رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الخامس والعشرون
كان ليوناردو يجلس على الأرضية الحجرية خشنة الملمس والتي كانت الأوساخ قد تجمعت في أطرافها، أدرك أنه أكثر مكان قذر في قصر فيكتوريا الفخم بأسره بالتأكيد، كيف لا؟ وقد كان كل تفصيل في قصرها مصنوع ومزخرف بكل فخامة. ومن يكترث بتزيين مكان يوضع فيه المسجونون والمتمردون وكل من يعصي جلالة الملكة فيكتوريا بشيء ما؟ لم يكن يعي ذلك الجدال الطويل الذي يجري خارجًا، فلم يكن عقله قادرًا على التركيز أكثر، شعر أنه على شفا حفرة من الجنون.
كان الحزن يفتك بقلبه والضيق لا يفارقه. لم يكن قادرًا على النسيان خاصة بعد الجدال الذي حصل بينه وبين ألبرت عندما جاءه إلى هنا. أخبره عندئذ أنه ليس بمقدوره فعل شيء الآن سوى أن يعده بأنه لن يسمح لأحد أن يؤذيه قبل أن يتخلص منه، ولكن ألبرت لم يكن يعلم في الحقيقة أن ما يعانيه ليوناردو هو أكبر أذى وأكبر من أي أذى. لم يكن باستطاعة ألبرت معرفة أي شيء عما حصل لفيوليت، كانت أخبارها مجهولة وقد وعده ألبرت أن يضغط على فيكتوريا أكثر حال عودتها من كوكب كيبلر. لم يكن هناك شيء يستطيع إيقاظه مما هو فيه سوى تلك الجملة التي سمعها من الجدال الذي يدور بالقرب من زنزانته.
«يجب أن تقبلي الاستماع إلي، أنت لا تعلمين ماذا حدث وماذا سيحدث. فيكتوريا تريدك لإكمال خطتها، كانت تبحث عن الشقيقة التوأم للفتاة التي أجرت عليها تجاربها الخاصة، لقد أتت بها من كوكب الأرض، هل لك أن تتخيلي ذلك؟»
لم تتوقف تلك الجملة عن التردد في عقل ليوناردو حتى بعد أن حل صمت طويل. كانت حقيقة مجيئها من كوكب الأرض كفيلٌ جدًّا بجعله يدرك هويتها.
«ما هذا الهراء الذي تقوله؟ أنت تعرف جيدًا حقيقتي وتقول لي «شقيقتك التوأم» هل تريد أن تستدرجني بالكذب؟»
كان صوت الفتاة مألوفًا لليوناردو ولكن ذاكرته لم تسعفه للتذكر، لقد كانت صامتة طيلة الفترة السابق عندما كان الشاب مسترسلًا بالحديث معها -أو بمعنى أصح، ترجيها واستدراجها للحديث معه- حتى ظن لحظة أنه مجنونٌ يكلم نفسه.
«لقد تأذت تلك الفتاة يا إرورا ولا وقت للمكابرة، دعينا نضع خطةً لمساعدتك على الخروج من هنا قبل أن تحل الكارثة. »
ارتجفت أوصال ليوناردو وتسارعت ضربات قلبه وهو يستمع لما قيل وقد تحطم كل شيء في داخله، كان يشعر أنه قد تأخر كثيرًا. كان يشعر منذ البداية أن شعور الندم والحسرة سيلازمانه طيلة حياته.
«لا أريد منك شيئًا، وكل ما أريده بكل صدق هو ألا أرى وجهك ثانية أو حتى أن أتذكر أنني عرفتك من قبل، أنا أكرهك توماس، هل سمعت؟ أنا أكرهك. ».
قالت وهي تشدد على نطق كلماتها الأخيرة لتعطي كل حرف حقه الكامل. كان من الواضح جدًّا أنها مستاءة وأنها لم تصدق كلام ذلك الشاب حتى. لا يعرف ليوناردو مَن تلك الفتاة وما مدى مصداقية ذلك الشاب في ما يقول، هل تأذت فيوليت حقًّا؟ أم أنه قال هذا حتى يستدرج تلك الفتاة؟ كل شيء مجهول بالنسبة له تمامًا.
لم يكن من ذلك الشاب سوى أن همّ بالمغادرة، وقد لاحظ ليوناردو وقع أقدامه الذي اقترب أكثر فأكثر حتى لمح ظله القادم ثم رآه وهو يقترب ويكمل طريقه بتعابير وجهه البائسة. أحس ليوناردو أنه يعرفه لا سيما كونه قادمًا من كوكب كيبلر، فمن المؤكد أنه يعرفه فلقد تنقل في معسكرات تدريب عدة. شيء ما دفعه لمناداته باسمه بعد أن لاحت ذكرى نطق اسم الفتاة باسمه بطريقة واضحة جدًّا. توقف توماس مكانه ثم عاد ليتراجع بخطواته إلى الوراء بعد أن استغرب سماع اسمه ودون معرفته المصدر تمامًا، لكنه اكتفى بالتحديق في وجه ليوناردو دون أن يجيب أو يتفاعل.
«لدي طريقة تجعلك تساعد تلك الفتاة إن كنت صادقًا بكونها توأم الفتاة القادمة من كوكب الأرض. ».
لم يكن من توماس سوى أن تجمد في مكانه؛ فلقد كان في حاجة ماسة لمن يرشده.
لم تملك إرورا أي رغبة في المقاومة وحراس فيكتوريا يخرجونها من تلك الزنزانة التي لم تستمر بالجلوس بها طويلًا، كانت كلمات توماس ما زالت تدور في رأسها وشيء في داخلها يدفعها إلى الشعور بالخوف، هل يعقل أن يكون توماس جادًّا فيما قال حيال وجود توأم لها؟ لم يكن عقلها يستوعب ما قاله أبدًا، كيف باستطاعتها استيعاب ما قاله وقد تربت وحدها في كوكب كيبلر دون عائلة؟
استيقظت من دوامة أفكارها عندما طلبت منها امرأة ترتدي مئزرًا أبيض الجلوس. ألقت نظرة على الكرسي وما يحيطه. كان كرسيًّا حديديًّا بدا لها مرعبًا، كما كانت تحيطه الأسلاك وهذا ما جعلها تضطرب ليخفق قلبها بقوة. دَبّ الرعب في قلبها فأنساها زهدها بالحياة وأفكارها المحبطة، هل ستسمح لهم بتقييدها بتلك الأسلاك كأنها آلة كهربائية؟ لا يمكن أن تسمح لهم بسهولة، فوجدت نبرتها تحتد وهي تقول للمرأة التي كانت تنتظر منها الجلوس:.
«ماذا ستفعلون؟»
احتدت نظرات إرورا نحوها دون أن تكترث أبدًا لما سيحدث لها، لم تكن لتسمح لهم بالتحكم بها بسهولة، ليس بعد أن هربت من جوزيف لكي تحظى بحرية اتخاذ قرارات بنفسها.
– يجب أن تجلسي دون أن تسألي، هذه أوامر السيدة فيكتوريا.
– كأنني أهتم إن كانت أوامرك أو أوامرها، لن أفعل شيئًا دون إرادتي، هل سمعتِ؟
وقبل أن تجيبها الممرضة بشيء حضرت فيكتوريا بعد أن لاحظت احتداد تعابير وجه إرورا وامتناعها عن الجلوس، وقد سمعت جملتها الأخيرة فقالت لها بحزم: «أوامري لا تكرر مرتين، نفذي بسرعة دون نقاش. ».
حدقت إرورا نحوها باستنكار شديد وقد استمرت نظراتها بالاحتداد أكثر فأكثر وهي تجيبها:
«كرريها عشرات المرات، لا أكترث كثيرًا ولن أنفذ أي أوامر إن لم تكن بملء إرادتي. ».
أدركت فيكتوريا أن التعامل مع إرورا يختلف عن التعامل مع فيوليت أو أي امرأة أخرى قابلتها، تذكرت كيف سلمت فيوليت نفسها بسهولة ونفذت الأوامر بخضوع تام، ولكن يبدو أن حتى حالة إرورا النفسية تختلف عن حالة فيوليت التي كانت في أوج تعاستها.
«تصرفي بحكمة ونفذي الأوامر قبل أن أرغمك على ذلك. ».
لم تهتز ثقة إرورا ولو لحظة وهي تجيبها رافعةً حاجبيها باستنكار:
«أرغميني إن كنت تستطيعين ذلك. ».
كان مشاعر فيكتوريا نحو إرورا تختلف عن تلك التي حملتها تجاه فيوليت، فلقد رأت في فيوليت جينفر ابنتها فوجدت نفسها تضعف، أما إرورا فكانت قوية وثابتة ولم تكن تشبه والدتها أبدًا، وهي تكره الأقوياء والعنيدين لأنهم يكسرون أوامرها ويستفزونها بشدة.
لم تجبها فيكتوريا بل طلبت من حراسها التدخل وإرغامها على الجلوس، لم يعد لديها وقت للمسايسة، إنها تفقد الفرصة في كل دقيقة تتأخر فيها وليست مستعدة للخسارة بعد الآن مهما كلف الثمن.
كانت مقاومة إرورا قوية فلم يستطع الحراس إرغامها على الجلوس بسهولة، استمرت بالصراخ ومحاولة التخلص منهم والهرب من تقييدهم إياها، لكن وبعد أن فشل اثنان من الحراس في إرغامها انضم واحد ثالث وعندئذ بدأت قوتها تضعف وتخور، لم يكن بإمكانها المقاومة والدفاع عن نفسها أكثر. لم يتوقف لسانها عن الصراخ وشتم فيكتوريا وحراسها تحت ذهول الحاضرين من الباحثين والأطباء، بدؤوا بوضع الشريطين على معصميها بعد أن قيدوا كلا ذراعيها بقوة، ثم وضعوا يدها على الكرة الكريستالية حتى بدأ الضوء يشع. كان أحدهم يضغط على يدها في البداية حتى لا تتحرك، ولكن حالما بدأت الكرة تشع رُفعت اليد التي ضغطت على يدها فرغبت بسحب يدها بسرعة، ولكنها وجدت نفسها غير قادرة على تحريك يدها أو حتى التحرك من مكانها، رغم ابتعاد أحد الحارسين عنها وبقاء واحد فقط.
رغم شعورها بطاقتها التي بدأت تخور منذ أن وضعت يدها على الكرة الكريستالية إلا أنها استمرت تحاول الابتعاد عنها أو النهوض من مكانها ولكن محاولاتها باءت بالفشل، وما جعلها تستغرب حقًّا هو تسارع الضوء داخل الكرة الكرستالية مع مقاومتها المستمرة وكأنها تواجه صعوبةً بالسيطرة عليها. كان شعورها بالدوار يزداد وجسدها يلتصق بالكرسي مع مرور الوقت، لم يكن باستطاعتها الصراخ أو الحديث حتى.
كان شعور فيكتوريا بالرضا يزداد وهي تراقب الكرة الكرستالية وقد أدركت بأنها على وشك النجاح أخيرًا، ولكن شعورها ذاك لم يستمر طويلًا فقد فزعت من صوت الصراخ القادم من الخارج. دُفع باب المكان بقوة أفزعتها وجعلتها تلتفت لترى ماذا يحصل.
خفق قلبها بقوة وارتعدت أوصالها وهي تراقب الباب بفزع شديد، لا يعقل أبدًا، لا يعقل أن تتواجد هنا الآن. كانت ابنتها جنيفر هي من دفعت الباب وقد لاحظت عينيها الحمراوين واضطراب أنفاسها وهي تنظر نحوها بحدة، لم يكن هذا كله يفزعها بقدر ما أفزعها وجود المسدس بين يديها. إنه المسدس نفسه الذي أعطته لها لتقتل إدوارد، لقد كانت في حالة نفسية مزرية حينئذ وهذا ما دفعها لقتله دون أدنى قدرة منها على كبح نفسها. عادت بها الذاكرة إلى الوراء عندما كانت جينفر حاملًا بطفلتيها، وعندئذ دخلت بمحض الصدفة واستطاعت فتح الصندوق وفضح محتواه. لم تعلم أنها هي من سيدفع الثمن وستتعذب طيلة حياتها، ولكن فيكتوريا كانت ترغم نفسها على عدم المبالاة وتقنع نفسها أنها ليست السبب ولم تكن أبدًا السبب في عذاب ابنتها.
«أوقفي ما يحدث في الحال أمي». قالت جنيفر بضعف وانكسار شديدين لا يعكسان حدة نظراتها، كانت ترغب أن تحدث تأثيرًا بوالدتها لعلها تتراجع عما تفعل، ولكن فيكتوريا حافظت على ثباتها ورباطة جأشها وهي تجيبها بثقة تامة:
«لم يعد هناك فرصة للتراجع جنيفر، لقد قارب كل شيء على الانتهاء إلى الأبد، وستحل كل مشاكلنا بعدئذ بالعودة إلى الأرض. ».
ازداد ضربات قلب جنيفر وشعرت أن الوقت يداهمها بعد أن ألقت نظرة على الغرفة الزجاجية التي احتوت ابنتها التي اعتقدت بأنها تصارع الموت. كان اضطرابها والألم في قلبها يتزايدان وهي تراقب عدم مبالاة والدتها. لا يمكن أن تكون هذه والدتها أبدًا، فكيف لأم أن تعذب ابنتها بيديها وأن تحرمها من فلذات كبدها؟ أسرعت نحو زجاج الغرفة وبدأت تضربه بكلتا قبضيتها وهي تصرخ وتبكي بجنون، حالما أدركت أن ما تفعله لن يفيد شيئًا. تذكرت إدوارد الذي قتلته بيديها والذي تبين أنه بريء مما اتهمته به والدتها، هل تعمدت فعل هذا لتدفعها إلى قتله؟ تذكرت صمته الذي عكس انكساره وعجزه، لم يكن من المعقول أن يقتل ابنتيه فكيف صدقت وهي تعرف من هو وكم كان يحبها ويحب ابنتيه؟ ارتجفت أوصالها وامتلأت الدموع في عينيها عندما لاحت إليها صورة عينيه قبل أن تطلق عليه الرصاص. كان واضحًا عليه الانكسار، كانت عيناه تنطق بالحقيقة ولكن شيئًا منعه من الحديث، شيء أقوى منه ومن إرادته. كل هذا كان بسبب والدتها وبسبب أهدافها تلك، لم تكن تدرك أن والدتها قادرة على دفع الثمن غاليًّا هكذا. التفتت خلفها تحدق بوالدتها التي لم تحرك ساكنًا أو حتى أن توقف ما تحدث، إنها لا تكترث لها ولا لآلامها. كل الأفكار السلبية كانت تدور في رأسها مع ذكرياتها المؤلمة.
«ألن توقفيهم؟». قالت جنيفر لوالدتها بهدوء تام وقد اختفى البريق في عينيها وارتخت مفاصل جسدها.
حدقت فيكتوريا بابنتها دون أن تجيب، بل لم تكن قادرةً على الإجابة بالأحرى؛ لقد كسرها استسلام ابنتها المفاجئ وحديثها الهادئ، لقد كسرت ابنتها تمامًا ولم يعد بمقدورها أن تبكي وتصرخ حتى كعادتها. بدأت أنظار فيكتوريا تتنقل بين وجه ابنتها والكرة الكريستالية التي يزداد ضوؤها، لقد قارب كل شيء على الانتهاء، لا فائدة من التراجع الآن لقد بعد أن انتهى كل شيء.
«لقد تأخر الوقت». أجابتها فيكتوريا ببرود تام.
رفعت جينفر يدها التي تحمل المسدس ووجهت فوهته نحو والدتها وقد اعترت علامات الصدمة ملامح وجه فيكتوريا. كادت فيكتوريا تبتسم بسبب أفكارها، من المستحيل أن تفعل ابنتها أي شيء، لا يمكن أبدًا. لاحت أمامها صورة إدوارد مقتولًا، ولكنها والدتها ولا يمكن أن تؤذيها أبدًا. لم تهتز فيكتوريا أبدًا ولم تظهر أي اضطرابات أو خوف أمام ابنتها، وقد بدت واثقة جدًّا من ضعف جنيفر الذي يمنعها من الإقدام على شيء كهذا.
«أوقفيهم وإلا، ». قالت متلعثمة وقد استمرت يدها التي تحمل المسدس بالارتجاف، ثم أردفت محاولةً السيطرة على نفسها: «سأضغط على زناد المسدس».
«لن تفعلي صغيرتي، ولا داعي لأن تفعلي، فما هي سوى دقائق وينتهي كل شيء، وبعد أن نعود إلى كوكب الأرض سأعوضك من كل شيء و، ». ولكنها لم تستطع إتمام جملتها حتى قاطعتها جنيفر وهي تصرخ بعد أن استفزتها كلمات والدتها جدًّا.
«اللعنة على كوكب الأرض الذي جعلك قادرة على رؤية عذابي طيلة تلك السنوات، اللعنة عليه لأنه جعلك قادرة على استغلال حفيدتيك، لا أصدق أنه جعلك بتلك الوحشية!». صمتت قليلًا وهي تحاول كتم صوت بكائها وقد أبت دموعها التوقف وقد آلمها قلبها جدًّا عندما عجزت عن تنظيم ضرباته، أردفت بحرقة شديدة وهي تنظر نحو إرورا التي كانت تجلس داخل الغرفة الزجاجية: «لقد قتلت زوجي بسببك، لقد خسرت كل شيء حتى ترضي رغباتك، لقد جعلتني أعايش العذاب سنوات طويلة، ألم تشعري بي؟ ألم يكن لديك قلب؟».
بدأت ذاكرة جنيفر تعود إلى الوراء إلى الأيام السعيدة التي قضتها برفقة إدوارد، لقد كانت تحبه جدًّا ولطالما تمنت ألا تفقده أبدًا. لقد كان يحبها جدًّا إلى درجة دفعته إلى الصمت وتقبل حكم الموت منها وحكمها الظالم المتسرع عليه. هل سامحها قبل أن يموت عندما كانت تنوي إطلاق النار عليه؟ هل كان يحبها إلى درجة تسمح له أن يصفح عنها لقتله؟
كانت الآلام تتضاعف في قلبها وشعور لا يطاق من الضيق يداهمها، لم تعد تملك شيئًا؛ فقدت حب حياتها وابنتيها، حتى أنها فقدت والدتها، فهذه الواقفة من المستحيل أن تكون والدتها.
ارتجف جسدها أكثر من ذي قبل وبدأت شهقات بكائها تعلو أكثر، لم تعد قادرةً على التحمل، كل شيء يقف ضدها وقد منعها من إيجاد أي رغبة صغيرة بالحياة، كيف ترغب بها وقد كانت مليئة بالخذلان والألم؟ وجدت نفسها ترفع يدها المرتجفة بصعوبة لتلتصق فوهة المسدس في رأسها. بدأت تضطرب بشدة وهي تدرك اقتراب المسدس من رأسها وأنها تنوي بطريقة أو بأخرى الضغط على الزناد، كانت فكرة فعل هذا تخيفها جدًّا.
تسارعت أنفاس فيكتوريا وهي تراقب ابنتها، كان خوفها واضطرابها هذه المرة أكثر سوءًا مما كانا عليه عندما وجهت المسدس نحوها. كانت واثقة أن باستطاعتها فعل ذلك؛ فهي مصابة بالاكتئاب وهذا يدفعها للإقدام على أي فعل مهما كان مجنونًا، لم تكن تفكر بشيء سوى بمنعها عما ستفعله، فقالت بتلعثم وصوتها يرتجف:
«حسنًا، سأوقفهم ولكن لا تتصرفي بجنون. ».
نظرت فيكتوريا عبر واجهة الزجاج لتشير لهم بالتوقف، ولكنها قبل أن تقدم على أي شيء انطفأ ضوء الكرة وهذا يعني أن كل شيء قد انتهى فعلًا ولم تعد هناك فرصة للتراجع، جفلت عينا فيكتوريا وامتعضت تعابير وجهها، كانت تخشى حقًّا من رد فعل ابنتها عندما تدرك أن ما ترغب به قد بات مستحيلًا وقد فات الأوان.
ما إن التفتت جينفر لتنظر نحو ما تنظر إليه والدتها حتى أدركت أن كل شيء قد انتهى وأن شعلة الأمل الأخيرة قد انطفأت، ولا أمل لها الآن في هذه الحياة. شعرت أنها قد فقدت القدرة على سماع من حولها، حتى كلمات والدتها لم تكن تسمعها، كانت تراقب حركة شفتيها واضطرابها الشديد فقط. لقد اتخذت القرار وانتهى الأمر، ستضغط على زناد المسدس بكل شجاعة، لا داعي لأن تهاب الموت؛ فقد عاشته عشرات المرات وقد ماتت روحها منذ زمن.
«الموت ليس توقف القلب عن النبض،.
بل هو توقف الحياة عن النبض في قلوب لا زالت على قيدها. ».
همّت بضغط الزناد ولكن أحدهم قد سحب منها المسدس من الخلف بحذر شديد وبأسرع ما يمكن، كان وليم ابنها، هو مَن سحب المسدس من بين يديها بعد أن لاحظ انقلاب حال القصر والضجة بين الحراس والخدم، سمع عما حصل وأسرع بالحضور.
تجمدت جنيفر مكانها دون أن تلتفت، كانت تشعر وكأنها سُلبت أملها الأخير وفرصة نجاتها من حرب العذاب التي تعاني منها، ولكنها حرمت حتى من الموت.
داخل الغرفة الزجاجية، ظهرت علامات الاستغراب على وجوه الأطباء وعلماء المختبر الموجودين؛ فلم يكن تأثير حصاد الطاقة على إرورا كما هو على فيوليت.
دخل كل من ليوناردو وألبرت المخبر ثم تبعهم توماس وقد امتعضت ملامح فيكتوريا أكثر وأكثر؛ فيبدو أن الأمور تخرج عن سيطرتها تمامًا دون استطاعتها أن تحرك ساكنًا.
استطاع ليوناردو الفرار من السجن بمساعدة كل من ألبرت وتوماس بعد أن تعقدت الأمور. وأما دخول توماس طرفًا ثالثًا في القضية فزاد من دافع ليوناردو بالضغط على ألبرت بعصيان فيكتوريا قبل تمام المهمة. اقترب ليوناردو نحو جنيفر بخطوات سريعة وقد بدت تعابير التوتر والاضطراب بادية على وجهه بوضوح تام، نظر إليها وهو يقول بأنفاس مضطربة وحاجبين معقودين:.
«ابنتك الأخرى ما زالت حية، يجب عليك أن تذهبي إليها، يجب أن تضغطي على والدتك لتكشف لنا عن مكانها هي في حالة خطرة. ».
كانت أعصاب ليوناردو في حالة يرثى لها، فوجد نفسه يفقد السيطرة على نفسه ويأبى أن يكون مصطنعًا كما اعتاد، يأبى أن يظهر عدم مبالاته.
شعرت جنيفر باضطراب دقات قلبها الذي أوشك على تحطيم قفصها الصدري. كان عقلها لا يستوعب كل ما يحصل، تجمدت مكانها واتسعت عيناها. كل هذا بسبب والدتها، هل هذا حقيقي؟ هل والدتها تسببت وستتسبب في عذابها إلى هذه الدرجة؟ وجدت نفسها مشتتة لا تعرف إلى من تلتفت، إلى ابنتها التي تقبع وراء الغرفة الزجاجية؟ أم إلى ابنتها التي تجهل مكانها وحالتها؟
«ماذا عن إرورا؟ ماذا حدث لإرورا؟». قال توماس بلهفة وعيناه تدوران أرجاء المكان بحثًا عنها، ولكنه لم يكن قادرًا على التركيز.
حدقت جنيفر نحوه باستغراب، لا بد أنه يتحدث عن ابنتها، كل أولئك الأشخاص يعرفون ابنتيها جيدًا، أما هي فوالدتهما وتجهل اسميهما حتى. هل هذا ما أرادته والدتها حقًّا؟ أن تحرمها من طفلتيها وأن تجد نفسها وحدها لا تعرفهما؟
«ما الذي يحدث جدتي؟ هل ما يحدث صحيح؟ وهل ما سمعته وما قيل لي صحيح حقًّا؟». قال وليم وهو يحدق نحوها باستنكار، وقد بدأ يفقد سيطرته بعد أن رأى حال والدته المزرية جدًّا والتي كادت تدفعها لإنهاء حياتها لولا حضوره في الوقت المناسب.
لم يتردد كل من ليوناردو وتوماس باستغلال مركز وليم لإخباره عما يحدث، فلعله يكون رادعًا آخر لفكتوريا.
«لا أنت ولا حتى والدتك تستطيعان فهم قيمة ما فعلته وما أفعله، ». لم تستطع فيكتوريا إكمال جملتها المحتدة فقد بترتها جنيفر وهي تصرخ بعد أن احتدمت تعابير وجهها بشدة وبدأت تنظر نحو والدتها باستنكار شديد.
«لا أريد سماع كذبك وكلامك التافه بعد اليوم، بل لم أعد أحتمل سماعه، ليتني أنا من كنت ضحيتك وليتك قتلتني بيديك ولم تفعلي ما فعلته. لقد عشت في عذاب، هل تستطيعين إدراك هذا؟ هل تشعرين بالنار التي تشتعل في صدري؟ هل فكرتِ يومًا واحدًا بكمّ الألم الذي ستلحقينه بي؟ لقد خسرت الشخص الذي أحببته في هذه الحياة، لقد سلبتِ سعادتي وأطفالي، لقد انتزعتِ قلبي!».
كان ارتجاف صوت جنيفر ودموعها قد وخز قلب فيكتوريا بشدة، كانت تهتم لمشاعر ابنتها ولكنها كانت تجد دومًا أن جنيفر صبت مشاعرها في مكان محظور، ولذلك وجدت نفسها تسلبها تلك المحظورات التي تحتاجها هي لمصلحتها دون أن تجرؤ على أذيتها. أرادت أن تكون جنيفر بخير دومًا، أرادت أن تشفي ندمها عندما أجبرتها على الزواج رغبةً منها برؤيتها تنشئ أسرة وتعيش حياة طبيعية من جديد. كانت ترجو دومًا أن تأتي يومًا لتحدثها عن شخص تحبه كما فعلت عندما أحبت إدوارد، ولكنها لم تفعل وبقيت تعيش في الظلام الذي خلفته لها، لم يكن باستطاعتها الاستغناء عن مبادئها وطموحاتها مهما كلف الثمن.
«لقد كان إدوارد جاسوسًا لم يستحق حبك أبدًا، كما ولدت طفلتيه بدماء أعدائنا الملوثة، هما لا ينحدران من عائلتنا ولو لم أفعل هذا لفعله شعب كوكبنا، القضية ليست قضيتي وحدي. ».
لم تظهر أي تعابير على وجه جنيفر، بل اكتفت بالهمس لوالدتها بعد أن اقتربت منها.
«أريد أن معرفة مكان ابنتي وإلا، ».
ولكن فيكتوريا أجابتها من فورها دون أن تكترث وهي تنظر نحو جنيفر ببرود تام، فلم تكن تقبل تهديد ابنتها لها مرة ثانية بتلك الطريقة:
«لم يعد يهمني أمرهما فلقد حققت غايتي، لا داعي لأن تهدديني وتذلي والدتك أكثر مما فعلتِ. سأسمح للحراس أن يرشدونك إلى غرفة ابنتك». نظرت نحوها بحدة ثم أتبعت: «افعلي ما تشائين».
لم يكن تهديد جنيفر بالنسبة لفكتوريا أمرًا بسيطًا، فوجدت نفسها تختار أقسى الكلمات لتخاطبها بها دون أن تكترث لما ستشعر به، فلقد أثار فعل ابنتها الحنق في نفسها كثيرًا.
رفعت جنيفر نظرها نحو والدتها ونظرت نحوها نظرة تحدٍّ وسخط شديد، حتى أن فيكتوريا لم تكن لتصدق عينيها.
اتجهت جنيفر نحو باب الغرفة الزجاجية ثم بدأت تضربه بقوة حتى كادت تحطمه فأسرعت إحدى العاملات بفتح الباب بإشارة من فكتوريا نفسها. دخلت جنيفر الغرفة ثم تبعها توماس، بدأت جنيفر تستفسر عن حالة ابنتها بعد أن جلست بجانبها بانكسار شديد.
«يبدو أن الفتاة لم تتأثر بحصاد الطاقة كما تأثرت شقيقتها فلم تبد عليها مضاعفات خطيرة كما حدث من قبل، وهذا ما كشف لنا أن الكرة الكريستالية لم تستمد منها سوى جزء بسيط من الطاقة التي تحتاجها. لقد اتضح لنا أن العامل النفسي عامل مؤثر أيضًا والمقاومة مطلوبة للتقليل من نسبة الخطر. ».
لم يكن كلام الطبيبة يريح جنيفر؛ فقد تعرض قلبها لوخزة عندما ذُكرت ابنتها الأخرى والتي استنتجت أنها في حالة خطرة. أمسكت بيد إرورا التي كانت قد فقدت وعيها، سألتها بلهفة:
«ما الذي حدث لشقيقتها؟».
تنهدت الطبيبة ثم قالت بتلعثم وتردد بعد أن امتعضت ملامحها قليلًا:.
«حالتها خطيرة ونجزم على أنها، ». صمتت قليلًا وهي تتابع تعابير وجه جنيفر المضطربة: «لقد انتزع حصاد الطاقة الكثير من طاقتها إضافةً إلى أن حالتها النفسية كانت منتكسة، يبدو أنها كانت تعاني نوعًا من الاكتئاب وهذا ما جعلها تستسلم بسهولة. الطبيب الذي أشرف على حالتها وراقب المضاعفات أكد أن حالتها لا أمل فيها ولا شفاء يرجى».
تلعثمت الطبيبة أكثر وهي تكمل: «نتيجة لعدم تفاعلها مع أي علاج، يزعم الطبيب أنها تحتضر».
شعرت جنيفر بارتجاف جسدها وقد امتلأت عيناها بالدموع، لم تكن قادرةً على سماع مثل هذا الخبر، لم تكن قادرةً أبدًا. تمنت في هذه اللحظة فقط لو كانت ابنتها قد توفيت حقًّا كما كانت تعتقد. كان قلبها يعتصر ألمًا وشهقات بكائها تأبى أن تتوقف، لكن دافعها لرؤية ابنتها كان أقوى من أي شيء.
اجتمع كل من ليوناردو وألبرت وجنيفر ووليم في إحدى غرف القصر وقد استلقت فيوليت على سرير كبير. جلست جنيفر مقابل ابنتها على السرير وقد تعلقت يداها بيدي فيوليت دون أن تتركهما أبدًا طيلة الساعة التي تواجدت فيها برفقتها. كان ليوناردو يجلس على كرسي بجانب السرير، لم يكن بتلك الجرأة التي تدفعه لأن يكون في مكان أقرب منها. ما زال شعور الندم والألم يتضاعف في قلبه، ربما لن تحب فيوليت أن تراه هنا في الغرفة التي تمكث بها فهو لا يستحق. رفعت جنيفر نظراتها عن وجه ابنتها المرهق لتنظر إلى الطبيب وعيناها ممتلئتان بالدموع. قالت بصوت منكسر مبحوح:.
– متى ستستيقظ؟
– لا أستطيع الجزم هي مرهقة جدًّا.
– هل ستكون بخير عندما تستيقظ؟
طالعها الطبيب بنظرات يأس وإحباط ثم تنهد وهو يقول:.
«ليس بإمكاني تحديد ذلك بالضبط، ولكن الأمل ضئيل للأسف ولا يمكنني تقديم شيء لها أكثر من الذي قدمته». صمت قليلًا يحاول مراقبة رد فعل جنيفر ثم أتبع قائلًا: «لقد تأثرت كثيرًا بعملية حصاد الطاقة، ولكنها لم تكن وحدها المسبب لما حصل لها، نعم، هي تشكل عاملًا كبيرًا ولكن يجدر بي القول أن فيوليت كانت تعاني من حالة نفسية متأزمة واستمرت عليها، وهذا ما جعل حالتها ميؤوس منها أكثر».
أفزع كلام الطبيب ليوناردو أكثر من قبل، فيوليت كانت تعاني من حالة نفسية سيئة قبل أن تأتي إلى كوكب جليزا، لقد تعرضت إلى أكثر من صدمة بشكل متتالٍ وكان هو إحدى الصدمات التي تعرضت لها. هو جزء من المشكلة، هو مَن حرمها ابتسامتها وهو مَن سلبها روحها المرحة.
«وماذا عن إرورا؟ كيف حالها؟». قالت جنيفر بصوت مختنق للغاية. كان سؤالها ذاك بمثابة محاولة لتمزيق قلبها بيديها، هي تتجاهل حالة فيوليت من أجل أن تسأل عن إرورا.
كانت حالة جنيفر كأنها تلك الأم التي لا تريد أن تتجاهل إحدى ابنتيها من أجل الأخرى حتى ولو كانت إحداهما أكثر تضررًا من الأخرى، أو كانت تحاول أن تكسب واحدة منهما من الحرب المدمرة التي تعرضت لها.
«حالة إرورا مستقرة، هي بخير، كانت تحتاج إلى بعض الرعاية الصحية فقط والقليل من الراحة. أتوقع أن تستيقظ بأقرب وقت، صحتها جيدة وما فقدته من طاقة كان سهل التعويض».
شعرت جنيفر ببعض الراحة ولكن أعصابها ما زالت متوترة للغاية وهي تنتظر استيقاظ فيوليت وكانت تنتظر معجزة توقظها.
مرت عدة دقائق قبل أن يتحرك جفنا فيوليت عدة مرات إلى أن استطاعت فتحهما تمامًا. لم تكن تعي كمية الوجوه التي تواجدت حولها، وجوه عرفتها ووجوه لم تعرفها ولم تكن لها مألوفة على الإطلاق. لم تشعر أنها بكامل وعيها، كانت تشعر وكأنها تعايش حلمًا لولا أن ألم رأسها قد أكد لها أنها مستيقظة فعلًا.
شعور كبير بالغبطة والبهجة أصاب جنيفر عندما راقبت استيقاظ فيوليت، لقد شعرت أن روحها ردت إلى جسدها من جديد فلم تكن قادرة على التعبير عن سعادتها الكبيرة، فاستمرت تحدق بابنتها وهي تضم يدها أكثر بكلتا يديها. كانت تريد أن تشعرها بأنها موجودة، أرادت بطريقة أو بأخرى أن تشعر فيوليت بأنها والدتها دون أن تنطق. أردات أن تمنحها حنان الأم وحبها، أن تصل مشاعرها كاملة لابنتها لتدرك كم أن الشوق أذبلها وكم كانت تتوق لمسها حتى في أعماق أحلامها أو حتى كوابيسها. إنه الحنين الذي جعلها لا تدرك مرور السنوات بسرعة كبيرة، لم تدرك حتى كم أصبح عمرها فقد جرى الزمن وهي في غيبوبة لم تستطع الاستيقاظ منها.
لم تستطع فيوليت سوى تذكر منزلها وغرفتها ثم والدتها التي لطالما أحيت روحها من جديد، لكنها لم تكن قادرة حقًّا على تذكر ما حصل، هل نامت حال عودتها من الجامعة؟ هل نسيت والدتها أن توقظها هذه المرة في الوقت المحدد؟ لقد اعتادت أن تستيقظ على همساتها ولمساتها الحنونة. كانت من عادة والدتها أن تجلس عند رأسها وتبدأ بالمسح على شعرها وهي تهمس باسمها وغالبًا ما كانت تناديها «زهرتي». كانت تقول دومًا أنها فعلًا زهرتها التي تغرس في روحها الحياة والتي إن ماتت ستلحقها روحها الذابلة. لم تكن قادرةً على إدراك ما يحدث حولها وما حدث، لماذا هي في هذه الغرفة؟ ومن هؤلاء الأشخاص؟
بدأت تجول وجوههم بعينيها حتى استطاعت أن تميز ليوناردو وألبرت من بينهم. نظرت نحو ليوناردو باستغراب ثم قالت:
«أين أنا؟ لماذا لست في غرفتي؟ أين أمي؟».
أحدثت آخر كلمات فيوليت وخزةً قوية في قلب جنيفر وقد أصدر قلبها خفقةً قوية أوجعتها، ذكر فيوليت والدتَها جعلها تتحطم تمامًا. لم تكن قادرة على تحمل مثل هذه الصدمة، شعرت بالقهر الشديد وقد كانت تحاول جاهدة عدم البكاء. إنها ابنتها ولكن لن تعرف ولن تصدق بأنها والدتها، لن يكون الأمر بتلك السهولة أبدًا.
حدق بها ليوناردو دون أن يستطيع تصديق ما تقوله، كانت علامات التوتر واضحةً على وجهه. لم يكن يستطيع أن يفهم ما حصل لفيوليت، فكيف لها أن تنسى كل ما حصل؟
«لقد غادرنا كوكب الأرض فيوليت، هل تذكرين؟». قال لها بتردد فلم يكن يعرف إن كان يجب عليه تذكيرها أم لا، ولعل سبب قلقه الأكبر هو أن تتذكر ما فعله. كان يرغب بشدة أن يمسح هذا من ذاكرتها.
نظرت فيوليت نحوه باستنكار ثم عادت لتحاول تذكر ما حدث، كانت محاولتها بالتذكر تزيد من آلام رأسها. لم يكن من السهل عليها استرجاع الأحداث وما الذي أوصلها إلى هنا. لم تكن تعي وجود جنيفر أمامها أو حتى من تكون. بدأت تحاول استرجاع ما حدث وبعد جهد ذهني كبير استطاعت أن تتذكر مغادرتها وفقدانها وعيها بسبب حصاد الطاقة. بدأت تتذكر كل شيء من آخر حدث حصل معها، حتى بدأت تتذكر ما فعله ليوناردو وعندئذ اندفعت أحداث الجانب المظلم جدًّا والذي جعل قلبها يضيق بشدة. تذكرت ما فعله ألفريد وآخر لحظاتها مع أمها، دموعها التي انسابت على عنقها، عناقها الطويل وبكاؤها المرير. تذكرت آخر كلمتين قالتهما لوالدتها «سأعود وستنتظرينني». لقد وعدتها بالعودة. والدتها تنتظرها الآن بكل تأكيد، تنتظر وقلبها ينفطر بشدة فلطالما كانت توأم روحها وبهجتها. لم تكن ترغب أن تصدق أبدًا بأنها ليست والدتها فهذا محال! كيف لامرأة أن تمنحها كل هذا الحنان وألا تكون هي والدتها؟ لا يمكن أن تصدق هذا.
رغم سخطها الشديد تجاه ليوناردو إلا أنها أدركت أنه الشخص الوحيد الذي تعرفه هنا، كما أنها كانت ترجو أن تكون نظرات الندم التي رأتها في عينيه ستجعله يساعدها.
«أريد العودة، لقد نفذت ما أردتم مني، أنا بحاجة إلى العودة. ».
رغم أنها كانت تشعر أن جسدها الهزيل لن يعينها على العودة أبدًا إلا أن عقلها لم يتوقف عن الهذي بوالدتها التي أرادت أن تراها بشدة وأن تكون إلى جانبها الآن.
اضطربت ملامح ليوناردو وجنيفر مرةً واحدة، لم يكن ليوناردو يعرف ما عليه قوله. هي تعتقد أنه هو من أراد استغلالها كما أرادت فيكتوريا. ليتها تعرف كم يشبهها هو بضعفه وقلة حيلته، ليتها تعرف أنه رمى جميع آماله برؤية والدته من أجلها ومن أجل شعوره بالذنب الشديد. إنها تحلم بوالدتها الآن دون أن تستطيع الوصول إليها كما يفعل هو، ولكن هو استمر يحلم هذا الحلم تسعة عشر عامًا من الضياع. لم يكن قادرًا على إجابتها لأنه لم يعرف كيف سيشفي جرحها الذي لم يشفى منه هو حتى.
وفي ظل الوجوه المتكدرة والنظرات المشفقة في الغرفة، قالت جنيفر من غير أن تفكر وهي تمسك يد ابنتها بقوة علها تنقل أحاسيسها إليها:
«أنا القلب الذي بحث عنك سنوات، أنا الروح التي ذبلت وهي تبحث عن عبق روحك، أنا أمك. ».
نظرت فيوليت نحوها وكأنها تدرك وجودها توًّا دون أن تستطيع إدراك كلماتها أبدًا. لم تلمس كلمات جنيفر أي شيء داخل فيوليت كما توقعت جنيفر أن تفعل؛ لأن منطق فيوليت لم يكن ليساند كلماتها أبدًا. طالعت فيوليت لهفتها باستغراب، كانت تنتظر تفسيرًا. وبعد أن استمر الصمت بينهما طويلًا وقد كانت نظرات فيوليت تدل على عدم تصديقها وتجاهل عقلها لما قالته جنيفر توًّا، قال ليوناردو لفيوليت بلهجة حاول أن تكون هادئة ومتزنة:.
«لن تستطيعي العودة إلى كوكب الأرض الآن لخطورة ذلك ولتوعك صحتك. ».
أحست فيوليت وكأن أحدًا يقيدها ويقيد حريتها، شعور وكأنها مستعبدة من قبل الجميع، قالت بلهجة صارمة بعد أن رفعت نبرة صوتها:
«هذا ليس من شأنكم، لقد حصلتم على ما تريدون مني ولا أرغب بالبقاء هنا. ».
انسابت دموع فيوليت على وجنتها، كانت تشعر بالإعياء الشديد، لم تكن واثقةً من مشاعرها ولا مما تقول، لم تكن تعي ما يحدث، كل ما كانت تشعر به هو برودة أطرافها. ارتخى جسدها ثم عادت لتلقي برأسها على الوسادة فلم يكن بمقدورها الصمود. إن جسدها ضعيف الآن ولا حول لها ولا قوة، كيف لها أن تنزع رغباتها وهي في حالة يرثى لها؟ تراخى جفناها وأصبحت تجد صعوبة في إبقائهما مفتوحين.
نظرت جنيفر نحوها بحسرة وقلبها ينفطر، إنها مرهقة للغاية. تفحصت شحوب وجهها الشديد وبهوت لون شفتيها. لم تكن تعرف ما يجدر عليها فعله، عادت لتفكر بإرورا ثواني قبل أن تنظر نحو ابنها وليم بترجٍّ وتقول بنبرة منكسرة للغاية ودموعها تتساقط من عينيها بحرارة:
«أحضر شقيقتك إرورا إلى هنا حالًا. ».
لم تكن نظرات وليم وحدها التي نمت عن الاستغراب الشديد، بل كذلك ألبرت الذي كان يراقب ما يحدث بهدوء دون أن يعلق بشيء، ولكن ليوناردو وحده من استطاع فهم ما تكنه جنيفر في قلبها وما ترغب به.
كانت جنيفر تظن أن هذا هو الشيء الوحيد والأخير الذي تستطيع تقديمه لابنتها ولقلبها الذي أراد أن يحيا بلقاء التوأمين اللتين افترقتا كرهًا.
كانت حالة فيوليت تزداد سوءًا مع مرور كل دقيقة وقلب جنيفر يضيق أكثر وشعورها بالألم يتضاعف، كانت تشعر وكأن روحها عادت للحياة من جديد والآن تذبل تدريجًا من جديد. لم تكن الفرحة لتمنحها فرصتها لأن تعيش بها قليلًا، أرادت أن تهرب بسرعة من روح ذابلة مظلمة كروحها. كان دخول إرورا برفقة وليم وتوماس الغرفة قد حرك شيئًا ولو صغيرًا داخلها. راقبتها بسكون دون أن تستطيع منحها عناقًا قويًّا، لن تستطيع أن تمنحها شيئًا وهي في حالة حداد. تلاحمت نظرات إرورا وجنيفر التي ظلت تحدق بها طويلًا قبل أن تخطو داخل الغرفة. كانت تبحث عن شعور يتحرك داخلها يجعلها تفرح لمعرفتها هويتها ووالدتها. لم يجد توماس ووليم مفرًّا من إخبارها بكامل الحقيقة وسبب رغبتهما بأن ترى فيوليت حالًا. لم تكن تتخيل يومًا أن تجد لها أمًّا وأختًا وأخًا في آن واحد. اقتربت إرورا بخطوات مترددة من السرير ثم وقعت عيناها على وجه فيوليت المرهق. لا تعرف ما الذي حدث عندئذ، شيء داخلها دفعها للاقتراب، بل جعلها لا تستطيع التوقف عن الاقتراب. جلست كالمسحورة بجانب فيوليت وقد استمرت بالتحديق بها وبملامحها. شعرت كأنها ترى انعكاسًا لنفسها يختلف عنها بالهيئة لكن تجمعهما ملامح واحدة. إحساسها وكأنها وجدت شخصًا قد افتقدته دومًا دون أن تشعر، جزءٌ منها.
فتحت فيوليت جفنيها المثقلين وقد داهمها شعور يشبه شعور إرورا وهي تنظر إليها، لم تكن تشعر بأنها في كامل وعيها، أو ربما هي في حلم فعلًا ولن تستيقظ منه أبدًا أو أنه قد ينتهي لتعيش في الظلام. كان هناك قصة ومحادثة تصنع نفسها في داخلها، بدأت تسمع أصواتًا غير موجودة فلقد كانت ترى أن جميع من حولها يلتزمون صمتًا قاتلًا.
«فيوليت، كم أنت كسولة! هل ما زلتِ نائمة؟». ترددت تلك الجملة في أذنيها، إنه صوت والدتها الذي كان يوقظها في كل صباح. ابتسمت تلقائيًا ثم ذرفت عيناها الدموع وهي ترفع يدها في الهواء وكأنها تحاول الوصول إلى شيء غير مرئي، شيء تراه وحدها فقط في وعيها الغائب.
أمسكت إرورا يد فيوليت دون تردد، شيء عميق جدًّا داخلها يدفعها لأن تسلط اهتمامها كله على فيوليت، ودون أدنى إرادة وجدت دموعها تنساب على وجنتيها وصاحب ذلك ألم كبير أوجع قلبها بشدة فبقيت تمسك بيدها بقوة أكبر مع مرور كل ثانية وهي تحدق بملامحها الهادئة والحزينة.
حتى أن الومضات التي كانت تمر على فيوليت لم تسلم من ظهور ألفريد ودانيل بها. لاحت أمامها ذكريات لم تتذكرها من قبل كألفريد وهو يركض نحوها بلهفة عندما أوشكت على الوقوع وملامحه الباردة التي عادت من جديد عندما تأكد من سلامتها، وذلك المسدس الذي رفعه في وجهها وقد أراد قتلها، ولكن ألم يدرك عندئذ أنه لم يتحمل أن يراها تجرح أو تخدش حتى يستطيع قتلها بنفسه؟
«أنت لست ابنتي ولكنني لا أستطيع قتلك أبدًا». ترددت تلك الجملة من جديد كصدى في أذنيها ثم تبعها صوت بكائه كأنه طفل. كلمات دانيل الغاضبة من ألفريد ترددت على مسامعها أيضًا.
آخر ما تذكرته هو ليوناردو ووجوده القصير في حياتها، ولكنها لم تفلح في تذكر شيء سوى خيانته ثقتها والغدر بها حتى بات كل ما مضى بينهما مجرد خدعة، ورغم التماسها الندم في عينيه لم تكن لتظن أن باستطاعتها مسامحته. كانت تشعر أن بينهما نقاطًا مشتركة وأنه شخص مختلف عن الأشخاص الذين عرفتهم.
بدأت تعي تعلق يدها في الهواء وعادت لتنظر إلى أرورا من جديد، فقد وجدت نفسها لا تعي وجودها جيدًا ولكنها تشعر بالأمان والسكينة بجانبها فرفعت يدها دون وعي لتعانق بها يدي إرورا. رأت ملامح والدتها في وجهها وسمعت صوت غناء والدتها في أذنيها. الأغنية التي كانت تغنيها لها قبل النوم وقد كانت دائمًا تنام عندما تنتهي الأغنية. ابتسمت لإرورا ثم شعرت بأنها بحاجة ماسة لإغلاق عينيها، شعور بالإعياء والإرهاق الشديد وبرودة في أطراف جسدها، وما زالت كلمات تلك الأغنية تتردد في أذنيها بصوت والدتها الدافئ وكما اعتادت دومًا. أغلقت عينيها مع نهاية كلمات الأغنية وشعرت بارتخاء جسدها وانغماسها في الظلام الدامس حينما تفتحت الزهور الأرجوانية فجأة من بين طيات السواد لتبعث البهجة، ولكن سرعان ما عادت إلى ما قبل مولدها واختفت.
ارتخت يد فيوليت بين يدي إرورا حينما سقطت الأخرى على السرير، بدأت إرورا تشعر ببرودة يد فيوليت وهذا ما جعلها تتجمد دون أن تصدر أي رد فعل آخر. لم تكن تريد أن تفترض أي افتراضات، لم تكن ترغب بأن يكون ما يدور في رأسها صحيحًا، ولكن صرخة جنيفر أيقظتها من جمودها وجعلتها تحرر يد فيوليت من بين يديها. نهضت من السرير ودقات قلبها تتسارع، وقد منعتها الدموع المتجمعة في عينيها من الرؤية بوضوح. كانت جنيفر تستلقي بجانب جسد فيوليت وهي تبكي بجنون دون أن تستطيع إفلات يدها حتى.
انتفض ليوناردو من مكانه وقد رغب بشدة أن يقترب منها ويطلب منها الاستيقاظ، هو ليس مستعدًا أبدًا لمثل هذا. لا يمكن أن تموت أبدًا وتتركه وحده يتعذب إلى الأبد، لا يمكن أن تموت أبدًا قبل أن يعتذر منها ويخبرها عن ظروفه الصعبة، ولكن أي ظروف تلك التي جعلته يلقي بها إلى الموت؟ لقد ماتت فيوليت كما ماتت الوردة الأرجوانية من قسوة الشتاء. لقد ماتت بسبب اشتياقها والدتها، ولكن لماذا ما زال هو على قيد الحياة؟ هو لم يكن يومًا على قيد الحياة، ولكنه على قيد الموت يعيش في ظلمته ويتشرب اليأس بين ثناياه. الألم الذي في قلبه الآن لا يعادل أي ألم في الحياة، ومع كل شهقة بكاء من جنيفر كان هو يتراجع خطوة إلى الوراء وكأن الذنب يحاصره من كل جانب، يود أن يثبت له كما هو سيء.
وجد نفسه يخرج من الغرفة بعد أن فقد القدرة على التحمل، وقف في آخر الممر ثم بدأ بالبكاء الشديد وهو يجلس القرفصاء مسندًا ظهره إلى الحائط، كان يود أن يختفي من الوجود؛ لم يكن قادرًا على تحمل الألم.
وجد من يعانقه بعد مرور دقائق عدة منذ بدء بالبكاء.
«لست المذنب». همس له ألبرت وهو يربت على ظهره. كان ألبرت يشعر بشعور الأبوة تجاه ليوناردو كأنه ابنه الذي لم يملكه. ابنه الطائش الحزين والذي عاش في ظلم العالم طوال سنين حياته، كان يدرك تمامًا أن فيوليت ستموت وأن موتها سيترك تأثيرًا قويًا في نفس ليوناردو، وهذا ما جعله يرفض تركه وحده حتى لو استغنى عن هدفه برفقة فيكتوريا.
«لقد ماتت فيوليت بسببي، لن تسامحني أبدًا». قال ليوناردو بصوت مبحوح.
«لست السبب، بل أنا السبب الأول ونحن جميعًا ضحايا. لم تمت فيوليت بسببك ولا بسبب ما فعلته فكتوريا بالدرجة الأولى، لقد كان عاملًا لكنه ليس بمسبب رئيس، فيوليت تعرضت لصدمات كثيرة بسبب حكومة كوكب الأرض التي استغلتها بالمقام الأول، ثم أبعدتها عن الأم التي ربتها وحرضت الأب على قتلها. ».
لم تكن كلمات ألبرت لتهدئ من اضطراب ليوناردو وشعوره المؤلم بالذنب، فلا شيء يثنيه عن الحزن على موت فيوليت.
التعليقات