رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني عشر
أمام أبواب المحكمة.
وبعد صدور حكم نهائي بالقضية التي حُسمت لصالح عاصي دويدار وإعلانه شرعًا وقانونًا الوريث الشرعي لشهاب دويدار، وهزيمة أعمامه في ساحة الحرب الدائرة بينهم، يقف شاكر صارخًا، يتبع خطوات مراد السريعة كي يحمي أمه من غدرهم، وجهر مهددًا: -وشرفي ما هسيبك يا ابن المحلاوي، ويا أنا يا أنت. هتشوف مين فينا اللي هيضحك في الاخر.
بخطوات أشبه بالركض وصل مراد وأمه إلى السيارة التي انطلق سائقها على الفور، أخذت جيهان نفسها بارتياح من جُملة المخاوف التي استرجعتها أمام القاضي: -وآخيرًا ارتحت. آخيرًا السر اتكشف والحق هيرجع لصحابه.
لم يخل العبوس من وجهه، بل سألها ممتعضًا: -أنتِ ازاي قدرتي تخبي سر زي ده السنين دي كلها! آزاي؟ للدرجة دي عبلة كانت مسيطرة عليكم! كان عقلكم فين؟
أغمضت جفونها بندم، وغمغمت: -أنتَ متعرفش حاجة يا مراد، عبلة وأمي كانت كل حياتهم مؤامرات وازاي ينهبوا ثروة واحد زي شهاب، أنا كبرت لقيتهم كده. وكنت مجبرة امشي في نفس طريقهم عشان أعيش.
فرت الكلمات من فاهه لعجزه أمام وصف تلك الحالة من السخط التي انتابته ناحية عائلته. أكتفي بزفيرٍ قوي تخلص فيه من جملة الإحساس المؤلم وقال للسائق: -اطلع على المطار يا بني…
بمكتب عادل الشيمي.
يجوب ساحة مكتبه بغضب يتقاذف من حنجرته صارخًا بإمتعاض، ركل تلك المنضدة الصغيرة بقدمه بعد ما أبلغه محاميه بما حدث في قضية عاصي دويدار، تدخل عزمي ليبخ سموم الانتقام: -عاصي دويدار جاب النهاية وكتب شهادة وفاته بنفسه. عاصي لازم يموت يا عادل عشان مصالحنا تكمل، دلوقتي هيبقى هو الشوكة اللي هتقف في طريقنا العمر كله.
رفع عادل قبضته المشدودة بغل وحقد ينبعث لهبًا من حنجرته: -هو ومراد المحلاوي، يستاهلوا الموت ألف مرة، وديني ما هرحمهم. أحنا يتلعب بينا؟
في تلك اللحظة فُتح باب مكتبه ليظهر منه عددٍ لابأس فيه من رجال الشرطة، حيث تقدم الضابط المختص قائلًا: -أنت متهم بتهمة الكسب غير المشروع وتضليل المستندات القانونية، اتفضل معانا أنت وعزمي بيه…
تصلبت تعابير وجهه قائلًا: -ازاي! مين مقدم البلاغ ده؟
-النائب العام بناءً عن مستندات وأدلة هامة تحت أيده، اتفضلوا معانا من غير شوشرة…
الغردقة.
-ناوي تعمل معاه أيه!
ثم تململت على ظهر القلق والخوف: -عاصي حبيبي لازم تهدأ وتفكر بعقلك ومتزودش المشاكل، ولادك محتاجين لك. فكر فيهم قبل أي حاجة…
هز رأسه بعدم اهتمام غير مبالٍ للأمر ؛ ثم قال: -أنا هتصرف متشغليش بالك.
رمقته بنظراتها المتوسلة: -أحنا يا حبيبي مش اتفقنا نرمي الماضي ورا ضهرنا. ونتعامل بحكمة وعقل، وأنا واثقة فيك.
ثم داعبت وجنته برفق بكف يدها: -أقفل صفحات الماضي دي خالص، خلينا نركز في الجاي. عشان خاطر ولادنا.
قرر أن يغير مجرى الحديث بينهم لأن نيرانه لا تتقبل أي حكم ومواعظ في تلك اللحظة، تمتم بثبات: -النهاردة في كام واحدة جايين هيساعدوكي في شغل البيت، اختاري منهم اللي تعجبك، عايزة تشغليهم كلهم مفيش مشكلة، المهم متتحركيش من السرير فاهمة! وسيدة كمان جاية.
أومأت بطاعة ممزوجة بابتسامة خفيفة: -بجد دي وحشتني أوي. عاصي أحنا هنقول للبنات أمتى، دول هيفرحوا أوي.
تأرجحت عينيه متحيرًا: -مش عارف، بس لازم يعرفوا عشان يبطلوا شقاوة ولعب معاكي.
هتفت بحماس: -هقولهم النهاردة، ما كملتش كلامك، عملت أيه في القضية صحيح؟
اتكئ في جلسته للخلف وقال بضيق وهي يحقد على ماضيه: -لعبة قذرة راح فيها 40 سنة من عُمري، حقيقي عمري ما هسامحهم ولو الزمن يرجع هاخد حقي منهم واحد واحد وأولهم شهاب دويدار.
ردت بأسف على حالته: -للدرجة دي يا عاصي!
-أمى هي زهراء خليل دويدار، أول ست اتجوزها شهاب. ومن بعدها ربتني تحية، عمة شمس. وكل الفيلم اللي اتعمل عليا كان من تخطيط عبلة و أمها ولا مراة أبوها والله ما فاكر، عشان بس يكوشوا على كل حاجة.
ملأت عينيها نظرات الشفقة على حالته، احتوت كفوفه بحزن شديد يندس بين كلماتها: -الحق لازم ينتصر في الأخر يا حبيبي. المفروض تفرح، محدش له عندك حاجة وحقك رجع لك قدام الناس كلها وأنا ملك وناجح ومش محتاج لحد.
هز رأسه بعدم اقتناع: -الحق المادي بيروح ويرجع يا حياة. لكن شعور أن في حتة خالية في قلبك مش عارف تداويها! كنت اتمنى اتربى على أيدين أمي، أو حتى ست سوية مش هدفها الماديات وبس. قضيت عمري كله في عك لحد اللحظة دي مش عارف اتخلص منه.
بدلت جلستها لتقعد على ركبتيها المثنية لتقترب منه أكثر: -حاسة بيك، بس ده قدر ونصيب. مكتوب من قبل ما نيجي الدنيا دي.
ثم احتوت كفه بحب وأتعبت: -أنا جمبك ومعاك ووعد مني هنعيش كل المشاعر الجميلة وبس مع بعض ومع ولادنا. وعمري ما هزعلك.
رفع كفها لمستوى ثغره وقبله بحب لا يوصف كمن يقبل كفوف القدر الذي أتى بها لعنده في الوقت المناسب، لم يكتفى بقبلة بل سحبها لحضنه ممتننًا لوجودها معه وقال: -أنت هدية القدر ليا يا حياة. ياريتنى قابلتك من زمان كانت حاجات كتير أوي هتتغير.
داعبته ممازحة كي تكسر روتين تلك النبرة السائمة في صوته وقالت بفكاهة: -زمان ده اللي هو أمتى بالظبط؟
غمغم مفكرًا بعفوية: -يعني نقول من 20 سنة كده!
-يعني أنا وقتها 7 سنين، كُنت هتحب طفلة أخرك تجيبلها بونبوني! أنت ناسي أن الفرق ما بينا 13 سنة ولا ايه!
ثم عقدت حاجبيها مفتعلة الضيق بمزاحٍ: -كبرت يا عاصي بيه!
فرغ فاهه في ذهول وقال بعبثٍ: -أي كبرت دي! متهزريش؟ بنت أنتِ اتظبطي كده بدل ما اظبطك على مزاجي الساعة دي!
انفجرت ضاحكة إثر انفعاله العذب، وتململت بدلالٍ: -الله! بكذب يعني! 13 سنة ولا مش 13 سنة!
قال بازدراء وهو يلوم نفسه بندم: -أنا شكلي اتساهلت أوي معاكِ إمبارح ط…
سدت فاهه بسرعة كي لا يكمل جملته التي أصابتها بحمرة الخجل، صارخة بضحكة كبيرة: -عاصي بس! متكملش.
ثم اعتدلت بأعجوبة من إثر الضحك عليها وبتلك الأعين المغرورقة: -طيب بجد بقا، لو كُنت قابلتني وأنا طفلة 7 سنين، وأنت شاب عشريني كده، كنت هتتعامل معايا أزاي؟
أمعن النظر طويلًا بعيونها وقال بجموحٍ: -افتكر أني كُنت هحبها بردو، لأن سحر العيون الحلوة دي مش بتعترف بالسن.
-أيه يا عم أنت هتسرح بيا؟ هتحب طفلة ده ازاي يعني؟ قول كلام أصدقه؟
تلألأت الضحكات في جنباته وأنامله كعصفورة تتنقل هنا وهناك فوق غصون ملامحها: -أنا لو قابلت صاحبة العيون دي زمان كنت هخطفها وأخبيها من كل الناس وأربيها على أيديا، وأعلمها أزاي تكون مطيعة ومش عنيدة ودماغها ناشفة زيك كدا، وأدلعها. لحد ما تكبر وتبقى أجمل عروسة في الدنيا، وتكون مراتي وساعتها مش هتفارق حضني مهما حصل.
دانت لها مباهج العشق وذابت في موج كلماته العذبة، خاصة عندما امتزجت كلماته بأنفاس القُبل، ثارت تلك المتمردة على أوتار قلبه، وهبت قائمة من جواره: -بقيت بياع كلام واتعلمت البكش مني يا عاصي بيه!
أمسك بكفها كي يمنع رحيلها، ثم وثب قائمًا ليبقى بمحاذاتها. تلاقت الأعين المدججة بتنهيدة حارة انبعثت من صدره، وبنبرة امتنان أردف قائلًا:.
-وجودك جمبي قادر ينسيني نفسي، لدرجة أني قاعد جمبك هنا بهزر وبضحك وأنا مش شايل هم كل المشاكل اللي مستنياني برة الأوضة دي، كأن الهموم بتهرب من فوق كتافي أول ما أكون معاكي.
ثم داعبت أنامله خصلة من شعرها وأتبع بعرفان: -قادرة تخطفيني من العالم كله؛ ليكي أنتِ لوحدك وبس.
هاج قلبها ببلابل العشق المغردة بين أضلعها وقالت: -لو جينا للحق، أنت اللي خطفت قلبي من العالم كله.
فبعض المشاعر لا يليق بها إلا العناق، ختمت جملتها وهي ترتمي بين يديه وتتعلق بحبه ممتنة لذلك القدر الجميل الذي جمع قلبين مثلهما. اندس جسدها الرشيق بين صخور أضلع حبه التي لا ترويها إلا زهورًا. ابتعدت عنه بعد ما أخذت قسطًا وافيًا من المشاعر يشبع روحها لبقية اليوم وقالت بتنهيدة خفيفة:
-أسيبك تشوف شغلك. أنت مريح من إمبارح. كفاية دلع.
كادت أن تفارق ولكن أوقفها ندائه قائلًا: -بالليل كلهم جايين هنا.
-كلهم مين؟ مش فاهمة؟
رد على مضض: -مراد وجيهان. وكمان شمس وتميم.
حاولت استيعاب ما يلقيه على مسامعها: -مش فاهمة! مراد؟ طيب وعالية؟
ثم زفرت بكلل من كثرة أسراره: -عاصي أنتَ مخبي عليا أيه تاني؟
-أقعدي أحكي لك…
بالقصر…
تقف شمس بمنتصف الغُرفة على مضض متحيرة، مترددة في أمرها، تركت تلك القطعة القطنية الخاصة ب تميم وقالت بقلق: -أنتَ متأكد أننا لازم نروح هناك؟
ثم جلست بجواره معبرة عن سبب رفضها بتأفف خفيف: -بصراحة محرجة من حياة وموضوع نوران! وكمان كريم مش موافق! حاسة بحاجة مش مظبوطة ب روحتنا هناك.
هب تميم معترضًا: -كريم مين ده اللي مش موافق! هو هيمشي كلمته عليا في بيتي! طيب عند في كريم بتاعك ده هنروح كلنا يا شمس.
سئمت من عناده: -الله يا تميم! ما تسيبك من العناد ده وتركز معايا؟ أنت شايف الموضوع من زاوية وهو أصلًا من زاوية تانية خالص!
ربت على كتفيها بعجلٍ وهو منغمس في هاتفه: -قومي يا شمس جهزي الشنط. قومي الله يهديكي.
كادت أن تلبي طلبه بطاعة لانها ادركت ان النقاش معه غير مُجدي، ولكن تراجعت كمحاولة أخيرة مستخدمة دلالها الأنثوي:
-طيب أنت مش خايف عليا أنا والبيبي من الطريق والسفر.
ترك الهاتف من يده على الفور ورسى كفه على بطنها المنتفخة: -حاسة بحاجة! في حاجة بتوجعك!
انخفضت نبرة صوتها بدلال مبالغ فيه: -دلوقتي لا. بس ممكن مع السفر والطريق أممم ولا أنت أيه رأيك!
ثم غيرت نبرة صوتها لتتحول لحماس جارف يتقاذف لمعانه من ملامحها: -أحنا هنسمي أيه بجد! أنا نفسي أوي اسميه مصطفى. مصطفى تميم دويدار.
مط شفته بعدم اقتناع: -حلو مصطفى بس مش عاجبني. ويلا قومي اجهزي عشان أنا عارف الحركات دي كويس لانك مستعدة ترغي كده لحد الطيارة ما تفوتنا.
انكمشت ملامحها بضيق شديد: -يعني مفيش فايدة بردو مصمم على رأيك! طيب يا تميم. خليك فاكرها.
هز رأسه متقبلًا حججها الوهمية وقال: -هنبه على الطيار يسوق على مهله.
بالأسفل.
-بس أنا عايزة أروح الغردقة! وبعدين شمس مش هتوافق تسيبني لوحدي هنا.
بنبرة طفولية أصرت نوران على موقفها، قاطعها كريم معارضًا: -الله الله يا هانم من أولها كدا كلمتي مش بتتسمع! وكمان صوتك بيعلي عليا!
وضعت يديها بخصرها وقالت بتمرد انثوي: -لا شوف أنتَ بقا اللي من أولها بتأمر وتنهي كأنك اشتريتني! أنا لسه مالبستش الدبلة على فكرة. بقول لك أيه أنا مش بحب الجو ده. ولا بياكل معايا.
جز على فكيه بنفاذ صبر: -نوران، بلاش تعانديني، انا قلت اللي عندي وخلصت كلامي.
أدركت أن الجدال معه لا يؤدي إلا لطرق مسدودة، ارتدت وشاح المسايسة تلك المرة: -طيب أنتَ رافض ليه!
انفجر معبرًا عن سبب رفضه: -عشان اللي اسمه ونيس ده! يعني أنتِ مش عارفة؟ مش هستحمل يبص لك، أنا هعمل خناقة ومش هشتري خاطر حد.
ضحكة خبيثة ارتسمت على محياها وقالت بدلالٍ: -قول كده، أنتَ غيران عليا يا كيمو، مش تقول كدا من الأول!
ثم تمردد بغرور: -ليك حق، واحدة في جمالي لازم يتغار عليها وتتشال جوه العين كمان.
ردت باختصار يبطنه النفور: -وأديني قولت، اهدي بقا ولميها يا نوران!
طافت حوله كدبور عنيد وقالت واعظة: -أيه لميها دي؟ وانا كنت عملت ايه. طيب وأحنا نعكنن ليه على نفسنا! أنا عندي اقتراح كده ومنها هنخلي يونس ده.
قاطعها بغضب: -ما تقوليش اسمه قدامي بتعصب…
كتمت ضحكتها وقالت بحماس مشتعل: -اخوة حياة، يووه خليك معايا، بص مختصر الكلام ايه رأيك نعمل خطوبتنا في الغردقة، بجد انا نفسي أوي أعمل خطوبتي في مركب على البحر. قول موافق بقا عايزة اروح اجهز الشنط.
يبدو أن الفكرة راقت له ولكنه يأبى الهزيمة أمام إصرارها، تمتم معاندًا: -لا مش موافق بردو ابقى نعمله على النيل ماله النيل! ماهو مية بردو.
أتاهم صوت تميم الأجش من الخلف وهو يقول بلوم: -أنتِ لسه هنا يا نوران! يلا استجعلي مفيش وقت.
نظرت له بأعين تلمح بشيء ما أدركه تميم على الفور، احتدت نبرته بجدية: -قلت اطلعي جهزي شنطتك ومش عايز كلام كتير.
كاد كريم أن يعبر عن إعتراضه ولكن تميم عنفه آمرًا: -وأنت كمان جهز نفسك. الطيارة كمان ساعتين عشان منتأخرش.
غمزت له نوران بسعادة عارمة وهي تقفز وتصفق كالأطفال: -أنت أجدع تميم في الدنيا، كنت فين من بدري، البيه نشف ريقي.
بأحد الشقق السكنية.
-ياما قولت لكم، ياما حذرتكم أنتوا مش أد واحد تربية اللي اسمها عبلة دي، أنا عارفاها أكتر منكم، دي ولية سماوية.
بحرقة الهزيمة صاحت سميرة بوجه زوجها وأخيه وشرعت في توبيخهم. ثم أتبعت:
-عاجبكم كده، لا حصلنا بلح الشام ولا عنب اليمن يا حسرة، أهو طلع الولد وقش كل الورق. هاا عاجبك كده يا شاكر يافاهم!
جهر شاكر بغضبٍ: -ما تسكت مرتك يا شاهين! وأحنا كُنا هنعرفوا منين أنه ابن زهرة. ابن المحلاوي لازم يتربي على حركة النقص دي.
انفجرت بوجهه بحنق وهي تندب على وجنتيها: -أنتَ ايه مابتحرمش! عايز تعاديهم تاني!
هتف شاهين بسخط: -أحنا اتغدر بينا يا سميرة، عارفة يعني أيه اضحك علينا من شوية عيال!
-ده أخرة اللي يبص لفوق. رقبته بتتكسر يا شاهين، وده بالظبط اللي حصل لك أنت وأخوك. ياريت تهدوا بقى وترجعوا لعقلكم، كفاية خساير لحد كده…
في تلك اللحظة رن هاتف شاكر باتصال تليفون، أجابه على الفور: -وصلت لعزمي بيه؟
رد الآخر بيأس: -عزمي بيه في النيابة بيتحقق معاها هو وعادل الشيمي.
تمتم بصدمة: -أيه؟
قبل شهرين.
-أنا مش واحدة تحت التدريب يا بشمهندس عشان يضحك عليها كده، الفايلات اللي على اللابتوب سحبتها ليه!
بأحد المقاهي المُطلة على النيل، ألتقت روفان ب مراد بعد علمها بما سُرق من جهازها الشخصي، كانت جملتها حادة تحمل لهيب المواجهة وصقيع الاتفاق، بنبرة ممزوجة بهواء النيل أرفت جملتها الأخيرة، استقبلها مراد بهدوء تام ف سألها:
-وأنا ممكن أعرف أنتِ محتفظة بملفات زي دي ليه؟
التوى ثغرها بضحكة خبيثة ثم أردفت متعجبة: -مش شايفة أن السؤال ده من حقك خالص. أنا حرة.
أسبل عينه مسايسًا: -اعتبريه سؤال فضولي!
دنت منه خطوة سُلحفية ؛ وقالت: -مش مجبرة أرضي فضولك، بس ه…
ابتلعت كلماتها ببسمة خفيفة ومريبة في آنٍ واحد، ثم قالت بجدية: -اعتبرها ضمان، بضمن نفسي ضد أي تهمة. عادل وعزمي مش كل شغلهم تمام، عزمي ب يعك وعادل بيخلي العك ده قانوني. واللعب مع الناس دي لازم تكون عينك في وسط راسك وتكون متأمن كويس أوي.
تفقد ملامحها بنظرة أخيرة قبل أن يولي وجهته للماء واضعًا كفه في جيب بنطاله وقال: -وأنا بعمل زيك بالظبط. عايز أكون متأمن وأنا بشتغل معاهم…
وقفت نفس وقفته وعقدت ساعديها وهواء النيل يطاير خصلات شعرها الشقراء: -كده يبقى هدفنا واحد. محدش هيعرف بالفايلات دي، بس بشرط!
طلت لوجهته وأكملت: -من دراستي عنك، عرفت أن مش مراد المحلاوي اللي يبيع قرايبه وأهل بيته، واتأكدت لما قابلت عاصي دويدار من يومين فاتوا في وسط النيل.
جحظت عيناه بذهول مما وقع على مسامعه، فهرولت مبررة: -متقلقش، محدش عرف ولا هيعرف. أنا بحترم الناس المخلصة اللي زيك، لو كنت بعتهم فعلًا كُنت هزعل، المهم…
رد بإيجاز وهو يطالع ساعة يده: -هااه اللي هو؟
-عارفة أن عاصي دويدار مش هيسكت، وآكيد محضر ضربة جامدة للكل، بس ده مش هيحصل غير لما أطلع من البلد، وشيك ب مليون دولار يكون على مكتبي، ووقتها هسلمك الورق اللي يودي عادل وعزمي ورا الشمس. لأنهم مش ناويين على خير لأي حد من عيلة دويدار.
ثم غمرت بطرف عينيها بخبث: -ده طبعا ولا حاجة في الملفات اللي أنت أخدتها من عندي. فكر وهستنى ردك…
#باك…
عادَ مراد إلى رُشده عند هبوط عجلات الطائرة لمطار الغردقة على صوت أمه المنادية باسمه: -مراد! سرحان في أيه طول الطريق؟
غمغم بعدم اهتمام وهو يلملم أغراضه: -متشغليش بالك. استعدي عشان ننزل…
ب يلا عاصي دويدار…
استقبلت حياة سيدة استقبالًا حارًا وهي تعانقها بحب واشتياق و تهتف معبرة: -أيه الغيبة دي كلها! حقيقي وحشتيني أوي، والبيت من غيرك ملهوش طعم.
ربتت سيدة على ظهرها بامتنان: -والله أنتِ اللي وحشتيني أكتر يا بنتي.
أردفت حياة ممازحة: -أنا لو وحشتك كُنت هتغيبي الغيبة دي كلها بردو!
بررت سيدة سبب غيابها قائلة: -البلد ومشاكلها يابنتي، وأديني أهو رجعت لكم، مقدرش ابعد عنك أنتِ وسي عاصي…
مالت حياة على مسامعها هامسة بارتباك بين: -طيب ادخلي بقا المطبخ أقفي مع البنات اللي جوه، أنا قلقانة منهم أصلا. ف دي مسئوليتك، عارفة إنك تعبانة من السفر، بس اعذريني عاصي فاجأني بعزومة قرايبه على العشا و كلهم جايين بالليل وأنا مش عارفة اتصرف.
ربتت على كتفها بهدوء كي تطمئن: -متقلقيش، ولسه معانا وقت. متشليش هم وأنا هظبط لك كل حاجة.
أرسلت لها ابتسامة امتنان وهي تمتم بحذرٍ كي لا يسمعهم أحد: -سيدة، أنا هتجنن على طبق ملوخية من أيدك، ممكن تعمليها النهاردة.
-من عينيا أنتِ تأمري أمر يا ست البنات.
همت سيدة للذهاب للمطبخ لترؤس تلك الفتيات الجدد الذي أخصهم عاصي بالشغل بمنزله، أخرجت حياة هاتفها وبمشاعر مثقلة اتصلت برشيد الذي بدأت مكالمتها معه بدون بوادر ترحيبية:
-النهاردة أهل عاصي جايين ولازم تكون موجود!
رد بتأففٍ: -مش طرديني من بيتك، أنا مش راجع يا رسيل.
احتدت نبرتها وهي توبخه بجبروت رسيل المصري قائلة: -اللي هقوله يتسمع وهتيجي، وجهز نفسك هتتجوز فريال الخميس الجاي. ورحمة أبويا وأمي يا رشيد لو ما صلحت اللي هببته لا هتبقى أخويا ولا أعرفه.
قفلت المكالمة بدون استأذن وصعدت لأعلى ل غرفة فريال تحديدًا، فتحت الباب عندما عجزت عن تلقياها ردًا يسمح لها بالدخول. دلفت للغرفة وهي تنادي عليها كي تخبرها بموعد زواجها من أخيها. طافت بالغرفة دون جدوى فلم يتبقى لها أثر، طرقت على باب الحمام بخفه منادية باسمها بعد ما تسرب القلق لأوصالها. فتحت الباب وامتد نظرها للداخل فلم تجدها أيضًا. عقدت حاجبيه بذهول متسائلة:
-هتكون هي راحت فين؟
تراجعت للخلف وأخذت تفتش فالغرفة التي وجدتها خالية من ملابسها وكل أغراضها، اعترتها الحيرة حتى التقمت عينيها تلك الورقة البيضاء الموجودة فوق الكومود. أقبلت عليها حياة وفتحتها. حروف متشابكة بخط اليد وبعض الكلمات التي غمرها الدمع:.
– أنا مشيت يا حياة، مشيت ومحدش يدور عليا لأني مستاهلش. من يوم ما دخلت بيتك وأنا كنت ناوية أخليه جحيم، جاية انتقم وأخد حق فريد أخويا، بس هدفي مكنش رشيد خالص، أنا كنت جاية وعيني على جوزك. كنت عايزة ادمرك و أدمر حياتك، جوزك للاسف مدانيش سكة مالقتش قُدامي غير رشيد، كنت فاكرة كده هنتجوز أسرع، بس غلطت و أديني بدفع التمن، أنا مستاهلش إنك تخسري أخوكي عشاني كلامك أثر فيا أوي. أنا مشيت ورايحة عند خالتي في الصعيد أقعد عندها. سامحيني وسامحي فريد كمان، ف.
يقال أن الإدراك يُشبه النوم. كالنوم تمامًا ؛ لا تدري متى جاء ومن أين تسرب إليك، لكنك تصحو مع ضوء الشمس متسائلاً كيف غبت عن وعيك. كيف خضعت لجبروته. جلست بهدوء على طرف الفراش وهي تتلقى صدمة جديدة من نوعٍ أخر. انكمشت ملامح وجهها ولم تردف إلا كلمة واحدة الجميع يعلمها ولكننا نظل تائهين بين دروبها عمرًا كاملًا. بتنهيدة الأسى:
-ليه؟
بالأسفل.
بخطوات ثقيلة جدًا وببطن منتفخة في أشهر حملها الأخيرة تسير عالية ببطء ناحية المطبخ على لحن أنفاسها المُتعبة والمرهقة من عناء الحمل، اندفعت لعندها سيدة وهي تسندها بلهفة وتجر أحد المقاعد الخشبية كي تجلس فوقه:
-ياست عالية، وحشتيني والله، أيه نزلك بس وأنتِ تعبانة كده.
تحدثت بنبرة تحمل تأوهات الوجع والألم: -اتخنقت من السرير يا دادة.
-طيب ارتاحي يا حبيبتي. كلتي ولا أجيبلك حاجة تسندك؟
تمتمت بخفوت: -لا مش عايزة أكل، ممكن كوباية عصير برتقال، عايزة حاجة مسكرة.
لبت سيدة طلبها على الفور: -هعملهالك بنفسي. بس كده!
ف مصنع عاصي…
وخاصة بالجزء المحترق من المصنع، يجلس يسري مربوطًا بأحد المقاعد الخشبية وعلى فمه شريطًا لاصقًا. اقتحم عاصي المكان بجبروت يحمل غضبه الشديد من يسري، تابعه كمال وعدد لابأس به من الرجال. بدأت خطواته السريعة تتمهل عند اقترابه منه وهو يتحدث بتلك النبرة التي تحمل عاصفة يمكن أن تفتك ب يسري في الحال. صرخ بوجهه قائلا بصوته المرعد:
-بتبيعني أنا يا يسري دا أنت نهايتك على أيدي!
تدخل كمال ممسكًا به: -عاصي باشا أهدى، وسيبلنا أحنا الطلعة دي.
سيل من النظرات الغامضة والمجهولة ممتد بين عيني عاصي ويسري، أومأ عاصي بهدوء يحتوي على إبهام مريب، أخذ نفسه بارتياح ثم دار حول المقعد الجالس فوقه يسري، طأطأ قليلًا وشرع بفك الحبل الذي يقيد حركة يده. تقدم أحد الرجال ليتولى المهمة عنه ولكنه تراجع بنظرة من عيني عاصي. فرغ من تحرير يدي يسري المغلولة ثم رفع الشريط اللاصق عن فمه. توجع يسري قليلًا وعيني تتأرجح بتشتت مترقبًا رد فعل عاصي المنتظر.
وقف عاصي أمامه بعد ما شد السلاح من خصر أخد الرجال الواقفين وصوبه نحو رأسه قائلًا: -هاه، وقولتلهم أيه كمان عني!
ثم رفع حاجبه ممزوجة بضحكة خبيثة ارتسمت على محياه عندما قرأ ارتباك يسري، تبدل غريب ومهيب من شخص مثله يواجه عدو له. لف السلاح بيده ورماه لصاحبه مبتعدًا خطوة وقال جاهرًا:
-بقى تتجوز ومتعزمنيش على الفرح يا يسري، عجبتك قعدة الشرقية ولا ارتحت من شغلنا؟
زفر يسري بارتياح وهو ينفض الأحبال عنه وينهض ضاحكًا ليعانق قائده وهو يقول ممازحًا: -جت فجأة يا بُص!
عانق الرفاق بعضهم تحت أمطار النظرات الضبابية من أعين الواقفين. ضرب عاصي على ظهر مساعده ورفيقه بامتنان: -ليك وحشة يا أخي، بس بأنامة من يوم ما بعدت عني وأنا حياتي كلها اتعدلت!
-أدينا رجعنا وهنرجع أيام الشقاوة من تاني ياباشا…
-مع نفسك. يلا عندنا شغل يهد جبال!
تدخل كمال باندهاش لما يراه، كيف لعدو يلحقه منذ أشهر وعند العثور عليه يتعانقان هكذا: -عاصي بيه؟ هو في أيه؟
ضحك منه ملء الفم وقال: -في أن يسري ميبعش عاصي دويدار مهما حصل، ولو على رقبته.
ما زال كمال تحت سطو اندهاشه بأعينه الجاحظة: -طيب كان أيه لزمتها نجيبه متجرجر كده!
رد ببرود: -عشان معزمنيش على فرحه ابن ال…
#فلاش باك…
قبل عام…
بأحد مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية، منذ تلك اللحظة التي دخلت فيها عبلة لتلك الغرفة وهي لم تردد إلا اسم عاصي. تصرخ باسمه كي يأتي لها، ولحسن حظها عرفها واحد من طاقم التمريض عندما كانت تتبرع بأموالها للأعمال الخيرية، هنا توصل لرقم ابنها عاصي دويدار وأبلغه بأنها تهذي باسمه وعليه أن يأتي ربما يساعدها في تجاوز تلك الحالة العصيبة، تردد كثير في الذهاب إليها حتى قاده فضوله أن يقابلها ربما تُصلح أمرًا ما بحياته المنقلبة رأسًا على عقب.
وبعد تفكير طويل…
يجلس على طرف مخدعها يتحمل هذيانها وفقدانها لعقلها الذي ذهب مع مهب الريح حتى سئم من تلك الثرثرة الغير مُجدي، يتأهب للذهاب حتى نادته قائلة بحالة من التيه:.
-أنا كذبت، ولسه مصدقة الكذبة، أنت مش ابن تحية. تحية خطفت جوزي مني، تحية كانت بتستغلك عشان تاخد جوزي وبس، أنا قتلتها عشان هي تستاهل تموت، هي خاينة، خبت عليا حمل زهرة وراحت تخدمها ولما ماتت خدتك وربتك وحبت جوزي، أخدتكم أنتوا الاتنين مني كانت هتدمر حياتي وتبقى هي سيدة البيت. بس على مين قتلتها…
بأعين تهدل على أسوار الحيرة: -زهرة مين؟ عبلة أبوس أيدك ركزي، زهرة دي مراة أبويا وماتت أنا فاكر، فاكر كل ده. أي علاقتي بيها!
ضحكة غريبة انشقت من ثغرها وهي تتمتم بهذيان: -زهرة تبقى أمك، خالك إبراهيم لو فتح بؤه واتكلم هموته وأحرق قلبه على ولاده. زهره أمك، أنا مابخلفش…
بعد عدة أيام من ذلك اليوم…
اتصال هاتفي من يسري: -عاصي بيه أنا لقيت إبراهيم دويدار وأكد كل كلام عبلة وماصدق عشان يشهد. الرجل تعبان أوي وشكله في آخر أيامه. لازم نتحرك ونرفع قضية عشان نلحقه قبل ما يروح مننا…
هز رأسه مدبرًا: -لا يا يسري، أنا مش هرفع دعوى إثبات نسب. أنا هحرك اللي يرفعها وحقي يرجع لي باشا وأنا قاعد في مكاني!
صعد يسري سيارته قائلًا: -لا رسيني كده عشان نظبط اللعبة سوا!
قفل باب الغرفة كي لا تسمعه حياة وقال: -لسه بتقابل ولاد دويدار وبتنقلهم أخباري! عايزك بقا تزود العيار وتشكك في نسبي كمان وكمان وهديك كل الأدلة. وأنا هراقب الجو من بعيد.
استغرب يسري لحديثه قائلًا: -لا بردو ما فهمتش!
اختصر عاصي الحوار قائلًا: -أنا هسيب الدنيا كلها لتميم بمزاجي وهمشي، واعرفهم إني بايع ومستغني، بس عشان لما أرجع يكون على حق ومحدش صاحب فضل عليا أو يتهمني بالتزوير وما شابه. ركز معايا بالحرف عشان الغلطة هتودينا ورا الشمس…
#باك…
يسير عاصي برفقة يسري إلى سيارته السوداء، ثم وقف مليقًا أوامره على آذان كمال قائلًا: -هبعتلك رقم تليفون شيرين دويدار، عايزها تمسك مديرة العلاقات العامة في فرع الشرقية. وكمان تروح لشاكر وشاهين وتسلمهم إدارة الشركة مقابل 40 من الأرباح، وتفهمهم أن عاصي دويدار بيفتح معاهم صفحة جديدة.
كاد أن يصعد سيارته لكنه تراجع: -وكلم المحامي، يقسم أملاك دويدار على الورثة ويكتب نصيب كل واحد بيع وشرا مني. وعالية تاخد نصيبها بالكامل.
مازال كمال في حالة من الذهول لم يستطع تخطيها، أومأ بالإيجاب مندهشًا بدهاء رجل مثله وقال: -تمام يا باشا…
عودة إلى القصر
-مامي أنتِ بتعيطي ليه؟ أنتِ مضايقة؟
أردفت تاليا سؤالها الآخير عندما رأت العبرات تسيل من مقلتي رسيل بدون إرادة منها. جففت دموعها سريعًا وقالت بابتسامة مزيفة محاولة تجاهل أمر فريال وقالت:
-لا يا حبيبتي مش مضايقة ولا حاجة، بالعكس أنا جاية أقولكم على خبر هيبسطكم أوي.
تحمست داليا وهي تقترب منها بفرحة: -يلا قولي بسرعة.
تأرجحت عيني حياة اللامعة وهي تداعبهم بفرحةً: -مستعدين! أقول يعني؟
-يس، قولي بسرعة.
-جاهزين!
ثم أخذت نفسًا طويلًا وهي تعانق بطنها وقالت: -أنتو مش كان نفسكم في بيبي تلعبوا معاه، أحب أعرفكم أن أخواتكم موجودين هنا وبعد كام شهر هيجوا ويصدعونا ونلعب معاهم كلنا.
فرحة عارمة قفزت بملامح الصغار وهن يهللن بسعادة تتقاذف من بين كلماتهن. عانقتهم حياة بحب وضمتهن إلى صدرها وقالت: -هنكون أسعد عيلة سوا، وكلنا هنحب بعض. أنتوا هتحبوهم أوي مش كده!
تدخلت داليا متسائلة: -كام بيبي هنا؟
أومأت تاليا بسعادة وقالت: -وهما ولد ولا بنت؟
هزت حياة كتفيها بجهل منها: -لسه معرفش إذا كانوا ولد ولا بنت!
ثم داعبت انف داليا برقة: -هما 2 يا لمضة وبس، زيك أنتٍ وتوتا كده.
ضحكت الصغيرة بتلك الضحكة اللذيذة وقالت: -طيب هيجوا بعد كام يوم!
-بردو مش عارفة؟ بس أحنا مستنينهم مش كدا؟
صوت رنين جرس الباب، فهتفت سيدة قائلة للبنات المنشغلن بالمطبخ: -ركزوا أنتوا، هفتح أنا الباب…
أخذت عالية كوب العصير بيدها واتبعت خطوات سيدة كي ترى هوية الطارق. فتحت سيدة الباب ففوجئت بمراد يحمل على عاتقيه باقة ورد كبيرة وتقف جيهان ورائه بوجهٍ عابس، توزعت نظرات سيدة هنا وهناك بين عالية الواقفة بعيدًا ومراد الذي يقف أمامها، هتفت عالية قائلة:
-مين ال جيه يا سيدة؟
ظهر مراد من الباب ليقف ثابتًا أمامها لا يعرف من أين سيبدأ، سيل جارف من النظرات التي تحمل العتاب واللوم والشوق والحب والإعتذار، جمة مشاعر معقودة بالقلب لا تقرأها إلا أعين مغرمة، بقلب يعتصر ألما متسائلة ؛ وما جدوى الحب إن كان وقت الشدائد غائب! سقطت كاسة العصير من يدها عندما ألتقت بحبيب قلبها العاصي. رمى باقة الورد لسيدة وهرول لعندها كي لا تتأذى قدميها…
جاءت رسيل من أعلى بصحبة الفتيات متسائلة من أعلى: -مين ال جيه يا سيدة.؟
قد يحدث وتتصلب قدماك متأملًا بلا أي ردة فعلٍ تُذكر لأن المشهد أصغر من أن يستفزك وأكبر من أن تتجاهله وتمضي. اخترق الجميع وذهب لعندها وحملها بعيدًا عن فتات الزجاج المهشم. مازالت تحت سطو الصدمة التي انستها كيف سيكون العتاب!
دارت رسيل جهة الفتيات وقالت بحنو: -ممكن نرجع الأوضة وتلعبوا، لأن ده كلام كبار مش هيصح نشوفه! ممكن؟
استقبلا طلبها بطاعة وذهبا تلك الفراشتين ليلعبان بغرفتهم، قطعت رسيل دراجات سُلم بيتها وتلاقت عينيها بعيني جيهان التي تحمل تارًا قديمًا، ولكن خيبت رسيل أملها الشرير واستقبلتها بابتسامة مرغمة: -أنتِ في بيتي اتفضلي…
جثا مراد على رُكبتيه تحت أنظار عالية التي ترتعش من هول طلته المباغتة، وضعت في صراع محتدم بين قلبها المشتاق وعقلها الرافض، وصغيرتها المتعبة، مال على كفوفها وقبلهما بحرارة: -أسف، وحقك عليا. وكل كلام الدنيا مش كفاية. سامحيني ياعالية سبتك في أكتر وقت صعب. وحشتيني أوي.
سحبت كفوفها المرتعشة ووبخته: -أبعد عني، أنا مش طايقة أبص في وشك يا مراد.
رفض تمردها قطعًا وهو يجبرها أن تنظر له: -لالا. لا يا عالية أنتِ فاهمة غلط، أنا عمري ما بعتك أنتِ وأخواتك، عمري ما اقدر، كل اللي حصل ده…
هبت صارخة بوجهه: -كذب تاني؟ هتكذب تاني؟ ومستني اسامحك تاني، مراد أنتَ.
تدخلت حياة في حوارهم بهدوء: -حبيبتي، مراد هو اللي ساعد عاصي يثبت نسبه لباباه. الموضوع مش زي ما أنتِ فاهمة.
اهتزت عينيها بشكٍ عندما وقعت جملة حياة على مسامعها، فأكملت حياة قائلة وهي تشير نحو غرفة عالية: -مراد، أوضة عالية دي. خد مراتك واتكلموا براحتكم.
ثم ربتت على كتف عالية: -عشان خاطر بنتكم اسمعيه يا حبيبتي.
كادت أن تقف، ان تهرب، ألا تواجه حتى ولو كان مقصده خيرًا، فلا يوجد عذرًا واحدًا لهجر قلب المحب، ألا تعلم بأنه يحترق شوقًا كل ليلة؟ لاحظ عدم اتزانها فحملها بدون تردد، فنهرته مصرة غير مهتمة بصدح قلبها المتراقص الذي عاد لموطنه للتو بعد أعوام من الغربة:
-متلمسنيش! نزلني يا مراد.
تجاهل ثرثرتها وعنادها وسار قاصدًا غرفة واحدة تجمع قلوبهم المتفرقة. تقدمت رسيل ل جيهان وقالت مشيرة ناحية غرفة بالدور الأرضي: -أوضة الضيوف هنا، ممكن تتفضلي ترتاحي شوية…
بغُرفة عالية…
بنظرة مثقلة تُعلن فيها ألا تنتظر اعتذارًا، ولا ردّ اعتبار، ولا استعادة حق، ولا تصحيح مواقف بُترت القلب. بنظرة تعلن فيها عدم الرغبة ب عودته. لقد تعافت منه واكتفت بصغيرتها تمامًا لم تغفر، ولكن تعافيت وتعلّمت، قفل مراد الباب وعاد إليها بهدوء. أمسك بكفيها بحنان بالغ وقال:.
-عالية. بصي لي عشان خاطري، أنا عمري ما كنت هعمل حاجة ازعلك. عاصي اللي طلب مني أبعد عنك عشان متتأذيش، محدش يقرب لك ويبعدك عن أي مشاكل.
صمت للحظات منتظرًا منها أي رد، ولكنه يأس من جوابها، فأكمل: -والدتك كانت عارفة كل ده، وهي اللي اكدت عليا متكلمش. متصعبيش عليا الدنيا أكتر ماهي صعبة.
رمقته بنظرات متهرية وقالت بصوت متهدج بالبكاء: -يعني كلكم اتفقتوا عليا! كلهم اتفقتوا على وجع قلبي. كلكم فكرتوا في مصلحتى الا انا عيلة صغيرة متعرفش حاجة نخبي عليها! أنت شاركتهم في وجعي، مجاش في بالك أنا نايمة بالليل لوحدي حاسة بايه.
سحبت كفيها من قبضته بامتعاض وأكملت: -بلاش دي، مفكرتش في الطفلة اللي بتكبر في بطني دي يوم بعد يوم وأنت مش موجود وانا مش أقولها أيه لما تيجي الدنيا! حتى ولو لعبة ولا اتفاق يا مراد، أنا عمري ما هسامحك ولا هغفرلك، أنا محدش عاش معايا وجعي ومش مضطرة أعدي السخافة دي بسهولة كده!
بذهول من جفائها: -يعني أيه يا عالية؟
ردت بحزمٍ: -يعني اللي سمعته يا مراد، أنا خلاص رتبت حياتي أنا وبنتي، وأنتَ ملكش وجود فيها.
ما زال تحت تأثير صدمته من تلك القسوة المندلعة من شدقها وقال برفض قاطع: -مش بمزاجك يا عاليا. مش بمزاجك، الكلام ده مش هيحصل وبنتنا هتتربى وسطنا. أنا متأكد أن الكلام ده مش من قلبك.
أغرورقت عينيها بالعبرات وقالت بحزن: -خلاص خلصت يا مراد. خلصت.
-مفيش حاجة ابتدت عشان تخلص يا عالية!
بالأسفل…
-سيدة أخبار الأكل أيه؟ كله تمام، في حاجة ناقصة؟
أردفت حياة بقلق وهي تُشرف على الطعام والتحضيرات الخاصة باستقبال ضيوفها. ربتت سيدة على كتفها: -كله تمام ياحبيبتي ريحي أنتِ واقفة من الصبح على رجليكِ. أنا عاصي بيه موصيني عليك، كده هيزعل مني!
اتسعت ابتسامتها بفرحة: -هو قال لك!
-طبعا قال لي، أنا جيت من البلد طايرة عشان مين يعني؟ روحي ارتاحي.
تقبلت نصيحتها وقالت: -لا هروح أجهز عشان خلاص شمس وتميم على وصول، جهزي السُفرة واستلمي أوردر الحلويات، الحساب هتلاقيه بره على الترابيزة.
خرجت من باب المطبخ فألتقت بعاصي العائد للتو. ركضت إليه وعانقته بلهفة وقالت بعتب: -كل ده بره!
مسح خصرها المرسومة بكفيه وقال معتذرًا: -الشغل مش بيرحم.
ثم نظر بوجهها: -رشيد جاي ورايا.
أومأت بخفوت ثم قالت بهمس: -مامت مراد قاعدة في الأوضة جوه. وعالية ومراد في أوضتها فوق، بس مفيش أي صوت ليهم ويارب تسامحه بقا.
ثم اتسعت ضحكتها وأكملت بتلك الأعين اللامعة: -قلت للبنات إني حامل، فرحوا أوي.
وسرعان ما انكمشت ملامحها وتفوهت: -وحاجة كمان بخصوص ف
قاطعها قائلاً بمزاح: -أيه كُل ده بالراحة عليا! المهم أنتِ مش في سريرك ليه! أنا مأكد على سيدة…
ضحكت بصوت مكتوم وقالت: -عشان الضيوف ما يصحش.
ثم تحمست وقالت: -تعالى خد شاور بسرعة عشان تميم وشمس راح السواق يجيبهم وعلى وصول.
أمسك بكفها وسحبها خلفه برفق متجهًا نحو غرفته، في تلك اللحظة جاء المندوب المختص بتسليم أوردر الحلويات الذي استلمته سيدة…
مرت قرابة النصف ساعة فرغ الثنائي من أخذ حمامهم الدافئ معًا، يقف عاصي أمام المرآة يختار رابطة عنقه أما عنها تقف ملتفحة بالمنشفة البيضاء حائرة أمام اختيار أحد الفستانين حتى زفرت ممتعضة وهي تمسك بالفستانين وسألته: -حبيبي ألبس أيه؟ المو ولا الازرق.
ألقى نظرة سريعة ثم أشار على اللون المو : -ده جامد. واستعجلي يالا.
تركت الفستانين من يدها، وتسللت لتكون عازلًا بينه وبين المرآة، تدلت يده عن رابطة عنقه ليتيح لها الفرصة بربطها اتكأت على طرف التسريحة ورفعت بحيرتي عينيها الزرقاء لعنده وسألته: -مبسوط! يعني ارتحت بعد حكم المحكمة!
مط شفته مُفكرًا في السؤال ثم أردف: -أنا عمري ما عرفت أكون مبسوط غير معاكي. بس أقدر أقول لك ارتحت ااه.
ثم استقر كفه على بطنها: -ارتحت عشان افوق لك أنتِ والجوز الجديد اللي جاي.
ما حدث أنه أصبح بقلب لم يعد يخاف، ظفر بوضع المسافات بينه وبين كل من حوله، مضى كالقطار دون أن يترك شيئًا منه مع أحد، أطالت النظر بعينيه المقمرة كمن يُناضل من أجل اختطاف لحظة واحدة هادئة وسعيدة يختبئ بقلبها. ما زالت تعبث برابطة عنقه، تنهد بمشاعرها الجياشة متتوقه إليه ؛ فسألها بمكر:
-مش مرتاح للنظرة دي. مالك!
ابتدرت عيناها بنظرة اعتراف تفصح عن أنه أكثر الأشياء حبًا لروحها، قالت: -بفكر أزاي ممكن أعوض الملامح الجميلة دي.
ثم وضعت كفها على قلبه وأكملت بنفس النبرة: -والقلب ده عن كل الأسى والأيام الصعبة اللي شافه.
تغلغلت يسارها بجدائل شعره من الخلف ودنت أنفاسها من تلك الملامح كأنها تود تعطيرها بعبير الحب، همهمت له بمشاعر جياشة وعظام صدرها تعلو وتهبط تحت أنظاره:.
-تعرف، أنتَ الرجل اللي مسكت قلمي وبدأت اكتب عنه، أنت اللي كنت رسماك في خيالي وبحلم تكون معايا العُمر كله، كنت بتخيل حاجات كتير أوي مش هينفع تكون غير معاك وبس، ياما كلمت نجوم الليل عنك. ودلوقتِ أنا ممتنة للقدر اللي جمعني بحبيبي الخيالي، وبقى واقف بين أيديا وليا لوحدي…
كمن غرس نجمةً في خياله فأصبحت قمرًا يضيء عالمها المعتم. طوق خصرها بساعده لتصبح جزءًا لا يفارقه ذائبًا في تلك الموجة العاتية التي هجمت على قلبها دفعة واحدة. تفاقمت ضربات قلبها وبللت حلقها الذي جف من ولعة تلك المشاعر النارية: – أقول لك على أخر سر في قلب رسيل.
-سر عليا!
بمخالب امراة ثورية اضناها العشق ؛ اعترفت: -أنا لسه فاكرة كويسة أول اليوم اللي رميت فيه الفلوس قُدامي مُقابل إني أكون معاك ل ليلة واحدة.
بلعت ريقها فبرزت تلك العروق، تلعثمت ثم أتبعت: -أنا شوفت الحب في عينيك وقتها بس كنت بتكابر قدامي، كنت بسأل نفسي طول الوقت يا ترى أي أحساس مشاعر الحب اللي هتطلع من راجل جبروت زي ده! كان عندي فضول رهيب أعرف.
ابتسامة خفيفة شقت ثغره وهو يسألها بخبث: -ورفضتي ليه وقتها؟
-عشان أنا طماعة، كنت عايزاك ليا كُل ليالي عمري، مش لليلة واحدة وبس. ولقد كان.
ثم اندلعت منها ضحكة رقيقة وهي تعبث بزر قميصه الأبيض: -جيت تصطاده اصطادك. ولا أيه رأيك؟
صعدت أنامله لأعلى، خاصة لمربط ذلك الوشاح الملتف حول جسدها المُغري لقلبه دومًا، وهو يقول معترفًا: -من خمس دقايق بس كنت فاكر نفسي أذكى واحد في الدنيا دي، طلع فيه اللي سابقة عاصي دويدار بمراحل…
-تربيتك يا بُص.
بقبلة خفيفة كانت من نصيب وجنتها اعترف: -أنا بحبك.
تذكرت حينها اعتراف فريال القاسي، وتمتمت له بيقين: -دي الحاجة الوحيدة اللي الزمن بيثبتهالي يوم بعد يوم…
إمرأة قادرة أن تنقل الضوء من شمعة لشمعة، من قلبه لعقله لجميع جوارحه، سُكر بملاذ القُرب الذي لم يقاومه، لأول مرة يراها مُقبلة عليه بتلك المشاعر الفياضة حد ردها للقبلة بقُبلتين، لن تدوم سكرات حبهم الأبدي طويلًا إثر صدور صوت التلكسات التي تُعلن بوصول أخيه وأسرته. بشيء يشبه انفصال الروح عن الجسد، انفصل قلبهما، وهي تقاوم ذلك القلب المتراقص والأنفاس المتسابقة منها، استندت على التسريحة خلفها وقالت بصوت مُتعب، ومدجج بالإرهاق:.
-تميم وصل، انزل عشان تستقبلهم، مينفعش تتأخر عليهم.
فمن يرسل شخصًا إلى أسمى درجات العشق ويتركه بنتصف الطريق كيف يبقى جيدًا في حياته دون اضطراب مما فُتل، أقبل إليها وطوقها بيساره وأمسك كفها بيمينه متسائلًا: -أنتِ كويسة طيب؟
-لا…
بنظرة تعلن رفضها، وأنها لست بحالة جيدة أن يفارقها ويبتعد عنها. اعتصرت كفه كي لا يتركها. تلاقت أعينهم وكأنها تعزف لحنًا لدرويش: ف بعضي لديَّ وبعضي لديك.
و بعضي مُشتاقٌ لِبعضي فهلّا أتيت!
كمن لامس السماء فثارت بالفعل عاصفة في كيانها أنقلبت إلى موجٍ متراقص يرفض بُعده، جذبها إليه بضحكة خفيف ثم قال بصوت خافت: -كُنا بنقول أيه؟
بالأسفل…
احتشد الجميع، و هبط مراد بصحبة عالية من الغرفة بوجهٍ عابس بعد ما يأس من كثرة المحاولات معها التي أعلنت عصيانها للعودة. صافحت عالية شمس والبقية ثم أمرت سيدة:
-مية وعصير يا سيدة بسرعة.
حضن تميم صديقه بشوقٍ: -كُنت متأكد أنك متعملش حاجة زي كده.
ضحك مراد بثقل: -مبروك علينا كلنا.
التفت تميم متسائلًا: -أنتَ هنا من بدري؟ فين عاصي.؟
همس كريم بأذان نوران الجالسة واضعة ساق فوق الأخرى، وبتلك النبرة الحادة:
-نزلي رجلك دي، ومتضحكيش، ومتسلميش على اللي ما يتسمى ده، وعدي اليومين دول على خير أحسن ما نعديهم في التخشيبة.
تمتمت بتمرد تحذيري: -كريم مش بحب الجو ده! انبسط وفك كده، أنت شوفت البحر حلو ازاي!
لكزها بغضب: -تقولي حاضر وبس.
حدجت أنظارها بإعتراض: -ليه! أنت جايبني من سوق العبيد! ده بدل ما تسمعني كلام حب وتدلعني، قاعد بتبيع وتشتري فيا!
ثم أشارت بسبابتها محذرة بصوت خفيض: -كريم أنا بحذرك. تغير أسلوبك ده معايا وإلا.
-بالجزمة على دماغك، عشان أنا لا طايقك ولا طايق اللي اسمه بقدونس ده ولا طايق الغردقة كلها، ف لميها يا نوران بدل ما أزعلك.
وضعت كفها بخصرها كالأطفال: -ولا تقدر تعمل أي حاجة. ومش لامة حاجة، هي و متبعترة كده عاجباني.
نظرت لهم شمس كي يتوقفان عن ألاعيبهما الطفولية التي لم تهدأ طول الطريق. هامسة بعتب: -انتوا مش هتبطلوا جنان! بطلوا بقا.
بغُرفة عاصي ؛ انتهى من ارتداء سترته الرمادية متغاضيًا عن رابطة عنقه التي سحبته من قلبه لعندها، ارتدى ساعة يده بعجل ثم عاد للجالسة بمنتصف مخدعه وقبل رأسها بحنانٍ قائلًا:
-هستناكي تحت.
ربتت على كتفه بهدوء ينعكس من دواخلها وقالت بابتسامة خفيفة: -تمام ياحبيبي. مش هتأخر.
خلال نصف ساعة ؛ احتشد الجميع بساحة البيت الواسعة التي تنتمي لعاصي، تقف حياة على رأس السفرة ف ضجيج من الكؤوس والملاعق والصحون. خرجت جيهان من غُرفتها أخيرًا. وانضمت حياة إلى أصواتهم الضاحكة وجمعتهم المميزة التي اهدرت عمرًا كاملًا من الطمع والكراهية بين الأبناء. اقتربت جيهان بخطوات ثقيلة بثقل ما تحمله بقلبها ثم قالت حياة:
-العشا جاهز اتفضلوا.
هتفت جيهان بتوجسٍ: -استنوا، لازم نتكلم.
وقف الأغلبية إثر تلك الملامح الشاحبة التي تتحدث بها جيهان. مدت صورة لأمراة تحمل نفس ملامح عاصي وقالت بصوت هدر: -دي ليك.
أخذ الصورة وتفقد ملامحها، فاقتربت حياة منه وشهقت بخفوت إثر التشابه الكبير بين عاصي وتلك المرأة، أكملت جيهان: -دي زهراء دويدار، أمك، سرقت الصورة دي من عبلة قبل ما تحرق كل حاجة، هي وشهادة الميلاد. افتكروها ضاعت، بس أنا احتفظت بيها، معرفش ليه، بس الأكيد كُنت واخداها ك وسيلة ضمان ضد غدر أختي في أي وقت!
لم يظهر حزنه إلا بملامحه المنعقدة وتلك القبضة الحديدية التي ضمها كمن يقبض على جمرٍ ولست حقائق، احتوت رسيل ذراعه كي يهدأ، كي تبلغه بطريقة أكثر لطفًا أنها هنا بجواره ومعه.
تأملت جيهان جميع الأوجه وقالت بأسفٍ: -أنا عارفة أنك عارف بكل حاجة، بس وفاة خالك ابراهيم هي اللي لقبت كل حساباتك. وأنت هنا عشان تعرف أنا هنا ليه!
أسرع قائلًا باشمئزارٍ: -عايزة تغسلي أيدك من دم مها مراتي، مش كده!
ثم انفجر جاهرًا: -مها اللي كانت بتصارع الموت أنتوا قدمتوها قربان له.
استند بوهن على ظهر المقعد المبطن وقالت بحزم وخيم: -مها مكنش عندها أي سبب يمنع الحمل، كُنت أنا وعبلة بنحطلها أدوية تضعف بطانة الرحم عشان متخلفش. ولما عاندت وخلفت.
ثم انفجرت باكية: -مها مماتتش من مضاعفات الولادة، هي ماتت عشان أنا حطيت لها السم في المحلول.
وقف مراد أمام أمه بنظرات السخط والغضب: -ليه! أيه يجبر انسان انه يقتل ليه؟
صرخت بوجهه مبررة أفعالها: -كنت فاكرة لو مها مشيت أختك هتتجوز عاصي وتأمن مستقبلنا كلنا. الطمع عمي عيوننا يا بني.
ثم اقتربت من عالية بهزلٍ: -حتى أنتِ، هدير هي اللي فبركت صورك عشان تتجوزي مراد. أنا ظلمتكم أنتوا الاتنين وكان لازم أعمل حاجة صح.
وقفت أمام كريم وهي تبث شكواها لتسند على ساعده: -ربنا أخد حق مها وبناتها اللي اتيتموا، وأخد حق عالية اللي ظلمتها، وابتلاني في هدير. هدير بعد يومين هتدخل تعمل عملية جديدة وآخر أمل ليها انها ترجع تمشي على رجليها. أنا تخلصت من كل ذنوبي علشان ارجع بس أشوف بنتي بتمشي تاني.
لم تخل الأعين من سهام الخسة والاستحقار التي انهالت على جيهان. استندت عالية على رسغ تميم أخيها وهي تغمغم ببكاء مكتوم: -تميم أنا عايزة اطلق…
ولكن امتزجت عبراتها وأوجاعها بصرخة مرتفعة أخرست جميع الألسن، وقطعت سيول النظرات الساخطة وهي تضغط على معصم تميم بطلق الولادة وتتلوى وجعًا وبيدها الأخرى تمسك بطنها:
-آه، الحقوني…
التعليقات