التخطي إلى المحتوى

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثاني والعشرون

طلب جورج من برنالد أن يجمع المسؤولين جميعًا هذا الصباح لأمر طارئ ومهم جدًّا‏. لم يكن برنالد واثقًا جدًّا‏ من جدية جورج، لكنه وافق على مضض بعد ادعاء جورج أن الأمر لا يحتمل التأجيل فهو مسألة حياة أو موت. كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا عندما كان جميع المسؤولين مجتمعين في غرفة الاجتماعات السرية كالمعتاد. كان الجميع يتساءل عن سبب عقد هذا الاجتماع وفي هذا الصباح الباكر، فلم يعتادوا على عقد اجتماعات مستعجلة في وقت مبكر من الصباح ولم يحدث هذا سوى في حالات نادرة منذ زمن طويل. لم يكن الأمر يبشر بخير طبعًا، لكن معرفة بعضهم أن الاجتماع قد عُقد بنيةً على أمر من جورج جعلهم يستخفون به. عُرف جورج بقدر تهويله الأمور ومبالغته دومًا فيما يتعلق بالمسائل السرية.

تنهد برنالد باستسلام وشيء من الضجر وهو يقول مشيرًا إلى جورج:
«أخبرني جورج أن هناك أمرًا طارئًا قد حدث ويستوجب عقد هذا الاجتماع، وأحيل دور التحدث إليه هذه المرة فلقد أصر على وجودكم جميعًا أثناء حديثه. »
التفت جورج من فوره لينظر إلى ألفريد وظل يحدق به برهة ثم قال بحدة:
«متى عادت فيوليت ليلة أمس من جولتها؟»
استنكر الجميع سؤال جورج كما فعل ألفريد، ثم قال عاقدًا حاجبيه بانزعاج:.

«هل جمعتنا هنا حتى تسألني هذا السؤال؟ هل أنت جاد جورج؟»
احتدت ملامح جورج أكثر ثم صرخ قائلًا بعد أن نهض من مكانه واتخذ وضعية الهجوم:
«أعتقد أن الوقت ليس وقت المزاح أبدًا، وبينما أنتم تجلسون في بيوتكم مرتاحي البال، تحدث الكثير من الأمور من وراء ظهوركم حتى تجدوا أنفسكم سقطتم إلى الهاوية، ولكن لا! إن كنتم لا تبالون فأنا أبالي ولست مستعدًا أبدًا لخسارة كل شيء. ».

امتعضت ملامح برنالد وهو يستمع إلى موشح جورج دون أن يفهم أي شيء فردّ منزعجًا:
«ألا تلاحظ أننا هنا لا نفهم أي شيء وأنت تصرخ بلا فائدة؟ قل ما لديك ولا داعي للمقدمات. »
بدأ جورج يراقب ملامحهم الباردة ثم قال محتدًّا من جديد وداخله يحترق بلهيب الغيظ:.

«أحسدكم على برودكم هذا، تذكروا قبل تسعة عشر عامًا عندما حذرتكم من تلك الفكرة المجنونة ولكنكم اعتبرتم أنني أنا المجنون بينكم، ثم عدت لأحذركم من وجود ذلك الشاب اللعين ومسايسة ألبرت، لكن ماذا عساي أقول؟ لقد نظرتم إلى نظرة الأخرق الكبير، والآن ماذا؟ لقد انتهينا!». ضرب بيده الطاولة أمامه وعاد ليصرخ بصوت أعلى كالمجنون وهو يجول بنظره جميع الحضور «لقد انتهى كل شيء، هل فهمتم؟».

انتفض برنالد من مكانه بعد أن نفد صبره وشعر بغليان الدماء في عروقه وانتفاض جسده من كثرة صراخ جورج الذي لم يجد له أي مبرر في تلك اللحظة، وبغية إيقافه عند حده صاح به والشر يتتطاير من بين عينيه: ‏.

«جورج، أقسم إن لم تتوقف عند حدك فسأطردك حالًا ومن دون مقدمات، لا تجعلني أفعل شيئًا يهينك أمام الجميع. أخبرتك أن تحدث بلا مقدمات. »
شعر جورج بالخزي والإهانة لما تعرض له أمام الجميع، ولماذا؟ لأنه يخاف على مصلحتهم العامة ولكنهم لا يشعرون بالنار التي تحرقه. نظر جورج نحو برنالد نظرات حقد و سخط، ثم قال محاولًا الحفاظ على هدوئه وكبريائه المبعثر:.

«لقد خرقت فيوليت نهار البارحة إحدى المحظورات وخرجت خارج حدود المدينة برفقة ذلك الشاب، وهما يخططان لمغادرة الكوكب. نحن نتعرض للخيانة والتمرد ونحن لا نعرف شيئًا عمّا يحدث. »
اتسعت عينا ألفريد وقد شعر أن قلبه سقط من قفصه الصدري، وشعر بضيق بالتنفس واضطراب شديد، لم يكن يصدق ما يقال، لعله في كابوس ما فلقد بات الأمر يخيفه كثيرًا منذ تلك الحادثة.

كان الجميع في حالة صدمة واضطراب شديدين، ولكن برنالد بدأ يشكك بمصداقية جورج بسبب معرفته أنه غضب من عدم أخذ رأيه بعين الاعتبار في كل مرة، وخاصةً آخر مرة عندما أهملوا رأيه بعد أن اعترض على وجود ليوناردو بينهم، ولكن لم يكن بيده حيلة فهو نفسه لم يكن موافقًا على هذا ورغم ذلك أُجبر على ذلك.
«وكيف عرفت؟».

لم يكن جورج ليستوعب سؤال برنالد هذا، فإلى هذه الدرجة هو لا يثق به أبدًا؟
«لقد رأتهما ابنتي بعينيها وهم يغادران، كما أنها سمعتهما وهما يتحدثان. ».

نظر برنالد نحوه باستنكار ثم قال ساخرًا: «ومنذ متى عيّنا ابنتك جاسوسة لدينا؟ أيجب أن نصدق كل شيء تقوله وتجلبه من أفكار؟ الجميع يعرف أن ابنتك تغار من ظلها وعندما تغار فأنت أول من يعرف ماذا تفعل. ».

نظر جورج نحو برنالد باستهجان شديد ثم قال عاقدًا حاجبيه: «تعرف تمامًا أن الخبر السابق لم يكن كذبًا ولم يكن ادعاء، ثم إن ابنتي لم تعد طفلة حتى تتصرف هذه التصرفات، ولماذا نذهب إلى مكان بعيد؟ دعنا نفكر بجدية، أليس من المنطقي جدًّا‏ أن تفعل تلك الفتاة مثل هذا الشيء؟ وخصوصًا بعد أن بدأت تلمح للموضوع منذ المرة السابقة، كما أن ألفريد عنفها بعدئذ ومن الطبيعي أن تفكر بالانتقام، كما أنكم تعرفون قصة ألبرت الذي يرغب هو الآخر بالانتقام بسبب ما فعلناه بعائلته. ألا يبدو كل هذا منطقيًّا لك؟ وفي النهاية ها هو الجهاز أمامك، تأكد بنفسك من السجل لتعرف مَن دخل ومَن خرج، ولاحظ أنهما استغلا يوم العطلة حتى تكون الرقابة التامة معطلة. ».

لم يتردد برنالد في فتح الجهاز أمامه للتحقق من الموضوع، وما هي إلا دقائق حتى أغلقه بانفعال، لقد كان واضحًا أنه لم يرَ ما يسره. إذا لم يتصرفوا فورًا فهذا يعني أن أمرهم سينتهي قريبًا جدًّا‏ وهذا أمرٌ لا يسر كثيرًا ولا مجال لتجاهل ما حدث.
«هل كنت تعرف عن الأمر؟». قال برنالد وهو ينظر إلى ألفريد بحنق.

كان ألفريد في حالة اضطراب شديدة، تمنى أن يختفي حالًا بتعويذة سحرية أو بمعجزة، عندما كان يتخيل مصيره المؤلم عادت ذاكرته إلى ذلك اليوم المقيت، ذلك اليوم الذي كان يهاب فيه هذا الموقف، ولكن ما هذا الزمن الذي يجري وكأنه يريد أن يصل إلى هذا اليوم تحديدًا؟ هل كانت تسعة عشر عامًا أم يومًا واحدًا؟

«أبدًا». أجاب بكلمة واحدة وبصوت مهتز وبنبرة واهنة لم يتعمد أن تظهر.

«لقد وثقت بك ولقد خنت تلك الثقة، فهل ستستطيع حمايتنا الآن مما سيحل بنا إن عرف الجميع بالأمر؟».

امتعضت ملامح ألفريد عندما كان يشعر بألم يعتصر قلبه، لقد أُهين وأهدرت كرامته وكبرياؤه أمام الجميع، ذلك الكابوس الذي لم يطق حتى تحمله عندما كان وهمًا، فقال محاولًا التبربر وتبرئة نفسه من تلك التهمة.

«ولكن، ».

بتر برنالد جملته تلك وهو ينظر إليه باحتقار ثم قال:.

«اسمع ألفريد، لم يعد هناك مجال للتبرير أبدًا، فلقد اقترحت عليك أن تتخلص منها منذ مدة خاصةً أنها أصبحت جزءًا من مجتمعنا ولم يعد هناك خطر من التخلص منها وتزوير سبب الوفاة، لكنك رفضت مدعيًّا أن بإمكانك المحافظة على زمام الأمور، ونحن ندفع ثمن عنادك الآن، وأنا أدفع ثمنًا أغلى بسبب مسايرتي إياك، ولكن لا مجال للرفض الآن، إما أن تقتلها بكل هدوء وإما أن نقتلها نحن، لكنني عندئذ سأضطر آسفًا لإجبارها على الاعتراف بكل شيء، وبما أنني لا أجد أهمية لذلك الأمر وأراعي شعورك وشعور زوجتك نسبيًّا، سأسمح لك بتولي الأمر بنفسك وإن لم تفعل فسأضطر أيضًا للتخلي عن خدماتك وتعرف ماذا يحدث لمن نستغني عن خدماته. ».

لم يستطع ألفريد أن يشعر بأي شيء وهو يستمع إلى كلمات برنالد سوى ببرودة جسده غير المعتادة.

«لا أملك حلًا آخر ساندرا، إما أن أقوم بتلك المهمة بنفسي دون أن أثير أي فوضى، وإما أن أتركها لهم وتعرفين ما نتائج ذلك القرار. ».

أجهشت ساندرا بالبكاء راجيةً إياه بكل قواها، فلقد انهارت أمام كلماته في اللحظة ذاتها وقلبها ينفطر ألمًا على ابنتها التي أنجبتها من قلبها وجوارحها، التي غذّتها بروحها وعطائها دون أن تواجه نفسها يومًا بحقيقة أنها في يوم من الأيام ستغادرها دون عودة وربما إلى الأبد.

مشى ألفريد غير مكترثٍ لنداءات ساندرا وصراخها الأليم ونحيبها الذي اخترق أذنيه، تلك الفاتنة التي لم يتمنى يومًا أن يرى دموعها أو يسمع أنينها، ولكن ها هو يسمع صراخها ويرى دموعها ولا يحرك ساكنًا، فأين ذهب ذلك الحب الكبير الذي نشأ بينهما منذ عقود؟ أمامه حلان لا ثالث لهما، إما أن يقتل فيوليت بيديه ويخلص نفسه من ذلك الهم والمهانة ليعيد لنفسه شيئًا من كبرياءه، وإما أن يسلمها لهم بيديه ويخسر نفسه وسمعته وسيكون مصيرها أعسر وقتئذ بكثير، ومصيره أيضًا.

ومن بين خطواته المثقلة التي شقها باتجاه غرفة فيوليت، أعاق شيءٌ ما مسيره فأشاح نظره نحو قدمه فوجد ساندرا قد تعلقت بها بكل ما تملك من قوة، وفي لحظة التفاته لها نظرت إليه بعينيها الحمراوين من شدة البكاء، ثم قالت بصوت مبحوح: «بحق كل شيءٍ بيننا ألفريد، بحق كل لحظة قضيناها مع بعضنا، بحق حبنا الذي دام سنوات وسنوات دون أن يكسره شيء!». نظر نحوها يقاوم كل شعور ضعف داخله، ولكن ماذا إن كان ذلك الضعف جزءًا لا يتجزأ منه؟ إنه جزء من كيانه حيث يحل الحب مكانه ليكسر تلك المقاومة إلى أجزاء تتناثر بعيدًا.

جلس القرفصاء أمامها وقد تلاشت تلك المقاومة وقد بلغ الضعف لديه نصابه الأخير، مد كفيه نحو وجنتيها المبتلتين من الدموع ثم رفع وجهها نحوه وقد خنقته عبراتها التي لا تتوقف وأناتها الموجوعة، وبعينين دامعتين مكسورتين نظر إليها و قلبه ينبض بكلمة واحدة «سامحيني». كان يريد أن يقول لها سامحيني، سامحيني على كل جرح وكل ألم سببته لك، سامحيني لأنني لم أعطك الحب الذي استحققته مني، سامحيني لأنني أناني، لأنني ضعيف لم أجرؤ يومًا على الوقوف أمام أحد كي لا أكسر نفسي، ونعم، لست أنا الذي أستحق حبك. عانقته فجأة بكل حب والألم يعتصر قلبها على ما آل إليه حال زوجها، فلقد عرفت تمامًا أنه مجبرٌ على ما هو مقدمٌ عليه، لكن أين تذهب بقلبها النابض؟ وكيف تتخلى عن روحها لتغدو بلا روحٍ حتى يرأف الموت بحالها؟

أبعدها عن نفسه بعد أن مسح الدموع التي انهمرت على خده رغمًا عنه، وكأنه قال لها كل ما كان يريد قوله عبر ذلك العناق الطويل، لكنه لم يكن ليغير وجهته وهي لم تكن لتغير موقفها.

«ساندرا، سامحيني». قال لها قبل أن يستدير راحلًا، وما هي سوى بضع خطوات قليلة حتى وصل إلى غرفة فيوليت، فوضع يده على مقبض الباب عندما كانت ساندرا ثابتة متجمدة في مكانها دون حركة ودون إدراك؛ لم تدرك حقًّا أنه ما زال مقدمًا على ما جاء من أجله. سارع بإغلاق الباب بسرعة وإققاله خلفه حتى لا تُعيق ساندرا مهمته أكثر، وفور إدراكها مغزى حركته الأخيرة نهضت بسرعة تركض نحو الباب محاولة فتحه بكل قوتها.

«ألفريد، أرجوك افتح الباب». قالت باكية بدموع حرقة وترقب قاتلين.

تجاهل هو نداءاتها المستمرة وخطا نحو السرير حيث تستلقي فيوليت نائمة كالملاك، ولكن لم يدم ثباتها العميق طويلًا حتى تطرقت طرقات ساندرا على الباب إلى أذنيها. استفاقت بفزع في وهلة من نومها والصداع يكاد يفلق جمجمتها، لم تكن الرؤية أمامها واضحةً في البداية بل كانت مشوشة، ولكنها حالما استفاقت تمامًا وبدأت ترى بوضوح لاحت أمامها صورة ألفريد الواقف كالصنم بملامحه الباردة نفسها التي اعتادت عليها. سحبت ساقيها من أسفل غطائها الصوفي الدافئ وجلست تضم ساقيها إلى صدرها فوق الوسادة، وقد اتسعت عيناها برهبة وهي تراه كالجثة المحنطة يقف أمامها. تداركت بعد فترة قصيرة صوت صراخ والدتها وطرقات الباب القوية فدبّ الرعب في قلبها وقد غلفت تعابير الخوف والتساؤل ملامح وجهها الناعس. امتد كفه إلى المسدس الذي يقبع في جيب البنطال، ومن غير مقدمات وجه فوهته نحو رأسها فشهقت خائفة وقد جرت رعشةٌ قوية في كامل جسدها جعلتها تشعر أنها مشلولة الحركة والفكر. راقب نظرات الرعب في عينيها وحدقتيها المرتجفتين، لم تنطق بأي كلمة فكان الصمت والذهول هما اللغة التي اتخذتها في تلك اللحظة. لم يكن في تلك اللحظة يسمع أي شيء، كان كالأصم، وضع سبابته على زناد المسدس وقد همّ بضغطه، لكن شيئًا ما قام بإيقاظه من غيبوبته اللحظية وقد تراءت أمامه صورة فيوليت الرضيعة ليستيقظ من صممه على صوت بكائها وهي صغيرة، ولم تكن هذه الذكرى الوحيدة، فقد لاحت أمامه مجموعةٌ من الذكريات كأنها شريط طفولتها. صورة ابتسامتها مرفقةً بصوت ضحكتها الصافية وصوت دافئ يقول «أبي» حيث كانت أول مرة يسمعها بعد أن غدت حلمًا في إحدى أحلامه الجميلة، روحٌ جميلة ملأت عليهم ذلك البيت الذي بات مقبرةً قبل وجودها. ارتجفت يده وبدأ العرق يحيط المسدس في ذراعه وملامحه الباردة تنصهر أمام تلك الذكريات إنها ابنته، ابنته البكر، فرحته الأولى مع ساندرا التي شاء منذ أن التقاها أن ينشئ أسرةً صغيرةً معها. لم يكن لينسى كيف كان يسمح لنفسه أن يلاعبها في صغرها دون أن يحفر في ذهنها تلك الذكرى؛ لأنه لم يكن ليسمح لنفسه أن يحبها ولكن كان كل شيء قد تخزن حتى تلك اللحظة، كل ذلك البرود قد انصهر وتبخر في هذه الثانية. صار يرتجف فأصبح واضحًا لفيوليت اهتزاز المسدس في يده، تصبب العرق منه دون توقف وبدأ الصداع يتطرق إليه. شعر بانعدام قدرة قدميه على حمله أكثر، ولكن دون إرادته أو إدراكه، كان قد ضغط على زناد المسدس. دوّى صوت الرصاص في أرجاء البيت وعمّ السكون قليلًا، ولكن الرصاصة لم تصب فيوليت بل أصابت الحائط كون ألفريد لم يكن بوعيه التام حتى يسدد إلى الهدف حيث رأس فيوليت. كانت قد أوشكت على الموت من شدة الخوف وقد شعرت أن تلك الرصاصة قد أصابتها فعلًا نتيجة ما شعرت به من ألم روحي.

«أنت لست ابنتي، ولكنني لن أستطيع قتلك أبدًا». قال متلعثمًا ثم تعالى صوت بكائه المكتوم بألم، كانت كل تلك الذكريات والشباك التي وقع بها قد أدت إلى انهياره دون أي مقدمات، لقد انهار ذلك الجبل الشامخ وتفتت صخوره إلى رمال متناثرة تتطاير مع نسمات الهواء.

كانت ساندرا خارجًا قد بلغت حدها من الانتظار وقد سبب لها سماع صوت الرصاص نوبة أخرى من البكاء، عندما يئست من أن يُفتح الباب بدأت بدفعه مرةً تلو الأخرى حتى كسر قفله وفتح. دخلت دون أن تلاحظ انهيار ألفريد واتجهت نحو فيوليت لتتحقق من سلامتها فوجدتها تبكي بجنون وعيناها ثابتتان على مكان واحد حيث يقبع ألفريد.

لم يكن من ساندرا بعد أن غادر ألفريد المنزل سوى البكاء بجنون وقلبها يكاد يتوقف، لقد كانت تشعر بالألم الشديد وحزنٍ لم تشعر بمثله طيلة حياتها. تدمر كل شيء في لحظة واحدة ولم يبق شيءٌ سوى الفتات من هذا الحطام. لم تكن حالة فيوليت أقل سوءًا بل ربما أسوأ بكثير؛ فلقد كانت ترتجف وتبكي، لم تتحمل حصول كل هذا وفقدانها كل شيء، فإلى جانب كونها تعيش مع عائلة لا تنتمي إليها ومعرفتها حقيقة أن ساندرا ليست والدتها، ورغم حبها الشديد لها، تظل هي الإنسان الذي أحبته أكثر من أي شخص آخر في حياتها، ثم يأتي ألفريد فجأة ليقتلها فينهار أمامها رغم أنه لم يفعل من قبل. كانت المرة الأولى التي شعرت فيها بحبه لها كابنة له. طلقات رصاص، بكاء وصراخ، كل هذا كان كفيلًا بجعلها في حالة يرثى لها، حالة لم تعاني منها من قبل في حياتها.

اقتربت ساندرا منها فجأة ثم قالت:
«فيوليت، عليك الرحيل فورًا، لا يجب أن تبقي هنا أكثر؛ سيقتلونك!».

التفتت فيوليت إليها ثم نظرت إليها بعينيها الخضراوين المتورمتين وقالت بنبرة مبحوحة ومنكسرة عاقدة حاجبيها:
«لماذا سيقتلونني؟ ماذا فعلت؟ لماذا تركتموني أعيش بينكم إن كنتم تريدون قتلي؟».

شعرت ساندرا بالألم الشديد وهي تستمع إلى أسئلة فيوليت، هي لا تستطيع حماية صغيرتها ولم تستطع حمايتها.

«منذ تسعة عشر عامًا، هبطت مركبة فضائية على كوكب الأرض ولم يعرف أحدٌ من أين جاءت، وعندئذ خاف المسؤولون الفضيحة وانكشاف ما تم إخفاؤه منذ عقود عديدة، لكنني أصررت على ألفريد أن يقنعهم بإبقائك على قيد الحياة وأن تعيشي معنا، وقد اخترع حجة حتى وافقوا، وهم الآن يعتقدون بأنك ستدمرين كل شيء، وبسبب خروجك نهار أمس خارج الحدود تيقنوا من شكوكهم وطلبوا من ألفريد مجبرًا التخلص منك وإلا سيؤذونك بطريقة وحشية أكثر من الموت». حدقت بها ساندرا بعينيها الزمرديتين ثم أمسكت بيديها وأتبعت وهي تحكم قبضتها: «لا تنتظري، اهربي بسرعة خارج الحدود مع ذلك الشاب ولا تعودي، هل سمعتِ؟ لا تعودي أبدًا».

لم تستطع ساندرا أن تمنع نفسها من البكاء وهي تقول تلك الكلمات لفيوليت، هي تطلب منها الابتعاد بملء إرادتها ولكن هذا أهون بكثير من موتها أمام عينيها. هي منهم وتعرف بماذا يفكرون وتعرف ما يستطيعون الإقدام عليه دون تردد، لن يستطيع أحدٌ ردعهم إن قرروا. لم تفكر يومًا بأنها ستذوق شيئًا من وحشيتهم فلقد اعتقدت بأنها منهم ولكن جاءت صغيرتها فيوليت.

لم تكن فيوليت تستطيع استيعاب ما قالته والدتها، رغم أنها تلقت الصدمة من قبل وسمعت ما قال ألفريد لدانيل إلا أنها لم تستطع إقناع نفسها أبدًا بأن ساندرا ليست والدتها، لقد ظلت تحبها دائمًا، لقد أعطتها الحنان والرعاية ربما أكثر من أم حقيقية، هي فقط تشعر بأنها أمها الحقيقية ولكن كل هذا مجرد كابوس. كابوسٌ مؤلم جدًا، كل شيءٍ يكشف زيفه الآن. ولكن ما جعلها تصدم أكثر هو حقيقةُ عدم انتمائها لكوكب الأرض بأسره وتلك المتاهة التي جعلتها تصل إلى هنا.

«ليس هناك وقت كافٍ، هيا ارتدي ملابسك وخذي ما تحتاجينه وغادري». صمتت قليلًا محاولة حبس بكائها ولكنها أتبعت وقد خرج صوتها مبحوحًا باكيًا: «لا وقت يا حبيبتي، لن أتحمل رؤيتهم يؤذونك، أرجوك غادري».

لم تعرف فيوليت ما يستوجب عليها فعله فلقد كانت كما لو أنها مقيدة لا تستطيع فعل أي شيء، لم ترد شيئًا سوى أن يتوقف الوقت ببساطة.

نهضت من سريرها دون رغبة وفتحت خزانتها لتخرج بعض الملابس.

بينما كانت فيوليت تجهز حقيبة صغيرة لها تقدمت ساندرا نحوها بعد أن تغيبت قليلًا. نظرت إليها بعينين دامعتين حزينتين ثم قالت وهي تدفع يدها نحوها:.

«لقد وجدت هذه الصورة داخل الغطاء الذي كنت ملفوفة به عندما كنت طفلة. لم أعرف مصدرها أو هوية الأشخاص، لكنني احتفظت بها رغم أنني كنت أرغب بإحراقها، كنت أريدك لي وحدي وليس لغيري ولكنني لم أكن لأسمح للأنانية بأن تسيطر على إلى هذه الدرجة، وهذا ما جعلني أحتفظ بها، وأعتقد بأنها مهمة لك الآن. ».

أخذت فيوليت الصورة من ساندرا وحدقت بها لحظات ثم وضعتها في حقيبتها وكانت قد أنهت تجهيز كل شيء وحان وقت الرحيل. لم تستطع فيوليت منع نفسها من الاندفاع نحو ساندرا ومعانقها بقوة، لقد أرادت أن تعبر عن امتنانها الذي لم تستطع التعبير عنه بالكلام.

«أحبك جدًا، وستظلين والدتي وأكثر إنسان أحبه في هذه الدنيا. ».

همست لها ثم سقطت دمعة من عينيها وتبعتها أخرى وأخرى. أجهشت ساندرا بالبكاء وقلبها يعتصر ألمًا على تلك اللحظة التي كانت تبكي فيها منذ أن كانت فيوليت طفلةً صغيرة، فكلما حصل وتخيلت فقدان فيوليت بكت في تلك اللحظة، وها قد جاءت لحظة رحيلها الحقيقية وما زالت تملك الكثير من الدموع لتذرفها على فراق طفلتها الحبيبة. ابتعدت فيوليت عنها ثم قالت بصوت مبحوح مهشم:
«سأعود وستنتظرين. ».

تسارعت أنفاس ساندرا وشعرت بأن روحها تغادر جسدها تمامًا وهي تراقب فيوليت وهي تقول كلماتها الأخيرة وتلتفت لترحل دون عودة، نعم، دون عودة فلا وجود للأحلام هنا.

لم يتوقع ليوناردو أن تتزامن الأحداث بتلك الطريقة وتنقلب الموازين بطريقة غير متوقعة أبدًا، فبدل أن يستدرج فيوليت هي من جاءته بنفسها، ولم يكن يتوقع حدوث ما حدث، فلقد وجد فيوليت مضطرة لإخباره عن كل ما حدث معها وطلب مساعدته. غادرا المدينة على عجل قبل أن يخترق المسؤولون النظام الذي يكون معطلًا جزئيًا في عطلة نهاية الأسبوع ليستطيعوا منعهم من المغادرة، لكنهما استطاعا الخروج ببساطة. توجها إلى منزل ألبرت الذي يقع في الغابة بالقرب من مقر هبوط المراكب السري الوحيد. لم يكن يعرف ما عليه فعله فوجد نفسه يسأل فيوليت التي جلست صامتةً على أريكة المنزل الصغير:.

«ماذا سنفعل الآن؟ هل لديك أي خطط؟».

كانت فيوليت تحدق في الفراغ، لم تكن حقًّا تستطيع التركيز أو التفكير، ربما هذا شيءٌ طبيعي جدًا لشخص انقلبت حياته في ليلة وضحاها.

«لا أستطيع التفكير». صمتت قليلًا ثم وجدت الدموع تندفع إلى عينيها وشعور ضيق لا يحتمل داهمها. شعرت بأنها في دوامة لا تنتهي، عقلها لا يتوقف عن سرد سلسلة الأحداث كاملة، كل شيء منذ أن بدأ وعيها عندما كانت شخصًا عاديًّا ولا تعرف شيئًا عن حقيقتها. أحنت ظهرها إلى الأمام لتضع رأسها بين يديها اللتين استندتا على فخذيها. شدت خصلات شعرها التي تخللت بين أصابعها محاولة منع نفسها من البكاء كطفلة صغيرةٍ فقدت دميتها، ولكن انتهى بها الحال تبكي كطفلة. غطت وجهها بين كفيها وهي تحاول إيقاف نفسها عن البكاء، لقد كانت تكره البكاء أمام أي شخص، لم تكن ترغب بأن تظهر ضعيفة أمام أحد، ولكن أحيانًا نعجز عن كتم مشاعرنا مهما حاولنا. كانت هذه المرة الثانية التي يراقب فيها ليوناردو شخصًا يبكي أمامه، ولكن بكاء فيوليت ترك أثرًا أكبر في نفسه بسبب جرحها الذي لم يلتئم وأنها تمر بمشاكل في هذه اللحظة، ومحاولتها التوقف عن البكاء جعله يوقن بأن رصيدها من التحمل قد بلغ نصابه وأنها لم تعد تستطيع التحمل. كان هناك شيءٌ يؤلمه في داخله، شيءٌ أقوى من رؤيته فيوليت وهي تبكي هكذا، بل شعور بالذنب يعتصر قلبه. هي تعاني مثله تمامًا وهو يشعر بما تشعر به ويفهم تمامًا ما تمر به، ولكن عوضًا من إنقاذها من الغرق في أحزانها كما حصل معه لم يكن منه سوى أن تصرف بشناعة. المشكلة الحقيقية التي تجعلهم جميعًا يذوقون التعاسة هي أذيتهم بعضهم بعضًا والبحث عن مصالحهم لدى من يملكون السلطة والحكم. إنه لمن العار أن نعرف آلام بعضنا بعضًا ونذوق جميعنا من الكأس نفسها ونعرف المسبب ثم نتعاون معه على تدمير بعضنا أكثر. إنه أمرٌ فظيعٌ جدًا.

«أريد أن أعيش مع أمي، ولكنهم يريدون قتلي دون سبب، لقد أبعدوني عنها رغمًا عني». قالت من بين شهقات بكائها بصوت مهشم وألم شديد يضيق على صدرها.

لم يستطع ليوناردو أن يمنع تلك الدموع التي اندفعت إلى عينيه وهو يستمع إليها. إنها تفتقد أمها كما يفعل هو، تحترق شوقًا لرؤيتها من جديد كما بات هو منذ تسعة عشر عامًا، ربما من حسن حظه أنه كان طفلًا يستطيع تجاوز الألم بطريقة أسهل. هزت مشاعرها كيانه وضربت نقطة ضعفه، وفي المنتصف شعر بأنه يرغب بمشاركتها البكاء. إنها تعايش آلامه نفسها فكيف له بأن يساهم بعذاب إنسان ليعاني كما عانى هو؟ وجد نفسه يندفع خارج المنزل فجأة حاملًا جهاز التواصل وقد بدأ يكتب لفيكتوريا:.

«لن أستطيع تسليم الفتاة اليوم كما وعدتك، أو حتى الانطلاق بالمركبة، فلم أستطع الوصول إلى مكان الإقلاع بعد. ».

كان قد أخبر فيكتوريا بأنه سينطلق بالرحلة اليوم إلى كوكب جليزا ليسلمها فيوليت وينهي المهمة ولكن لم يستطع. الشعور بالذنب يقتله وحالتها المؤلمة قد ردعته تمامًا عن الإقدام عما خطط له. كان يشعر بالضياع والألم فلم يعلم ما عليه فعله فهو أمام قرار صعب جدًا. سمع صوتًا ما وقد بدأ يبحث عن مصدره حتى وقعت عيناها على ذراعه التي شع منها ضوءٌ ما، رفع ذراعه بفزع، قد كانت هناك إشعاعات تظهر من تحت جلده، وما هي سوى دقائق عدة وهو يحدق بصدمة وارتباك حتى ازداد ضوء الإشعاعات وظهر صوت فيكتوريا الذي لا يخطئه أبدًا.

«أحذرك من مغادرة موقعك أو السماح للفتاة بمغادرته، وإلا ستغدو رغبتك برؤية والدتك حلمًا مستحيلًا. ».

لم يعرف ألفريد إلى أين خطا وإلى ماذا قاده عقله الذي كان في غيبوبة شبه تامة، وجد نفسه يمشي في الشوارع كمجنون فقد عقله أو كشخص غائب عن الوعي ووعيه أصبح في غياهب الظلمات. وجد نفسه يتصل ببرنالد ويطلب منه بشيء من الترجي أن يرسل من يقوم بالمهمة غيره متحججًا بساندرا. وضع مفتاحه في قفل الباب الخارجي لمنزله ثم فتحه، كان دخوله في المنزل أشبه بدخوله في مقبرة، ليس بسبب الهدوء القاتل فقط ولكن بسبب الظلام الذي رآه في كل زواياها، لم يصدق أنه ذلك المنزل نفسه الذي كان مفعمًا بالحياة من قبل، ولكنه الآن لم يعد من حقه حتى الحلم ببيت تحيطه البهجة. عندما تموت ورود الحديقة تصبح مظلمة لا يقصدها أحد.

خطا في داخل ذلك الظلام الدامس وقلبه يزداد ضيقًا مع كل خطوة وفي رأسه يدور سؤال واحد: تُرى، كم تبقى حتى يحضروا إلى هنا وينتهي كل شيءٍ تمامًا؟ ترى، هل ستستمر حياته مع ساندرا؟ بالتأكيد ستحقد عليه إلى الأبد وستهجره، بل ربما أسوأ. بدأ ذلك الشعور يشتعل في داخله من جديد وذاكرته تعود إلى حيث اعتادت أن تسافر على مر وجود فيوليت وساندرا التي تمنحها كل الاهتمام، كل الحب والأمان لها فقط، أما هو فقد بات غير موجود في قلبها. هل يعقل حقًا أن يسلب الطفل قلب أمه أو مربيته -على الأقل في حالة ساندرا- حتى ينتهي حبها مع شريك حياتها عند تلك اللحظة؟ ربما السبب هو عقم ساندرا، لو لم تعش تحت خوف فقدان فيوليت لما تملكها جنون تملك شيءٍ لم يكن لها منذ البداية. في بعض الأحيان كان ينظر إليها بعين الشفقة، فكيف لشخص أن يعطي كل شيء يملكه وهو يوقن عدم امتلاكه وفقدانه في يوم من الأيام؟ كان شغفها بشعور الأمومة هو ما دفعها لتحمل أي شيءٍ مهما كان مؤلمًا. لم يدرك كم مرّ من الوقت وهو يغوص في عالمه حتى وجد قدميه تقودانه إلى غرفته حيث ستكون ساندرا تجلس ربما، وعندما سيفتح الباب ستركض نحوه تترجاه من جديد وتلح عليه كما فعلت سابقًا لتجبره على تبني فيوليت في موقف مثير للشكوك. أدرك كم كان غبيًا حينما رضخ لرغباتها وفعل بها وبنفسه ما فعل ليصبح الأمر أكثر تعقيدًا.

تذكر بأنها هددته بالانتحار، ولكن كيف صدقها؟ كان عليه أن يعلم بأنها تضغط عليه فقط فمهما كانت مجنونة لم تكن لتقدم على هذا الأمر بسهولة ولذلك السبب الذي لم يكن له وجود أصلًا، ولكن لقد انتهى كل شيءٍ الآن ولم يعد هناك فرصة للتراجع. كان يتمنى في خلده متجاهلًا شعور الألم في قلبه أن تحصل معجزة ويجد ساندرا قد تقبلت الأمر وأنها ستعود كما كانت تحبه وحده وتنتظر السعادة بوجوده فقط، كان يتمنى أن تعود ساندرا له وحده لا يشاركه إياها أحد. رفع رأسه بعد أن بات يحدق بمقبض الباب الذي كان يضع يده عليه دون أن يتجرأ على فتحه وقد غاص من جديد بين طيات خياله الذي أصبح جامحًا فجأة. انتبه إلى وجود ظرفٍ ملصقٍ على الباب ولكن عوضًا من نزعه ورؤية ما يحتويه وضع يده على مقبض الباب محاولًا فتحه، ولكن لقد كان مقفلًا فما كان منه سوى نزع الظرف الملصق لعله يفهم ما يجهله. فتح الظرف ليجد بداخله رسالة فأسرع بقراءة محتواها وقد بدأت عيناه تجول سطورها بقلق.

«عزيزي الفريد،.

ربما أنت الآن غاضبٌ جدًا تقف عند باب غرفتي محاولًا الدخول لتصرخ في وجهي كما اعتدت وبالكلمات ذاتها «أنت السبب»، أدركت حقًا أنني أنا السبب فعلًا لأنني أجبرتك على ما لا تطيق وحملتك من الهم ما لا تستطيع تحمله، ولكن ربما بسبب امتلاكك زوجتين استطعت أن تكتشف سر عدم رغبة النساء بالاعتراف بأخطائهن، وعلى ذكر زوجتك، تذكرت أنني حملت نفسي ما لا تطيق أنا أيضًا بدفعي لك للزواج بأخرى. لم يكن طلبي ذلك رغبة مني ولكنه كان الثمن الذي دفعته من أجل إبقاء فيوليت والمقابل الذي استلمته على الرضوخ لرغبتي، وهذا ما جعلني أدرك بأنني لا أدين لك بشيء فلقد دفعت الثمن أغلى مما توقعت ولكنك لم تدرك هذا يومًا. أتعرف ما مشكلتك ألفريد؟ مشكلتك أنك لم تفهمني يومًا، لم تشعر سوى بمشاعري الظاهرة ولم تكلف نفسك يومًا عناء التبحر بمشاعري حتى اتهمتني بعدم المبالة ولم تميز بين حب أم لابنتها وحب زوجة لزوجها. في الحقيقة، أنت من يدين لي بالكثير، لقد أعماني وأعماك الحب حتى نسينا مقوماته الأساسية وأصبحنا نجهل أسباب ذلك الحب وكيف نشأ. ربما أخطأت ولم أدرك خطئي سوى عندما رأيتك في حالتك المزرية تلك، وقد تأكدت أنني ظلمتك وظلمت نفسي على مر سنوات طويلة، لكنك يا عزيزي لن تستطيع نزع حب فيوليت من قلبي كما لن تستطيع نزع حبك من قلبي. لا تغضب، ولكن صغيرتي رحلت ورحلت معها روحي حتى وجدت نفسي أتجول في أرجاء المنزل والألم يكوي قلبي كشخص يتألم جدًا ولم يجد دواءً لألمه أو مسكنًا مؤقتًا حتى. هل تصدق أنني فعلت هذا بملء إرادتي؟ طلبت من فيوليت الرحيل، بل دفعتها للرحيل فعندئذ لن يستطيعوا الوصول إليها. خفت عليها من أن تذوق ظلمنا كما ذاقه من هم قبلها، وقد حان الوقت الآن لنذوق ظلم أنفسنا. لأنني أعلم أن ليس هناك بيدك ما تفعله أمام المسؤولين وأنك عاجز أمام جبروتهم رغم أنك شاركتهم إياه سابقًا، قررت أن أصلح من موقفك قليلًا ولكن لن أكذب عليك بكون السبب الأول لإقدامي على ما أقدمت عليه هو الألم. آسفة ألفريد، لم أستطع تحمل هذا المقدار من الألم، وشعور انقباض روحي في كل دقيقة يعذبني، زوايا البيت المظلمة وذبول الأزهار الأرجوانية كل هذا دفعني للانتحار. صدقني ألفريد، لا أستطيع العيش دونها، أرجوك صدقني ولا تكرهني فلم يعد بإمكاني الشعور بالندم.

حبيبتك المخلصة،.

ساندرا. ».

ارتجفت يدا ألفريد عندما شعر أنه في اللاوجود، لا شيء يشعره بأنه على قيد الحياة، حتى أنه لم يعد يشعر بدقات قلبه ولا يشعر بوجوده حتى. أتراه يضخ الدماء إلى أعضاء جسده أم أنه ميت؟ إنه ميت بكل تأكيد فعيناه لا تريان سوى الظلام، وجسده يتآكل فحتى قدماه كانتا غير متوازنتين وكأنه يقف على حافة الجبل يهوي بعيدًا ويهبط. وما كان منه في حالته المزرية تلك سوى أن ضرب باب غرفة ساندرا وهو يصرخ معتقدًا بأنها ربما ما زالت قيد الحياة.

كانت الساعات الماضية لليوناردو كالموت البطيء، لكنه وجد نفسه يبتسم ساخرًا ببساطة؛ فلقد سخر من سذاجة عقله عندما طرح سؤالًا سخيفًا. كان يتساءل كيف استطاعت فيكتوريا مراقبة جميع خطواته ولكن يا له من سؤال! أدرك الآن أن فيكتوريا لا تترك مثل هذه الثغرات وأن محاولته الفاشلة تلك لم تكن سوى غباء منه واعتقادًا أحمقًا بأن باستطاعته التراجع. كان عقله يتخبط وكيانه يتبعثر؛ فلقد وقع في شباك لن يستطيع الفرار منها، فهل له أن يفكر بفرحة لقائه بوالدته، تلك اللحظة المنتظرة أم بضميره الذي سيبقى يعذبه إلى آخر العمر؟ وجد نفسه يدرك مدى حقارة فعله وأنانيته، كان ينظر إلى وجه فيوليت الحزين الباهت بين الفينة والأخرى ومع كل نظرة كان قلبه يخفق بشدة إلى درجة تألمه. إنه لموت بطيء بكل تأكيد لكلٍ منهما، ولكن وحده ليوناردو من كان يحتقر ذاته وهو ينتظر ليقدم فيوليت على طبق من ذهب لفكتوريا. ثم؟ ثم ماذا؟ هل سيكون مصيرها مبشرًا أم سيحدث له شيء يجعله يتساءل عن سبب تردده للهرب بعيدًا لمساعدتها على الفرار؟ ولكن من من سيساعدها على الفرار؟ أمن الحكومة التي ستبقى تترصد كل تحركاتها حتى توقع بها وبه أم فيكتوريا التي لن يستطيع الهرب منها على أية حال؟

لقد قيدته فيكتوريا بسلاسل حديدية يعرف أنها وهمية ولكنه لن يستطيع التحرر منها، فداخل قضبانها توجد والدته التي اعتقد بأنه يستطيع التضحية بأي شيء من أجلها بسهولة، ولكنه لم يسلب مشاعره بعد ولم يتحجر رغم الألم الذي عانى منه على مر خمسة وعشرين عامًا، حتى وجد نفسه يتساءل عن حقيقة تلك الإمكانية التي تجعل أي إنسان يتجرد من مشاعره وإنسانيته. المشاعر تتجرد من البشر أم أن البشر هم من يتجردون من مشاعرهم بملء إرادتهم؟ ربما ما جعله يتألم حقًا هو معرفته أن فيوليت ضحية مثله تمامًا. ضحية تؤذي ضحية تعاني مثلها، أليس الأمر غريبًا؟ لقد انشغل الضحايا ببعضهم حتى نسوا السبب الذي جعل منهم ضحايا يتعذبون في كل دقيقة. ارتعد قلبه وارتجف جسده عندما سمع صوت حركة فجائية وأصوات قادمة من الخارج، لم يتحرك فقد تجمد في مكانه محاولًا التصرف كأنه لم يسمع شيئًا. لم تكن فيوليت لتدرك ما يحدث حولها ولا حتى لتلاحظ الأصوات القادمة من الخارج؛ فقد كانت كشخص غائب عن الوعي ليس له وجود على الإطلاق.

تسارعت دقات قلب ليوناردو وهو ينظر إلى الساعة بعد أن أدرك أنه وقت وصول المركبة، وما هي سوى فترة قصيرة حتى وجد من يدفع الباب بقوة حتى فُتح. ارتعدت فيوليت بعد أن خرجت من غيبوبة عقلها وقد اتسعت عيناها وهي تنظر إلى الرجلين المسلحين بالبنادق، فشعرت كأن قلبها قد سقط من بين أضلاعها من الفزع مما رأت، لقد كان هذا مروعًا أكثر من رؤية ألفريد وهو يحمل المسدس. نظر أحد الرجلين إلى فيوليت ثم قال:.

«سترحلين معنا. ».

عقدت حاجبيها باستنكار دون أن تدرك ما يحدث، حتى أنها لا تعرف من هم فقالت متلعثمة:
– من أنتم حتى أرحل معكم؟

– لا يهم من نحن، المهم أن تختاري الرحيل بملء إرادتك أم بطرق أخرى لا تفضلينها.

ما كان من فيوليت التي تخدر جسدها وزاد صداع رأسها ودورانه سوى أن نظرت إلى ليوناردو الذي وقف صامتًا كأنه غير مرئي.

وقبل أن تنطق شفاه فيوليت المرتجفة بشيء نظر أحد الرجلين إلى ليوناردو ثم ابتسم له ساخرًا.

«تبارك لك السيدة فيكتوريا نجاحك في تسليمنا الكنز المنتظر». قال مشيرًا إلى فيوليت.

تجمدت تعابير فيوليت واضطرب كيانها ونظرت إلى ليوناردو بعدم تصديق، شعرت بأن جسدها قد سلب كل طاقة متبقية به، أما عقلها فلم يعد يستوعب أي شيء إطلاقًا. كانت نظرات فيوليت من عينيها المتورمتي اللتين ترك عليهما الكحل الأسود علامات واضحة تصيب سهمًا في منتصف قلبه، وقد كانت كلمات الرجل كالسم الذي تجرعه وبدأ مفعوله يسري في جسده ليفتك به ببطئ. لم يكن من فيوليت لكبح رغبتها الملحة في الانهيار عندئذ سوى أن تسمح للدموع بأن تتجمع في عينيها رغم محاولتها عدم إظهار أي علامات بكاء، ولكن لم يكن الأمر بإرادتها، لم تكن تستطيع تحمل كل ما يحدث، وقد بدا لها أنه كابوس مرعب ستستيقظ منه على صوت صراخها ثم ستجدها والدتها التي إلى جانبها تقبل رأسها وتهدئ من روعها. فكرة عدم وجود والدتها بعد الآن جعلتها تهتز من الأعماق، جعلتها تشعر بحرارة قلبها، ربما كان يبكي من الداخل وهذا ما جعلها تشعر باحتراقه.

راقب ليوناردو خطوات فيوليت التي قررت المغادرة ببساطة، فماذا سيحدث أسوأ من هذا؟ لم يعد هناك شيء تخسره على الإطلاق، لقد انتهت سطور قصتها عند هذا الحد. انتهى وجود كل من تحبهم، انتهت حياتها، تلك الفتاة التي تنعم بجميع أنواع الرفاهية وتعيش في أرقى الأماكن على وجه الأرض، لقد انتهى كل شيء.

كانت نظرة فيوليت الأخيرة لليوناردو هي ما جعلته ينهار بشدة ويحترق بلهيب الندم، كان يود لو استطاع التحرك لعمل أي شيء لكنه وجد نفسه صنمًا تجمد في مكانه دون حركة، عيناه تغوصان في عيني فيوليت الحزينتين الدامعتين أو حتى العاتبتين اللتين تصرخان لتعبرا عن مدى دناءة فعله فقط، لقد وثقت به ولكنه خان ثقتها فلم يستحقها.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *