رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الرابع والعشرون
كان استقرار المركبة على أرض كوكب جليزا حلمًا بالنسبة لليوناردو؛ فعندما تعيش في كابوس مؤلم يكون حلمك الوحيد هو الاستيقاظ والوصول إلى كوكب جليزا، كان كذلك بالنسبة لليوناردو. إنه يأمل بأن يتخلص من تأنيب ضميره ويأمل أيضًا بأن لا يكون قد تأخر، وإن حدث شيء فسيشعر هكذا لبقية حياته. شعور بالاختناق والألم كأن روحك لا تطيق البقاء في جسدك، تشعر عندئذ بأنك غير قادر على النظر إلى نفسك وإن نظرت ستشعر عندها بالدناءة، ستشعر بأنك لا تطيق أن تكون أنت.
كان ليوناردو في حالة تلهف لمغادرة المركبة حتى أوقفه ألبرت وقد كان يقر داخله بضرورة الحديث مع ليوناردو قليلًا قبل أن يتهور.
«لا تجعل كل ما فعلته يذهب هباءً منثورًا». قال ألبرت وهو ينظر نحو ليوناردو بعمق وجدية، كان يرغب بأن يكون موقفه ثابتًا قدر المستطاع حتى يستطيع التأثير على ليوناردو بطريقة أو بأخرى.
«لن يصبح ما فعلته هباءً منثورًا بل سيصبح ذا قيمة لأنني لن أكون جبانًا بعد اليوم، ولن أجعل تلك السلسلة تستمر، سلسلة الضحايا الذين يدفعون الثمن من أجل الأقوياء». احتدت ملامح ليوناردو ثم أتبع قائلًا: «هل عرفت الآن بأنني لن أسمح لأي شيء بأن يذهب هباءً منثورًا؟».
«وماذا عن والدتك؟ ألم تكن هدفك الأول؟ هل ستضحي بكل شيء؟»
أحدثت كلمات ألبرت غصةً عميقة في قلب ليوناردو، شعر بأن عضلات قفصه الصدري تتقلص لتطبق على قلبه وتؤلمه كثيرًا. إنها الغصة الأعمق في حياته، ولكنه وجد الأفكار والكلمات التي لم يسمح لها يومًا بالتحرر تنبعث إلى رأسه، حتى أنه وجد الكلمات تنبعث من شفتيه بنبرة مهشمة ومبحوحة:.
«ربما أكون قد كذبت على نفسي طوال تلك السنوات، رغبت بأن أعيش على الأمل عوضًا من اليأس، لقد أخبرني الكثيرون بأن والدتي قد توفيت حتمًا منذ زمن وأنه يستحيل على جوزيف إبقاؤها على قيد الحياة؛ فهو لا يستطيع كبح لجام غضبه وسخطه دون أن ينتهي بالقتل، وعوضًا من الانهيار والبكاء كنت أغضب بشدة وكنت أخرس كل من يقول هذا، ثم عندما أنفرد بنفسي كنت أكذب عليها دومًا حتى صدقت تلك الكذبة وبدأت أنجرف وراءها. ».
لم يكن ليشعر بالدموع التي تجمعت في عينيه سوى عندما فقدت الرؤية لديه وضوحها ولم يجد مفرًا من سقوطها عندما قال بصوت مختنق:
«ربما هي لم تكن يومًا على قيد الحياة منذ أن فقدتها، ربما لم يعد لها وجود وقد فعلوا كل هذا حتى أفعل ما يرغبون به، وسرعان ما سيلقون الحقيقة في وجهي دون مبالاة، لكنني فعلت كل هذا لأنني رغبت بالتصديق بأنها حية، لم يرغب عقلي يومًا بتقبل احتمال وفاتها قط. ».
إنها رغبتنا بالعيش مع الأمل من تدفعنا للكذب على أنفسنا، ثم تصديق الكذبة عندما لا نكون قادرين على تقبل الحقيقة.
«ربما تكون فعلًا على قيد الحياة». رغم سماع ألبرت كلمات ليوناردو المتيقنة من الجانب المظلم وجد نفسه يرغب بجعله ينظر إلى الجانب المشرق ثانيةً مهما كلف الثمن، أراده أن يظل مؤمنًا بما ظل يؤمن به سنوات طويلة.
«لن أضغط عليك أكثر، إن رغبت حقًا بأن تفعل شيئًا متهورًا ومجنونًا فافعله لأنني أثق بمدى قدرتك على أن تكون البطل في نظري دومًا». قال ألبرت مبتسمًا وهو ينظر إلى وجه ليوناردو الشاحب المرهق. إنه حقًا يرى جزءًا بطوليًّا في جميع أفعاله وتصرفاته، يرى فيه الشخص الذي أراد أن يكونه ولم يستطع لأنه لم يكن يومًا بقوته وإصراره.
شعور بالراحة والسكينة تعتري قلب ليوناردو، كلمات ألبرت لم تكن لتنتهي دون أن تحدث قوةً داخليةً في نفسه، خاصةً عندما تكون الكلمات من الشخص الوحيد الذي ساندك حقًا.
«سأتحدث مع فيكتوريا عساي أجد حلًا، وربما تستطيع أنت الوصول إليها عندئذ. ».
لم تكن تعابير وجه فيكتوريا توحي بالخير كثيرًا، وهذا ما جعل ألبرت يدرك بأن هناك خطبًا ما وقد حدث ما لا يسرها، لكنه لم يأتِ ليتفحص حالتها على أي حال.
«لم أتوقع أن تأتي الآن». قالت فيكتوريا بعد صمتٍ طويل وهي ترى أن حضور ألبرت الآن وفي هذا الوقت مزعج جدًا؛ لها فلم تكن في حالة تسمح بأن تستقبله.
نظر نحوها بشيء من الاستنكار وقد تقمص شخصيته المعتادة ليجاري مكرها وجفاءها.
«لم يكن هذا اتفاقنا سيدة فيكتوريا. »
عقدت فيكتوريا حاجبيها باستنكار ولم تكن لديها أدنى رغبة بخوض أي حديث عقيم أو مستفز خاصةً مع ألبرت.
«ماذا تقصد بالضبط؟»
احتدت ملامح ألبرت ثم رفع سبابته في وجه فيكتوريا وهو يقول:
«لقد حذرتك من إيذاء أحد من سكان كوكب الأرض، كما أننا لم نتفق على مثل هذه الأساليب، حتى أنك لم تخبريني بالحقيقة!»
أدركت فيكتوريا أنها في صدد مجادلة حادة مع ألبرت وهي لا تملك الوقت لهذا، استفزتها كلماته وأسلوبه ذاك، لم يجرؤ أحد على الحديث معها بتلك الطريقة فكيف يجرؤ!
«نعم، لم يكن هذا اتفاقنا فعلًا. لم يكن اتفاقنا أن تتدخل في أموري الخاصة، كما أن تلك الفتاة لا تعني سكان كوكب الأرض، أنت أول من يعلم بأنها جاءت من كوكب جليزا وأنها تنتمي إلى كوكب جليزا، وهنا ينتهي حقك في محاسبتي أو التطاول على حتى لو كنت شريكًا في الهدف. ».
رغم أسلوب فيكتوريا وتكشيرها عن أنيابها عن مدى استيائها لمحاولته التطاول عليها، لم يكن غضبها هذا ليردعه وقد تعامل مع أمثالها، فوجد نفسه يبتسم ببساطة وهذا ما جعل الدماء تغلي في عروقها أكثر وأن تحتد ملامحها أكثر، كيف يجرؤ!
وقبل أن تفقد أعصابها سمعت طرقات على الباب فاستيقظت من جحيم أفكارها.
«سيدتي، لقد وجدنا ذلك الشاب المدعو ليوناردو في قبو القصر وقد أحدث بعض الضجة والفوضى، وبالكاد استطاع الحراس الإمساك به بعد أن هجم على الكثير منهم. ».
زفرت فيكتوريا بانزعاج ثم قالت بنبرة منفعلة:
«المصائب تأتي مرة واحدة! تخلص منه، لست بحاجة للمزيد، ».
لكن جملتها تلك لم تكتمل بعد أن بترها ألبرت بنبرة محتدة مهددة بعد أن احتدمت نظراته نحوها:
«لن أسمح لأحد بأن يؤذيه، هل سمعتِ؟».
تجمدت فيكتوريا في مكانها وجحظت عيناها وراحت تجول بنظراتها بينه وبين وجه الحارس الذي علت ملامحه أمارات الصدمة والاستغراب، ولم تستطع سوى أن تكتفي بالإشارة للحارس بالخروج.
كانت تكتسح فيكتوريا رغبة جامحة بقتل ألبرت أو التخلص منه في أي دقيقة. لم يكن بوسعها تحمل مثل هذا الموقف، هذه أول مرة في حياتها التي يأتي فيها شخص يبتر أوامرها، بل يهينها بنبرته ونظراته، وأمام من؟ أمام حراسها الذين يحبسون أنفاسهم بوجودها.
«كيف تجرؤ؟ اسمع يا هذا، أنا لا أسمح لك بمثل هذه الإهانة، لا تجعلني أرغمك على دفع ثمن أخطائك معي وصدقني سيكون الثمن غاليًا جدًا عندئذ وستعجز عن تسديده». قالت بعد أن ارتفعت نبرة صوتها وهي تصك على أسنانها حتى كادت تحطمها.
لكن حزمها هذا وامتعاضها لم يزد ألبرت إلا عنادًا وإصرارًا، فلم يعد يعتقد بأن أسلوبهم هذا يخيفه ولو حتى لحظة، خاصة إن كان الأمر مع فيكتوريا، فهو أسهل بكثير مما هو عليه مع أمثال برنالد.
«لو أنك تحترمين رغباتي كما أحترم رغباتك المجنونة والوحشية لما وصل الحال إلى هنا». أجابها دون أن يبدي أي انفعال ما سيجعلها تغضب بكل تأكيد وهذا ما يريده حقًّا.
ازدادت نظراتها حدةً وملامحها حنقًا واضطرابًا، فقالت رافعةً حاجبيها بسخرية محاولةً السيطرة على أعصابها وبنبرة حاولت أن تكون باردة قدر المستطاع:
«على كل حال، لقد انتهت صفقتي الخاسرة معك ولم أعد بحاجةٍ إليك، لذلك أنصحك بالانسحاب دون خسائر ودون تدخل بعملي. ».
ابتسم ألبرت ومع كل كلمة من كلمات فيكتوريا كانت تتسع ابتسامته أكثر، وهذا ما جعلها تتوتر وتضطرب فلقد توقعت أن تتبدل ملامح وجهه وأن يتغير لونه، لكن على العكس، زادت ثقته وثباته.
«عزيزتي، دعيني أذكرك أن إنهاء الصفقة أو إلغائها يلزمك بدفع التعويض غاليًا جدًّا، أم أنك لا تعرفين؟ ربما من الأفضل أن أذكرك بالطرق التي أستطيع تدميرك بها، من أين تحبين أن أبدأ؟».
تسارعت دقات قلب فيكتوريا وهي تفكر بكيف يمكن له أن يدمر كل شيء كما قال، لكنه لا يستطيع فعل شيء بكل تأكيد فهي الأقوى والأمكر ولا يستطيع أحد التفوق عليها أبدًا.
– هل تحبين أن يكتشف الجميع في كوكب الأرض أنك على وشك اقتحامها؟ تعرفين، ربما يأخذون الحذر وربما يستطيعون تجهيز الأسلحة والعسكر ريثما تحضرين جلالتك، وعندئذ لا أريد أن أصف لك كم ستكون الإهانة في حقك كبيرة عندما تهزمين كأجدادك وتطردين وتخسرين كرامتك وتصبحين الملكة المهانة المطرودة الفاشلة.
– من تظن نفسك أيها القذر؟ أنت وهم مجرد حثالة…
ولكنها لم تكمل سلسلة شتائمها الغاضبة حتى قاطعها ألبرت وهو يضحك ساخرًا:
«على رسلك عزيزتي، لم أكتفِ بعد، وفّري شتائمك حتى النهاية، هناك ما هو أسوأ. ».
صمت قليلًا ثم أتبع: «ما رأيك مثلًا أن تعرف ابنتك بأفعالك الشيطانة وخططك الدنيئة التي ستدفع حفيدتك ثمنها؟ هل ستكون فخورة بكونك الجدة الحنونة؟».
انعقد لسان فيكتوريا بعد أن عجزت عن إيجاد رد أو حتى التظاهر بمدى كبريائها ونفوذها، لكنه يعرف ويستطيع فعل ما سيؤدي إلى تدميرها بالفعل.
«لهذا دعينا نلتزم حدودنا جيدًا، لن تلمسي ليوناردو لا أنت ولا حراسك وإلا لن أتردد بتدمير آمالك المشرقة. لن أتدخل بكيفية تنفيذك خطتك الشيطانية طالما كان هذا بعيدًا عني وليوناردو وشعب كوكب الأرض. ».
رغم شعورها بالغيظ الشديد وشعورها بالمهانة والاختناق، وجدت نفسها تتقبل ما قاله ألبرت فعندئذ ستستطيع تدبير أمورها وتنفيذ خطتها بسلام دون أن يعترض طريقها أحد وبعدئذ سيحل كل شيء.
«لكنني سأسلب حرية ليوناردو حتى فترة بسيطة لأنهي أموري دون أن يقف في وجهي أحد، وحالما ينتهي كل شيء سيحصل على حريته. ».
لم تتردد فيكتوريا بترتيب رحلة سريعة إلى كوكب كيبلر، فلقد كان عليها التعامل مع الأمر بنفسها. ومَن غيرها يستطيع التعامل مع أمثال جوزيف؟ لم تكن تستبعد أن يكون قد تعمد إخفاء الموضوع عنها، فمنذ متى بدأ يسمح للفتيات أن ينشئن بمعسكرات التدريب؟ والمضحك جدًّا أنه كان يقدم الحماية لها. هي تعرف جيدًا من يكون جوزيف وكيف يفكر، وهو لا يقدم خدمات مجانية أبدًا.
لم تغب محادثتها مع ألبرت بعيدًا عن ذهنها، وقد كانت تشعر بالغيظ والامتعاض كلما تذكرت وقاحته، لكنها تعرف أنها ستجعله يدفع الثمن عاجلًا أم آجلًا ولا مفر بكل تأكيد. كانت فكرة إقناعه بحجز حرية ليوناردو شبه مستحيلة، ولكنه قبل على مضض بعد أن وضحت له أهمية ذلك من أجل تسيير الأمور وأنها لن تستطيع منحه حريته بسبب اضطرارها للسفر إلى كوكب كيبلر لحل بعض الأمور مع جوزيف، وأن وجود ليوناردو حرًّا طليقًا سيسبب لها المشاكل أثناء غيابها وقد أكدت أنها لن تعطيه فرصة رؤية والدته إن سبب لها الفوضى.
صدمتها العلاقة القوية بين ألبرت وليوناردو التي جعلت ألبرت يكون شرسًا معها عند رغبتها بالتخلص منه، ما الذي يجعل شخصين غريبين لا يجمعهما أي شيء مشترك أن تتكون بينهما تلك الرابطة؟ ليوناردو من سكان كوكب كيبلر وهي تعتقد أن سكان كوكب الأرض عنصريون لدرجة لا تسمح لهم بتقبل أعراق مختلفة بينهم. كيف لا وقد رفضوا وجودهم؟
ومع تدفق كل تلك الأفكار وجدت فيكتوريا نفسها فجأة تخرج من تلك الدوامة مع حضور جوزيف إلى قاعة الاستقبال بعد أن انتظرته ما يقارب نصف الساعة على غير العادة.
«يبدو أنني أصبحت عزيزًا عليك». قال جوزيف وهو يقترب من حيث تجلس فيكتوريا، ولكنها اكتفت بالتنهد بضجر دون أن تبدي أي رد فعل وديّ، وكيف تفعل وكل ما بداخلها يدفعها إلى قتله؟
«لست هنا في زيارة ودية، بل أنا هنا لأصفي الحسابات». قالت بنبرة حادة غيّرت تعابير وجه جوزيف الذي شعر بالاضطراب والاحتدام من أسلوب فيكتوريا الذي لا يبشر بالخير، فعادةً ما تكون باردة التصرفات ومحادثتها هادئة رغم تعابير وجهه الساخرة والممتعضة دومًا.
«أي حساب؟ عن ماذا تتحدثين؟». أجابها باستنكار وهو يجلس على الأريكة المجاورة محاولًا التصرف بهدوء تام.
«أخبرني، منذ متى تتواجد الفتيات في معسكرات التدريب الشبابية؟».
تسارعت نبضات قلب جوزيف عندما أحدثت كلمات فيكتوريا التوتر في نفسه، فلقد عرف بأنها تلمح لشيء يعرفه تمامًا ولكنه لم يحسب أنها ستعرفه أبدًا. كانت فكرة أنه فشل في إيقاعها ومفاجأتها بتلك الحقيقة تشعره بالغيظ والاحتدام، إلى متى سيبقى كالعبد لفيكتوريا؟
«منذ متى تتدخلين في شؤوني الخاصة؟ أليست هذه مملكتي وشعبي الذي أحكمه أنا؟». لم يستطع كبح رغبته بالحديث معها كما يحدث أي امرأة تحدثه بتلك الطريقة، أو لعله يقتلها من فوره دون تردد، ولكن الأمر بدا فجأة مضحكًا له ففكتوريا تهينه منذ الأزل.
«أتدخل بكل تأكيد عندما تحاول العبث من وراء ظهري، وعندما تتصرف كما تريد مع فرد من أفراد شعبي. ».
«أفراد شعبك!». قال مستنكرًا وهو يحاول أن يتظاهر بعدم معرفته عما تتحدث عنه.
«هل أنت متأكد أن لا أحد قد جاء إلى كوكبك منذ تسعة عشر عامًا؟ هل كذبت على عندما سألتك حينئذ؟». قالت رافعةً حاجبيها بينما كانت نظراتها نحوه ونبرتها تعبر عن مدى حنقها وانفعالها.
رغم انتفاض جسده وتوتره الشديد أجابها بنبرة حاول أن تكون ثابتة قدر المستطاع:
«نعم، متأكد. ».
رفعت فيكتوريا حاجبيها بسخرية ثم أجابت:
– وما رأيك إن قلت لك أن لدي الخبر اليقين بأنك تحتفظ بإحدى ممتلكاتي الخاصة؟
– سأقول أن من أخبرك كاذب وأنني لا أحتفظ بأي ممتلكات خاصة بك.
ازداد حنق فيكتوريا أكثر وهي تدرك أن كل دقيقة تمر تحسب من رصيدها وأن مخزون صبرها قد أوشك على الانتهاء. لن تسمح لأي أحد أن يعترض طريقها. احتدت ملامح وجهها وهي تقول بنبرة صوت أعلى من سابقتها:.
«اسمعني جيدًا جوزيف، لديك نصف ساعة، نصف ساعة فقط لا أكثر لتسلمني الفتاة فورًا، وإلا ستحرم من كل شيء أقدمه لك لتدرك مدى فشلك وترى نفسك حاكمًا فاشلًا على حقيقتك، حاكم لا يستطيع توفير الاحتياجات البسيطة لشعبه. فكر جيدًا وضع لك الفتاة في كفة وهلاكك ودمارك في كفة أخرى. من عساك تختار وهل ستتصرف بذكاء أول مرة في حياتك؟».
تجمدت الدماء في عروق جوزيف وهو يدرك أنه لا مفر، لا مفر من استعباد فيكتوريا إياه فهو من جعل من نفسه مستعبدًا.
لم تكن إرورا تطيق فكرة رؤية جوزيف حتى، فلقد كان شعور الكراهية نحوه يتفاقم يومًا بعد يوم داخلها، ولكن ماذا عساه سيطلب منها؟
كانت تحاول التماسك والتظاهر بالقوة قليلًا، كانت بحاجةً ماسة إلى أن تكون صلبة كعادتها. كانت بحاجة ماسة إلى استمداد عنادها الذي يشعرها داخليًّا بأنها لا تقهر، ولكن كل هذا لم يعد موجودًا في داخله، فأكثر ما كانت تحاول التركيز عليه هو تنظيم أنفاسها ومحاولة كبح توترها واضطرابها الشديدين. إنها خائفة حقًّا، تخاف جدًّا مما سيفعله جوزيف بعد ذلك اليوم، بعد أن اكتشفت حقيقته وحقيقة دناءة أفكاره ومدى اضطرابه عقليًّا في نظرها.
كان جوزيف ينظر نحوها بجدية وبنظرات حادة، كان يبدو لها أنه غاضب أو منزعج، أو لعلها فعلت شيئًا أغضبه ربما.
«فيكتوريا تريدك في شيء لا يبشر بالخير، ستكونين حتمًا في خطر إن استطاعت الوصول إليك. ».
قال أخيرًا بعد أن حدق بها طويلًا دون أن ينطق بشيء. كانت هذه المرة الأولى التي تشعر بها أن جوزيف يتحدث بجدية مطلقة ولكنها لم تكن تستوعب ما قاله دون مقدمات. فيكتوريا؟ خطر؟ كانت الكلمات تدور في عقلها دون أن تحدث معنى. ما الذي يجعل فيكتوريا ترغب بالوصول إليها؟
«هي تريدني أن أسلمك في الوقت الحاضر وبأسرع ما يمكن. هي موجودة هنا وتلح على اصطحابك معها، ولكن باستطاعتي إيقافها عند حدها في حال واحد. » قال وهو يحدق بحدقتي عينيها. لم تكن تدرك ما يرمي إليه، حتى أنها عجزت عن وصف أسلوب حديثه ذاك ومدى جديته فيما يقول.
«إن وافقت على الزواج مني فلن أسمح لفيكتوريا أن تمسك أو أن تقترب منك. ».
تراجعت خطوات إلى الخلف وهي تستمع إلى ما يقول، ربما لم يكن هناك من داعٍ حتى تصدم من جديد، فلقد سمعت ذلك في المرة السابقة، أم عساها ظنت أنه مجرد كابوس أم أن جوزيف لم يكن بكامل وعيه؟ ولكن جديته وثباته على موقفه الآن جعلاها تضطرب كثيرًا وتفقد السيطرة على أنفاسها المتسارعة وخوفها.
كان من الصعب عليها أن تتحكم بتلعثم الكلمات والمحافظة على ثباتها تحت نظراته التي تنم عن إلحاحه بالحصول على إجابة منها، ولكنها أجابته بحدة وتلعثم:
«مستحيل، أفضل الموت على هذا». احتدت نظراتها وابتلعت الغصة صوتها وهي تقول وقلبها يحترق مع كل كلمة: «لقد كنت بمثابة والدٍ لي، ألا تشعر بالعار من نفسك؟ ألا تدرك مدى دناءة تصرفك؟ هل أنت إنسان، ».
بتر جملتها عندما أمسك بمعصمها ثم قال وهو يصك على أسنانه بغضب شديد حتى كاد أن يحطمها:
«لا يفصلك عن مصيرك الأسود سوى هذا الباب صغيرتي، اعقلي جيدًا وأمسكي لسانك وانتبهي لما تقولين، وإلا سأسلمك بيدي هاتين إلى الموت. ».
شعرت فجأة بقوة تندفع من داخلها، قوة تدفعها لتكون متهورة ومندفعة من جديد، وعنادها الذي فقدته عاد ليتحكم بكل تصرفاتها من جديد. لم تكن لتسمح بهذا أن يحصل مهما كلف الثمن، فأن تعيش بلا روح مؤلمٌ أكثر بكثير من الموت نفسه.
سحبت معصمها بقوة من بين يديه ثم طالعته بتحدٍ وثبات شديدين، حتى أنها لم تدرك من أين جاءتها تلك الجرأة لتدفعها للصراخ في وجهه قائلة:
«لا داعي لأن تسلمني بنفسك، فأنا من سأسلم نفسي بنفسي، فهذا أهون بكثير من العيش مذلولة تعيسة. ».
وما إن أنهت جملتها حتى اندفعت دون تردد نحو الباب المجاور دون أن تلتفت أو تتوقف. لم تكن تفكر بشيء سوى بالخلاص والتحرر من سجون الخوف والاضطراب.
اتجهت من فورها نحو فيكتوريا التي فجعت من أثر قوة اندفاع الباب، وقد بقيت تحدق بإرورا بعد أن شعرت أنها وجدت ضالتها، فلم يكن من الصعب عليها أن تلاحظ التشابه بينها وبين شقيقتها التوأم رغم اختلاف الهيئة وتسريحة الشعر اللذين جعلا من إرورا تفقد الكثير من أنوثتها.
«لن أمانع أبدًا إن وضعتِ الأغلال بين يدي على أن أغادر هذا المكان بأسرع وقت ممكن». قالت باندفاع وهي تمد كلتا يديها نحو فيكتوريا منتظرة أن تحيط الأغلال معصميها، لكن فيكتوريا استمرت تحدق بها بصدمة من تصرفها هذا، فهذه أول مرة تشهد من يسلم نفسه بتلك الطريقة بكل فخر وثبات. بدأت نظراتها تتجه نحو جوزيف الذي وقف متجمدًا دون حراك بجانب الباب، وقد كان عقله لا يدرك سرعة تصرف إرورا دون أن تترك لها أي مجال لاتخاذ أي قرار. إنه يشهد فشلًا ذريعًا آخر بعد أن ظن أن لا أحد سيتجاوزه بعد الآن أو يجرؤ على تحديه، ولكن خططه تبوء بالفشل كما حصل مرارًا وتكرارًا.
لاحظت فيكتوريا تعابير وجه جوزيف المنفعلة ومدى محاولته المحافظة على اتزانه فقالت بنبرة ساخرة:
«يبدو أنك تفشل في كل شيء، كان عليك أن تعرف أن باستطاعتي معرفة كل شيء قبل أن تحاول العبث وتبوء كل محاولاتك بالفشل من جديد، لا أحد يطيق أن يبقى تحت رحمتك. ».
لم يستطع جوزيف منع نفسه من الابتسام بسخرية مطلقة أمام كلماتها الأخيرة فأجابها بغيظ وامتعاض شديدين:
«وكأن أحدًا يطيق أن يكون تحت رحمتك أنت. ».
لم تكن كلماته لتهز فيكتوريا أبدًا بل وأجابته بكل هدوء:
«على الأقل، لست مثلك فلا يبقى الناس تحت رحمتي بلا مقابل. ».
كانت تلك الحوارات المسرحية التي سمعتها إرورا غير مفهومة بتاتًا، فلم تكن تتصور أن طبيعة العلاقة بين جوزيف وفيكتوريا بتلك الطريقة إلى جانب أنها لم تكن تصدق كون جوزيف شخص بلا حول ولا قوة أمامها، فلم يكن بوسعه سوى الرد عليها شفهيًا.
لم يدم وقوفها هناك طويلًا، فقد اصطحبها حراس فيكتوريا خارج القلعة بعد أن انسحبت فيكتوريا ببساطة تاركةً جوزيف تحت تأثير الصدمة.
تذكرت المراكب التي كانت تغادر حاملة معها عددًا من سكان هذا الكوكب إلى كوكب جليزا. كانت تتساءل دومًا عمّا يشعرون به أثناء تلك اللحظات، ولكن ها هي ذي في الموقف نفسه ومع هذا لا تشعر بأي شيء عدا الفراغ. ربما شعور التحرر من جوزيف هو ما كان ينعش روحها المرهقة رغم إدراكها أن هذا الشعور لن يدوم طويلًا وهي برفقة فيكتوريا.
أشارت فيكتوريا للحراس بالتوقف بعد أن اقتربوا من المركبة عندما كانت تقف على بعد مسافة قريبة. عادت لتشير إلى أحد الحراس الذين يقفون أمام المركبة، وما إن اقترب أكثر حتى بدت ملامحه مألوفة بالنسبة لإرورا أو عساها تعرفه من معسكرات التدريب سابقًا، ولكن مع اقترابه أكثر كانت تتسارع نبضات قلبها ويضيق صدرها، لم تكن ترغب أن تكون توقعاتها صحيحة أبدًا. تمنت لو أنها تعاني من قصر نظر أو تشوش في الرؤية، ولكن اقترابه أكثر كان يزيد من خوفها من إدراك الحقيقة. إنه هو بلا شك، كيف لا؟ وقد باتت ملامحه واضحة جدًّا ولم يفصلها عنه سوى بضع خطوات تجعلها تتأكد أنها لم تخفق. ارتجف جسدها وشعرت ببرودة يديها، لم يكن باستطاعتها استيعاب رؤيتها إياه من جديد، فلقد اعتقدت أنه حلم لن يتحقق أبدًا، ولكن ليته بقي حلمًا ولم تعد لتراه في هذه الظروف.
«ضع تلك الأغلال حول معصميها». قالت فيكتوريا وهي تنظر نحو توماس بنظرات محتدة جاحظة، فما كان منه سوى أن تقدم بخطوات مثقلة غير ثابتة وكأنه يمشي في الهواء وهو على وشك السقوط إلى الهاوية.
اقترب منها وقد تلاحمت نظراتهما المهتاجة البائسة، وكأنها تحكي الكثير والكثير من الكلمات التي لم تستطع ألسنتهم النطق بها قط.
التعليقات