحيح؟

فهززت رأسي فوراً ب نعم واشعر ان صوتي اختفى بسبب تلك الغصة التي ترتكز فوق حنجرتي.
اطلقت زفير ارتياح وابتسمت وهي تتمتم:
احسنتي!
ثم تركتني وخرجت من الغرفة فانفجرت بالبكاء بصمت اغلق فمي بيدي بقوة كي لاتخرج صرخاتي، عانقت ميدالية قلادتي التي لاتفارق عنقي ابداً وهمست للصورة بأرتجاف ونحيب:
اين انت بحق السماء؟ انا احتاجك بشدة!

قضيت ليلتي كلها ببكاء مرير، ألم اقل لكم. انا اختنق، هل عرفتم الان اسبابي اختناقي؟، هل تعرفتم الى اسرتي الموقرة؟ لااظن ان مثلي تسمى بالثرية السعيدة!.
نزلت في صباح اليوم التالي من غرفتي بأستعجال وانا ارتدي نظارتي من قبل حتى ان اخرج باب الغرفة كي لايلاحظ احداً عيوني المتورمة والذابلة من كثرة البكاء، نادت على سديم وهي تحضر مائدة الفطور:
انستي. ألن تتناولي فطارك؟
اجبتها ببرود دون اتوقف عن المسير:.

لا اريد.
وخرجت نحو سيارتي وقدتها بسرعة. ولكن من دون ان اشغل اي موسيقى هذه المرة. فأنا احتاج الى كامل تركيزي من كثرة الافكار التي تتدافع الى عقلي…
اخرجت هاتفي واتصلت بدانة سكرتيرة ابي. لحظات حتى وصلني صوتها:
اهلاً انسة ميرنا.
اهلاً دانة، هل ابي في الشركة؟
لا. لقد خرج قبل نصف ساعة. لديه اجتماع في شركة المورد.
جيد.

كانت هذه هي كلمتي الاخيرة قبل ان اغلق الهاتف وازيد من ضغطي على البنزين لتتزايد سرعة السيارة اكثر كي اصل في الوقت المناسب.
ربما هي عشر دقائق او اكثر بقليل حتى وصلت نحو الشركة، ركنت السيارة ونزلت مسرعة وخطواتي تتسابق تكاد تتسلق الهواء. لم اجب تحية احد. لم اتطلع في عيون العاشقين، لم ابادل اي احد ابتسامة، كنت في عالم اخر تماماً!

استقللت المصعد نحو الطابق الاخير واول ماوصل نزلت منه واتجهت نحو دانة فوراً ولم انزع نظارتي بعد فقالت لي فوراً بأبتسامة:
مرحباً بك انسة ميرنا.
لم استطع حتى رسم ابتسامة مجاملة فوق ثغري من شدة الالم في صدري وقلت لها فوراً:
دانة، امر حضوري الى هنا لااريد من ابي ان يعرفه، هل هذا واضح؟
قالت بارتبأك:
ولكن انسة ميرنا.
فقاطعتها فوراً:
دانة ارجوكِ، اسدي لي معروفاً.
سكتت لثواني بتردد قبل ان تقول:
حاضر.

وماان نطقتها حتى تركتها ودخلت نحو مكتب ابي واغلقت الباب من بعدي عندها فقط نزعت النظارة من فوق عيوني الذابلة واتجهت من فوري نحو خزنة الجدار التي تحوي ملفات ابي المهمة وبعض امواله…
وقفت امامها وفتحت رمزها السري وبعدها فتحتها. كانت هناك مجموعة اوراق من دون ملفات واوراق اخرى داخل الملفات. لذلك بدأت بالامر السهل. اخترت اللواتي من دون ملفات، بحثت جيداً. قرأت بتمعن، أعدت القراءة لأتاكد، لاشيء!

رميت الاوراق جانباً وبدأت بفتح الملفات. هذا. ذاك. لاشيء، اين هو بحق السماء؟
وفجأة سمعت صوت مقبض الباب يُفتح. انقبض قلبي وانعصر بشدة وشعرت به صعد الى حنجرتي، ارتجفت اطرافي وجف فمي، أتمنى ان لايكون من اظن! يااللهي ارجوك…
لما لست متفاجئاً؟

عندها طرحت انفاسي براحة وعادت الدماء لتجري في عروقي، سيف! لازال الامر سيئاً ولكنه اهون من ابي! التفت اليه ببرود فلم تُخفى على بعض الدهشة التي اعتلت عيناه من منظر عيوني حديثة البكاء. ربما كانت دموعي التي جفت منذ الامس داخل مقلتاي هي السبب التي جعلت استيائه ينخفض قليلاً ويعاملني بلطف بعض الشيء عكس المرة السابقة التي رآني في مكتب ابي المنزلي…

اغلق الباب خلفه واتجه نحوي فعدت انا لأفتش داخل الخزنة من دون ان اقول شيئاً فقال هو:
ماذا تفعلين؟
اجبته من غير ان التفت اليه:
لاتقلق. انا لااسرق شيئاً يخص العمل، انا ابحث عن شيء عائلي نوعاً ما.
فقال ساخراً:
تبحثين عن شيء عائلي؟ في مكتب الشركة؟ أهي سيرة ابيكِ الذاتية مثلاً؟

توقفت اصابعي عن تقليب الاوراق فوراً وحدقت ببرود باللاشيء. ادرت ابصاري ببطئ اليه وحدقت فيه بجمود لثواني وبعدها تقدمت اليه بخطوات ثابتة ألى ان وقفت امامه مباشرة لاتفصلنا سوى خطوة عن بعضنا وقلت له بهدوء:
شيء من هذا القبيل! ربما يمكنك ان تساعدتي؟
رفع حاجبيه بدهشة قليلاً وهو يقول:
أساعدكِ في السرقة؟
هتفت به فوراً:
انا لااسرق!
اذاً ماذا تفعلين؟ تستعيرين كتاب؟

لم اعلق على سخريته وبقيت احدق داخل عينيه، تلك العيون المميزة التي بدأت تضعفني شيئاً فشيئاً وتجعلني ابوح بأشياء لاارغب البوح بها لأحد، اقسم لكم بداخل عينيه شيء مميز، شيء رأيته سابقاً. أحسست به سابقاً، ولكن اين؟ انا لااذكر!
قلت له بتردد وانا اقلب عيوني بداخل عيونه الثاقبة:
انا احتاج للمساعدة، ارجوك.

لااعلم لماذا غيرت هذه الجملة وجهه ولكني شاهدت حاجبيه المقطوبين ينفرجان فوراً وملامحه تبهت ونظر نحوي نظرة غريبة لم افهمها، بريئة. عطف. شفقة. تألم، لااعرف بالضبط. ولااعرف لماذا. ولكن يبدو انها اثرت به جداً!

انفرجت شفتاه عدة مرات ولكنه سرعان مايعود لأغلاقها متردداً فيما يريد قوله. واخيراً تنحنح واشاح نظره جانباً لثواني لحين استعاد السيطرة على ملامحه ليعيدها باردة ومقتضبة، عاد لينظر داخل عيوني مجدداً وقال لي بهدوء:
ماذا تريدين بالضبط؟
قلت له وبعض الامل بدأ يجتاحني:
الى ملف!
من اي نوع؟
يعود ل19عاماً مضت.
اتسعت حدقتيه بدهشة وهو يتمتم بخفوت:
19عاماً؟
اجبته بلهفة:
اجل!
علي ماذا يحتوي؟

وهذا مااريد معرفته، اريد ان اعرف ان كان يحتوي على ذلك التنازل بالفعل ام انها مجرد كذبة اخرى.
وهنا زاد الاستغراب فوق وجهه اكثر. ولكن لااعلم لما اشعر ان استغرابه اقرب للدهشة. وكأنه فهم عن ماذا اتحدث! ولكنه ظل صامتاً ولم يعلق لثواني ثم قال:
عن اي تنازل تتحدثين بالضبط؟

اخذت نفساً عميقاً ومررت اصابعي من بين خصلات شعري وكأني اضيع الوقت فقط لأفكر. انا مترددة بأخباره. انا بالكاد اعرفه. انه لقائنا الرابع فحسب. منذ متى وانا اثق بأحد هكذا؟ ولكني احتاجه. لماذا؟ لااعلم، ولكني ضعيفة. وبحاجة لمن يقف بجانبي. احتاج لأي احد ليساعدني…
بعد هذه المناقشات المحتدمة داخل عقلي التفت اليه مرة اخرى وعيوني تحمل كل معالم الترجي والتوسل وقلت له بتردد:.

اريد الملف الذي يثبت ان عمي قد تنازل عن شركته ومنزله بالفعل لأبي.
اتسعت حدقتيه بدهشة اكثر وقطب حاجبيه بأستغراب لم افهم سببه وبقي يحدق بي بصمت فقلت له بتوسل اكثر:
ارجوك، انا احتاجه بشدة، اريد ان اتأكد من ذلك.

توقعت ان يعلق بشيء. ان يسأل. ان يحقق. ان يستفسر، ولكن لم يفعل اياً من ذلك، بل سار بصمت نحو مكتبة ملفات تقبع في احدى زوايا المكتب وفتح احد دواليبها وفتش بداخله قليلاً الى ان اخرج ملف حدق فيه قليلاً وقلب اوراقه ثم تقدم نحوي مرة اخرى حاملاً اياه بيده وقدمه لي وهو يقول بهدوء:
السيد ادهم لايضطر ان يحفظ هذا الملف داخل خزنة سرية. فهو لديه عشر نسخ منه واحدهم لدى محاميه الخاص واخر لدى محامي الشركة.

سحبت الملف من يده بسرعة وقلبت الملف وتمعنت به بتركيز. ثواني حتى اتسعت عيناي بصدمة وانا اشاهد توقيع عمي اسفل الورقة وبصمته يثبت ان ملكية الشركة كلها تنازل عنها لأبي! نظرت بدهشة نحو سيف وانا اهز رأسي بعدم تصديق واقول له:
هذا مستحيل! هل انت متأكد ان هذه البصمة او التوقيع غير مزورين؟
وضع يديه داخل جيوب بنطاله واجابني ببرود:.

ليست كذلك، لابد ان يتم التأكيد من هذا التنازل بعد وفاة عمك مباشرةٍ، تقوم لجنة الرقابة القانونية من التأكد من البصمة ومقارنتها مع بصمة عمكِ ليتأكدو ان التنازل حصل بالفعل ولم يتم التلاعب به. حينها فقط سيتم منح ابيكِ الاملاك بشكل كامل.
زفرت بضيق وانزلت الملف بعنف من امام ابصاري وانا اتمنى لو اني ارميه فوق الارض او ان امزقه من شدة غضبي، سألني سيف بأستغراب:
لما انتِ رافضة لفكرة ان عمكِ تنازل لأبيكِ؟

هتفت به بضيق من شدة غيظي واستيائي:.

لأنه امر مستحيل الحصول، لايمكنني ان استوعب ان هناك احد يمكنه ان يفعل شيئاً كهذا، عمي كان يحب زوجته وابنه فلماذا يقوم بحرمانهما من كل ثروته ليمنحها لأخيه؟ حتى لوكان يحب اخيه فعلى الاقل يمنحه شيء بسيط وليس ان يمنحه كل الاملاك ويحرم ابنه الوحيد وزوجته من كل شيء! أكنت ستفعل انت شيء كهذا مع ابنك؟ لأن مااعرفه انه من المستحيل ان افعل انا شيء كهذا مهما احببت اخي بل ولو حتى لأمي او ابي ماكنت سأفعل شيء كهذا، وانا اعرف عمي جيداً. كان حريصاً جداً على مستقبل ابنه فلما يقوم بتدميره بهذا الشكل؟.

سكت بعد هذا الشرح الطويل وانا بالكاد التقط انفاسي وسيف يحدق بي بذهول. لم يقاطعني. ولم يعلق بشيء. يحدق داخل عيناي بتشكيك، ماخطبه؟
تفاجئت به يمد يده ببرود نحو الملف ويسحبه من يدي ويعيده لمكانه وهو يقول:
هذا ليس عملي انسة ميرنا انه شيء خاص بكم، لذلك ومن فضلك كفي عن الدخول خلسة هكذا لمكاتب ابيكِ لأن المرة الثالثة لن اسكت وسأخبره بكل شيء.
ثم نظر لي بنظرة حادة وهو يكمل:
هل مااقوله واضح؟

يااللهي! هذا الشاب بالفعل لديه انفصام بالشخصية! تارة يكون البطل اللطيف وتارة يكون الوغد البارد! انا حقاً لايمكنني فهم هذا الكائن الغريب!

(أني اعاني. أني اموت. أني حطام.
حاشاكِ ياعمري ان افكر بأنتقام. )?
(سيف)
خرجت من المكتب تاركاً طفلة مذهولة تحدق بي بنظرات عدم الاستيعاب، فكيف عساها ان تفهم النار التي اوقدتها بداخلي!

انا احتاج للمساعدة. ، أخر مرة سمعت هذه الجملة من فم عزيزتي المدللة كانت قبل 18عاماً، جملة تعرف جيداً اني اضعف امامها وافدي لها روحي كي انفذ لها ماتريد، واليوم عادت لتقولها، مع عيونها البريئة تلك. ودموعها المتلألأة. ونبرتها المرتجفة، كيف عساي سأقاوم؟ كيف عساي ان لااقلب الامور رئساً على عقب لأحقق لها مطلبها؟ هل اصبحت فجأة ضعيف؟ ام اني من الاساس لم اكن قوياً امامها؟ خرجت من الشركة مشوش الذهن ومشتت الافكار. انها بالفعل كالتنويم المغناطيسي بالنسبة لي. ماان تقترب مني. ماان تحدثني. ما تتبسم لي. تترجاني، ماان تفعل اي شيء وابسط شيء حتى انسى نفسي. انسى خطتي. ماالذي جرى لي بحق السماء؟ من المفترص ان اكرهها. من المفترض ان اجعلها تحبني دون ان افعل انا ذلك، ما بال الموازين تنقلب الان؟

قدت سيارتي بسرعة جنونية وكأني افرغ بها شحناتي الغاضبة. فتحت ربطة عنقي التي اشعر انها تخنقني، صرخت كالمجنون وضربت المقود بقوة، انا احبها. انا اريدها. انا احتاجها. ولكني اكرهها لأنها تجعلني اشعر بهذا، لعنتي الجميلة. متى سأتخلص منكِ؟
لم اذهب نحو شقتي فجنوني سيزيد وحيرتي ستتفاقم. لذلك غيرت مسار السيارة وقدتها نحو منزل امي.

وصلت الى هناك. ولكني ترددت في النزول. نعم هي ستساعدني. ولكنها لن تفهم ولن تتفهم ابداً مشاعري لميرنا…
ولكني نزلت بكل الاحوال، لعلها تغير رأيها. او تجعلني اغير رأي، فاليوم لن تكون هناك نتيجة ثالثة!
وجدتها تجلس فوق اريكتها الكلاسيكية تطالع كتاباً في يدها وترتشف كوب قهوتها المعتاد. اول مارأتني طوت الصفحة واغلقت الكتاب وقامت مبتسمة:
اهلاً عزيزي.

منحتها ابتسامة متعبة اجاهد في سبيل اخراجها ورميت جسدي فوق الكرسي لعلي اسحب التعب جبراً منه. اغمضت عيناي قليلاً كي اجعل صداعي يهدأ ولكنه كان يزداد فحسب.
تبدو مرهقاً!
فتحت عيناي على نبرتها الهادئة وادرت كرتا عيني بأتجاهها حيث عادت لتجلس مكانها وتطلعت فيها لثواني ثم قلت:
ميرنا!

وكأني نطقت معزوفة رومانسية جعلت قلبي يرتجف عندما نطقت اسمها الجميل وارتسمت صورتها فوراً في عقلي. وكأنها فارقته ولو لحظة، تباً لضعفي!.
رفعت امي حاجبيها قليلاً وكأنها تطلب مني ان اكمل بعد ان تناسيت نفسي داخل عالم اسمها الرقيق، اخذت نفساً عميقاً واستقمت بظهري واخرجت سيجارة واشعلتها وبدأت بتدخينها بهدوء كي استجمع حروفي المناسبة ثم نظرت نحوها من خلال غيمة الدخان التي تجمعت حولي وقلت:
لااظنها تعرف شيء.

رفعت امي حاجبها بحدة وزفرت بضيق ولكنها لم تعلق بشيء. فتعليقها قد وصلني من ردة فعلها هذه. هل اضعفتك؟ ، نعم هي تضعفني دائماً. ولكن ليس هذا سبب كلامي. فأنا لااعتمد على النظريات. بل ابحث عن الحقائق. واتجاهل قلبي ورقصاته المجنونة من اجلها. واتبع عقلي الذي يكرهها بشدة.
سحبت نفساً من سيجارتي قبل ان اكمل:.

لقد حضرت اليوم للشركة كي تبحث عن ملف التنازل الذي منحه ابي لأدهم، وكما استنتجت من خلال حديثها انهم قد اخبروها ان ابي تنازل لأدهم عن كل ثروته بأرادته ومن دون اي اسباب، والان هي بدأت تشك بالامر فهو لايبدو منطقياً لها.
وانت صدقتها؟
ادرت ابصاري بجمود نحو امي ولم اعلق انا هذه المرة، بماذا سأجيب؟ فأنا اتيت الى منزلها بسبب هذا الشيء. انا لااعرف بالضبط هل صدقتها او لا.

منحت امي ثواني من الصمت قبل ان ابدأ بسرد كل ماحصل عليها لعلها هي ستعرف الاجابة، استمعت إلى بصمت وعينيها لاتتحرك من داخل عيوني التائهة ونظراتها ثابقة ومشككة تحاول الوصول لغايتها من خلال نبرة صوتي وتحركات جسدي. تريد ان تعرف مدى تأثير ميرنا اليوسفي علي. وانا متأكد انها قد ادركت ذلك! جعلتني انهي شرحي الطويل واجاباتي حتى اومأت برأسها ببطئ وهي تقلب ابصارها فوق المنضدة التي امامها ثم فجأة نظرت إلى دفعة واحدة وتوقف رأسها عن التحرك وثبتت عيونها علي، ثم قالت بنبرة هادئة ولكن حازمة:.

اظنك لازلت تذكر حديثي جيداً بخصوص ميرنا. أليس كذلك؟، اخبرتك ان عينيها ستضعفك. نبرتها ستثير شفقتك. تصرفاتها ستجذب عطفك. اخبرتك انها ابنة سلوى. وكلانا يعرف من هي سلوى، تلك الافعى المسومة لابد ان تكون قد بثت بعض سمها داخل ابنتها…
ثم نظرت إلى بنظرة ثاقبة وملامحها تنقبض واكملت:.

ميرنا لم تعد تلك الصغيرة البريئة التي تركناها يايوسف، لابد ان تكون الايام قد غيرتها، وما رأيته وماسمعته منها قد لايكون سوى تمثيلية سخيفة اتبعتها لتجذب انتباهك بما انك الشاب الوحيد الذي اعترفت لها انها لاتعجبك، واما امر الملفات فلربما هي لعبة منها كي تثبت ادانة ابيها وتستولي هي على كل شيء. فليس بعيد عليها ان توكل محامي جيد يجعلها تثبت ادانة ابيها بحجة انه استولى على اموال اخيه وتزج به بالسجن والدولة ستسعى لأيجاد اسرة عاصم وعندما لن يجدوهم ستذهب الثروة كلها للوريثة الوحيدة المتبقية من اسرة اليوسفي، ميرنا اليوسفي!

فأجبتها فوراً وكأني احاول تبرير موقف ميرنا:
ولكن ان فعلت ذلك فسنكشف نحن هويتنا وترجع الثروة الينا.
ولكن ميرنا لاتعلم اننا موجودين، وخطتها ستكون مثالية ان لم نكن نحن موجودين.
ولكنها وكلت محقق خاص كي يبحث عنا. لقد اخبرتكِ بهذا…
اجل اخبرتني، وهذا ماجعلني اصل لهذا الاستنتاج.
ماذا تعنين؟
اعني، ما ادراك انها تبحث عنا لتعيدنا؟ وليس لتتخلص منا؟

حدقت بأمي بصدمة وعقلي لايمكنه ان يستوعب ان صغيرتي البريئة بأمكانها ان تكون محتالة هكذا، هل امي لايمكنها ان تفهم ان ميرنا لاتزال كما تركناها بالضبط؟ اما انا الذي لااستطيع ان الاحظ انها لربما ليست كذلك؟ ماذا لو كان كلام امي صحيح. ماذا لوكانت مثل ابويها؟ ماذا لو اضعفتني وجعلتني اثق بها واكتشف في النهاية انها مثلما وصفتها امي بالضبط؟ وسنين تخطيطنا، ومعاناتنا، وجوعنا. واحتياجنا. هل ستذهب كلها سدى بسبب مشاعر سخيفة احملها لفتاة لااعرف حقيقتها الكاملة بعد؟ لااعرف اسرارها وتفكيرها؟ فليذهب حبي للجحيم، فلتذهب مشاعري للجحيم، فأنا سأحرق الجميع بما فيهم نفسي، وحبيبتي! سأستمر بكرهي. سأستمر بخطتي. كي لاتذهب كل سنين تخطيطنا ومعاناتنا وتضحيات امي من اجلي سدى، تباً لحبي، فلأذهب انا للجحيم ان كنت سأجعل كل هذا يذهب سدى بسبب مشاعر غبية لايمكنني التخلص منها!

لمست امي يدي بأطراف اصابعها كي تنتشلني من عالم ضياعي وقالت لي بنبرة حنونة:
انا لااكره ميرنا يايوسف. تعلم جيداً اني احبها. ولكني لم اعد اعرفها. ألا تزال مثلما عرفناها ام تغيرت؟ لااريد ان يفشل كل شيء بسبب شيء لسنا متأكدين منه. واخبرتك من البداية ان الضحية بهذه الخطة ستكون ميرنا، عرفنا انها ستتأذى اكثر من الجميع. ولكن لانملك طريقة اخرى لنصل لغايتنا سوى هي، ارجوك ياحبيبي. حاول ان تنساها.

انساها؟ انسى كيف اتنفس؟ انسى كيف اعيش؟ انسى الفرح؟ انسى الحب؟ كيف لي ان انساها؟، هل سأنسى ضربات قلبي التي لن اشعر بها ألا بوجودها؟ صديقة طفولتي، حبيبتي. لا امرأة سواها قد احتلت كياني، فماذا سيحل بكياني ان نسيتها؟.
ولكن لابأس، على ان لااكون اناني. على ان لا انسى مافعلته امي من اجلي، ماالذي قدمته كي نصل لهذه النقطة، وكما اخبرتكم، فليذهب حبي للجحيم، ولكن. هل سيذهب من دون ان يأخذ روحي معه؟

دعست سيجارتي داخل المنفضة وقمت من مكاني وانا اقول:
علي ان اذهب الان.

ثم تركتها وخرجت فوراً وقدت سيارتي بجنون اكثر وانا اشعر بالنار تزداد سعيراً داخل صدري وشيء ما يرتكز في حنجرتي يمنعني من التنفس ويدفع الدموع داخل عيناي ليجعل رؤية الطريق ضبابية، انساها؟ اي جنون هذا؟ نعم كنت اظن انه بأمكاني فعل ذلك، ولكن قلبي، اه، تباً لك ياقلبي! بضعة دموع جافة وكلمات بسيطة قلبت كيانه رأساً على عقب، ولكني سأعيده لوعيه قريباً، سأجعله يدخل في سباته القديم. لاسيما مع كلمات امي الاخيرة هذه، على ان لا افسر تصرفات حبيبتي دوماً على انها الملاك الصالح، فلربما داخل هذه الطفلة شيطان اخرس لم اسمع صوته بعد، ألا تتفقون معي؟.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *