التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي عشر

بقصر دويدار…
-أيه رأيك يا تميم!
كل مرة تشعر فيها بالحيرة والعجز وعدم القدر على التصرف تلجأ له لتتحامى به. جلس تميم بجوارها بعد ما ترك كوب الشاي على المنضدة مع ابتسامة خفيفة ارتسمت على محياه ؛ رد متنهدًا: -والله الرد الأول والأخير لنوران، أما لو بتسأليني على رأيي في كريم. فهو أخويا الصغير ومتربي معانا.

ثم تبدلت نبرتها الهادئة لأخرى تحمل المزاح بغمزة خفيف رف بها طرف عينه: -وشكله بيحب والحب مبهدلهُ. ف لو على رأيي اللي ملهوش أي لازمة. موافق.
كانت تتطلع إليه بنظرات تحمل وميض الإعجاب، مع ابتسامة خفيفة حتى أومأت هي الأخرى بارتياح:
-وأنا شايفة أنك فعلاً شهم وبتحبها، وطبعا مفيش كلمة تعلى على كلام تميم، أنا كمان موافقة. بس مفيش جواز غير بعد سنة.

التفت إليها تميم معاتبًا وعقد حاجبيه كأنه يتسائل عن السبب، فلم تترجم نظراته إلا أن المهلة غير كافية، فتردد قائلة:
-سنتين؟ لما تخلص جامعة صح، كده صح!
تدخل كريم معترضًا: -أيه الارقام دي! ما تقول حاجة يا تميم.
هز تميم كتفيه بإبراء ذمته ممازحًا: -أنتَ اللي اخترت، قابل بقا شوف أخوك مستحمل أيه.

جاءت نوران في تلك اللحظة وهي تقطع الخطاوي بثقلٍ بوجه عابث وملامح تحمل الضجر، تفحصت أوجه الجميع فرأت الابتسامة تشع نورًا من وجوههم. تبدلت ملامحها الصاخبة لأخرى حائرة، حتى هتف تميم قائلًا: -وأدي العروسة جت هي كمان.
تباطأت خطواتها وهي تحاول فهم ما يقصده تميم، و بأعينها المتأرجحة تطالعه: -في أيه هنا!
كاد تميم أن يتفوه فباغته شمس وكتمت أنفاسه قائلة: -استنى أنا هقولها…

تفاقمت الحيرة والجزع بعقلها، فردت متأففة: -ما تقولوا في ايه! مالكم؟
بسعادة عارمة أردفت شمس: -نونو، كريم طلب أيدك وأنا موافقة، وتميم كمان موافق.

قرقرة بطنها معلنة توترها، كل ما بيها يتحرك، لا يوجد شيء ثابت، أعينها التي تذهب لعنده تارة ثم تطوف البيت، يدها التي تتكور ثم تنبسط، قضمها المتكرر في شفتيها وحلقها الذي تبلله باستمرار من كثرة جفاه. صدرها يعلو ويهبط بأنفاس الارتباك والحيرة، فارق كريم مقعده وأحس بلزوم تدخله في تلك اللحظة كي يرفع عنها الحرج. وقف أمامها وهو ينصب قامته وبضحكة لا تفارق وجهه وقال بحماس: -تتجوزيني يا نوران.

ضحكة رقيقة لكسر ما سببه إليها من احراج، وقال متعجبًا وهو يلامس أنامل كفها المرتعش: -هاه، كله موافق. مش باقي غيرك.
همست شمس لزوجها بإعتياظ: -قريبك بدأ في النحنحة، شوفت أهو ده اللي خايفة منه…
مال على أذنها هامسًا قبل أن يغادر مجلسه بقربه: -ما أنا ياما اتحنحنت وادلعت عليكي، سيبي الرجل يعيش أيامه بقا.
ثم ذهب لعندها وهو يربت على كتف تميم: -أي رايك يا نوران. عريس لقطة وزي القمر أهو.

بتنهيدة تشبه شهقة الغريق وهي تُطيل النظر بأعين كريم المتلهفة، ليخالف اللسان ميول الهوى وتقول بفوضى وإضطراب: -لا، أنا مش موافقة. مش عايزة.
كادت أن تنصرف ولكنه أسرع ممسكًا يدها ليمنع هروبها ككل مرة: -يعني أيه لا! أنتِ مش المفروض بتحبيني. ولا أنا فاهم غلط ولا هو هبل وخلاص؟
تدخل تميم بينهم وركضت شمس ملهوفة لأختها وبعينيها مليوني سؤال: -استنى نفهم منها يا كريم، رافضة ليه!

انفجرت عيني نوران بالعِبرات، وقالت بنبرة مهزوزة مشحونة بالبكاء:
-لا، عشان أنتوا حاسين أني بقيت عالة عليكم، عايزين تجوزوني عشان ترتاحوا من همي. عشان بتتريقوا على أحلامي وشايفينها مصايب، قولتوا بقا أما نجوزها ونخلص منها هي ومشاكلها. لا عشان أنا مش هتجوز لما أنتوا تحددوا…
ثم صمتت لبرهه تستجمع فيها نفسها ورمقته بأعينها الملتهبة: -أنتَ تستاهل واحدة أحسن مني يا كريم.

أنهت جملتها بالهرب من أمام نظراته الحادة التي تمزق قلبها إربابًا. فرت كأرنب خائف يخشى المواجهة أكثر من ذلك، تعرقلت في أول خطوتين مثلما تعرقلت بنطراته العتابية التي لا تتحملها. تدخل تميم ليهدأ الأمر ويوقف كريم الذي تأهب ليلحق بها: -سيبها تهدي بس وهتروج وتفهم.
ثم أشار لشمس: -روحي يا شمس أقعدي معاها.
تمتمت شمس بعجلٍ يحمل الاعتذار: -متزعلش منها يا كريم، نوران طايشة ولسه صغيرة.

شده تميم عنوة: -تعالى نشم هوا نضيف بره. تعالى يلا.
الغردقة.
-هتفضل ساكت كده كتير!

يجلس على أقرب مقعد محاولًا استيعاب تلك الصدمة التي لا تقارن بسابقتها. اقتربت منه على مضض و ببطء خبيث وهي تحمل السعادة بجوفها وتبذل مجهودًا جبارًا كي تخفيه عليه ولكن هناك شيئًا مثل النار لا يمكن إخفائه أبدًا، ألا وهو الفرح. جلست على ساقه المهزوزة بتوتر من جمة المشاعر التي حلت به دفعة واحدة. وكررت سؤالها ولكن بنبرة حنونة لا تستقر إلا بقلبه:
-أيه! هتفضل ساكت كده كتير!

زفر دخل غضبه بتنهيدة عالية وقال مشدوهًا بعجزٍ: -يعني أيه اتنين مش واحد يا حياة! يعني التاريخ بيتعاد قدامي وأنا متكتف!
عقدت حاجبيه مبتلعة ضحكتها عنه إحترامًا لمخاوفه المتزايدة. أجابته بهدوء وهي تلمس بطنها برفق: -يعني توأم يا حبيبي.
رمقها بنظرة مرعبة متفوهًا بغضب: -يعني أزاي اتنين يعني؟
-الله يا عاصي! وأنا اللي كنت حطيتهم بنفسي. أنا كنت عايزة واحد وبس، وربنا كريم وطلعوا اتنين. هنعترض!

قرأ لمعة السعادة بعينيها، تلك السعادة التي لا يراها إلا عندما ينغلق عليهما باب غرفة واحدة. تأرجحت عينيه بغل: -طبعا أنتِ ولا على بالك بالنار اللي جوايا.
ثم قفل جفونه كي لا يتفاقم غضبه: -حياة. روحي نامي لحد ما أشوف هتصرف أزاي في المصيبة دي!
انكمشت ملامحها بضيق وهي توبخه: -حملي بقا مصيبة بالنسبة لك يا عاصي!

ثم وثبت قائمة وجهرت بعنادٍ: -أنا قولت لك نبعد، وده لمصلحتك عشان طول ما أنا قدامك هتشوف نفس التاريخ، ونفس حوار مها. وأنا مش هتحمل كل ده. مش هعيش شهور حملي في خوف.
-أنا بجد مبقتش عارف أزاي اتعامل مع دماغك الناشفة دي!
لقد نفذ صبره من عنادها وجدالها المستمر، فجهر بصوتٍ مرتفع ناطقًا جملته الأخيرة التي استقبلتها بنفس ذات النبرة العالية والأبية، وقالت صارخة: -عاصي متزعقليش كده.

تلاقت أعينهم المدججة بالنيران، حتى انخفضت نبرتها وقالت مبررة بتوجسٍ وهي تضع يدها على بطنها بدلالٍ:
-أنا حامل، والصوت العالي غلط على نفسيتي أنا و البيبيز.
شُلت مدارك عقله عن مبرراتها الغريبة التي لا تُعقل: -حياة، أنتِ بتقولي أيه؟ هو أي هبل والسلام!
وقفت أمامه بثبات و دمدمت شبه مقتنعة: -لا، الصوت العالي فعلًا بيوترهم ويطلعهم عصبيين!

ثم انتقلت عينيها البراقة لتُعانق أعينه المشدوهة إثر ما يسمعه وأكملت بخفوت: -وكفاية عليا واحد، مش هيكونوا هما وباباهم…
بملامح تعج بالإضطراب، تمتم ليتمالك غضبه: -أنا هسيب لك الأوضة كلها، استفردي بيها أنتِ والبيبيز بتوعك.
ما كاد أن يخطو خطوتين ثم أشار لها بسبابته بنبرة حاسمة: -جهزي نفسك، هظبط أمور السفر ونسافر في أي لحظة. وتقعدي على السرير متتحركيش والأكل هيجي لحد عندك، مفهوم.

تداعب الابتسامة شفتيها من تلك المزيج الذي يراوضه. تلك المشاعر المضطربة، تارة يغضب وآخرى يحب، وقفت في منتصف الغُرفة تُراقب ظهره حتى وصله لبابها. ما كان أن يفتحه ثم قفله ببطء وعاد إليها عندما عاتبه قلبه نادمًا. تأرجحت عينيها منتظرة سبب عودته وتراجعه عن المغادرة. ففاجأها بحضن طويل ليطفئ بعذوبتها ملوحه مخاوفه بقلب مرتجف من فرط القلق كمحموم بدون حمى. فلا شك أن النفوس تتغير طبقًا لاحتياجاتها ومطالبها. عانفته بنفس اللهفة وهي توغل أناملها بجدائل شعره القصيرة وتتلوى بين يديه كعود الريحان المتراقص على أوتار الحب. همست بقرب مسامعه بتلك النبرة المرتعشة:.

-أنا جمبك وعمري ما هبعد عنك. بحبك أوي.
اكتفي بالتربيت على ظهرها وتلك القبلة الحارقة على جدار عنقها وقال بخوف وهو يجذبها نحو مرقدهما: -متقفيش كتير، تعالي ارتاحي.
نفذت أوامره بدون اعتراض، شد الغطاء فوقها وضبط درجة حرارة المبرد، ثم ولى إليها متسائلًا: -محتاجة حاجة!
أجابتها بحماس طفلة وهي تومئ بالإيجاب: -عايزة مانجا. مانجا كتير.

لبى طلبها مستسلمًا لأحكام القدر كي لا يهزم تلك السعادة المرصوصة على ملامحها. وقال بحب: -حاضر. حاجة تاني؟
-لا لحد دلوقتيِ. أنت هتروح فين!
-هبعت حد يجيب لك المانجا، وهخلص شغل في المكتب، كلميني لو حسيت بأي حاجة.
في تلك اللحظة اتاهم صوت طرق الباب، إذن بيونس يستأذن للدخول. أردف عاصي قائلًا بعد ما قَبل جبهتها: -اسيبك مع يونس. وأنا قاعد تحت تمام.

غادر عاصي ليتركها مع أخيها، اعتدلت حياة بنومتها، جلس يونس على طرف مخدعها وفتح معها موضوع أخيه رشيد، الذي طوت صفحته وقالت: -أنا عارفة هعمل معاه أيه، المهم أخبار الشغل، كل تمام؟
-كله تمام وزي ما أنتِ عايزة بالظبط.
تنهدت بارتياح ثم طلبت منه: -حبيبي أنا مش هعرف انزل الشغل الفترة دي وو
قاطعها قائلًا بقلق: -ده ليه!
أمسك بكفه بحماس: -عشان حضرتك هتبقى خالو بعد كام شهر…

هلل يونس بفرحة عارمة وهي يعانق أخته بفوضى: -آخيرا، الف مبروك يا رسيل. لا أنتِ ارتاحي خالص وانسي حوار الشغل ده خالص.
ثم غير مجرى الحديث بنفس الحماس وقال: -طيب بمناسبة الخبر، أنا هجمد قلبي واطلب طلب.
-طلب أيه؟
-أنا كُنت عايز أخطب.
لم تخفي سعادتها عن أخيها: -ياجامد. طيب حلو ده، اخترت العروسة ولا لسه!
أجاب بتردد: -هو ده الموضوع، أنا بفكر في نوران أخت شمس، البنت باين عليها لذيذه وو.

رددت حياة الاسم بسعادة: -نوران! هي لذيذة فعلًا، بس من أمتى بقا وأنتَ مركز مع نوران.
هتف بتوتر ملحوظ: -من اول ما شوفتها، وكنت مستني بس تخلص ثانوية عامة، و افاتحك في الموضوع، هتشوفي أختها أمتى، ولا المفروض اطلبها من عاصي عشان ابن عمتها، ولا اكلم تميم. انا مش عارف أبدا من فين، ممكن تساعديني!

عودة للقصر
-طيب فهميني، أنتِ رافضة كريم لشخصه ولا رافضة فكرة الارتباط عمومًا.
لقد نفذ صبر شمس في مسايسة أختها التي لا تتحدث إلا جهرًا وبثرثرة غير مفهومة. ضربت الأرض بقدميها وسألتها متمردة:
-أنتِ مش كنتِ رافضة كريم، وطول الوقت بتخوفيني منه! أيه غير رأيك كده؟
اقتربت من أختها لتقف بمحاذاتها: -صح معاكي حق، بس اكتشفت اني ظلماه وفعلًا طلع بني آدم كويس، واتقدم تاني ودخل بالأصول. يبقى نرفضه ليه؟

طاحت بأختها متمردة بشقاوة المراهقين: -أنا هقول لك نوافق عليه ليه؟ عشان تلموا الفضيحة بتاعت امبارح وو
كاد الجنون ينفجر من مقلتي شمس التي لا تستوعب سذاجة أختها: -فضيحة أيه! أنت هبلة؟ كلنا عارفين أنه كان سوء تفاهم، والغلط عندك مش عنده. أنتِ اللي روحت أوضة شاب من غير ما تفكري، وخلاص غلطة وانتهت والموضوع خلص.

ثم أمسكت بمعصمها ودارتها أمامها بنظرات المحقق: -وواضح أن زعله كان يهمك أوي لدرجة خلتك تنسي فيها الصح، جاية ترفضيه ليه دلوقتي، نوران أنتِ بتدلعي، أنا أكتر واحدة فهماكي.
قالت بعبط المغرور الذي أوشك أن يُفضح: -انا! لا خالص. انا حرة. انا واحدة مش عايزة تتجوز يا ستي. وبعدين.

صوت رنين هاتفها جعلها تبتلع الباقي من كلماتها الفاضحة والغير منطقية، ضرب الأرض بيمينها كتمرد الأحصة ثم سارت لتتقوقع حول نفسها على المقعد المبطن. ردت شمس على مضض:
-حياة، أزيك يا حبيبي.
اتكأت حياة على الوسادة وقالت بخفوت: -بخير يا شموسة، أزيك أنتِ.
بالأسفل.
-أنت تقنع مراتك، عايزين تعملوا خطوبة والجو ده، اخركم معايا 3 شهور ونتجوز. لكن الأرقام اللي قالتها دي، متلزمنيش.

أردف كريم جملته الأخيرة بتوتر بالغ يجعله متذبذبًا بجلوسه، ضحك تميم على حماسه قائلًا: -المشكلة مش في مراتي، العروسة نفسها رافضة لو كنت ناسي.
لوح بيده غير مبالٍ: -لا دي عيلة مناخدش على كلامها.
بنظرات خبيثة طالعه تميم: -يا راجل!
-والله زي ما بقولك، هي كان قصدها تقول موافقة، فاتخضت وقالت مش موافقة.
ثم غير مجرى الحديث: -تميم، أمي جاية بكرة. عايزين نخلص الموضوع قبل ما تمشي.

لم يمهله الحديث حيث غمغم: -وكمان سي مراد المختفي ده، ده حتى مش بيكلمني.
وضع تميم سبابته على فمه متسائلًا: -جيهان جاية بكرة ليه؟
-أنا عارف بقا يا تميم، خلينا في موضوعنا! كده أيه معطلنا؟
ثم ضربت على جبهته كمن تذكر شيئًا للتو: -تميم. أنا نسيت الشقة؟ أحنا هنسكن فين؟

الغردقة.
بخطوات مترددة فارقت رسيل غرفتها بعد ما أنهت مكالمتها مع شمس. تحركت نحو غرفة فريال وبتردد. قاومت أشباح الغضب بقلبها وفتحت الباب، فوجدتها تجلس في منتصف غُرفتها متوارية خلف الجدران وبنظرات مهزومة تطلعت فيها. قفلت رسيل الباب خلفها وجلست بقربها. ظلت صامته لبرهة لا تعرف من أين ستبدأ، أخذت نفسًا طويلًا وقالت معتذرة:.

-أنا أسفة ليكي عن كل اللي عمله رشيد، أنا معرفش هو عمل كده ليه، بصي يا فريال مش هكذب عليكي وأقولك إني بحبك وكنت اتمناكي عروسة لأخويا، أخوكي فريد مزرعش غير كُره جوايا لاي حاجة فيها ريحته.
ثم مسحت دموع ابنة عمها وقالت بوهن: -ومش معنى كلامي ده اني هتخلى عنك. رشيد هيتجوزك ورجله فوق رقبته. أنا بنت زيك ومش هسيبك تدفعي تمن غلطة زي دي لوحدك. لازم رشيد هو كمان يتحمل نتيجة غلطه.

كادت ان تتحدث ولكن منعتها رسيل متفهمة: -مش عايزة اسمع حاجة، انا جيت اطمنك وأقول لك إني مش هسيبك. ارتاحي وأنا هتصرف مع أخويا.
انتهت رسيل من حديثها ثم وثبت مغادرة الغرفة بهدوء، كادت أن تُقبل على عالية لتزف لها خبر حملها ولكنها تراجعت في آخر لحظه:
-أشوف عاصي الاول.

تدلت إلى الطابق الأرضي متجهة لغُرفة مكتبه، ولأول مرة تطرق الباب منتظرة الإذن بالدخول، ما أن سمح لها فأقبلت بخطى متمهلة وقالت بشك عندما وجدته جالسه على الأريكة شاردًا:
-يعني مفيش شغل وقاعد كده لوحدك وسايبنا لوحدنا فوق.
رفع حاجبه متسائلًا: -أنتوا مين؟ البنات رجعوا من المدرسة؟
انعقدت ملامحها بضجر وهي تلكمه برفق: -عاصي بقا!
أدرك الأمر سريعًا وقال متفهمًا: -ااه من النهاردة الكلام هيبقى بصيغة الجمع. تمام.

فغير مجرى حديثه قائلًا: -سبتي سريرك ليه؟
جلست بجواره وهي تداعب ملامحه برقة: -عشان أعرف حبيبي سرحان في أيه!
أسبل عينه متخابثًا: -حبيبي! دلوقتي حبيبي. وليكي 3 شهور مطلعة عيني ومش شايف غير الوش الخشب.
ابتسمت بخفوت وتطلعت للنيل منه طمعًا: -طبعًا حبيبي ونور عيني، وأغلى حد في الدنيا. كنت سرحان في أيه بقا.

-عادي يا ستي، تواصلت مع دكتور كبير في أمريكا، عشان تتابعي عنده. وقولت لهم يجهزوا لك إقامة متكاملة طول فترة الحمل.
هزت رأسه نفيًا: -لا ياعاصي، مش نقدر أبعد عنك ولا عن البنات. بص أنا هقولك على حاجة.
كاد أن يقاطعها ولكنها أصرت قائلة: -اسمعني بس، أحنا نتابع هنا مع دكتور كبير، وفي الشهر التاسع، نسافر أولد هناك. أيه رأيك، بلاش سفرة وغربة أنا مش حابة كده.

رد بحسم: -حياة سبيني اتصرف تمام، متشغليش بالك بأي حاجة لحد ما تقومي أنتِ هما بالسلامة.
هزت رأسها بطاعة: -في حاجة عايزة أقولك عليها. يونس معجب بنوران أخت شمس. وأنا كلمت شمس ولمحت لها، حسيت أنها مش مبسوطة، ممكن تتكلم مع تميم وتشوف.
أصدر إيماءة غامضة وتمتم: -يونس ونوران! تمام هشوف أيه الدنيا وأقولك.

احتوى كفه بأناملها وقالت بتنهيدة عالية: -تخيل لو كُنا اتقابلنا في ظروف غير دي، يعني مثلًا لو اتقابلنا صدفة في البحر، وعجبتك من أول نظرة، كنت هتيجي تتقدملي وتقعد مع بابا وألبس فستان ونتكلم سوا، واتعرف عليك من أول وجديد! حاسة أن في جزء كبير أوي فاتنا مع بعض.
أحس درجة حرارتها مندهشًا وقال مبررًا: -دي هرمونات حمل مش كده!
ضربته برفق وهي توبخه: -عاصي أنت رخم على فكرة. و.

قاطعها قائلًا: -أيوة أخرة الاوهام دي كلها ايه يعني!
ثم أشار لبطنها قاصدًا أمر الحمل: -هو دا نتيجة كل المقدمات اللي بتحلمي بيها. وأنا راجل دوغري بحب أجيب من الآخر!
بضحكة يغار من ثغرها الورد إذا تبسمت قالت بدلال: -ياخسارة طلع تفكيرك سطحي زي كل الرجالة!
-هكذب عليكِ يعني! حياتي، أحنا مش كنا هنتجوز ونكون مع بعض غير بالطريقة اللي جمعنا بيها القدر، غير كده!

ثم غمز بطرف عينه بغرور: -كُنت هتكملي عمرك كله معايا في رواياتك وخيالك وبس.
-يا سلام؟ ده أيه الغرور ده بقا. مين قال لك إني كنت هكتب عنك أصلا.
لملم شعرها ليكون كله على كتفها وقال بإفصاح: -ليه، مينفعش أكون بطل رواية! رجل غني ووسيم وكل البنات بتجري وراه، بس هو بيحب واحدة بس.
ثم جذبها برفق من يدها: -ولازم تقوم ترتاح دلوقتي. عشان الحركة الكتيرة غلط عليها.

ما كاد أن يخطو خطوة فأوقفته بأعين يفيض منها العشق وقالت: -ما ينفعش تبقى بطل ولا رواية لإنك بطلي الحقيقي، وحبيب قلبي، مستحيل أشاركك مع حد تاني عشان يحبك معايا حتى ولو في خياله. أنتَ ليا لوحدي وبس.

بنظرة تائهة في بحيرة العشق وهي تتساءل أين الملجأ حينما نود الإفصاح عن مشاعرنا! استقر بها الحال لشاطىء ثغرهُ لتُقبله بقُبلة حنونة تحمل لهب مشاعرها المتوقة له. انتهى بها الحال بمذاق الحلوى يملأ قلبها وبأعينها البراقة تطالعه وتطالع محاولته وجهده المبذول في عدم مجارتها. زفر بقوة ثم شدها خلفها بسرعة متناسيًا أمر حملها:
-طيب تعالي يلا وبطلي دلع!
أوقفته بإصرار وهي تهتف باسمه بصوت حاد: -عاصي.
-في أيه تاني؟

تأرجحت تلك الأعين المتدللة على أوتار حبه: -أنا حامل. يعني أمشي بشويش.
-بشويش!
عض على شفته السُفلية بنفاذ صبر جعله ينحي ليحملها بين يديها ويخرج من باب مكتبه، قائلًا: -أما نشوف أخرتها معاكي أيه!
وصل بها لمنتصف لأعتاب السُلم ففوجئ بعودة طفلتيه بفرحة وهتاف وهن يركضن عليهما. رمن حقائبهم المدرسية وصرحن بشغف كي يحملهن مثل حبيبته:
-و أحنا كمان شيلنا يابابي.
لكزته بخجل: -عاصي نزلني خلاص. ومتزعلش البنات.

جاءت المربية تعتذر منه: -يلا يا بنات نطلع أوضتنا…
أشار لها بنظرة منه أن تنصرف، ثم دلى حياته برفق وحذر شديد، وانحنى ليحمل صغيرتيه مجبرًا ويقول: -أنا أيه اللي جبته لنفسي ده بس!

القصر.
-ويطلع مين يونس ده كمان! وشافها فين؟
تدخلت شمس لتوضح الصورة لكريم الذي أخبرته هو وتميم بطلب حياة. ثم قالت:
-أنا غلطانة إني عرفتك ياكريم، ممكن تهدى عشان نفكر.
رد بانفعال: -نفكر في أيه يا شمس، ودي محتاجة تفكير، ارفضي واعتذري وخلاص، قوليلها نوران اتجوزت.

كتم تميم ضحكته لانفعال كريم الغير مبرر وكأنه بركان الغيرة. وقال ليثير غيرته أكثر: -بس يونس جدع، الولد ده اتعاملت معاه لما سافرت لعاصي، ذوق أوي ومجدع.
هب كريم بوجهه: -أنتَ بتقول أيه أنت كمان! انا مالي بونيس بتاعكم ده.
تدلت نوران بخطوات سريعة إثر صوت كريم المرتفع: -أنت بتزعق كده ليه؟ كل ده عشان عرفت أن في عريس تاني متقدم لي؟

ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها بغرور: -وبعدين أنا ألف شخص يتمناني وكل يوم برفض عريس. هو مش من حقي ولا ايه!
-كسر حُقك أنتِ كمان.
ثارت نوران متحججة: -شايفة يا شمس بيغلط فيا ازاي!
تدخل تميم بجزع: -ما خلاص يا كريم، اعملي اعتبار يااخي.
أخذ يتمالك في غضبه قدر الإمكان حتى رفع سبابته قائلًا بنفاذ صبر: -بصي يا نوران تقرري حالًا، عشان أنا لو مشيت من الباب ده مش.

قاطعته بخوف قفز في قلبها مرة واحدة من فكرة رحيله وقالت بعناد: -هتعمل أيه يعني؟
تنهد بكلل: -دي تاني مرة اتقدملك فيها. ولو رفضتيني يا نوران أنا.
قاطعته بلهفة خشية من أن ينقلب السحر على الساحر وقالت: -خلاص خلاص موافقة، أنا أصلا اتوترت الصبح وكان قصدي أقول موافقة بس طلعت من بؤي مش موافقة…

انفجر الجميع بضحك ملء الفم من طفولتها ودلالها، هلل كريم فارحًا وهو يحضن تميم: -اهي مش قولت لك! بقول لك أنا حافظها وحافظ دماغها. اهي قالت موافقة أهي. نجيب دبل بقا ونلبس من بكرة.
اقتربت منه متسائلة كمن تذكر شيء: -لحظة بس، أنا لو كنت رفضت تاني كنت هتعمل أيه بقا عشان عندي فضول أعرف.
مال تميم على مسامع شمس هامسًا: -أختك أختك يعني، هي هتجيب النكد منين يعني غير منك.

قهقهه كريم فارحًا وبعيونه الدامعة من شدة الفرحة: -ولا حاجة، كنت هاجي اتقدملك تالت ورابع لحد ما تصدعي. مني وتوافقي.
ثم خطف كفها وسحبها قبل ما يمنحها فرصة للرد: -شمس، بمناسبة الخبر ده، تسمحيلنا نتعشى بره النهاردة.
طالعت زوجها بأعين حائرة حتى تدخل تميم قائلا: -طبعا انا موافق.
لكزته شمس بعتاب خفي، فهمس قائلًا: -عايز استفرد بيكي شوية.

ثم رفع صوته: -اتعشوا ولفوا على الدبل براحتكم. وأنا هنا هقعد مع شمس عشان متقعدش لوحدها…
ثم غمز بطرف عينه: -ولا ايه!
مساءً
-خايفة أعيش عمري كله وانا بحبك. وأنا مش عارفة انساك.

لنجوم الليل تشكو عالية همها الذي فاض من جوارحها وهي تضم صغيرتها التي أوشكت أن تأتي للحياة بدون أب. وقلبها الذي ينفطر من الوجع بدون حُب. يؤلم القلب المغرم كثرة الإفراط في صدق المشاعر لمن لا يقدّرها ولا يمنحها ثمنًا. انبثقت العبرات من طرف عينها فأضاءت الشاشة باتصال أمها الذي يهون عليها الكثير ردت بحزن وخيم:
-أزيك يا حبيبتي…

عاد عاصي إلى غُرفته بعد ما اطمئن على صغاره حتى غاصا بالنوم العميق ثم عاد لحوريته. فتح الباب برفق فوجدها تسبح بصندوق المانجو الذي أحضره إليها. جلس بجوارها وهي يراقب بقايا ما أكلته فقال:
-هي الأملاح الكتيرة دي مش غلط ولا أنا متهيألي!
عقدت حاجبيها وهي تلتهب المانجو وقالت: -معاك حق، أنا خلي نص الصندوق لبكرة. على فكرة طعمها حلو أوي! تدوق!

تفقد حالتها وانتشار المانجو على ملامحها وملابسها. ويديها التي تسبح بحقل من المانجو. اندلعت منه ضحكة خفيفة وتدلى بشدقه ليتذوق تلك القطعة التي سقطت على ثغرها ثم قال: -جميلة فعلًا.
تركت بقايا المانجو من يدها وأخذت تتفحص ملابسها بإحراجٍ حتى قالت ب خجل: -لازم شاور حالًا، مش كده!

ثم ذهبت ركضًا للحمام كي تتخلص من صورتها المزعجة بالنسبة له، نادى باسمها ولكنها لم تمنحه الفرصة. ذهبت لتتحمم على الفور. مرت دقائق محدودة لملم فيها عاصي بقايا المانجو، ووضع ما تبقى من الصندوق بالثلاجة الصغيرة، ونظف مكانها بابتسامة حُب لم تفارقه. ما انتهى من كل هذا، فتح خزانة ملابسها وأخذ يتفقدها بأعينه المغرمة حتى تناولت يده قميصًا باللون الأحمر الداكن قصيرًا للغاية ولكنه تذكر أمر حملها فوضعه مكانه بفتور شديد وقال:.

-ماهي بايظة.

أشعل التلفاز ثم تمدد على مخدعه كي يقلب القنوات بملل حتى خرجت متلفحة بالمنشفة البيضاء بعد ما زالت آثار المانجو من عنها. فتح الخزانة فوقعت عينيها على ذلك القميص الذي أمسك به من قبل، تناولته وأخذت باقي ما تحتاجه ثم عادت للحمام مرة آخرى. دقائق معدودة وخرجت تلك الحرية بشعرها المنساب، واللون الأحمر الداكن الذي يغمر شفتيها وذلك القميص ذو الحمالات المتدلية. اكتفي في وصف جمالها بتنهيدة طويلة قالت كل شيء.

اقتربت منه ومددت بجواره وهي تسأله: -تمام كده، انسى بقا لحوسة المانجا اللي من شوية.
ما زال متخدرًا بذلك الجمال الذي لا يمكن أن يقاومه رجل مثله، اكتفى بإيماءة خافتة ثم عاد ليقلب قنوات التلفاز متأملًا ان يلهييه قليلًا عن جمالها الفاتن. قطعت الصمت الذي اتخذه قائلة:
-على فكرة، أنا مش هنزل الشغل تاني. بس هرجع للكتابة.
رد كالمسطول من سُكر عطرها وهو لا يطالعها: -عظيم…

-مش خايف من جلسة بكرة مع عمامك، يا ترى المحكمة هتحكم بأيه؟
رد بهدوء تام: -متشغليش بالك…
رفعت الوسادة من خلفها ووضعتها جنبًا لتستريح على ظهرها وهي تراقب السقف بتحير وتتفنن في كيفية خلق حوار بينهم ينتهي بالشجار كالعادة، نادت باسمه بخفوت:
-عاصي…

اكتفى بإصدار إيماءة خافتة، فسألته: -أنتَ عمرك اتمنيت واحدة شبهي، أو بصيغة تانية، في اسطورة بتقول أن كل شخص على مدار عمره لازم يحلم بشريك حياته حتى ولو مرة واحدة قبل ما يتلاقوا. عمرك حلمت بيا!
أجابها بإختصار وهو يتحاشى النظر إليها: -لا كنت بشتغل. مكنتش فاضي أحلم.
التوى ثغرها بضيق وقالت: -كنت بتشتغل ولا كُنت مشغول مع الستات التانية! ولا مها كانت واخدة كل تفكيرك!

ارتسم على ثغره ضحكة هادئة تحمل السخرية وقال: -تعرفي أيه الفرق بينك وبين مها!
فكر لبرهة متذكريًا ماضيهم وقال: -مها كانت تستقبلني وهي عارفة أنا كنت في حضن كام بنت قبل ما أرجع لها، وكنت بحبها بس معنديش مشكلة مع السهر والحفلات، ألف واحدة تدخل حياتي بس في أخر اليوم أنا ماليش غير مراتي وبيتي.

ترك الريموت من يده ووضعه جنبًا وأخذ نفسًا طويلًا وقال: -من لحظة ما ظهرت لي جنية البحر وأنا عرفت يعني أيه هتقابل واحدة مش هتعرف تلمس ست بعدها، عينيها قلبت كياني، من وقتها وأنا عيني مرفتش على ست تانية، أصلًا مش شايفهم، مش شايف نفسي غير معاكِ وبس.
ثم تنهد بعمق: -عندك تفسير للحالة دي.

تململت في نومتها على نغم عزف عشقه، مدت يدها لترسو فوق قلبه وقالت: -عشان جنية البحر طلعت وفي أيدها مفتاح القلب ده. الجنية دي هي اللي قلبك كان مستنيها.
-ولقد كان.
ساد الصمت للحظات تتقلب في أشواك هرمونات الحمل التي تعبث برأسها، فسألته بخوف: -هو ممكن يجي اليوم اللي تحن فيه لعاصي القديم!
فكر طويلًا ثم هزم لغة الحوار الجدي بينهم وقال بضحك: -والله أنتِ وشطارتك بقا.
جحظت عينيها بصدمة: -يعني أيه؟

مال لعندها وهو يقاوم تلك الحمالة المتدلية عن كتفها وقال بمزاج: -عايز أشوف كل الستات فيكي، عشان مزهقش، أنا راجل بيحب التجديد.
رفعت حاجبها بغضب وقفزت من نومتها: -والله! انت شوفت النكدية مني صح، بس لسه ماشوفتش المفترية. ولو عايز تشوفها معنديش مانع على فكرة.
بنظرة تعكس نواياه بقلبه كأنْ يرسم على مفاتنها وردة فيرويها بالقُبَل. اقترب منها واخبرها: -بردو هحبها.

شرعت أنامله في مداعبة زهورها المتفتحة التي تطير عقله، امتقع وجهها ولكن سرعان ما ذاب حزنها في مسرح حبه الفتاك، أغمضت جفونها وأسقطت رأسها مستسلمة، أقبل على شجرته المحللة بشراهة وكأنه يخبرها بطريقة ما أن بقربك حياة الهوى وما حوى. تمتمت تحت قبضته محذرة:
-أنت عارف لو شميت بس ريحة واحدة غيري في حضنك يا عاصي، أنا هقتلك.
هاج قلبه ببلابل العشق، وقال هامسًا: -هكون موتت أصلا قبل ما أفكر أعملها.

-بعد الشر عنك، ما تقولش كده.
صارت النظرات تتعانق وتقبل بعضها، والأنفاس تثير الدفئ بهما. قالت مدارية خجلها: -عايز مني أيه بقى؟
بنظرة يعلن رغبته في سماع حبه الذي ينبض بقلبها ورحمها قال وهو يلامس ثغرها الكريزي: -أنا بعشقك يا حياة. وعيني مش شايفة ست غيرك في الدنيا.
رددت بتأنٍ هامس بشفتيها: -بحبك.
للحظة عاد رشدها لتضع أناملها حدًا فاصلًا بين حبهما المتلاحم، فقالت بفزع: -عاصي، أنا حامل. مش هينفع!

أصبح لا يستطع مقاومة قربها الشافٍ لغليل قلبه العليل، وقال بهيام: -ده عز الطلب، أرحب بولادي بقى.
تراوغ من تحته كأنها ثعلب مكار رافضة عرضه الذي يفيض من عينيها لهبًا: -عاصي لا. عاصي مش وقته.
لقد حسم الحب والجمال الحرب بينهم، تغلغلت أصابعه بين فراغات أصابعها قائلًا بحزم يعبر عن توقانه إليها: -أشششش، ترحيب على الهادي…

أقبل على وجهها الوافٍ لمقاصد باب الهوى، إمراة بحرية كل ما فيها يغري للغرق والعشق، بصرخة التمرد التي انفضت بجوفه امتزج البحرين ماء يعانق ماء فتثور الأمواج جنونًا لحبهم الجارف، بحر الهوى وبحر المشاعر لينتقلا لعالم خاص لا يدرك ملاذه إلا قلبين عشقا حد الغرق.

صباحًا…
أمام بوابة أحد المحاكم بالقاهرة، وصلوا أعمامه برفقة مُحاميهم النصاب. فهتف شاهين بحماس:
-يعني خلاص يا متر، الحكم هيصدر النهاردة.
قهقهه شاكر بمكر: -طبعا، خلاص اللعبة بقيت بتاعتنا، والليلة هتبات في قصر شهاب دويدار…
تدخل المحامي قائلًا: -اطمنوا يا بهوات، كل الأدلة في صفنا، وعاصي لو طلع الفضاء عشان يلاقي حل، هينزل على جدور رقبته.

تقدم ثلاثي الشر إلى ساحة المحكمة الخاصة بالمناقشة القضية. جلس كل منهم بجوار الأخر. جاء مراد برفقة محاميه وصافحهم مرحبًا ثم قال:
-أنا جاي أبارك قبل صدور الحكم. مبروك عليكم يا بشوات.
ربت شاكر على كتفه: -كله بفضلك يا أبن المحلاوي، جميلك ده مش هننساه طول عمرنا.

بنظرة خبيثة تدلت من مقلتي مراد ممزوجة بابتسامة عريضة تحمل النهاية التي ظل ينتظرها لأشهر. جلسوا القضاة على منصة الحُكم، ونادى الرجل على رقم القضية الخاصة بهما. تقدم محامي مراد رافعًا يده وقال: -حاضر مع المدعي مراد المحلاوي.

سمح له القاضٍ إذا لديه أي أدلة آخرى، فأجابه المحامي قائلًا وهو يقدم بعض الأوراق: -نعم يا فندم، أحنا معانا الطرف الأهم في القضية، وهي جيهان المحلاوي. أخت المرحومة عبلة المحلاوي وأم المهندس مراد المحلاوي.

صدمة شديدة حلت على الجميع، لا أحد يعلم ما الذي يحدث وما الذي سيتم الإدلاء به، تقدمت جيهان بهدوء مقدمة نفسها للقاضي بعد ما سمح لها بالتحدث: -أنا جيهان المحلاوي. ورفعت دعوى انفي فيها نسب عاصي دويدار وعالية دويدار لأختي عبلة دويدار.
سألها القاضي: -في أي حاجة حابة تقوليها!

ألقت نظرة على شاكر وشاهين ثم أكملت: -أنا هنا عشان اثبت الحق، عبلة أختي مش بتخلف، وعاصي مش ابنها، وعالية مش بنتها ولا بنت شهاب دويدار. بس اللي يخصنا دلوقتِ نسب عاصي لدويدار.
تدخل المحامي التابع لهم: -سبق وقدمنا الدليل على كلام موكلتي يا فندم. وأن عاصي دويدار ابن تحية التي لا يربطها بالمدعي عليه أي رابطة شرعية.
تحير القاضي متسائلًا: -تمام، لا داعي لتكرار نفس الكلام وتضيع وقت المحكمة.

تدخلت جيهان وأخرجت ورقة من حقيبتها وقالت: -بس عاصي شهاب دويدار، وبقول الاسم ثلاثي لأن عاصي يكون الابن الشرعي لزهراء عبدالحي دويدار ابنة عم ومراة شهاب دويدار الشرعية والأولى.
هاجت المحكمة بهمهمات واعتراضات وصوت جمهوري من شاكر وأخوه، أطرق القاضي كي يلتزموا الصمت محذرًا بالحبس، وقال: -كملي يا مدام جيهان.

-زهراء كانت مريضة كانسر، وماتت بعد ولادتها لعاصي بأيام، ووصت تحية مساعدتها عليه، ومن هنا نشأة علاقة تعلق بين شهاب دويدار وتحية، وقتها كان في مصالح تربط شغل المحلاوي أبويا بشهاب دويدار، المصالح دي اجبرته يتجوز عبلة أختى. بس لما عبلة عرفت بكل ده وأصبحت فرصتها في الخلفة معدومة. اقنعت شهاب يسجل الولد باسمها، وبتاريخ ميلاد جديد، وطلعوا شهادة وفاة مزورة باسم ابن زهراء اللي هو عاصي.

ثم اخذت نفسًا طويلًا وأكملت: -الطمع غوى أختى وأمي وخلاهم يخططوا ازاي يستولوا على كل ده، زوروا ورق كتير ومستندات كتير عشان يحتكروا عاصي لصفهم ويستولوا على كل الأملاك. ودلوقتي أنا جاية أقدم شهادة الميلاد الأصلية اللي تثبت أن عاصي ابن زهراء عبدالحي.
ثم تدخل محامٍ عاصي وقال: -ولو تسمح لي يا ريس، الورقة دي فيها تنازل تام عن كل ما تملكه عبلة باسم عاصي دويدار.

ثم قالت جيهان التي تزرف العبرات من مقلتيها: -التنازل ده بتاريخ 3/6/2021، يوم تاريخ جواز بنتي هدير من عاصي دويدار. كان ده الاتفاق ما بينهم وبالفعل عبلة اختى اتنازلت لعاصي عن كل ما تملك، بس للاسف ملحقتش تسجل التنازل في الشهر العقاري، بس في شهود يقدروا يثبتوا ده…
جهر شاكر غضبانًا: -انت بتبيعني يا ابن المحلاوي، وشرفي لاروح فيكم في ستين داهية…

الغردقة…
انتهى عاصي من ارتداء ملابسه بحذر شديد كي لا يزعج حوريته النائمة، كل دقيقة يطالع عقارب الساعة في انتظار الخبر المنتظر الذي سيعلن نسبه للعالم بأنه الابن الشرعي والوريث الوحيد لشهاب دويدار، شردت رأسه إلى ذلك اليوم الذي أخبره مراد برغبة أمه في محادثته، حينها هاتفها بنفور شديد وقال…
#فلاش باك.
-أي مساعدة تيجي من وراكي أنتِ وأختك، أنتوا دمرتونا بألاعيبكم وطمعكم.

نظرت جيهان للحالة المزرية التي بها ابنتها التي تتحرك بمعقد متحرك، منذ حادثتها الأخيرة وفقدت قدرها على السير مرة أخرى، ردت بأسف:
-وجيه الوقت اللي نصلح فيه كل ده ياعاصي، الكذب عمره قصير ولازم الحقيقة تبان للنور.
رد ساخرًا: -وفجاة كدا ضمير الأفعى صحي والمفروض إني اثق فيكي.

-مش قدامك حل تاني، هبعتلك كل الأوراق اللي تثبت نسبك الشرعي لشهاب، وهنزل اعترف في المحكمة، وهفضح كل أكاذيب عبلة أختي، وأخرس لسان عمامك.
ثار الفضول برأسه متسائلًا: -وكل ده ليه؟
أغمضت جفونها بحرقة: -اليوم اللي يثبت فيه نسبك الشرعي لدويدار، هعرفك أنا هعمل كده ليه؟
عودة للوقت الحال الذي فاق فيه عاصي من شرود على سقط ساعة يده، ففزعت حياة من نومها ترتجف:
-عاصي في ايه،!

غمغم معتذرًا: -اسف يا حبيبتي، سرحت شوية بس، كملي نوم.
رفعت الغطاء من عليها ووثبت قائمة بنظرات معاتبة: -تاني مرة ممكن تخلي بالك، عشان كده غلط عليا.
ثم تفوهت بملل: -عاصي، أنا حامل، وهما ممكن يكونوا نايمين، كده أنت بتزعجهم.
مسح همومه بكفه مع ضحكة خافتة أصابت ثغره، ثم قبل رأسها قائلًا: -حقك عليا أنتِ وهما.
ثم تمتم: -انا ربنا يصبرني الشهور اللي جاية.

تناست على الفور غضبها منه ثم قالت مبتسمه وهي تقلل وجنته وهي تقف على طراطيف أصابعها كي تبقى بمستواه: -حبيبي صباح الخير.
رد ب فتور: -أنتِ لسه فاكرة!
ثم مسح على شعرها بحنان: -نمتي كويس!
ردت بخجل خفيف: -أصلًا مش بعرف أنام غير في حضنك.
ثم تحمست قائلة: -تيجي نفطر بره! ولا عندك شغل مهم.
لم تمهله الفرصة ليعترض أو يقبل، فقرأت التييه على ملامحه: -عاصي، فيك حاجة صح! وشك متغير!

شدها من كفها ليجلسا معًا على الأريكة ممتنًا لتلك النظرة التي تقرأه قبل أن يتحدث، هز رأسه مؤيدًا شكوكها وقال: -النهاردة اثبات نسبي لشهاب دويدار. وو
قاطعه رنين هاتفه، فرد على عجلٍ: -كمال، في جديد!
هتف كمال بانتصار: -يسري معانا يا عاصي بيه، تحب نجيبه فين!

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *