التخطي إلى المحتوى

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس

سيف.

جعلت 10 ايام تمر اجبرت فيها نفسي على عدم رؤيا ميرنا. التفكير بميرنا. الهذيان بميرنا. نسيت حروف اسمها التي تعذبني، نسيت سحر عيونها الذي يضعفني، مددت نفسي بالقوة عن طريق فتح ابواب الماضي على مصراعيها في عقلي. تذكرت المعاناة التي عشتها انا وامي بعد وفاة ابي ونحن لانملك قرشاً واحداً. تذكرت حرماننا من الثروة كلها ليستمتعو بها هم، كنت عاجزاً عن شراء قميص في الوقت الذي كانت ميرنا تشتري فيه عشرة اثواب من اموالي. دخلت انا مدرسة حكومية عادية بينما هي دخلت مدارس خاصة وراقية، ادخر اموالي كي اتمكن من دفع اقساط الجامعة وهي تدخر اموالها كي تشتري سيارة اغلى عند دخول الجامعة، اعمل في المطاعم والمتاجر كي اسدد مصاريف دراستي واكون سعيد ان حصلت على بقشيش اضافي بينما هي كانت ذلك الشخص الذي يدفع البقشيش! تدفعه من اموالي انا. تستمتع بأموالي انا، وانا، محروم من اموالي! عشرة ايام مرت ولكني كرهت فيها ميرنا اكثر من ال18عاماً التي حاولت فيها كرهها وفشلت! أعدت قلبي جبراًً نحو مماته وزودت روحي بينابيع من الكراهية كانت كافية لتروي انتقامي! رأيتها مرة واحدة من بعيد بعد هذه العشرة ايام فلم تهتز روحي. ولم تضطرب انفاسي. ولم يتراقص شيء داخل قفصي الصدري، واخيراً عاد ذلك الاحمق نحو سباته الشتوي! فلا صيف يمر بسماء حياتي من بعدها. وكل ايامي اصبحت باردة وموحشة ليس فيها شمسها لتبثني الدفئ الذي احتاجه!

انه يوم الجمعة. يوم اجازتي. وبالمناسبة هو اليوم الوحيد الذي لاارى فيه وجه ادهم الذي يقبض لي معدتي، استيقظت قرابة التاسعة والنصف واخذت حماماً ساخناً كالعادة لأتنشط. شغلت موسيقى كلاسيكية هادئة تتناسب تماماً مع هدوئي الصباحي الذي اعشقه! فتحت الثلاجة لأختار الطعام الذي سأعده للفطار. ابقى قرابة الخمس ثواني احدق في اصناف الطعام رغم اني لن اختار شيئاً سوى البيض في النهاية فلا افضّلُ شيئاً غيره وغير الجبن مع الزيتون الاسود على الفطار…

سكبت البيض في المقلاة وبدأت بتقليبه وانا ادندن مع الموسيقى واستغرقت بداخلها وداخل كلماتها المنعشة التي اشعرتني ان يومي سيكون مثالياً، ولكن خذو مني نصيحة. ان جعلتكم اغنية ما تشعرون بهذا الشعور فتيقنو ان يومكم سيتحول للأسوأ! لم اكمل اعداد البيض بعد حتى تعالى في ارجاء الشقة رنين هاتفي. اطفأت النار. اطفأت الموسيقى. واتجهت نحو الهاتف لأوقف رنينه ايضاً واجيب، نظرت الى الاسم وتقلصت معدتي فوراً، ومن غيره سيتسبب لي بهذا الشعور؟ ادهم اليوسفي!.

تنهدت بملل واخذت نفساً عميقاً كي يبعد عني نبرة الاستياء واجبت.
صباح الخير سيد ادهم.
صباح الخير ياسيف، هل انت مستيقظ؟
حتى لو لم اكن مستيقظ فأتصالك سيكون كفيلاً بأيقاظي لذلك ما الداعي من سؤالك المحترم هذا؟ اه ياليتني لو كنت استطيع ان اجيبه هكذا!.
اجل انا كذلك.

هذا جيد، اردت اخبارك انك مدعو على حفلة عشاء هذه الليلة في منزلنا، واياك وان تتعذر. لقد قبلت عذرك في عدم حضورك لعيد ميلاد ميرنا ولكن هذه المرة لن افعل، وتعمدت ان اتصل بك في الصباح كي لاتتعذر لي لاحقاً بمشاويرك.
اجبرت نفسي على اخراج ضحكة ومن الجيد اننا كنا نجري اتصالاً صوتياً فقط فلو كانت مكالمة فديو فمن المستحيل انه كان سيصدق اني انا من ضحكت مع تعابير وجهي العابسة والمستائة هذه.

حسناً سيدي، بالتأكيد سأحضر هذه المرة.
جيد، اراك في الليل اذاً.
حسناً.
اغلق الهاتف واغلق معه شهيتي التامة للأكل. اعطوني شيئاً واحد جيد يفعله ادهم اليوسفي سوى انه يجعل ايامي اكثر سوءاً؟.

كنت قد اطفأت الطباخ مسبقاً لذلك اتجهت الى غرفتي مباشرةٍ واستلقيت فوق سريري بملل فلم تعد لدي الرغبة في فعل اي شيء، اليوم سأراه هو واسرته، لا. ليس هذا مايزعجني، بل لأني سأراها هي، سأخوض معها حديث. ستلتقي عيوننا، سأضطر ان اضحك. ان اكون لطيفاً. ولكني لااستطيع، انا لم اعد اطيقها! لااشعر انها الفتاة ذاتها التي عشقتها طوال حياتي، فبعد حديث امي. وبعد ذكرياتي. لم اعد اريد رؤيتها. تلك الثرية المبذرة، تلك الطفلة المدللة. لم اعد اريدها في حياتي، سأنهي الخطة وسأخرجها نهائياً!.

ربما مرت على سبع دقائق وانا احدق بالسقف وكأنه يعرض لي فيلماً مشوقاً!
واخيراً خطرت على بالي فكرة جعلتني اقفز فوراً من السرير واسحب حاسوبي المحمول وابدأ بالبحث، الى ان وجدت غايتي، اعتلت ابتسامة زهو ثغري وانا اضغط على زر طباعة!

دقت الساعة السابعة ورفرف قلبي معها، من اجل الخطة بالطبع لاتظنو شيئاً اخر! ارتديت حلة سوداء وقميص ابيض مع ساعتي الفضية المفضلة. لاتظنو لأنها ماركة او ماشابه. بل لأنها ساعة ابي! منذ وفاته وهي تحوط يدي كي اشعر نفسي انه معي دائماً وبجانبي بكل شيء افعله.

أعاقتني بعض اشارات المرور وازدحامات السير مما جعلني اصل متأخراً للحفلة وقد حضر جميع المدعوين قبلي، دخلت وجلت ببصري في ارجاء الحديقة ابحث عن غايتي فلم اجدها بادئ الامر، ذهبت نحو مكانها المعتاد فلم اجدها تجلس فيه ايضاً وفجأة لمحتها، كنت سألمحها بكل الاحوال ولو كانت بين ملايين الناس! اشعر انها كالقمر. مهما احاطته النجوم لابد ان يبرز ويجذب الانظار دون غيره، وها هو هذياني بها يعود مجدداً. تباً لحماقتي!

شحنت نفسي بهواء عميق ملأ لي رئتاي كي تضخ لي المزيد من الدم يجعل قلبي ينتظم وتماسكي يزداد، اقتربت منها وهي تتحدث مع بعض السيدات، كانت مستغرقة في الحديث فلم تنتبه على وجودي بادئ الامر ألا بعد ان القيت التحية. قطعت كلامها فوراً والتفتت إلى بعيون براقة وكأنها العسل المصفى، تبسمت ابتسامة بسيطة وانا اقول بوقار:
انسة ميرنا.

فاستأذنت فوراً من السيدات اللواتي يقفن بجانبها وهي تقترب مني وتقول بأبتسامة متكلفة:
سيد سيف.
حسناً، لابد انها لاتزال مستائة من ردة فعلي في مكتب ابيها في ذلك اليوم. قدمت لها الهدية التي كنت امسكها بيدي وقلت لها:
كل عام وانتِ بخير، اسف لأني لم استطع حضور عيد ميلادك.
ابتسمت وكتمت ابتسامتها فوراً وهي تحدق بالهدية ثم سحبتها من يدي ونظرت نحوي بملامة وقالت بمزاح:
كف عن فعل ذلك!

قطبت حاجباي بأستغراب وانا ابادلها ابتسامتها واقول:
فعل ماذا؟
عن انفصام الشخصية هذا…
قهقهت ضاحكاً وانا اقول:
انا لدي انفصام؟ أتعلمين انك اول من من تتهمني بالجنون؟
لأنك كذلك بالفعل، تارة تكون لطيف جداً وكأنك قادم من القصص الخيالية وتارة تكون ح…
وبلعت باقي حروفها فوراً بخجل فأكملت انا بتشكيك:
حقير؟
انا لم اقل هذا.
ولكنك عنيتي هذا.
حدقت في عيناي بأبتسامة ثم قالت:
حسناً، ربما.

ثم انزلت انظارها نحو الهدية فوراً خاتمة بذلك نقاشنا هذا وهي تفتتح واحداً جديداً:
أيمكنني فتحها الان؟
فقلت فوراً بأحراج وارتباك كنت متأكداً انه ليس من ضمن الخطة:
ربما لو. لو تفتحيها لاحقاً سيكون افضل!
نظرت نحوي بأبتسامة فوراً وهي تترك الغلاف كما هو ولم تمزقه وقالت بهدوء:
حسناً.
كفي عن هده النظرات ياميرنا، فذلك الاحمق بدأت اشعر بركلاته فوق قفصي الصدري!.
عن اذنك.

قلتها واستدرت عنها فوراً لأشحن قلبي ببعض البرود ناحيتها ورحلت لأبعد مكان عنها كي لاارى عينيها ولااسمع صوتها، انها محقة، انا بالفعل لدي انفصام في الشخصية!
انشغلت بالحديث قليلاً مع ادهم وبعض رجال الاعمال محاولاً تناسيها ولكنها تقفز الى عقلي بأستمرار تجعل زفرات التململ تنطلق من فمي من دون ارادة لدرجة ان من بقربي ظنو اني تشاجرت مع احدهم او ماشابه!

حان موعد العشاء ودُعي الجميع الى المائدة التي تحتل وسط الحديقة تحيطها الاضواء من كل ناحية وعازفو الكمان في جهة معينة بعيداً نسبياً عنا يضيفون بعض الهدوء لثرثرتنا اللامتناهية!
جلست على الكرسي الخاص بي والذي يكون دائماً قريب من ادهم الذي يجلس على رأس الطاولة وجلت ببصري فوق بقية الكراسي فلم اجد بطلة قصتي!

التفت خلفي لأبحث عنها في الارجاء وفجأة لمحتها! من منكم يذكر ابن السيد رشيد يااعزائي؟ مراد المدلل الذي كان يقضي اجازته في اوربا. والذي تسعى والدته نادية لتزويجه من ميرنا كي تجتمع ثروة الاسرتين معاً. والذي من المفترض ان تكرهه ميرنا، احزرو ماذا؟ انهما برفقة بعضهما الان، يتهامسان، يضحكان. ويسيران معاً بأتجاه الطاولة، ضربة، ضربتين، ثلاثة، بدأ بالتسارع، ضخ لي المزيد من الدم، صرخ متوجعاً، نزف بتألم، ذلك الاحمق الذي ادخلته في سباته الشتوي جبراً قد نفض عنه التراب وركض بجنون داخل صدري جاعلاً وجهي عبارة عن كتلة من النار! ماالذي يحصل لي بحق السماء؟ من المفترض اني اكرهها! من المفترض ان امثل غيرتي لا ان اشعر بها فعلاً؟ ما بالي غاضباً؟ ثائراً؟ مغتاضاً؟ مابالي اود ان اقوم من مكاني الان واسحبها من يدها بعنف لأبعدها عنه واصرخ بالجميع انها ملكي وحدي ولن يجرؤ احد على الاقتراب منها! انها مجرد بيدق ايها الاحمق الضعيف! مجرد بيدق!.

ركزت نظري عليها وتتبعت حركتها الى جلست على الكرسي المقابل لي وذلك الاحمق المدلل جلس مجاوراً لها وعلى مايبدو ان حديثهما لم ينتهي بعد فها هما يستمران بالثرثرة، حاولت ان استرق كلمة واحدة لأفهم عما يتحدثان ولكني لم استطع. فصوتهما كان منخفضاً جداً، حسناً ياميرنا، حسابنا لاحقاً!
جذب نظري عنها سؤال السيد فاروق لأدهم:
اذاً ياادهم. ماذا قررت بخصوص اولئك الشركات الثلاثة؟

اطلق ادهم تنهيدة حيرة بينما يقطع شريحة اللحم في صحنه وهو يقول:
لم اتخذ القرار النهائي بعد. ولكن الاغلب اني سأوافق فقد شجعني سيف على الفكرة.
شاركتهما الحديث وانا احاول قدر الامكان ان اسحب عقلي من تلك الهمسات وافشل:
صحيح انها ستكون مجازفة، ولكن هذه المجازفة ان نجحت فستتضاعف ثروة السيد ادهم بشكل غير معقول.
فأجاب فاروق بحكمة:
وان فشلت ياسيف؟
فأجبته بثقة:
لن يحصل هذا، الربح مضمون.

في الحقيقة هو ليس كذلك على الاطلاق. بل هذه هي الضربة الاولى لثروة ادهم. انا اعلم ان هذا المشروع خاسر. بل ذاتاً انا من خططت لهذا المشروع، سنين اعمل مع ادهم واكسب ثقته وانتشله من مشاريع فاشلة لأجعله يوافق على هذا المشروع، هو يثق بقرارتي وبالتأكيد سيوافق عليه، وهذا مااريده بالضبط، قريباً جداً سيبدأ ادهم اليوسفي بخسارة ثروته، عندها فقط سيظهر يوسف!.
شاركتنا الاميرة الهامسة حديثنا وهي تقول:.

هل الحديث يدور بخصوص تلك الشركات حديثات الانشاء؟
فأجابها ادهم:
اجل انه كذلك عزيزتي.
انت سترفض الفكرة. صحيح ابي؟
بل اظن اني سأوافق.
فأندفعت بالكلام رافضة لفكرة ابيها تماماً:
ولكن ابي. انهن شركات لم يتأسسن سوى من شهر واحد، لم يحصلو على ثقة العملاء بعد ولم يتعاملو او يدخلو بأي مشاريع مع اي شركة، كيف سندخل معهم ثلاثتهم بمشاريع ضخمة ونحن لانعلم بعد ان كانو أهل للثقة او لا؟

ميرنا، لأنهن حديثات الانشاء فهن يحتجن لأسم كبير في السوق كي ينطلقن بقوة. واسم شركتي كافي لهذه الانطلاقة لذلك سيأخذون25% فقط من الارباح والباقي لنا. أتعلمين مقدار الربح الذي سنحصل عليه؟
وماذا لو ننجح؟
حتى وان فشلت احداهن فالارباح التي سنحصل عليها من الشركتيين الاخرتين كافية لتعويض الخسارة.
ماذا ان تعرضت المشاريع الثلاثة الى الخسارة؟
لايمكن ان يحصل هذا ياميرنا.
انا اقول ماذا لو؟

وانا لن اعتمد على الحظ وال ماذا لو؟ عملي يحتم على المجازفة، اما الربح او الخسارة، قضيت سنين عمري اجمع ثروتي بهذا الشكل ولن اطبق النظريات العلمية الان، لو اعتمدنا على الماذا. لو فلم يكن احد سيستثمر امواله او يجمع اي ثروة.
انا اوافقك الرأي ياابي. ولكن على الاقل دعنا ندخل بمشروع مع واحدة فقط. لن تضرنا الخسارة ان حصلت.
ولن يفيدنا الربح ان حصل ايضاً. الثلاثة معاً سيكون ربحهن خيالي.

ولكن ربح معقول ومضمون افضل من ربح خيالي مع المجازفة بخسارة كل شيء…
وااااو، على ان اعترف، هذه الصغيرة سيدة اعمال ناجحة جداً. بل وخطيرة ايضاً ان استمرت بكلامها هذا. فبالتأكيد ستغير رأي ادهم، ما سأفعله هو ضرب عصفورين بحجر واحد، اولاً افرغ شحنات غضبي بها بسبب جلوسها وضحكها مع ذلك المدلل، ثانياً اثير غضبها فأنا اعرف انها سريعة البكاء وستنسحب من هذه المناقشة فوراً.

قالت في محاولة منها لأكمال اقناع ابيها:
قد لااكون خبرة مثلكم في هذا المجال ولكن اظن.
فقاطعتها فوراً ببرود ونبرة جافة:
ان لم تكوني خبرة. فلاتتدخلي.
نظرت اي بتفاجئ من جفائي المعتاد معها والذي يظهر بعد لطفي الشديد معها. تمتمت بعدم استيعاب وكأنها تحاول اقناع نفسها لربما اني امزح:
عفواً؟
نظرت اليها بذات البرود وانا اقول:
قلت، ان لم تكوني خبرة فلاتتدخلي، فنحن لن نعتمد على اراء المبتدئين في مشاريع كهذه.

اعادت كلمتي بنبرة اعلى:
مبتدئين؟
اجل، فما عسى فتاة مدللة وصغيرة مثلكِ ان تعرف في عالم رجال الاعمال؟
بقيت تحدق بي بدهشة وعدم تصديق وبنظرات حادة تكاد تلتهمني لأني احرجتها كهذا امام الجميع، زفرت بضيق ورمت منديل الطعام فوق المائدة ونهضت دفعة واحدة وهي تركز عينيها النارية داخل عيناي وتقول بأقتضاب:
طعاماً هنيئاً…
ثم تركتنا ورحلت وعيناي تراقبها الى ان اختفت من امامي…

(ميرنا)
ليصفعني احدكم. ليضربني، ليمسكني بقوة. فأنا اكاد اقلب المكان رئساً على عقب من شدة غضبي، ليس لأنه اهانني بطريقة غير مباشرة فحسب. بل بسبب ابي وامي اللذان لم يفكرا حتى برد اعتباري، هذا الكيان المعقد التركيب المدعو بسيف. غريب الاطوار، صاحب انفصام الشخصية. اريد ان اعرف بالضبط من اي جحيم خرج لي ليقلب كياني بهذا الشكل؟

وقفت امام المسبح لألتقط انفاسي بعد ان سرت كالمجنونة مبتعدة قدر الامكان عن مائدة عشائهم. مبتعدة عن اولئك المزيفيين الذين لن يبالي احداً منهم بأستيائي، لن تترك امي ضيوفها الاعزاء لتلحق بأبنتها الوحيدة وتتأكد فقط انها لاتنهار باكية كالاطفال، لتمسح على خدها وتخبرها ان لابأس بذلك وان عليها ان تكون اقوى وان كل شيء سيكون بخير، ألا تفعل كل الامهات هذا؟ فما بال امي انا باردة بهذا الشكل ولاتهتم بي؟ وأبي؟ تتسائلون عن أبي؟ لاداعي ان تفعلو، فأن كانت الام خالية من العاطفة فهل سيكون الاب ممتلئ بها؟

اغمضت عيناي وسحبت نفساً عميقاً، انعشني نوعاً ما الهواء البارد الذي يمر فوق سطح المسبح محملاً بذرات مياهه الباردة! احببت ذلك الهدوء الذي يحمل لي معزوفة الكمان فقط ولاينقل لي اصواتهم البغيضة وثرثرتهم السخيفة، ياليته كان بأمكاني الصعود الان نحو غرفتي ليستمر هذا الهدوء ولن يزعجوني بعد قليل، هل قلت بعد قليل؟ انا اعني بعد ثواني. فحتى القليل لن احظى به بوجود سيف!
هل انتِ بخير؟

ما بال هذا المستفز لايجعلني احظى بالراحة كلما اردتها؟ فتحت عيناي دون ان التفت اليه وانا اشعر بالحرارة تعود مجدداً لتتصاعد نحو وجهي تجعلني اكاد بين لحظة واخرى افقد زمام اعصابي معه!
وقف بجانبي ببرود منتظراً اجابتي فألتفت اليه بحدة وقلت بأقتضاب:
ما رأيك انت؟ أتظن اني بخير؟
وفجأة وجدته يقول:
لاتكوني هكذا.
قطبت حاجباي بأستغراب وانا اسأله بأستياء:
كيف هكذا؟
اجابني ببساطة وهو ينظر داخل عيناي بهدوء:.

سريعة الخسارة والانسحاب!
طرفت بعيناي عدة مرات لايمكن لعقلي ان يستوعب مايقوله، لحظة، أليس من المفترض ان اسمع كلاماً كهذا من امي او ابي؟ فما بالي اسمعه من الشخص الذي تسبب لي بهذه المشكلة من الاساس؟
اخذت نفساً عميقاً اخر وطرحته بحدة وانا اهتف به بغيظ:
سيد سيف، كف عن انفصام الشخصية هذا معي!

لاتفهميني خطأ، انا لن اتراجع عما قلته لكِ سابقاً ً. بخصوص انك مبتدئة، انا لازلت اعنيه، ولكني كرهت امر انسحابك من النقاش فوراً وأعلانك لهزيمتك، اكره رؤيتك بهذا الضعف…
ولازلت احدق فيه بعدم استيعاب! وغد ولطيف، كيف لصفتان متناقضتان كهاتين ان تجتمعا في شخص واحد؟
غلفت وجهي بطبقة الجليد وقطبت حاجباي امثل تماسكي امام تلك العينين الساحرتين التي تجعلني اطفو في ارض العجائب وقلت له بنبرة جافة:.

ماالذي تريده مني؟ لماذا قمت باللحاق بي؟
لأني انا من تسبب لكِ بالغضب.
اذاً كف عن اغضابي كي لاتتعرض لتأنيب الضمير هذا!
تبسم وهو يجيبني:
اظن ان هناك لعنة ما، فكلما رأيتك اود افتعال شجار معكِ.
كززت على اسناني بغيظ وانا اجيبه:
اذاً تجاهلني.
هذا صعب جداً.
فتبسمت بأستفزاز لأغيضه وانا اقول:
لماذا؟ هل يعقل انك وقعت في غرامي!
تقدم خطوة نحوي وابتسامة ساحرة تعلو ثغره وهو يهمس لي بهدوء:
ربما!

احسست بقلبي يرتعش وتيارات كهربائية تصعقني من كل الجهات تجعل جسدي غير متوازناً وانا احدق داخل عينيه اللتان حملتا نظرة مختلفة تماماً هذه المرة وهو يحدق بعيناي، ازدردت ريقي بصعوبة ورتبت جملة تامة حاولت نطقها بدل ان احدق فيه ببلاهة هكذا ولكني كنت انطق الحرف الاول فقط من كل كلمة وتتبعثر باقي الحروف داخل فمي لا اتمكن من تجميعها مجدداً!

وفجأة ووسط اجواء التوتر والارتباك هذه وجدته يقهقه ضاحكاً وانا انظر اليه ببلاهة وعلامات التعجب تعلو رأسي…
نظر إلى مجدداً وهو يقول:
يااللهي، هل انتِ يائسة لهذا الحد؟ ألا تملك ميرنا اليوسفي اي حبيب في حياتها؟ يالكِ من مسكينة حقاً، مجرد مزحة بسيطة قلبت وجهك الى اشارة مرور حية!.

سيداتي وسادتي، من منكم يعرف الطريقة الاسرع والاسهل لقتل شخص ما؟ فأنا بحاجة للمساعدة كي اتخلص من هذا المتنمر اللعين الذي لايكف عن قلب مزاجي من السيء الى الاسوأ!
زفرت بحدة واستدرت اريد تركه ولكني تفاجأت بجسدي يعود فوراً الى حيث كان، لاتخمنو طويلاً، انه ذلك المزعج سيف قد سحبني من يدي واعادني وهو مستمر بضحكاته، حاولت افلات يدي منه وانا اهتف به بعصبية:
اترك يدي لو سمحت اريد الذهاب.

كتم ضحكاته واكتفى بأبتسامة بسيطة فوق فمه ووضع سبابته فوق شفتيه وهو يقول:
دعينا نسمع.

ثم نظر نحو ساعته وكأنه بأنتظار شيئاً ما وكرتا عيني تتجولان في الارجاء وكأنهما تحاولان التقاط الصوت الذي ينتظره، وفجأة، توسعت حدقتاي بدهشة، نحن ذاتاً كنا نسمع صوت الكمان، ولكنه لم يكن يعزف مااسمعه الان، انها مقطوعة بحيرة البجع، انا اعشق هذه الموسيقى بجنون منذ صغري وانسى كل مايدور حولي اول مااسمعها. ولكن اليوم فشلت في نسيان مايدور حولي. بل انها المرة الاولى التي لااركز جيداً في الموسيقى! جذبني سيف اليه متخذين وضعية الرقص وهو يقول لي:.

ارقصي بأعتدال وان دعستي فوق قدمي سأرميكِ في المسبح…

حدقت فيه بعدم استيعاب وجسدي متصلب تماماً من شدة التوتر. شيئاً فشيئاً وجدت نفسي ابتسم من دون ارادة مني وعضلاتي المتشنجة ترتخي واعصابي تهدأ. فالصراحة الاجواء اصبحت رائعة فجأة من دون سبب، بدأنا بالرقص وانا داخل عالم مشوش بسبب هذا الغريب سيف، أيعقل انه فعل كل هذه المسرحية المأساوية فقط كي يتمكن من طلب يدي للرقص بعيداً عن ضوضاء الاخرين؟ بالطبع لا. ماهذه السخافة؟ ليس سيف من يفعل ذلك. وليس من اجلي!

بعد صمت طال لثواني لانفعل فيه شيئاً سوى التحرك ببطئ على انغام الموسيقى رفعت بصري اليه وانا اقول:
انها المرة الاولى التي يعزفون فيها هذه المقطوعة.
تبسم وهو يجيبني:
لأني انا من طلبت منهم هذا.
ولماذا؟
ل، لأنها جميلة.
أتعلم اني اعشق هذه المعزوفة اكثر من اي شيء اخر؟ من الجيد انك اخترتها!
ماذا افعل. انا مثالي في كل شيء!
تبسمت وانا اقول له بعمق:.

بل غريب في كل شيء، أنت اكثر شخص غريب قابلته في حياتي! ولكن غريب بشكل مميز نوعاً ما!
حدق في عيناي بأبتسامة من دون ان يقول اي كلمة. اجواء غريبة اكتنفتنا، هدوء كان مناقضاً لضربات قلوبنا المجنونة مثلنا، قبل لحظات فقط كنا نتشاجر، والان نرقص! اي جنون هذا!
قطع على تحديقي داخل عينيه بذلك العمق سؤاله الغريب:
ماالذي كنتِ تفعلينه برفقة مراد؟ ظنتتك تكرهينه.
رفعت حاجباي بدهشة وانا اقول:.

انا؟ اكره مراد؟ من اين استنتجت هذا الكلام؟
فجأة توقف سيف عن التحرك فتوقفت معه وهو ينظر داخل عيناي بجمود من دون اي تعبير او ملامح، ثواني حتى انتشل نفسه من هذا الوقوف والتحديق وهو يعود ليتحرك مجدداً ويسألني:
اذاً انتِ لاتفعلين؟
فقلت بأستنكار:
بالطبع لا! فنحن صديقان.
صديقان؟ هذا عكس مافهمته من ردة فعلكِ في المطعم عندما ذكرت السيدة نادية اسمه!
تبسمت بتفهم وانا اقول:
اووه الان فهمت.

لم يعلق شيئاً وبقي يحدق داخل عيناي بوجه منقبض منتظراً مني تكملة جملتي اليتيمة. فلم ابخل عليه:
نحن نفعل ذلك غالباً بوجود امه. ان ذكرت اسمي امامه يدعي انه يتململ من الحديث بخصوصي وان ذكرت اسمه امامي افعل الشيء ذاته. كي نبين لها اننا لانطيق بعضنا.
ولما تفعلان ذلك؟
ضيقت عيناي بمكر وانا اقول مازحة لأستفزه:
ما هذا التحقيق؟ هل تغار على ياعزيزي؟
ثم منحته ابتسامة اعرض وانا اقول:
لاتقلق انا لن اكون لغيرك!

ادعى الاشمئزاز وهو يبادلني المزاح قائلاً:
هذا مقرف!
ضحكت بقوة وانا اجيبه:
رغم انك وغد ومنفصم الشخصية وتغضبني دائماً ألا اني اعود للحديث معك بسهولة. فأنت الشخص الوحيد الذي اعرف مشاعره الحقيقة نحوي، بل والشخص الوحيد الذي يبين لي انه يكره الارتباط بي، لذلك انا بالفعل استمتع بالتحدث اليك!
سكت قليلاً ثم عاد ليقول:
لاتتهربي من سؤالي، اجيبي! لما تفعلان ذلك؟
رفعت كتفاي وانزلتهما بعدم اهتمام وانا اقول:.

ببساطة لأنها مصرة على ارتباطنا ولايمكنها استيعاب اننا مجرد صديقين، بالاضافة الى ان مراد واقع بغرام احداهن من الطبقة الوسطى والتي ستقلب امه الدنيا رئساً على عقب ان عرفت بهذا الامر، فهي تطمع لتزويجه بوريثة وصاحبة ثروة وممتلكات وليس لفتاة عادية. ان تفكيرها ارستقراطي كثيراً، لذلك نحن نقوم بالتخطيط والتفكير بطريقة تجعل والدته توافق على تلك التي يحبها…

عندها فقط رأيت ملامحه تنفرج ويعود للأبتسام مجدداً وهو يتمتم:
فهمت.
ثواني حتى انزل ابصاره نحو قلادتي الذهبية التي احفظ بداخلها صورة يوسف وقال:
صورة من تحفظين بداخل هذه القلادة؟
ضيقت عيناي بمكر وانا اجيبه:
أهو يوم التحقيق العالمي؟
لا، انه يوم الفضول العالمي، ألم تسمعي به؟
لا في الحقيقة لم انل شرف ذلك.
نحن نحتفل به في مثل هذا اليوم من كل سنة.
ضحكت بقوة ثم قلت له:.

يااللهي، انا بالفعل لايمكنني استيعاب ان بأمكانك ان تمزح!
تأفأف مدعياً الضيق وهو يقول:
هل على ان اكرر كل اسئلتي مرتين؟
اهدأ يامتنمر فأنا لن اخبرك.
قطب حاجبيه بأستغراب وهو يقول:
ولماذا؟
تبسمت بعشق وذكرى يوسف تمر كالشريط المصور في عقلي واجبته:
لأنه شخص مميز خاص بي انا فقط. ولااخبر عنه اي احد، سوى بعض الاشخاص طبعاً.
ولكني شاهدتك وانتِ ترينها لشهاب. فهل شهاب شخص مميز في حياتك؟

عند هذه اللحظة انا من توقفت عن الرقص وحدقت داخل عينيه بتشكيك جاد. فشهاب يعني يوسف، اما سيف فيعني ابي، وابي ويوسف هما المتضادين اللذان لااريد منهما الاجتماع مع بعضهما ابداً كي لايتم حرماني من يوسف ان عرف ابي بأمر بحثي عنه، فقلت له بتوجس:
كيف عرفت اسمه؟
لقد ذكرته امامي وانتِ تلقين عليه التحية.
وهل من عادتك ان تحفظ كل الاسماء التي تذكر امامك؟
بعضهم فقط.

سحبت يدي من يده فوراً وعدت خطوة نحو الوراء وانا اشعر ان كل شيء بداخلي متوتر وكأنه قد كشف حقيقة بحثي وسيخبره لأبي! لما بقي اسم شهاب في عقله؟ ولما ذكره الان؟ وكيف عرف اني اريته الصورة؟ وهل ياترى عرف السبب وراء ذلك؟ اسئلة جعلت كل خلاياي تنتفض وقلبي يخفق بقوة فقلت له محاولة تبرير زيارة شهاب لي:
انه احد معارفي فحسب.
رفع حاجبيه مع ابتسامة غريبة تعلو فمه وقال بهدوء:
ولكني لم اسألكِ من يكون!

نظرت اليه بجمود دون ان انطق حرفاً غبياً اخر. فأرتباكي من ذكر شهاب واضح جداً واي احد يمكنه رؤيته. لاسيما هذا المدعو سيف! اتمنى فقط ان يتجاهل الامر ولايتحرى عنه ويخبر ابي بكل شيء! لحظة، الصورة، كيف عرف؟ هل بقي يراقبني كل تلك المدة بعد رحيلي؟ قطبت حاجباي بأستغراب وضيقت عيناي بتشكيك وانا اقول ببطئ:
كيف عرفت اني اريت الصورة لشهاب؟

ولازالت تلك الابتسامة الغريبة التي تحتل فمه وتضيق عيناه مرسومة فوق تقاسيم وجهه الوسيمة، وضع يديه داخل جيوب بنطاله واقترب ببرود مني الخطوة التي ابتعدتها واخفض رأسه لمستوى رأسي وهمس لي قائلاً بهدوء:
انا اعرف عنكِ اكثر مما تتوقعي ياانسة ميرنا!
ثم استقام بظهره المنحني ونظر نحو عيناي المدهوشتين وهو يقول:
عمتِ مساءاً.

ثم استدار ورحل ببساطة، يأتي فجأة ويرحل فجأة تاركاً ذهني مشوش وكياني مضطرب، يقترب مني ليجعلني اظن ان بدأت افهمه. بدأت احلل كلامه. نظراته. تصرفاته. وقبل ان اصل للنتيجة النهائية يبعثر الاوراق ويقلب الطاولة رئساً على عقب يجعلني لاافهم اي شيء مما حصل، بل وماالذي بالضبط قد حصل؟ مااعيشه معه هو حكاية خيالية لايجب ان تطبق على الواقع، يغضبني. يزجرني، يجعلني اهرب. فيلحق بي. ويسمعنى كلمات باردة لااعرف كيف يجعلها تبدو لطيفة وساحرة، مثله تماماً!

قطع على سرحاني وتخيلاتي صوت سديم من خلفي وهي تقول:
جولييت، موعد دوائك.
التفتت اليها دفعة واحدة من ظهورها المفاجئ. اخرجت الحبوب من جيبها وقدمت لي كوب الماء وهي تقول:
كنت اراقبك منذ ان بدأتما بالرقص اردت اعطائك الدواء ولكني ترتكتكِ تعيشين اللحظة.
ضحكت وانا اخذ منها الحبوب والماء واقول لها:
حتى اني نسيت امر الدواء.
بعد ذلك المشهد الرومانسي لابد ان تنسي الدنيا ياعزيزتي.

ضحكت على تعليقها ثم وضعت الحبة في فمي ودفعتها بالماء نحو بلعومي ثم ناولتها الكوب وانا اقول:
شكراً لكِ عزيزتي.
تنهدت قبل ان تقول:
غداً لديكِ موعد مع الطبيب اليس كذلك؟
تبسمت بحنان وانا انظر اليها ثم قلت:
لوكانت امي تعلم بمرضي فما كانت ستفعل معي مثلما تفعلين، انتِ بالفعل رائعة.
تبسمت بخجل وهي تقول:
هذا عملي انسة ميرنا.
مسحت على يدها بأمتنان وانا اقول لها:.

لكننا لاندفع لكِ كي تحفظي مواعيد دوائي واطبائي، قلبكِ من يفعل هذا!
ثم عانقتها بقوة وانا اقول لها هامسة:
سديم، رجاءاً لاتتركيني مثلهم.
لايمكنني رؤية وجهها الان ولكني متأكدة ان بعض الدموع الضعيفة قد سقطت منها فأنا اعرف كم هي عطوفة، عانقتني بقوة اكبر وهي تهمس لي بحزم وثقة:
من المستحيل ان افعل شيئاً كهذا عزيزتي، من المستحيل!

كلما سمعت هذه الكلمات تخرج من فمها كلما شعرت بالطمأنينة والراحة، هناك احد يقف بجانبي، شخص يحبني لكوني انا. يعتني بي ولن يتخلى عني ابداً، ولكن هل ستتركها الايام لي. ام ستسلبها مني؟، ام، القدر هو من سيسلبني منها؟.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *