رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل السابع
كنت أجلس في الممر والحركة من حولي مستمرة هنا وهناك، أسِرّةٌ يتم دفعها وعليها حالات حرجة أو حالات أقل خطورة، وكراسي تدفع لِمن كسرت قدمه أو ساقه، كما أن الوضع متوتر هنا كثيراً وهذا زاد من اضطرابي!
التوترات من حولي وأصوات الأجهزة الطبية كفيلة باستفزازي وإتلاف أعصابي حقاً.
كنت أهز قدمي بينما شفتي تكاد تنزف من شدة العض عليها وتعذيبها بأسناني، أحضرته إلى المشفى ولا يزال فاقداً لوعيه!، أعلم انني ارتكبت حماقة وقد كان هناك عشرات الخيارات والحلول متاحة أمامي ولكن. الخوف آنذاك شلَ عقلي وعجزت عن التفكير بروية!
دانيال لن يمانع لكمي هذه المرة حقاً. سينسحب ولن يكون هناك مجال لإقناعه مرة أخرى!
لا يمكنني اخباره بتفاصيل ما دفعني للتصرف بتلك الطريقة، فلا شيء بيني وبينه أكثر من مصلحة عمل ومع ذلك على التفكير بتأني بما على قوله له ليهدأ ويسمعني.
متى سيفيق!؟ وماذا يكون بحق خالق الكون؟ قصة معكوسة للأميرة النائمة؟ يحصل على قبلته وبدلاً من الاستيقاظ يفقد وعيه.؟ ولكنني. لم اقبله!
إن رفض العمل معي. كيف سأتصرف؟
هاتفي يكاد ينفجر بسبب اتصالات الرفاق جميعهم ولا سيما روز وجانيت، لا بد وأن ما حدث أثار ضجة، فلقد خرجت من الاستراحة وناديت بأحد الزملاء ليرى ما أصاب دانيال. وبعدها ساعدني على حمله وأخذه إلى المشفى وغادر قبل فترة قصيرة عندما أخبرته أن يعود إلى العمل، لا بد وأن الخبر تسرب في كل مكان. لا بأس سأقول بأنه لم يتناول فطوره وبذل جهداً كبيراً في التصوير وحسب. آه سحقاً هذا ليس مقنع، ربما سأقول بأنه مريض ويحتاج إلى قسط من الراحة.
تنهدت بلا حيلة أندب حظي، ثم انتبهت للطبيب الذي خرج من الغرفة واضعاً يديه في جيب معطفه الأبيض، وقفت لأسأله بإهتمام: هل هو بخير؟ هل استعاد وعيه؟
ابتسم لوهلة.
ثم ضحك بخفوت!
استنكرت ذلك كثيراً وعقدت حاجباي: م. ما المضحك!
أخرج يمناه و أشار بإبهامه للخلف: المريض يهذي ولا زال كذلك. لا أدري ما الذي حدث ولكن يبدو أنه وصل إلى حده.
ماذا!
نفيت برأسي بعدم فهم: إذاً؟ ما خطبه!
رفع كتفيه: عملت في المجال لأكثر من سبعة أعوام ولم أعتني يوماً برجل يهذي بكونه قد تعرض للتحرش، حسناً إنه بخير بل وبأفضل حال، كل ما في الأمر أنه اجهد نفسه أكثر من اللازم على ما يبدو، هل تعرض لموقف سبب انفعال له؟ ارتفع ضغط الدم لديه بمعدل سريع ولكنه بخير الآن.
تورد وجهي رغماً عني وبحثت عن كذبة بيضاء بسرعة: سمعت انه اعترف لفتاة بمشاعره ولكنها رفضته. كان يبدو هائماً في حبها لا بد وأن ما حدث أصابه بالصدمة.
لوى شفته بتفكير وعدم اقتناع: ماذا عن الكلمات التي يهذي بها؟ يبدو أنه مر في موقف أدى إلى تسارع خفقات قلبه فوق المعدل الطبيعي، ربما كان متوتراً جداً أو بالكاد استطاع ضبط أعصابه.
س. سمعت أنه يوجد فتاة تلاحقه أينما ذهب لربما خلط بين الموقفين؟
لا فكرة لدي عن هذه التفاصيل، لم يحتمل الوضع على ما يبدو، بسيطة. سيحتاج إلى الراحة اليوم فقط وغداً سيكون على ما يرام، كما انه قادر على الخروج ولكن لا زلت أنتظر نتيجة التحاليل فقط مع أنني واثق أنه لا يواجه أي مشكلة، يبدو شاب قوي البنية ويحافظ على لياقته. سنتصل بكِ في حال وجود خطب ما في التحاليل عدى ذلك فكل شيء بخير.
أومأت بتردد فابتسم متسائلاً بتركيز: ما هي علاقتكِ به.
زملاء عمل.
حسناً أياً يكن اعتني به.
لاحقته بعيناي بينما يغادر وقد مررت يدي في شعري بلا حيلة.
يهذي بما حدث.؟ على التصرف!
زميت شفتي بقوة أضع يدي على الباب بتردد لثواني قبل ان ادفعه وأدخل.
كانت إحدى غرف الطوارئ ولهذا يوجد أكثر من سرير هنا، ولكن لا أحد متواجد سواه، رأيته ينام على السرير الأول ويحرك فمه بالفعل متمتماً بكلمات خافتة!
اقتربت مرتبكة رغماً عني، وقفت بجانب السرير لتلتقط أذني كلماته بينما يغمض عينيه بوجه شاحب ومتورد في الوقت آنه: لماذا لا يصدقني جيمس، هذه المرة أنا حقاَ ضحية.
اتسعت عيناي حين أكمل: أنا أتعرض للتحرش بإستمرار.
رفعت يدي نحو ثغري محاولة الحفاظ على اتزاني قد جزيت على أسناني بإنزعاج، لا عجب ان الطبيب كان يضحك! متى سيتخطى هذا الوضع؟ تباً مشاعري متضاربة بشدة! أعلم أنني أخطأت ولكن.
كورت قبضتي بقوة وتساءلت عما يجب فعله الآن.
نظرت إليه بتمعن وتركيز.
شعره الكهرماني الأسود كان فوضوياً نوعاً ما، كِلا جفنيه يرتجفان دون توقف. يعقد حاجبيه منزعجاً بوضوح ولم يتوقف فمه عن الهذيان بصوت خافت.
وقفت في مكاني شاخصة بعدم استيعاب.
أعود بذاكرتي إلى تفاصيل الموقف!
رفعت يدي بتلقائية نحو صدري أحدق إلى ثغره بدهشة أتذكر أمراً غاب عن ذهني! بل طرده عقلي تماماً نظراً لشعوري بالضغط والتوتر!
عندما أرغمته على الإنحناء فوقي، أعلم أنني تهورت كثيراً وقد كان وجهي قريب منه ولم تفصلنا مسافة ومع ذلك كنت حريصة على ألا اتجاوز حدودي ولكنني الآن أتذكر وبوضوح تام.
ان شفتيه لامستا خاصتي! لحظة. لم أكن السبب!
هو من فعل ذلك أنا واثقة!
طرفت بعيني بعدم تصديق أتذكر ما حدث بالفعل.
رفعت يدي امررها على جبيني بلا حيلة!
هذا الغبي لماذا فعل هذا! كنت أتظاهر وحسب ليقتنع باتريك بأنه قاطع ثنائي وحسب. لماذا جعل الأمر حقيقياً؟ لقد حاولت جاهدة ألا أبالغ!
أغمضت عيناي بإحباط ثم زفرت ونظرت إليه بترقب.!
أعتقد أنني.
بحاجة إلى قلب الطاولة عليه هذه المرة.
إنه الحل الوحيد!
ناديت بإسمه لأيقظه ولكنه بدى منزعجاً ولم يستجب لي، حاولت مجدداً دون جدوى فأمسكت بالوسادة لأسحبها من أسفل رأسه واضعها على وجهه بقوة لأتمتم بتبرم: إن بقيت هكذا فسأخنقك بالوسادة حتماً!
زميت شفتي ونظرت بعيداً ثم عاودت انظر إليه، هل استيقظ ويرفض ابعاد الوسادة؟ أعتقد هذا.
ابتعدت وتركت الوسادة فوقه رأسه، تنهدت لأقول بهدوء: أعلم أنني ارتكبت الخطأ نفسه للمرة الثانية، وأعلم اننا انهينا سوء الفهم في المرة الأولى. ولكنني.
آسف.
هل. يعتذر؟ لماذا.! مهلاً.
فغرت فمي قليلاً بعدم استيعاب، أبقى الوسادة على رأسه بل وتقلب لأواجه ظهره لاسمعه يتحدث بنبرة غريبة: من حقي لومك والغضب عليكِ ولكن. آسف على ما حدث.
إذاً هو يدرك ما قام به بالفعل قبل أن يفقد وعيه.
ومع ذلك. هذه المرة لا يوجد مجال لإهدار الوقت أكثر، سأتوقف عن العمل معكِ لذا توقفي عن مقابلتي أو محاولة اقناعي، لن يتغير شيء. إنها أنتِ. لن تبالي بمراعاة أي شيء يعاني منه الناس من حولك لذا لنتوقف عند هذا الحد. اعتذرتِ في المرة الأولى، واعتذرتُ الآن عما بدر مني رغم انني احملك المسؤولية الكاملة ولكن هذا يكفي.
حدقت إليه بإنزعاج واستياء لأجادله: لحظة! في المرة الأولى لم أكن أعي ما أفعله حقاً، كنت منفعلة بشدة وتهورت كثيراً، ولكن هذه المرة. أ. أنا لدي مبرر، كنت مضطرة! لم يكن في يدي أي حل آخر! أقصد. ربما يوجد حلول أخرى ولكنني لم أحسن الاختيار!
أياً يكن السبب. لا شيء يتغير، الأمر يزداد سوءاً لذا توقفي.
قال كلماته بهدوء غريب!
ابعد الوسادة عن وجهه وجلس معتدلاً دون أن ينظر إلي، بقي على حاله لثواني قبل ان ينزل قدميه على الأرض ووقف يهندم ملابسه، تحرك ووقف لأواجه ظهره: الوعود بالنسبة لكِ مجرد هراء وحروف منطوقة لا معنى لها، قد أكون فاشلاً في التعامل مع النساء ومثير للشفقة، ولكن هذا أيضاً يجعلني أكثر خطورة. لم يسبق لي وان شعرت بالغضب من شخص ما دون قدرتي على تفريغ سخطي به، لا أدري كيف من المفترض أن ألقنكِ درساً ولا أظن أحد الخيارات متاحة أمامي. لن تستوعبي كم أحاول جاهداً تمالك نفسي لأتراجع عن استخدام كلتا يداي في تفريغ ولو القليل من هذا الغضب.
ابتلعت ريقي بصعوبة، بقيت أحدق إليه بصمت أنصت إلى كلماته ونبرته المتزنة رغم الرجفة الواضحة فيها، بل وأكمل والإشمئزاز يتضح في صوته أكثر: إن كنتِ معتادة على تصرفات جريئة مماثلة فحري بكِ ان تفهمي. أنه ليس بالضرورة ان تترك أثراً جيداً على الآخرين دائماً، أنصحك بألا تريني وجهك، المال أو أياً تكن أسبابي. اضمحلت منذ اللحظة التي أخلفتِ فيها وعدكِ مجدداً. كفاكِ هوساً بمصالحك.
جزيت على أسناني بقوة.
معتادة؟
هل انا معتادة على التصرف بهذه الجرأة مع الرجال؟ كيف يجرؤ! والآن كيف أقنعه! كيف أمحي خطأي؟ لا يمكنني التراجع الآن وهو يقرر ترك العمل معي! ليس بعد ان نجحنا في الجلسات الأولى للتصوير!
هذه المرة لم أكن أعني الإساءة إليه! أردت فقط. الهرب!
كنت مرغمة!
تحرك مبتعداً ينوي الخروج فقلت بجمود دون ان التفت نحوه أو أنظر إليه: اضطررت لذلك، كان على التصرف حينها. أخلفت بوعدي لأنني لم أجد سبيلاً أخر. ماذا عنك؟ كنتُ حريصة أن يبقى الأمر مجرد تظاهر ولكنك حولته إلى حقيقة.! اعتذرت لأجل هذا السبب حقاً؟ بينما لا يحق لي تقديم اعتذاري لك؟
وقف للحظات ولا فكرة لدي عن التعبير الذي كان يعتلي ملامحه.
ولكنه تمتم بجفاء وعدم الراحة جَلي في صوته: حتى لو لم أكن أواجه عائقاً في التصرف مع النساء. فحتماً سأكره مجرد النظر إليكِ. سأكره تخيل نفسي صديق، شقيق أو حتى زوج لامرأة مثلك لا تهتم سوى بمصلحتها ولا تراعي مشاعر الآخرين. أعتقد ان هذا الشعور من حقي ولا شأن لكِ به. ولكنها الحقيقة. لا أشعر بالراحة لمجرد التواجد معكِ في المكان ذاته. أما عن اعتذاري فعلى الأقل أدرك جيداً أنني. أخطأت، ولن أبرر لنفسي أو أتعذر بأنكِ من تماديت أولاً. لن أخذ خطأك ذريعة لي، فلتكن هذه آخر مرة ترغمينني فيها على رؤيتك او حتى سماع صوتك.
كل ما كنت أفكر فيه هو حماية نفسي.
أردت الهرب بأي طريقة ولم أبالي بالفعلة السخيفة التي ارتكبتها للمرة الثانية.!
تصرف كما لو ضاق ذرعاً حقاً. أعلم أنني أضغط عليه كثيراً.
تلك الكلمات.
بدى وكأنها كانت تنتظر بفارغ الصبر على لسانه.
يشعر بالإشمئزاز مني. لست إلا مزيفة أنانية تبحث عن مصلحتها الشخصية في عينيه، ليس وكأن رأيه بي يهمني. ولكنني لم أعد أرغب في سماع هذا من أي شخص.
اكتفيت.
نظرت بأعين باهتة حيث كان يقف قبل لحظات، خرج ولم أكلف نفسي عناء ايقافه أو اقناعه أكثر. أعلم جيداً أن هذا لن يأتي بنتيجة، فهذه المرة.
كان هدوءه غريباً.
ولا أنكر أنني عجزت عن جداله، وكيف أفعل بينما يحافظ على هدوء غريب في وضع مماثل.
ربما. إن انفجر فلن تتسنى الفرصة لي للندم حتى على استفزازه!
جلست على السرير حيث كان يستلقي، تنهدت بلا حيلة وإنهاك شديد أحدق إلى الفراغ بشرود ووهن.
كل ما أردته هو التألق دون أموال أبي.
كان أبي صادقاً في كل كلمة قالها.
الم يقل أنني مجرد ابنة لا تجيد سوى استنزاف أموال العائلة وتدمير قيمها؟ ألم يقل أنني لن أقدر يوماً على تحقيق النجاح بمفردي طالما أفكر بنفسي فقط؟ إنه محق. لا زلت مجرد مدللة لا أجيد العناية بنفسي فكيف قد أعتني بمن حولي!
لا زلت أريد حقاً رؤيته فخور بي، أريد رؤية الجميع يثني على وعلى جهودي! أريد أن يكون تغيري للأفضل ونجاحي. بمثابة اعتذار قّيم أقدمه للجميع.
عندما تركت منزل العائلة لم يكن بحوزتي سوى حقيبة ملابسي. والكاميرا التي جعلت بصيرتي تفيق وتستوعب أنني لا أزال أملك موهبة منذ الصغر لم أحسن استغلالها! بأنني ومنذ سنوات طويلة لم أكن أجيد سوى التقاط الصور.
ومع ذلك فكل خطوة خطوتها لا أنكر أن مساعدة أبي منعتني من التعثر بها.
لا يقتصر الأمر على الشقة التي أعيش فيها فقط، فحتى المجلة التي أعمل بها.
لو لا توصيته بشأني عند السيد كوفمان. لما حظيت بهذه الفرصة، في النهاية لا أزال أعتمد عليه. رغم أنني لا أستحق كل هذا! فلا يزال يساعدني عن بعد. رغم كل ما فعلته!
خرجت من المشفى بذهن شارد والتشتت قد تملكني بالكامل، عندما وقفتُ بجانب إحدى اشارات المشاة توقفت عن اكمال طريقي وبقيت أحدق بشرود إلى المبنى الشاهق الذي يُعرض على شاشته الضخمة أحد اعلانات المجلة. جثيت على ركبتي فجأة وقد سيطر اليأس والضيق علي، لأجلس على الرصيف أتجاهل نظرات الناس من حولي. أسندت كلتا يداي على الأرض وقد جابت عيناي على الفراغ بتعب.
تنتابني غصة.
أرغب بشدة في البكاء ولكنني لا أريد!
إلى متى سأفسد الأمور هكذا. إلى متى!
أشعر. برغبة ماسة في العودة إلى أبي، لرؤية ريتشارد، ولمصالحة هانا.
مللت البقاء وحدي.
هل هي بخير؟
تساءلت إحدى النساء التي وقفت تنظر إلى بقلق وحيرة، رمقتها بعين ناصلة لثواني ثم استجمعت قواي ووقفت أكمل طريقي.
لا أدري ما الذي على فعله منذ هذه اللحظة.
أشعر أن محاولة اقناعه بالعودة إلى العمل لن تأتي بأي نتيجة ترجى. لم تنتهي جلسات التصوير بعد، لا يزال علينا اكمال التصوير في أحد المواقع التي سيقترحها جاك لاحقاً.
وها أنا ذا أفسدت كل شيء بكل سذاجة!، يا ترى كيف أتصرف! هل أخبر السيد كوفمان؟ لا بد وأنه سيفقد وعيه. سحقاً لم يعد هناك ما يكفي من الوقت لأجل موعد صدور المجلة.
يبدو أن كلتا قدماي تقودانني بلا حيلة إلى شقتي.
هاتفي لا يتوقف عن الرنين.
اتصلت جانيت مرارا وتكرارا، وكذلك باقي الرفاق، والآن تتصل روز التي أجبت على مكالمتها بهدوء في النهاية: مرحباً روز.
اتى صوتها بنبرة انزعاج واضحة: بربك يا كتاليا لماذا تتجاهلين اتصالاتنا! أخبرينا هل هو بخير؟ الجميع يتساءل بشأنه هنا حتى السيد كوفمان علم بما حدث وأعلمني بضرورة إيصال المستجدات حالاً!
المستجدات؟ وماذا أقول لهم؟ بأننا في ورطة وعلينا البحث عن شخص آخر؟ بأنني لا أتوقف عن تجاوز حدودي!
تنهدت بعمق ومع ذلك قلت مختصرة الأمر: كل شيء على ما يرام، ولكنه بحاجة إلى الراحة اليوم فقط، أخبري السيد كوفمان أنني سأتي إلى مكتبه غداً لتوضيح بعض الأمور.
بعض الأمور؟
روز. سأغلق الآن، ولكنني بحاجة إلى الحديث معكِ أنتِ وجانيت، سأنتظركما في شقتي بعد انتهاء عملكما، أمامكما أقل من ساعتين تقريباً لا تتأخرا.
كتاليا. صوتك! هل أنتِ بخير؟ ما خطبك! أخبريني بكل صراحة ما الذي حدث حقاً تبدين متضايقة!
رفعت رأسي أنظر إلى السماء أتأمل صفائها قبل ان أقول: سأنتظركما روز.
أغلقت الهاتف فوراً وأسرعت في خطواتي والغصة لا تنكف تحاول خنقي. وصلت إلى شقتي وقد شعرت أن المسافة طالت والأرض تخلق سراباً يوهمني بوصولي إلى وجهتي، هذا غريب. الإحباط جعلني أتحرك مثل ثملة بالكاد تجيد تحريك قدميها.
كنت أقف أمام باب شقتي باحثة عن المفتاح وقد ابتسمت بعفوية أسمع صوت بينديكت خلف الباب، علم بوصولي ويريد استقبالي كعادته، أنا ايضاً لا يمكنني الانتظار أكثر، فتحت الباب وكما توقعت. جثيت التقطه فنبح بصوته الحاد وبدى مفعماً بالحيوية، ابتسمت ممازحة بصوت مشاكس: هل تستنكر عودتي في وقت مبكر أيها الصعلوك اللطيف؟
ربما رؤيته حسنت مزاجي كثيراً.
لا بأس. لا يجب أن أبقى مكتوفة الأيدي سأعثر على حل بطريقة أو أخرى!
يمكنني تجاوز الأمر.
سأحاول.
القيت نظرة على طبقه فأضفت متسائلة باستغراب: لم تتناول طعامك بعد! لا تخبرني أنك مللت هذا الصنف.
نبح بقوة فضحكت بخفوت فوقفت ودفعت الباب بقدمي لأغلقه.
ولكنني استغربت عدم سماع صوت إغلاقه فاستدرت بحيرة. ارتخت يداي بشدة وسقط بينديكت مني، بقيت شاخصة وقد هربت الدماء من عروقي وانتابتني البرودة الشديدة في كل أطرافي أحدق إلى الأعين الخضراء التي تحدق إلى بظفر وتمعن.
سيطر على الخوف والهلع وقد بدأت أعي ضرورة التنفس بعمق وإلا اختنقت!، كيف! منذ متى!
جف حلقي تماماً وارتجفت شفتاي أنظر إلى يده التي تمسك الباب، ثم إلى الإبتسامة الهادئة على ثغره. وعينيه الخضراء الداكنة التي تتمعن النظر إلى من رأسي إلى أخمص قدماي!
وقع قلبي في معدتي واهتزت أوصالي لإغلاقه الباب وقد أدار المفتاح جيداً.
نبح بينديكت وبدى حذراً وغاضباً، في حين تراجعت للوراء أنظر إلى مقلتيه وكأنني تحت السيطرة وأعجز عن إحالة ناظري بعيداً عنه!
عثر علي.! وجدني وقد نفذت كل الفرص مني.
يا الهي. كيف أتصرف الآن!
صوتي لا يخرج، أريد الصراخ عليه والركض ولكن جسدي لا يستجيب!
أنا. لستُ نداً له! الحقد يملؤه ولن يتردد في. انتفضت وشهقت بخوف وحذر حين اقترب مني وقلّص المسافة، بل وأنني توقفت عن الحركة عندما حوصرت بينه وبين الحائط خلفي لأستوعب أنني كنت أسير نحو الحائط بدلاً من التراجع حيث غرفة الجلوس!
وقف أمامي مباشرة.
رفع يده اليمنى ببطء فطرفت برعب عاجزة عن الحركة، مرر يمناه على وجنتي ولا يزال يحملق بي،!
ليته يكون مجرد كابوس أستيقظ منه الآن، لطالما كنت أهرب ولم أكن مستعدة لمثل هذه اللحظة وإن كنت أعلم في قرارة نفسي أنها آتية لا محالة، لا يمكنني التقاط أنفاسي بانتظام، رؤيتي مشوشة! الدموع تتجمع في عيناي رغماً عني.
رفع يده نحو رأسي فأغمضت عيناي بفزع أكبت صرخة تنوي الفرار من حنجرتي إلا أن الخوف قيدها.
س.
سيضربني!
انتظرت مصيري ولكنني ذهلت عندما مرر يده في شعري واقترب أكثر يهمس بصوته الذي سبب لي قشعريرة الإزدراء والجزع وعينيه تتفرسان في وجهي: تستقبلينني بالدموع بعد كل ما فعلته لأصل إليكِ؟ يا للقسوة.
نفيت ببطء وقد خرج صوتي متقطعاً: دعني وشأني، اتركني ولا تفكر في لمسي حتى!
كِلانا ينتمي للآخر. وتركك مجدداً ليس أمر وارد.
استقرت يده في شعري، فرفعت يدي المرتجفة بإنفعال وإضطراب لأبعد يده عني وقد احتدت عيناي رغم دموعي لأهمس: أنا لا أنتمي إليك باتريك. لم يعد هناك ما يربطنا لماذا لا تستوعب هذا بحق خالق الجحيم.!
انفرجت زاوية فمه بابتسامة متهكمة: لا يوجد ما يربطنا؟ من الجيد أن مزاجي لا يؤهلني للحديث وإلا لكنت ذكرتك بكل شيء وأخرجت كل ما في جعبتي، أخبريني. إلى متى كنتِ تنوين الفرار؟ كان من الممتع رؤيتك مثل القطة التي تختبئ هنا وهناك، ولكن مطاردتك منهكة كما تعلمين. لنتوقف عند هذا الحد.
قالها واضعا يده على كتفي فابعدته عني اتراجع للخلف بحذر محاولة التوقف عن ذرف الدموع، بقي بينديكت ينبح بغضب وتحذير وقد اقترب من قدمه ليعض ساقه!
أخفض رأسه ينظر إليه ببرود، ليهمس بملل: يا للإزعاج.
شهقت برعب وأنا أرى قدمه التي تطير بالجرو بعيداً ليصطدم بالحائط!
صرخت أتجه نحوه بذعر: بينديكت!
أمسكني من ذراعي يوقفني بقوة واجبرني على الوقوف أمامه!
بكيت برجاء وبصوت عالي مرتجف: ما الذي فعلته أيها الحقير! اتركني. بينديكت لا يبدو بخير قلت ابتعد!
حاولت ابعاده انظر إلى بينديكت الذي أصدر صوتاً ينم عن آلامه! لا يمكن.
لقد ركله بقوة!
عضضت على شفتي أحدق إليه يتألم ويحاول الحراك.
فقدت أعصابي وصرخت أحاول تحرير نفسي: قلت لك اتركني. كيف سولت لك نفسك فعل هذا بجرو صغير، ابعد يدك عني أيها الوحش عديم الإنسانية!
شهقت بذهول وألم للصفعة التي لسعت وجنتي بقوة!
فقدت توازني ولكنه أمسك بشعري يقربني إليه وقد همس بحزم وعين حادة لا تظهر سوى بريق الحقد: لا تجرئي على إدعاء الرحمة أيتها السافلة، تظنين أنني سأتجاهل كل ما حدث؟ سأخرس لمجرد رؤيتكِ تعيشين حياتك بصورة طبيعية في حين خسرت الكثير؟ أفيقي كات. العائلة التي كنتِ تحتمين فيها لم تعد سنداً ملائماً لكِ، ثلاثة أعوام كاملة أيتها اللعينة. ثلاثة أعوام ظننتِ فيها أنكِ ناجية من عقابك، اللعنة عليكِ.
إياك والتحدث بكل جرأة بعد كل ما فعلته! أنا لم أرى شخص بوقاحتك!، لا تلفق أخطائك وترميها علي، تستحق كل ما حدث لك ولطالما تمنيت أن تنال ما هو أكثر، إن كنت لن تسامحني فأنا سألعنك وأبقى ألعنك طالما أتنفس الهواء. وحتى بعد الممات، مجرم حقير مثلك لا يستحق الحرية أبداً، عد من حيث أتيت أيها.
بكيت بألم وقد قاطعتني يده التي أمسكت بذقني بقوة، زاد من قوته حتى تسبب في نزيف فمي وقد جعل أسناني تحتك بالجزء الداخلي من فمي بقوة بأصابعه!
لا أستحق الحرية؟ ومن يستحقها يا ترى؟ أنتِ؟
سعلت حين دخلت الدماء عبر جوفي، أغمضت عيناي بألم واشمئزاز، زمجرت بصعوبة اضرب يده بقوة: توقف، ابتعد!
ابتعد من تلقاء نفسه يحدق إلى شزراً، بصقت القليل من الدماء، سرت الرجفة في كتفاي واطرافي أنظر إلى بينديكت الذي يتلوى ويئن.
عاودت أرفع عيناي أنظر إليه وقد همست بصوت متقطع حاقد رغم ضعف نبرتي: لا تقحمني في عالمك القذر، أنا مختلفة عنك ولن أصبح يوماً مثلك هل تفهم! نعم أستحق الحرية. لم أقم يوماً ب.
ولكن الذكريات الملوثة التي اقتحمت مخيلتي أخرستني وجعلتني أتسمر في مكاني بعجز تام!
ابتسم بثقة وتحرك ليقف خلفي مباشرة.
أحاط بي بكلتا يديه وقربني إليه ليصطدم ظهري بصدره.
أراح ذقنه على كتفي يحرك شفتيه على وجنتي بنعومة ولطف فانتابني الإشمئزاز الشديد، همس في أذني بصوت منخفض عميق مليء بالمكر والثقة: أرأيتِ؟ لا بد وأنكِ تدركين في قرارة نفسك أننا لا نختلف عن بعضنا البعض. أن كلانا ينتمي إلى الآخر كات.
انتفضت بخوف واضطراب ليده التي يمررها على معدتي، نزولاً إلى بطني ليكمل هامساً بأسى خافت: هنا حيث كانت الرابطة ستنشأ بيننا عزيزتي كتاليا.
ب. بأي حق يجرؤ على ذكر هذا الموضوع بدم بارد! كيف يتحدث عن هذا الأمر وكأن شيئاً لم يكن؟
استحوذ على الشيطان الهائج وقد انتزعت نفسي منه أنظر إليه لأصرخ بكره وسخط: تباً لك لا تتحدث عن هذا الأمر أبداً، من أين لك بكل هذه الجرأة والوقاحة؟ أي جزء من ذاكرتك قد حذف ما وقع آنذاك! أنا لن أسامحك طالما حييت، لقد وعدتك أن تدفع ثمن فعلتك. سأذيقك كل ما شعرت به. سأذيقك طعم حمم الجحيم التي تستحقها.!
يذكر الأمر بكل بساطة؟
يذكره وكأنني تخطيت الأمر بسهولة، يذكره وكأنني لم أخسر روحاً صغيرة لا ذنب لها في أي شيء.! تعبت. لم أعد أستطيع مجاراته! وجدت نفسي أكمل بصوت خافت ولا أزال أحدق إليه بجفاء ووعيد: قد أكون خسرت. ولكنني شاكرة لعدم تشكل أي رابطة بيني وبينك، لم أكن لأصبر يوماً على قضاء المزيد من الوقت معك، ولم تكن تلك الروح البريئة لتتقبل واقع أن شخص مثلك. بجشعك، بمكرك وبقذراتك. سيرتبط معه بدماء واحدة. حمداً لله على فقدانك لأعصابك آنذاك، ستكون المرة الأولى والأخيرة التي أشكرك فيها على حماقتك.
تأوهت لتلك الصفعة التي أطاحتني أرضاً بعنف ورفعت يدي فوراً أمررها على وجنتي عازمة على التوقف عن البكاء ولو لمرة واحدة! أن أتوقف عن التصرف بضعف أمامه! الم يحن الوقت بعد لأكون امرأة قوية يعجز عن استعراض قوته عليها؟ متى. متى بحق الإله ستحين هذه اللحظة!
متى!
كنت أجلس على الأرض أتألم بصمت.
أسمع بينديكت الذي اقترب مني، لا يبدو بخير. ومع ذلك فهو يلعق كف يدي التي أسندها على الأرض.
خنقتني الغصة ورفعت رأسي أنظر إليه بكراهية تكاد تحرق كل ما تلمسه. لأقابل خضرتيه الباردة اللامبالية وقد قال: تأثرتُ بمشهد إنساني.
جثى على ركبته اليمنى أمامي ومرر يده ببطء على رأسي: عزيزتي كتاليا. لا تنسي أن كلانا فقد إنسانيته منذ وقت طويل. منذ أن قررت السير معي. منذ أن اخترتني عوضاً عن عائلتك. الم يحن الوقت لنبدأ من جديد؟ ألا تريدينني أن أسامحك على ما فعلته؟ أعدك أن أحاول. إن اصبحت مطيعة ولطيفة. عدى ذلك فأنا لن أكبح غضبي حقاً. وحينها لن أرحمك.
همست أنظر بعيداً بصوت مرتجف حاولت جعله حازم: بداية جديدة؟ ألا تعلم أن بدايتي الجديدة لا تنص على وجودك في حياتي أصلاً؟
ظل يحدق إلى بهدوء فأكملت بغضب: ألا تعلم أنني قررت تطهير حياتي من كل ما اقترفته يداي، ومن كل فعل جررتني إليه وقد تبعتك كالحمقاء المتيّمة! اللعنة عليك باتريك سأرسلك إلى الجحيم حتماً. سأجعلك تندم على كل شيء. منذ البداية وحتى هذه اللحظة. أنا أقسم بهذا.
كم أنتِ لطيفة. أحب مظهركِ الغاضب الظريف.
قالها وقد ابتسم بتهكم، أمسك بشعري بعنف واقترب من وجهي ليقلص المسافة تماماً، مرر شفتيه على جبيني. على وجنتي ثم نحو إذني ليهمس فيها: قررت تطهير حياتك؟ قرار مثير للإهتمام! هل تتصرفين كالتائبة التي تحاول ارتداء الثوب الأبيض النقي وتلقي بثوبها المتسخ بعيداً حريصة على تنظيف يديها الملوثتين؟ أفيقي يا جميلتي. ستبقين كتاليا الأنانية التي لا تأبه سوى بمصلحتها الشخصية، ستبقين تلك الفتاة التي ساهمت بحمقاتها وغبائها في تمزيق الرابطة الأسرية بين أفراد عائلتها، لا زلتِ الفتاة التي وقعت في حبي كالمغفلة متأثرة ببضع كلمات معسولة. إلى أي مدى ذاكرتك ضعيفة وتحتاجين من يذكرك بحقيقتك دائماً!
لا أكترث بذلك الحب. نسيت ذلك الهراء الذي تتحدث عنه، فكل ما أكنه لك الآن هو أسوأ من الكره الذي قد يحمله أب لقاتل فلذة كبده. أسوأ من الكراهية التي يشعر في السجين المظلوم تجاه السجان، أعمق من شعور الحقد والألم الذي تكنه روح من قُتِل غدراً.!
اتسعت ابتسامته وزادت قوته في شد شعري فتأوهت رغماً عني بصوت عالي.
رفعت كلتا يداي أحاول ابعاده ولكنه استمر في شده.
عليه اللعنة لن يتركني.
إنه متعطش وبشدة. يشعر بالظمأ ولن يطفئ ناره إلا بتفريغ غضبه بي.
نبح بينديكت بغضب وقد بدأ يكشر عن أنيابه وانقض على ساقه محاولاً عضه لولا أنني تفاجأت بهذا الحقير يقف ويركله بقدمه مجدداً ولكن بقوة أكثر من السابق!
غشت الدموع رؤيتي وقد سمعت صوتاً آلم قلبي وكتم أنفاسي.
بينديكت!
وقفت بسرعة أتجه إليه وقد بدى ينوي إكمال ركله وتفريغ غضبه به! أمسكت بقميصه من الخلف راجية: هذا يكفي! اتركه وشأنه. إنه مجرد جرو صغير!
أبعدني عنه بخشونة فعاودت أمنعه وقد اسرعت لأجثي على الأرض أحمي بينديكت في حضني، أمسك بشعري بعنف فتركت الجرو أصرخ محاولة تحرير نفسي.
جرني معه ليجبرني على التحرك.
إلى الغرفة!
لم تكن لحظات قصيرة.
لم تكن فترة هينة علي. ولم يكن لدي ما يسعفني وينقذني.
كل ما كنت أرجوه. هو حلول لعنة عليه من السماء تجبره على التوقف عن ضربي.
مشهد يتكرر للمرة المئة.
بنفس التفاصيل. بنفس الصرخات والتأوهات. والكلمات الراجية.! رجوته كثيراً حتى اختفى صوتي بإنهاك وتعب.
شعرت بطعم الدماء في فمي، وبحرارتها تسيل من أنفي.
وبألم يصف لي كيف قد يبدو انشطار الرأس إلى عدة أنصاف، أسمع صوت الصفعات على وجنتي. وكم كان صوتاً مهيناً. قاسياً. مرعباً.
إلى متى.؟ ربما. إلى أن تفارق روحي جسدي؟
فهو لن يمانع التخلص مني.
الكراهية متبادلة.
الفرق انني أكرهه وسأظل أعاهد نفسي أن أجعله يدفع الثمن غالياً.
بينما يكرهني آملاً أن يعود كل شيء كما كان ونبدأ من جديد. فقط ليحقق المزيد من طموحاته المريضة. باستغلالي.
استكمالاً للأعمال الشيطانية المثيرة للإشمئزاز.
كان الشك يراودني. كنت أعلم أنني لن أحظى بفرصة أخرى لأصبح شخص أفضل. لأصبح امرأة ألطف. وتنظف الشوائب التي تلوثها، ولكن.
ماذا عن كل ما فعلته حتى الآن!
عملي.
طموحي.
النجاح الذي حققته!
الوعد الذي قطعته في الحصول على رضى أبي. وشقيقاي؟
هل سيضيع كل هذا في مهب الريح؟
سيزول ولن يترك له أثراً وكأن شيئاً لم يكن!
كتاليا.
ألم تعاهدي نفسك! ما الذي حدث لكِ؟
تصرفي. دافعي عن نفسك. اصرخي. افعلي اي شيء ولكن لا تبقي مكتوفة الأيدي! على الأقل حاولي ولو بشيء يستحق الذكر.
فتحت عيناي وبالكاد فعلت.
تجاهلت الألم و تجاهلت الموت الذي يطرق الأبواب.
نظرت بعين ناصلة إلى المنضدة التي بجانب السرير الذي يجبرني على الاستلقاء عليه، وقد جثى فوقي يسكمل ضربي بلا تردد.
رفعت يمناي نحو بروازاً لصورتي ذو سمك متين ووزن ثقيل.
صرخت بأعلى صوتي وقد رفعته لأضرب رأسه، تسارع نبضي حين تأوه بألم شديد وابتعد يضع يده على أعلى جبينه وقد سالت الدماء ليصرخ بحدة: أيتها العاهرة.
اعتدلت وحاولت التحرك ولكنني شعرت بألم مميت في كتفي، ومع ذلك تحركت أبكي بسبب الألم في كتفي وكلا وجنتاي ومرفقي، ابتعدت عن السرير وأسرعت اتجه إلى باب الغرفة. ولكنني وقعت أرضاً بسبب ارتباكي وتعثري بطرف السجادة.
استدرت بسرعة أنظر إليه بإرتياب، لأجده يبدو متألما جداً وقد جلس على السرير يمرر يده على رأسه وبدى للحظة بالكاد يفتح عينيه.
أغمضهما ببطء وقد انهار جسده فجأة ليستلقي على السرير!
م. ما الذي.
ما هذا الشعور!
أسوأ من الخوف بمراحل بعيدة.
ماذا يكون.
لماذا لا يتحرك؟ لا يمكن.
هل.
قتلته؟
وقفت فورأً بتوجس وبقدم مرتجفة، ترددت كثيراً وتعثرت مجدداً.
ولكنني في النهاية اقتربت منه امسح الدماء من على ثغري بظهر يدي.
نظرت باتجاه معدته، وحينها أدركت أنه فاقد للوعي وحسب. فلا زال يتنفس!
يا الهي.
بكيت بخفوت وقد نظرت من حولي أحاول فهم ما سأفعله الآن.
استوعبت امراً فهرعت إلى غرفة الجلوس وتحديداً إلى بينديكت الذي يغمض عينيه ويستلقي على الأرض يلهث بوضوح.
نفيت برأسي بيأس وجثيت أحمله بين يداي.
علي معالجته حالاً. ولكنني.
متعبة حقاً!
لا أقوى على الحراك.
لا أستطيع حمل نفسي فكيف أحمله وأركض به إلى الخارج!
شعرت بثقل في كل أجزاء جسدي.
كما اسود العالم من حولي ولم أعد أستطيع إبصار أي شيء.
يبدو أنني.
وصلت إلى حدي، وخارت قواي.
تماماً!
ظلام دامس.
لا شيء.
لا أصوات، ولا أي مشاعر، الظلام وحسب.
مرحلة لا يمكنني فهمها.
مع أنني مررت فيها عدة مرات سابقاً، خضتها كثيراً في الماضي.
نعم. أتذكر الآن. سوف أتساءل ما إن كنت على قيد الحياة. أو فارقت روحي جسدي بالفعل.
سأتساءل إن كنت لا أزال أتنفس. أو أنني انتقلت إلى عالم بلا هواء.
أبحر في عمّاء. وأسير في تيماء، سأتساءل إن خسرت فرصتي للتجدد والتغير إلى الأفضل.
ستتوالي الأسئلة في رأسي الواحدة تلو الآخرة.
تلك اللحظة التي يراجع المرء فيها نفسه، اللحظات الأخيرة. ولكن ليست الأخيرة.
قد تكون الأولى. لشيء ما!
بدأت المشاعر والأحاسيس تعود إلي. وليتها لم تعد، أشعر بألام فظيعة في جسدي، ولا سيما كتفي. وعظام وجهي.
وبعد المرور في موجة من المشاعر. عادت الأصوات إلى أذني.
آه صحيح، يمكنني الآن سماع أصوات خافتة من حولي من الصعب تحديد هويتها، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أسمع اشخاص مألوفين.
لا أدري ما الذي يقولونه.
حاولت تحريك جفناي، حتى استطعت فتح عيني ببطء ووهن.
أول ما واجهني. هو سقف ما، غير مألوف.
إضاءة خافتة نوعاً ما.
أين أنا؟
حاولت تحريك رأسي لأنظر من حولي ولكنني تأوهت بأنين خافت، لأسمع صوت يصرخ بإسمي بقلق وجزع.
نظرت إلى الوجوه التي كانت فوق رأسي مباشرة.
روز وجانيت. هل أنا في المشفى!، حاولت الكلام ولو بكلمة ولكن الوهن نال مني.
ذرفت الدموع بضعف رغما عني لتسيل على وجنتي وصولاً إلى الوسادة، عقدت روز حاجبيها وعانقتني فوراً بينما عبست جانيت تهمس بإسمي مردفة بصوت مطئمن: حمداً لله أنكِ بخير. وأخيراً استيقظت.
صحت بفزع وقد اعتدلت فجأة فابتعدت روز، نظرت إليهم لأجلس متناسية كل ألم شعرت به: بينديكت!
وضعت روز يديها على رأسي مربتة برفق وهدأتني: لا بأس كتاليا لقد أخذه ديفيد إلى عيادة بيطرية بالقرب من هنا.
أيدتها جانيت تحثني على العودة للإستلقاء: لا تقلقي بشأنه سيكون على ما يرام، هل انت قادرة على الحراك حقاً؟
طرفت ببطء أردد الكلمات في عقلي، إنه بخير!
أو ربما. ليس كذلك؟
تساءلت بقلق: كيف هو؟ ما الذي أصابه؟ لقد كان يتنفس بصعوبة.
أخفضت روز رأسها بحزن قبل ان تبتسم بلطف: اتصل ديفيد قبل قليل، قال ان أحد أضلع القفص الصدري كان مكسوراً، لذا سيحتاج وقتاً ليتعافى، المهم أنه بخير في النهاية اليس كذلك؟
تقوست شفتاي وحدقت إليها بذهول.!
أحد أضلاعه. كُسرت!
أغمضت عيناي بقوة أشعر بانفطار قلبي، اللعنة عليه.
تنهدت روز بلا حيلة وقلق: ما الذي حدث تحديداً! أتينا إلى شقتك كما طلبتِ ولكن. هل ذلك الرجل من فعل هذا؟ لم يكن متواجداً عندما أتينا يا كتاليا، وجدت أنا وجانيت الباب غير موصداً بالمفتاح فدخلنا ووجدناك فاقدة الوعي على الأرض. هل هرب ببساطة وتركك خلفه! انه السبب بلا شك!
لقد خرج الوغد قبل وصولهم!
اليس هذا واضحاً؟ أراد أن يعتني بالجرح في رأسه وحسب.
انتابني غل وكره شديد، ومع ذلك اعتدلت أسند ظهري على الوسادة خلفي فساعدتني روز بينما جلست جانيت بجانبي تمرر يدها على كف يدي بهدوء: لقد أخبرنا الطبيب أنه من الضروري حصولك على الراحة حتى تزول الرضوض من كتفك، وأيضاً. لقد كانت حالة وجهك صعبة حين أخذناك إلى المشفى. وجنتيك كانتا متورمتان ومتوردتان بشدة، آه ولا تقلقي بشأن هذه الكدمات على وجهك ستزول في غضون أيام. كما ستهتم روز بها وتخفيها بالمكياج، لا ترهقي نفسك بالتفكير.
أومأت بفهم وضممت نفسي للحظة ثم نظرت من حولي هامسة: كم الساعة الآن؟
أجابتني روز تنظر إلى هاتفها: العاشرة والنصف مساءً.
سألتها بقلق: ماذا عن العمل؟ كيف سأذهب للعمل بحالتي هذه!
ابتسمتا تحدقان إلى بفخر وثقة فاستغربت هذه النظرات كثيراً.
لتبادر روز موضحة وقد تكتفت واقفة أمامنا وتنحنحت بصوت عالي: أنصتِ إلى مستجدات الأخبار السارة.
ما الأمر؟
هل تعلمين أن السيد كوفمان زار قسم التصوير بنفسه اليوم؟ أتى ليستطلع الأمور قليلاً ولكنه لم يجدك لا أنت ولا العارض البديل، أخبرناه بأن العارض لم يكن بخير فبدى قلقاً، بادر من تلقاء نفسه والقى نظرة على الصور التي التقطِها، هل تعلمين كيف كانت ردة فعله؟
ارتخت ملامحي بإهتمام فأكملت جانيت نيابة عنها بهدوء تعدل نظارتها الطبية: بدى متأثراً جداً بما يراه، ثم تصرف بحماقة وصرخ قائلاً أن نستكمل العمل بل واختار بنفسه إحدى الصور لتكون غلاف المجلة للدعاية، آه واثنى كثيراً على دانيال. قال بأنه ملائم جداً رغم أن كونه نموذج تعتبر تجربته الأولى فقط ولا خبرة لديه، وبأنه واثق أن الغلاف سيلفت الأنظار وسيسعد مطورين اللعبة. لا بد وأنكِ تعلمين بهذا أيضاً. إن حظي الأمر بقبول واسع من قبل الجماهير والمتابعين. فسيتم استخدام دانيال ليكون نموذج اللعبة أيضاً ليلعب دور الشخصية الرئيسية. والتالي تعرفينه. سيتم أخذه للعمل والتمثيل في اللعبة المطورة على الأجهزة الحديثة بعد ان تلقى رواجاً في الأجهزة اللوحية والمحمولة.
اتسعت عيناي أحدق إليهما بعدم استيعاب فأومأت روز تغمز مطمئنة.
لحظات فقط وابتسمت بسعادة!
كيف سيكون شعوره حين يرى المراهقين أو الشبان يلعبون لعبة. بتحريكه في داخلها على الشاشة؟
م. مهلاً!
لقد انسحب تماماً.!
انتابني اليأس والإحباط والتزمت الصمت.
كيف ستكون ردة فعلهما لو أخبرتهما أنه سيرفض العودة إلى العمل أصلاً.
آه وحان الوقت للثرثرة بالفعل وأخبرهما بالحماقة التي ارتكبتها.
أخبرتهما بالفعلة المتهورة في المرة الأولى، والثانية. ووضحت كل ما حدث فجلستا تنصتان إلي، جانيت بدت تطرف بعينيها بعدم تصديق و لا تكف عن اظهار اللوم والانزعاج على وجهها، بينما روز بدت شاردة كلما ذكرت أمر القبلة وظلت تردد أن الأمر كان رومانسياً ولا يستحق أن يغضب كثيراً.
وضعت روز قدماً على الأخرى وضيقت عينيها بوعيد: هذا المعقد. لا تقلقي يا عزيزتي سأقنعه بنفسي بالعودة إلى العمل، آه. أتعلمين ماذا؟ أحسنتِ صنعاً. لطالما أردت تخيل ردة فعله حين تقبله فتاة ما.
أعقبت وقد ضحكت بصوت عالي: يتصرف كعذراء نقية سُرقت قبلتها الأولى. بربكم من سيصدق أنه صاحب تلك الصور حتى. عنيف ظاهرياً ولكنه مجرد خجول يتورد خجلاً كلما اقتربت منه امرأة.
أيدتها جانيت بحيرة واستنكار: لديه ملامح حازمة، مهنة مرتزقة أو رجل عصابة تليق به أكثر.
ثم تكتفت مفكرة بجدية: ولكن السيد كوفمان كان محقاً اليوم. دانيال لديه هيبة خاصة وحضور غريب يجبر المرء على التحديق إلى الصور رغماً عنه. أنا واثقة أن الغلاف سيتسبب بضجة لصالحنا.
لوت روز شفتيها بينما أخفضت رأسي باستياء: هل حقاً سيوافق على العودة مجدداً؟ أقصد. بدى غاضبا وجاداً بالفعل ولا يبدو أنه ينوي العدول عن قراره.
ومضت إحدى الأفكار الأنانية واللئيمة فوق رأسي هامسة: لحظة، السيد هاريسون!
ارتفع حاجبا روز: والده؟ ما خطبه!
احتدت عيناي متمتمة: لا أدري. ولكنه يقف في صفي، أتساءل إن كان بإمكاني استخدامه لصالحي لأجبر دانيال على العودة، لا اريد التصرف بلؤم أكثر مع دانيال ولكنني لا أعلم إن كان هناك حل آخر! فمهما اعتذرت له لن أحصد أي نتيجة.
شعرت روز بالحماس على نقيض جانيت التي عقدت حاجبيها نافية واعترضت ببرود: لا أوافقك الرأي، المساومة هي الحل الأفضل، لا تجعلي علاقتكِ به تسوء أيتها المغفلة! لا تنسي أنه لا زال عليه أن ينسجم مع فريق المجلة أكثر، سيكون هناك جهوداً مضاعفة وهذه الطرق الإجبارية لن تعود بالنفع.
مررت يدي في شعري بتفكير.
كلامها مقنع. ومنطقي!
لا يجب أن يزداد كرهه لي! سيأتي هذا بنتيجة عكسية حتماً.
تساءلت بجدية: سأتصرف بهذا الشأن. سأحيك خطتين في عقلي، للأحتياط وحسب، ولكن الآن. كيف سأعود إلى شقتي! هذا صعب حقاً.
ضاقت عينا جانيت: ترفضين تعليل الأمر، كل ما نعرفه أن ذلك الرجل لا يتوقف عن اللحاق بكِ ولكنك لا زلتِ تتحفظين على الأمر، متى ستكونين صريحة معنا وتخبريننا عن ما هية العلاقة التي جمعتكما تحديداً؟
أخفضت ناظري بسرعة أحدق إلى حجري بصمت.
لا زلت لم أفصح عن أي شيء.
كل ما يعرفنه انه لن يتوقف عن اللحاق بي فقط، لا أدري إن كان على قول المزيد.
الأمر لا يتعلق بالثقة، فعلى العكس تماماً أنا أثق بهما ولكن. أخشى ان أورطهما في مشاكلي! اكتفيت من توريط من حولي، لم أخبر أبي حتى الآن بحاجتي اليه والى حمايته حتى بعد عودة باتريك فكيف أخبر غيره؟
زميت شفتاي بتردد شديد حتى همست اشيح بانظري: ذلك اللعنة يدعى باتريك. لقد. كنا زوجان قبل ثلاثة أعوام.
ساد الصمت المطبق المكان فنظرت إليهما، بدى ان كلماتي فاجأتهما بشدة فقلت فوراً بهدوء: يفترض أنه غير قادر على الولوج إلى مبنى المجلة، كيف تجاوز رجال الأمن بحق الإله.! لن يتوقف عن ابتكار عشرات الطرق لينال مني.
يبدو ان جانيت تجاوزت السؤال اكثر عما حدث بيني وبينه قبل بضعة أعوام وتمتمت بجدية: لا تعودي إلى شقتك للوقت الحالي، اخبري عائلتك بالأمر لا تؤجلي الموضوع. على الأقل أبلغي الشرطة وسيتم القبض عليه لقد اعتدى بالضرب عليكِ ولا يبدو انه يمانع ان يتمادى أكثر.
سايرتها بصمت فأومأت روز مؤيدة: إياك والعودة. أنصتِ إلي، رافقيني إلى شقتي واسكني معي هناك، هو لا يعرفني معرفة شخصية ولن يخطر في باله أنكِ معي، كما سنكون حريصين على ألا يدخل إلى مبنى العمل، سنحذر رجال الأمن منه مجدداً.
عارضت جانيت مقترحة: ولكن لديكِ ديفيد، ستحتاجان إلى الخصوصية اليس كذلك؟ ماذا عن شقتي أنا؟
جادلتها روز: ولكن ديفيد لديه شقته الخاصة أيضاً! ثم أنتِ تعيشين مع جاكسون وهذا الخطل أخطر بكثير من ذلك المدعو باتريك.
ضحكت بخفوت رغماً عني فتنهدت جانيت: حسناً معكِ حق، لن يتوقف عن إزعاج كتاليا حتماً.
ابتسمت بهدوء: لا بأس، لن أمكث في شقة إحداكما، سأتصرف حيال هذا الأمر. أظنني سأبحث عن شقة أخرى وحسب.
اتسعت اعينهما فعلمت أن السبب يعود إلى المال الذي يكاد ينفذ من حسابي في المصرف، لقد دفعت للأضرار التي تسبب فيها الوغد لقسم التصوير والمعدات والعارض كذلك. فلقد رفض السيد كوفمان ان تتولى المجلة الأضرار كافة وقام بلتقيني درساً بالفعل!
صاحت روز بعدم تصديق: ما الذي تقولينه! ستستمرين في الهرب هنا وهناك فقط؟
أعقبت تقف بإنزعاج: لا تنسي أنكِ ترفضين اللجوء إلى والدك أصلاً، إن كنت ستعتمدين على أموالك الخاصة فعذرا ولكنها على وشك النفاذ بالفعل، هذا كثير كتاليا، أنصتِ إلى وامكثي معي في شقتي! مهلاً هل اقتنعت باللجوء الى والدك؟
ولكنها انتفضت وكذلك جانيت التي عقدت حاجبيها باستنكار عندما شهقت بدوري! كيف غاب هذا الأمر عن ذهني.
همستُ باستيعاب فوراً: لدي حل! لا. بل انه حل يقود إلى آخر!، ان فعلت هذا فحينها سأكون قد عالجت مشكلتين في آن واحد.
بدى عدم الفهم جلياً على ملامحهما فقلت بجدية: سمعت والد دانيال يتحدث عن غرفة علوية ولا يبدو ان أحد ابناءه يقطن فيها لذا. ربما يمكنني استغلال هذا الأمر لصالحي! ان وجدت مكاناً يمكنني الاستقرار فيه مؤقتاً فسأكون قد عالجت المشكلة الأولى، وان كنت على مقربة من دانيال فربما يمكنني بطريقة ما اقناعه بالعودة إلى العمل معي دون الضغط عليه!
تمتمت روز بتفكير: كما سيكون هناك مجال لنساعده على التخلص من عقدته ليعطي أداءً أفضل بكثير في العمل، سنضرب عصفورين بحجر.! أو ربما ثلاثة عصافير، والأدهى أنكِ ستكونين بأمان ولكن. هل يمكنكِ منحهم الثقة؟ في النهاية انه منزل لا يضم سوى الرجال!
ضاقت عينا جانيت: ولكن لا أحد منهم سيجرؤ على ايذائها وفقاً لطبيعة تصرفاتهم تجاه النساء، بل ربما. سيكون وجودها معهم مثل الحماية المجانية من المدعو باتريك دون حاجتها لقول هذه التفاصيل! إلا ان هذا لا يغنيك عن ضرورة رفع بلاغ إلى الشرطة كات.
أومأت بفهم اتجاهل جملتها الأخيرة تماماً.
الشرطة؟
لقد خرج من السجن ولا زلت لا أدري كيف!
خرج قبل انتهاء الفترة المحكوم عليه فيها. ولا زال على فهم ما يحدث أولاً.! حُكم عليه بخمسة عشرعاماً فكيف خرج بعد انقضاء ثلاثة منها فقط؟
هو لم يهرب. لا أظن ذلك! لو كان كذلك لما تجرأ على اظهار وجهه في الأماكن العامة حتى.
لا أعلم. ولكن لا زال على التأكد من الأمر!
تمتمت جانيت بتفكير: ومع ذلك، لا زلت أرى أن أفضل حل هو العودة إلى منزل عائلتك، فكري بالأمر مجدداً.
نظرت إليها بهدوء قبل أن أتنهد واستلقي على جانبي متأوهة: لا زلت بحاجة إلى الراحة قليلاً.
الآن كل ما على التركيز عليه هو امر واحد فقط.
تنفيذ خطتي الجديدة، حتى هذه الاصابات على وجهي ستعمل لصالحي عندما أصيغ كذبتي بعناية فائقة!
دانيال:
لهثت ووقفت أرتاح قليلاً بينما أحرك كلتا قدماي في المكان لأنشط نفسي أكثر.
سكبت القليل من الماء على رأسي من القارورة التي أخذها معي دائماً حين أهرول في الممشى، جففت وجهي بالمنشفة البيضاء الصغيرة التي أضعها حول عنقي، وأكملت الجري مرة أخرى وقد بدأت بتشغيل عداد الهاتف مرة أخرى ليحتسب الوقت. ومهما نفذ الوقت.
لا أتوقف عن الركض.!
أهرول منذ ساعتين ولا أكتفي.
غضب غريب يعتريني وقد كان العامل الرئيسي في دفعي للركض دون توقف مهما تقطعت أنفاسي.
غاضب منها؟
بل ربما من نفسي.
أغمضت عيناي بإنزعاج شديد وأكملت الركض أحاول تفريغ طاقتي في كل خطوة أخطوها، ولكنني توقفت مجدداً بأنفاس متقطعة أمام إحدى الحاويات المح الكيس الورقي الذي القى به أحد الفتية أمامي دون ان يضعه داخل الحاوية.
نظرت إليه بينما يسير مبتعداً يتحدث على الهاتف ويمزح، بقيت في مكاني وأخفضت ناظري مجدداً إلى القمامة التي القى بها قبل ان أزمجر بحدة: أنت.
توقف باستغراب واستدار نحوي فأشرت بذقني بحدة واعصاب منهكة بشدة: فشل تسديدك في الحاوية، حاول مجدداً.
نظر إلى الأكياس ورفع شفته بإنزعاج: يمكنك فعل ذلك صحيح؟ لا تستوقفني لسبب سخيف مماثل!
اكمل طريقه فزمجرت بجفاء: عد إلى هنا.
لا يمكنني كبح نفسي.
أرغب في. الشجار!
زفر بإمتعاض شديد ونظر إلى فقلت بجمود: أرغب في ايساع شخص ما ضرباً، لا ترغمني على فعل ذلك بك.
عقد حاجبيه ينظر إلى بحدة فرمقته ببرود.
لم تكن سوى ثواني حتى تنهد وعاد أدراجه ليلقي بالأكياس في مكانها، سمعته يتمتم بصوت هامس بحذر: ما خطبك بحق الإله.
لقد خضع للأمر، ظننته سيرفض وأجد حجة مناسبة للشجار!
أكمل طريقه بخطى سريعة فبقيت في مكاني أحدق بالحاوية لثواني قبل أن أتنفس بعمق احاول تهدئة نفسي.
حتى الهرولة هنا لا تساعد. فلقد اعتدت مسبقاً على ممارسة الرياضة في القرية حيث الأجواء أفضل والهواء أخف، وأيضاً في مساحات أوسع. ولكن هنا. كل التفاصيل تثير حنقي!
جمدت في مكاني للحظة وتلك الصور تعود إلى ذاكرتي، حاولت طرد الأمر من عقلي ولكن. بلا جدوى! بسبب تلك الفتاة أكاد افقد عقلي حتماً. أرغب وبشدة في تفريغ سخطي ولا زلت لا أدري كيف!
لماذا فعلتُ ذلك؟ ما الذي دهاني لتلك الحماقة! أياً تكن أسبابها فلماذا ساهمتُ أنا في زيادة الوضع سوءاً؟
مهلاً. أسبابها؟
اضطررت لذلك، كان على التصرف حينها. أخلفت بوعدي لأنني لم أجد سبيلاً أخر. ماذا عنك؟ كنتُ حريصة أن يبقى الأمر مجرد تظاهر ولكنك حولته إلى حقيقة.! اعتذرت لأجل هذا السبب حقاً؟ بينما لا يحق لي تقديم اعتذاري لك؟
لم تجد سبيلاً آخر.؟
عن أي سبيل تتحدث تحديداً! ما الذي قد يرغمها على التهور بهذا الشأن حتى!
زفرت بلا حيلة ومررت يدي في شعري الرطب وأكملت الهرولة لولا ان توقفت مجدداً باستنكار.
هذا الشعور مجدداً.
التفت من حولي بتركيز ولكن كالعادة. لم أرى حولي شيئاً ملفتاً للإنتباه! لماذا كلما خرجت للهرولة ليلاً أشعر بوجود شخص ما حولي! أنا واثق أنني لم أفقد عقلي بعد.
وضعت اناملي على عيناي أرخيهما ولكنني أجفلت ما أن شعرت بومضات اضاءة قريبة.
عقدت حاجباي بحيرة شديدة وكلما وقعت عيناي على أحد المارة والمتنزهين لا أجد ما قد يلفت انتباهي!
ما ان وصلت إلى نقطة نهاية الممشى حتى عدت أدراجي، بدأت أشعر بالجوع مجدداً.
جثيت أعدل ربطة حذائي الرياضي الذي أصبح مستهلكاً جداً، وبينما أعدل الرباط شردت عيناي انظر إلى مرفقي.
لَمساتُها آنذاك.
لم أكن قادراً على التصدي لها!
لم تكن قبضتها قوية. أو حتى كبيرة. ومع ذلك انسقت لها بكل بساطة.
لم أتوقف عن التحديق إليها من تلك المسافة التي لا تذكر، كلتا يديها كانتا باردتان، أو ربما جسدي كان يغلي نتيجة الضغط الذي انتابني، واللعنة لماذا لا أتوقف عن التفكير بالأمر!
أنا المغفل تهورت كثيراً. لا أصدق ما فعلته! أياً تكن أسبابها التي دفعتها لارتكاب هذه الحماقة ولكنني هذه المرة تجرأت دون تفكير.
لا يجب أن أراها مجدداً مهما حدث.
كنت لا أزال جاثياً عندما سمعت أصوات مجموعة من الفتية بالقرب مني، نظرت إليهم والى الضجة التي تسببو بها قبل ان ازفر بلا حيلة.
هؤلاء الصغار الحمقى مجدداً!
لمحت قائد مجموعتهم البدين الذي ركل احد الشبان وقد كان هزيل الجسد وضئيل البنية، اوقعه أرضاً فوقفت بملل اتجه إليه بتبرم.
سمعته يهدده بحزم: غبي، فلتجرؤ مجدداً وحاول الكذب علينا!
كان الفتى يرجوه متأوهاً بلا حيلة: أسف، أنا أسف تيدي، لم أعلم أنهم يرغبون في النيل منكم! أقسم لك أنني لم أعلم.
اقترب منه بغضب وكذلك الثلاثة الآخرين من رفاقه وقد انقضوا عليه ليركلوه بأقدامهم، لم يحرك أحد المارة والمتنزهين ساكناً وانما ابتعدوا فوراً فلم يكن مني سوى أن تنحنحت بصوت عالي أستوقفهم فوراً.
نظروا إلى بحدة للحظة قبل ان تتسع أعينهم.
نفيت برأسي بانهاك واقتربت بخطى متثاقلة نحو قائدهم: أنت. متى ستتعض؟ لا يبدو انك تحب ازعاج كيفين فقط ولكنك لن تتردد في استعراض قوتك على كل من تفوقهم قوة، اربعة ضد واحد؟ هذا ليس عدلاً يا رجل.
أعقبت اقترب واضع ذراعي على عاتقه هامساً: من المنصف ان تواجهه واحداً ضد الآخر فقط.
أجفل مبتعداً بسرعة وصاح بتوتر وعدائية: لماذا نراك في كل مكان بحق الجحيم متى ستتوقف عن اظهار وجهك المزعج.
تحرك الفتى الذي أوقعه أرضاً واسرع يقف خلفي ليقول برجاء: سيدي ساعدني! حدث سوء فهم ويرفضون الاستماع إلي!
زفرت بإنزعاج ورمقته بلوم: المغفل وحده من سيتعاون مع هؤلاء الجبناء! غادر يا فتى انا جائع ولا طاقة لي في خوض اي مشهد بطولي الآن.
أومأ بفهم وركض بخطوات واسعة ليغادر بخوف بينما يصرخ: شكراً جزيلاً.
نظرت إلى تيدي الذي يراقبه بعيناه وينوي اللحاق به فقلت بسخرية: ان اردت اللحاق به فحري بك خسارة بعض الوزن، نصحتك بهذا مسبقاً ولكنك لا تلقي بالاً لنصائحي.
احتدت عيناه بإنزعاج ووعيد: يا لك من مزعج!
لوحت له بملل شديد: الوقت متأخر أيها الأطفال من الأفضل ان تعودوا إلى منازلكم لئلا تتأخروا عن المدرسة صباحاً.
زمجر الفتى بجانب تيدي والذي كان قد صبغه بلون اشقر فاقع اللون: ارحل من هنا أيها الكهل الأرعن ولا تتدخل في شؤون الآخرين!
هذا الفتى لا اتذكر أنني رأيته معهم مسبقاً، انضم اليهم احمق جديد على ما يبدو، توتر تيدي وهمس له بحزم: اخرس ايها المغفل ولا تستفزه! لست نداً له آرنولد، لا زلنا ندرس نقاط ضعفه لنتخلص منه، سنفعل هذا قريباً بلا شك!
ابتسمت بتهكم: هنيئاً لكم انضمام عضو جديد إلى مجموعتكم التعيسة، سنحتفل لاحقاً والآن الى اللقاء.
استوقفني ارنولد ذو الشعر الفاقع بغيظ: يا للغرور! من تظن نفسك يا هذا!
تجاهلته واكملت طريقي وما ان كاد يتبعني حتى استوقفته المجموعة ليمسكوا به محذرين، ابتسمت لهم بمكر وتوقفت للحظة أحدق إليهم بوعيد: قلت للتو انه عليكم الاستيقاظ مبكراً للمدرسة لذا غادروا حالاً، وإلا أخذت من كل واحد منكم قطعة تتناولها كلاب الحي.
أجفلوا يحدقون إلى بتردد فقال تيدي موجهاً إياهم بحزم: لنغادر في الوقت الحالي.
امتعض ارنولد بشدة واعترض يحاول منعهم ولكنهم جروه معهم، نظرت إليهم يغادرون وقلت ملوحاً: لا تجرؤ على محاولة ازعاجي كيفين بأي شكل من الأشكال، المرة القادمة سأركل بطنك المتدلية حقاً.
صرخ تيدي بينما يبتعد بخطى سريعة ليغادر: لا تعتقد أن محاولتك للظهور كالبطل ستحمي شقيقك المستفز مني. مهما حاول سرقة إيما ولفت انتباهها ستبقى هي الفتاة المحبوبة لكل طلاب المدرسة هل تفهم!
حركت يدي بلا اكتراث وتحركت لأبتعد متثائباً.
صعدت درج المنزل وكل ما انوي فعله هو الاستحمام حالاً قبل ان اسد جوعي، لا زالت الساعة تشير إلى الثامنة.
مهلاً!
هذه.
الرائحة؟
وقفت في مكاني متسمراً أحاول استنشاقها بتركيز تام.
رائحة دخيلة في المنزل!
مألوفة جداً!
اتسعت عيناي مدركاً أنها وبلا شك رائحة نسائية، الرائحة نفسها التي كانت على وشاحي!
نظرت من حولي أبحث عن الأدلة والبراهين ولكنني لم أجد ما يثير الريبة، نظرت إلى الدرج استكمل الصعود بأقدام مترددة آملاً أنا ما يجول في ذهني خاطئ. آمل حقاً انني افكر اكثر من اللازم!
ولكنني توقفت في منتصفه أسمع أصوات خافتة ناعمة.!
ليس الصراخ المعتاد في منزلنا، ليست الأصوات الخشنة. اختفت الهالة الرجولية المثيرة للإعجاب من منزلنا وبات فجأة مسيطر عليه من قبل ألوان زاهية! لا يمكن أنها أتت بكل جرأة وكأن شيئاً لم يكن! ماذا تكون هذه الفتاة؟ إلى أي مدى هي عنيدة!
اللعنة كم هي مثابرة.
جزيت على أسناني بقهر وأكملت طريقي، عبرت الممر وقد كانت غرفة الجلوس على يساري، كما توقعت، بات الصوت أوضح بكثير الآن.
إنها هنا!
غزت ذكريات اليوم عقلي ووجدت نفسي أقف في مكاني شاخصاً لا أقوى على التحرك خطوة واحدة للأمام، عاد قرع الطبول مجدداً في صدري، تحديداً عضلة قلبي المنهكة من هذه الفوضى التي تنتابني! طرفت بعيني أحاول التركيز وتمالك نفسي، تنفست بعمق قدر المستطاع ولكنني بقيت واقفاً عاجزاً عن طرد كل التفاصيل من مخيلتي!
لهذا قلت أنه لا يجب ان ارى هذه الفتاة مجدداً.
لا أكون بخير بسببها! هذا سيصعب الأمر وحسب.
كورت قبضتي بقوة وكدت أتحرك وقد عزمت أمري ولكنني توقفت لسماع صوت أخر.
ليست هنا وحدها! أكثر من صوت مختلف، هل تلك الفتاة شقيقة المدعو جاك هنا؟ اعتقد أنني اسمع صوت صديقتها الشقراء أيضاً.
لا أدري حقاً. اصوات النساء حادة ومتشابهة!
علي كل حال لقد طفح بي الكيل، سأتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً.
فليكن.
أنا منهك ولست على طبيعتي الآن.!
تحركت أجر قدماي بصعوبة، عندما مشيت أمام غرفة الجلوس بجمود نويت ان القي نظرة خاطفة وحسب.
وبالفعل رأيتها تجلس هي وصديقتيها مقابل أبي.!
اكملت طريقي اتجاهلها ولكنني سرعان ما توقفت باستيعاب!
هذا غريب. وكأن جفنا عيني فقدا القدرة على الإرتخاء ولو قليلاً، ما الذي رأيته للتو؟
ما الذي حدث لها!
عدت أدراجي باستنكار شديد ووقفت أمام غرفة الجلوس.
انتبهت لعودتي وكذلك الجميع، لتقف بدورها وتقول فوراً بهدوء: دانيال، لست هنا لإزعاجك أو.
ما الذي حدث لوجهك؟
سألتها بجمود أنظر إلى الكدمات على وجهها والخدوش الصغيرة على مرفقها.
أشحت بناظري عنها ما ان حدقت بعينيها الرمادية بخاصتي مباشرة.
قصة طويلة، حدث عطل في شقتي وبسببه حدث خلل في الفرن الكهربائي، لحسن الحظ ساعدتني جارتي في الوقت المناسب، أياً يكن أنا بخير.
قالتها وأخفضت نظرها فوراً ثم عاودت تسترق النظرات إلى صديقتيها اللتان نظرتا إلى بهدوء لتقول الشقراء مؤيدة: تماماً.
تنهد أبي وقال مشيراً بجمود: اجلس دانيال كنا نناقش أمراً وننتظر عودتك.
خلل في الفرن الكهربائي؟
هل سيتسبب الفرن بكدمات مماثلة؟
عقدت حاجباي بعدم اقتناع ومع ذلك قلت بجفاء اتحرك مبتعداً: سأستحم واخلد إلى النوم، فقدت شهيتي.
عارضني أبي ليصرخ بحزم: يمكنك الانتظار لبضع دقائق اليس كذلك؟
أجبته قبل أن أدخل إلى الغرفة: لست في مزاج جيد، . لاحقاً.
تجاوزت نداءه بإسمي بغضب، وكأنني لا أعلم ما الذي يريدون الحديث عنه!، خطط هذه الفتاة ومراوغاتها لا نهاية أو حصر لها.
أنا بالفعل. لا استطيع النظر إليها مجدداً. ينتابني الخجل من نفسي.
كما أنني واثق أنها هنا للإعتذار واقناعي بالعودة مجدداً.
لا طاقة لي الآن في تحمل المزيد! أحتاج إلى وقفة مع نفسي لأفهم ما قمت بفعله.
أو على الأقل.
ما سيّرني لذلك.!
كتاليا:.
ذهب ببساطة؟ لم يعترض أو يغضب؟
يبدو أنه قد عزم أمره هذه المرة بالفعل ولا مجال للتراجع، ولكن لا يهم. حتى وإن كان قراره. فلا يزال هناك قراري أنا أيضاً. لن أتخلى عنه وان اضطررت لتغيير خطتي!
طالما وضعت عليه عيناي فسيعاني حتماً حتى أعلن استسلامي، آه لا أصدق أنني سأبيت مع أشخاص قد يتجنبون مجرد الحديث إلي!
ما أن رآنا ذلك الصغير حتى امتعض وركض إلى غرفته، وكذلك شقيقه كيفين الذي بدى عليه التوتر ولسوء حظه كان في المطبخ لذا لم يجرؤ وقد حبس نفسه في المطبخ وفي كل مرة ألمحه يسترق النظرات إلينا خلسة ينتظر منا المغادرة ليخرج.
والآن دانيال الذي يبدو أن وجودي هنا بالنسبة له مجرد عبء كبير على كاهله.
لا أدري كيف قد تكون ردة فعل كارل، ولكن ربما ليس على القلق بشأنه فهو بلا شك ألطفهم وأكثرهم لباقة.
لويت شفتي أنصت إلى ما تقوله روز لهاريسون وتكمل كذبتها بنبرة استياء ورجاء، كان ينصت إلينا بإهتمام وبدى ان الفكرة قد حازت على رضاه.
فكرة؟ إنها مجرد خطة مؤقتة طبعاً.
اخبرته أنني تضررت من خلل في الفرن الكهربائي واصبت على أثره بهذه الكدمات والرضوض، ثم أخبرته عن موضوع آخر جعلته يبدو منفصلاً تماماً عن إصابتي.
ليس وكأنني سأخبرهم أنني تعرضت للضرب لأبدو مثيرة للشفقة أمامهم!
أخبرته أنني أبحث عن مكان أمكث فيه مؤقتاً مقابل دفع إيجار له إلى أن يتم التعامل مع العطل في شقتي، ولا زلنا نناقش الموضوع حتى الآن رغم أنه لا يبدو وكأنه يمانع. فلقد أوصل لي رسالات كثيرة بكلتا عينيه وكأنه يخبرني أنه علينا الحديث على انفراد معاً. بل ووضحت له أن هذا سيساعدنا أكثر في حل موضوع عقدة أبناءه.!
عندما انهت روز حديثها وقفت هي وجانيت واعتذرتا بلباقة لتغادران، لا داعي للقلق فكل شيء جاهز هنا، فبعد خروجي من المشفى مباشرة ذهبنا نحن الثلاثة إلى شقتي وحزمت أمتعتي المهمة إضافة إلى ملابس كافية، وها هي الحقيبة مستقرة في زاوية غرفة الجلوس وبجانبها حقيبة أخرى سوداء متوسطة.
وجدت نفسي أجلس على الأريكة وحدي أنتظر عودة هاريسون الذي نزل ليوصل الإثنتان إلى الخارج، سيكون كل شيء على ما يرام! أولاً سيكون المكان آمن هنا وفي الوقت نفسه سأستغل الفرصة لتوطيد العلاقة بدانيال قدر الإمكان.
ليس وكأنه يوجد ما أخشاه هنا! أحدهم لا يزال صغيراً في الابتدائية والآخر في العام الأخير من الثانوية، والأكبر يعاملني بلباقة وحذر.
والأخير هو هدفي!
كما أشعر بالسعادة لوقوف السيد هاريسون إلى جانبي ولاسيما وان الفكرة قد راقته جداً.
مع ذلك لا زلت مهمومة بسبب هذا الموضوع! لا بد وأنه يأمل أن أخلصهم من عقدتهم وقد رفع سقف توقعاته بي! لو علم أنني لا أنوي تغيير أحدهم. فقد يطردني حتماً. قمت باستغلال الأمر وذكرت عقدتهم ليوافق! يا الهي أنا الأسوأ.
لا يزال يرفض إخباري بقيمة الإيجار الذي سأدفعه.!
يا ترى كم المبلغ الذي يخطط لأخذه؟
حسناً آنسة كتاليا رافقيني لأريك الغرفة العلوية.
أومأت وأسرعت أتبعه، تأوهت بخفوت عندما ضربت مرفقي بطرف الاريكة اثناء وقوفي، مررت يدي الأخرى على الخدوش الصغيرة قبل ان استوعب الأعين الساكنة خلف النظارة الطبية لصاحبها الذي يراقبني من المطبخ وقد فتح الباب قليلاً.
أجفل ما ان انتبهت له واسرع يغلق اللباب مجدداً.
تبعت السيد هاريسون الذي لا يزال بانتظاري بوجهه الحازم، رافقته وقد صعدت الدرج في نهاية الممر، لم يكن هناك ممر في الأعلى وإنما الباب مباشرة بعد الدرج فقط.
فتح الباب ودخل ليضيء الغرفة، دخلت من بعده فقال واضعاً يده على خصره: قام كيفين بتنظيف الغرفة، قد تبدو بسيطة جداً بالنسبة لكِ ولكن أرجو أنها ستفي بالغرض مؤقتاً.
أعقب متكتفاً بينما يرمقني بتركيز: إلى حين التعامل مع العطل في شقتيك.
أومأت له بإمتنان أحدق إلى الغرفة.
سأعيش. هنا!
بسيطة جداً. أو ربما أقل!
نافذة واحدة لازلت لا أدري مطلة على أي اتجاه في الخارج، ستائرها بيضاء خفيفة، سرير خشبي وبجانبه منضدة ومقابله خزانة ملابس صغيرة، وفي المنتصف سجادة عليها كرسي هزاز لم أكن أراه سوى في الأفلام على التلفاز!
ارتفع حاجباي بتلقائية وتساءلت: سيد هاريسون. لا يوجد حمام خاص بالغرفة؟
قلّب عينيه بجفاء: لستِ في فندق يا آنسة.
زميت شفتي فأكمل بحدة: كيفين ولاري يستخدمان حمام غرفتهما لأن لاري يخاف السير في الظلام وحده، كارل ودانيال يستخدمان الحمام الموجود في الممر أسفل هذا الدرج فلا يوجد واحد في غرفتهما، ولكنني سأضع قوانيناً لتستخدمي الحمام المقابل للدرج دون ان يدخله أؤلئك الحمقى، سأحرص أن يستخدم الجميع الحمام الموجود في غرفة الاثنان الأصغر. ولا تقلقي بشأن لدي حمام خاص في غرفتي.
غرفة الإثنان الأكبر لا تحتوي على حمام إذاً، دانيال س. سيغضب حتماً! سيرى أنني عبء أكبر بكثير مما ظننت.!
ومع ذلك ابتسمت بلطف وأومأت بفهم، ظلت ملامحه حازمة وقد نظر إلى بعينه الزرقاء بتمعن: وكيف حدث العطل في الفرن يا ترى؟ يبدو أن العطل كان عنيفاً. جداً.
نظرت إليه باستغراب شديد فأشار بيده بجمود بينما يتجه إلى الباب: على أي حال سأحضر حقيبتك إلى هنا.
وقفت في مكاني بصمت أنظر حيث كان يقف.
هذا الرجل. يشك في صحة عذري. لا يبدو انه اقتنع بالقصة التي اختلقتها! ربما كان على أن أقول أنني تعرضت لحادث سيارة؟
لا يبدو أن أي شيء سينطلي عليه بسهولة! لا يجب أن أستهين بأي شخص، كما على أن أكون حذرة في كلماتي. زميت شفتاي وقد انتابني شيء أشبه بالتوتر والتردد، اتجهت إلى النافذة لأنظر إلى ما تطل عليه.
الشارع إذاً.
حدقت من خلال النافذة بحركة الناس والسيارات، أردت أن اتكئ عليها ولكن آلمني كتفي بشدة فتراجعت فوراً.
هربت مجدداً. وأعلم في أعماق نفسي. أن هذا لن يدوم طويلاً. سيعود، ليلقنني درساً، ليجبرني على تنفيذ مطالبه. حتى وان هربت من شقتي فلن يتركني وشأني! كيف بحق الإله كان قادراً على الولوج إلى المجلة ببساطة؟
أتساءل إن كان على أن أخبر ريتشارد بالأمر. ولكن.
آه.
لا يجب أن أقحمه في هذا.
ليس مجدداً!
فقط. لو كانت أمي لا تزال على قيد الحياة.
لو كانت فقط تعمل على تلقيني دروس الحياة وتقويمي جيداً وتغيير سلبياتي بجهودها التي لطالما كنت لا أمانعها، لو كانت تدرك أنني أصبحت لا شيء. أعزل نفسي بعيداً. لئلا أتسبب بالأذى لهم أكثر.
لو تعلم أنني أصبحت أسوأ بكثير مما اعتقدت، أن التدليل الذي حظيت به أتى بنتيجة عكسية. أن الأموال التي كنت أعبث بها بلا اكتراث. أحتاجها الآن بشدة وأخشى استنزافها. ولو تعلم أن كل الأصدقاء اللذين حظيت بهم.
ليسوا بأصدقاء.
سمعت صوتاً خلفي ولم يكن سوى صوت الحقيبة التي وضعها السيد هاريسون على الأرض، التفت أبتسم هامسة: يمكنني رؤية أبراج كثيرة من هذه الزاوية.
أومأ يسند يده على الباب: لم يكن احدنا معتاد على أمر كهذا قبل ستة أشهر من مجيئنا إلى هنا.
أضاف يتنهد بعمق: النظر إلى تفاصيل النجوم والفضاء في الأرياف أمر رائع ومبهر، حين رفعنا رؤوسنا في المدينة تفاجأنا بالظلام الحالك في الأعلى.
ابتسمت بلا حيلة: معك حق، المناظر الطبيعية أجمل بكثير هناك، لطالما تمنيت زيارة الأرياف.
أعقبت بلطف: أقصد. ركوب الخيل والمشي في الأرجاء والنظر إلى الطبيعة في كل مكان! التسوق وشراء الأشياء اليدوية الجميلة، الصعود فوق التلال والصيد بجانب الأنهار!
نظر للأعلى مفكراً: كانت مجرد أمور روتينية هناك. هل تبدو مثيرة للحماس بهذا القدر!
ارتفع حاجباي: روتينية! هذا. سيكون أجمل روتين لأي شخص! تشتهر قرية كلوفيلي بالكثير من الاماكن السياحية الجميلة، أعرف شخصياً شخص ترعرع هناك. حسناً ثق بأن الكثيرون يرغبون في تجربة العيش هناك ولو لأيام معدودة.
تغيرت نظراته فجأة وأخفض رأسه ليشرد بذهنه للحظة حتى همس بجمود شديد: ليس بالنسبة للجميع.
قطبت جبيني فطرف بهدوء والتفت قائلاً: حسناً إذاً، سأتركك الآن، غرفتي هي الأولى ما ان تنزلي من الدرج، لا تترددي في طلب أي شيء، سأرسل لكِ لاحقاً رقم كارل وكيفين لتسجليه في هاتفكِ، لديكِ رقم دانيال مسبقاً، عمت مساءً.
تصبح على خير سيد هاريسون. آه مهلاً، متى ستخبر دانيال أنني سأمكث هنا؟
أكمل طريقه إلى الباب بتبرم: لست بحاجة لإنهاك لساني، سيقدم كيفين موجز الأخبار للجميع بعد قليل.
توقف مجدداً وقال دون ان يلتفت: سنتحدث لاحقاً، سأفكر بالأمر بروية بشأن الإيجار.
حسناً إذاً. شكراً جزيلاً، أقدر لك هذا بالفعل.
ما ان خرج وأغلق الباب خلفه حتى تنفست الصعداء ثم نظرت إلى حقيبتي.
سأرتدي ملابس النوم وأرتاح، روز وجانيت على حق. لا يبدو أنني سأكون قادرة على العمل غداً، ولكن بعد غد. سأحرص على أن أعود للعمل بكل جدية وقوة.
برفقته بالطبع!
دانيال:.
وضعت المنشفة حول خصري وخرجت من الحمام، اتجهت إلى الغرفة ولكنني توقفت في منتصف الممر بحيرة أنظر من حولي.
هذا غريب! لماذا أشعر أن رائحة العطر النسائي باتت أقرب وأقوى؟
لا بد وأن الرائحة قد علقت.
تباً كم هذا مستفز.
رغم أنها رائحة جميلة ولطيفة حقاً!، تنهدت بلا حيلة وأكملت طريقي، دخلت الغرفة ولكنني توقفت أعقد حاجباي ثم ضيقت عيناي بشك: لماذا الجميع هنا بحق الإله! أتذكر ان اجتماعنا سيكون في الغد وليس اليوم! هل من مستجدات بشأن خصومات المركز التجاري! مهلاً. لا تخبروني أن متجر الخضروات الجديد يقدم عروضاً!
طرف لاري بعينه بغضب وبدى غارقاً في أفكاره بجانب كارل على السرير، وكيفين ينظف نظارته بوجه متجهم بشدة مستندا على الحائط!
اتجهت إلى الخزانة أخرج ملابساً استنكر هذا التجمع ثم تساءلت مجدداً: لماذا لا يتحدث أحدكم! تحدثوا وإلا اوسعتكم ضرباً! كارل عدت للتو فقط من العمل وها انت ذا تتصرف مثل الرجل الغامض! ما خطبكم!
تنهد كارل بلا حيلة بينما ضاقت عينا كيفين وقد تحدث بنبرته الباردة: أنت حتماً السبب في هذه الفوضى.
امسكت بالملابس باستنكار ونظرت إليهم بترقب فتمتم لاري بنبرة مستاءة: أخي. تلك المرأة ستنام في الغرفة العلوية.
هاه!
احتدت عينا كيفين وقال بجمود: أنا أرفض ما يحدث هنا. لماذا عليها ان تمكث في منزلنا أصلاً! هي ليست مشردة أو مهاجرة لتأتي إلى هنا ونأويها. لن أقبل بهذا!
زفر كارل يستلقى على ظهره يرخي مرفقه على جبينه وقد علق بإحباط: لماذا يفعل أبي هذا! من أراد منا التغير فليتغير ويتخلص من عقدته ومن أراد البقاء كما هو فهذا أمر راجع له، على كل حال أنا أيضاً لن أقبل بهذا.
وقفت بعين متسعة ونظرت إليهم باستيعاب: تمكث هنا؟ تلك الفتاة هنا؟ ألم تغادر حتى الآن؟
صرخ لاري بتهكم وإنزعاج: ستعيش القبيحة هنا بسببك أنت! لولم تلتقي بها وتعمل معها لما أصاب منزلنا اللعنة، قال كيفين أنها ستبيت هنا وقد وافق أبي على ذلك دون تردد.
ما هذا الهراء!
ما الذي حدث لأبي بحق خالق الكون!؟ لماذا ينحاز إليها هكذا؟
ما الذي قالته له! ما الذي اتفقا عليه؟ لا يمكن أنه سيسمح لها بالعيش هنا بلا مقابل.
أبي. ما الذي ينوي عليه! انتزاعنا من تلك العقدة حقاً؟ بهذه الطريقة!
عضيت على طرف شفتي بحقد وهمست وقد ارتجف صوتي من شدة غيظي: لا زالت هنا؟
أشار لاري بيده للأعلى: ستقطن في الغرفة العلوية!
تكتف كيفين بإنزعاج: لا أستبعد أنها تتجول في الغرفة وتقيمها.
تلك الفتاة لم تتجاوز حدودها فقط بل تنوي تحريك الجميع كما يحلو لها. سأطردها شر طردة! كيف تملكتها الجرأة لتظهر وجهها وكأن شيئاً لم يكن؟
توقعت ان تلجأ إلى أفكارها الملتوية ولكن أن تبيت هنا!؟
خرجت من الغرفة بغضب قد أعمى بصيرتي، اتجهت إلى الحمام أولاً ارتدي ملابسي ولم أهتم بالقميص الذي ارتديته بالمقلوب، ثم صعدت إلى الأعلى بخطى حازمة، طرقت الباب بعنف ولم أنتظر ثانية واحدة بل فتحته على مصراعيه ليرتد بالحائط بقوة.
زمجرت بسخط: ما الذي تظنين نفسك فاعلة!
اتسعت عينيها وشهقت بذهول في حين تسمرت في مكاني تماماً.!
التعليقات