التخطي إلى المحتوى

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

(ميرنا).

لطالما كنت لاأؤمن بالحب وبأساطيره المزيفة واكثر ماكرهته في حياتي هو مايسمونه ب الحب. سنين عزلت نفسي عن جميع الشباب ولم اثق بأحد ولم اصدق كلام احد ولم اتأثر بتصرفات احد، كنت اكره بالفعل ان اقع بالغرام يوماً. في الحقيقة انا اظن ان العاشقين جميعهم حمقى. لاتوافقوني الرأي؟ حسناً كما تشاؤون. ولكن دعونا نعيد تاريخ العاشقين قليلاً. لنبدأ بروميو وجولييت مثلاً. كيف انتهت قصتهما؟ حسناً انا سأجيب. ماتا! الحمقاء ادعت انها ميتة لتتمكن من الهرب معه والاحمق شرب السم فوراً دون ان يتردد قليلاً لتستيقظ الحمقاء وتجده يحتضر فتشرب السم ليموتا معاً، نهاية مقرفة وحمقاوية، حسناً لننتقل للعاشق رقم اثنين، قيس وليلى، واااو. لطالما ضربو المثل بحبهما. أتعرفون نهايتهم؟ هي تزوجت بغيره وهو اصبح مجنون، نهاية مأساوية، ماذا هل تظنوني ابالغ؟ أتظنون انهم اساطير وان قصص حبهم معقدة؟ لننتقل للحاضر اذاً. روبرت باتنسون وكرستين ستيورات. انفصلا. ليدي ديانا والامير تشارلز. انفصلا. و و و و و، الخ.

جميع قصص الحب الرائعة نهايتها مأساوية، لذلك رفضت ان اقع بالغرام يوماً. وان اردت ان احب احدهم فلن احب سوى يوسف فهو الوحيد الذي احبني لكوني انا ولم يهتم بأمر اموالي ومركزي الاجتماعي، هو الوحيد الذي سيمتلك قلبي دون غيره، هكذا كنت اظن! وهذا قررت ان افعل! لم اكن اتوقع ان يدخل سيف حياتي ويقلب الموازين رئساً على عقب، ينسيني كل قواعدي. كل ما أؤمن به. وكل مااريده. وارضخ له هو فقط، يسحرني بكلمة باردة لااعرف كيف تتحول لدافئة داخل اعماقي، يمنحني نظرة فارغة لااعرف كيف يجعلها محملة بكل تلك المشاعر، جعل قلبي يخفق بجنون، منحني جناحان من السعادة لأحلق بهما نحو عالم اخر، عالم بعيد عن الظلام الذي اعيش فيه، ثم الان فجأة قص لي هذين الجناحين ليسحبني بقسوة نحو الظلام، ليبين لي كم انا عديمة القيمة لديه. وانه لايبالي ولن يبالي بي يوماً، هل عرفتم الان لماذا لا أؤمن بالحب؟ لأن جميعهم مخادعون. جميعهم كاذبون، لااحد يمكنه ان يحب احد بصدق داخل هذا العالم المزيف، الجميع ستجد له غاية خلف حبه!

لاتزال روحي تتعذب من ذلك اليوم. آلمتني صفعة ابي، ولكن كلام سيف هو من قتلني، نعم هي فترة قليلة لاتتجاوز الاشهر منذ ان تعرفت به، ولكنني احببته، بكل حماقة تعلقت به، لذلك كلماته وتصرفه معي كانت سكيناً طعنت قلبي عجزت عن تحملها، اشعر بالغدر من شخص لم يكن وفياً يوماً لي، اشعر انه يكرهني رغم اني لم اعد واثقة انه احبني من الاساس! او حتى على الاقل اعجب بي!.

في النهاية ربما كان سيف مجرد وهم اقنعت نفسي به واقتنعت انه يبادلني اعجابي واعماني اهتمامي عن ابصار الحقيقة. حقيقة من انه لايبالي بي اساساً…

ولكننا عندما نحب احدهم بشدة نبدأ بخلق عوالم خيالية تجمعنا به ونبدأ بتحليل كل كلمة على انها اهتمام. كل تصرف على انه اهتمام. وكل ضحكة اهتمام، وكل نظرة اهتمام. وكل شيء نحلله على ان الشخص المقابل مهتم بنا مثلما نحن مهتمين به، كي نشعر بالمزيد من السعادة دون ان ندرك ان هذه السعادة المزيفة ستضربك بأرض الواقع بقوة لتجعلك تنتبه من تخيلاتك وتستعيد رشدك، مثلي تماماً!

بعد مشاجرتي الاخيرة مع ابي اخذت بعض ملابسي والسيد ويزلي بالطبع وخرجت من المنزل لأستقر في فندق هذه الايام بعيداً عن عائلتي، هذه هي عادتي عندما اغضب، اخرج من المنزل لأيام ولااعود اليه ألا بعد ما اهدأ دون ان يعرف اي احد مكاني. وبالطبع احرص على عدم استخدام بطاقة أئتماني كي لايتوصل ابي لمكاني عن طريقها!.

انه اليوم الثامن الذي يمر على خارج المنزل وانا اغلق هاتفي كي لايتصل بي احد، غيرت ملابسي وخرجت من غرفتي ومن ثم من الفندق لأنطلق بسيارتي نحو المتجر التجاري الذي اقصده في العادة كي اشتري منه مااحتاج، ليس متجري بالطبع ان كنتم تتسائلون!

وصلت اليه ليستقبلني موظفي المتجر بوجه بشوش فهم معتادون على رؤيتي دائماً لاشتري منهم مجموعة كبيرة من الالعاب واطلب منهم تغليفها من اجلي، وهذه المرة كانت ككل المرات ايضاً، تجولت في قسم الالعاب والدمى كي اختار اجملها واضعه في العربة الحديدية التي ادفعها بيدي ثم ذهبت نحو مكان الدفع ليغلفوها من اجلي وادفع ثمنها، ساعدني بعض الموظفين في حملها نحو الخارج فأعطيت كل واحد منهم بقشيش كعلامة على الشكر ثم ركبت سيارتي وانطلقت مجدداً ولكن هذه المرة نحو المكان الذي اقصده كل يوم سراً من دون والداي، مركز الايتام!.

فهما يرفضان ان اتبرع بشيء او ان ازور المركز ما لم يكن الامر من اجل الصحافة والاعلام، ولكني ارفض بشدة ان ارافقهما في زيارتهما نحو مراكز الرعاية والايتام لأنه يرافقهما دائماً صحفي من اجل التقاط الصور وكتابة سبق صحفي عنهما. وانا اكره هذا التزيف، انا ازور مركز الايتام لأني احب ذلك. وليس من اجل ان اجعل الناس يحبوني ويتحدثون عن اعمالي!.

وصلت اليه فأستقبلني مجموعة كبيرة من الاطفال ماان دخلت من بوابته الكبيرة محملة بهذا القدر من الهدايا، كوّنو حلقة حولي وهم يركضون ويضحكون بسعادة وانا اضحك معهم، فأنا انسى هذا العالم القذر وقساوته وسط هؤلاء الالماسات النقية الخالية من اي اكاذيب وخدع…

جلسنا وسط الحديقة وانا اوزع عليهم الهدايا والعب معهم واضحك، لأنسى كل احزاني والآمي وسط تلك الضحكات البريئة والعذبة! وفجأة انقبض قلبي والتفت نحو تلك النبرة المميزة على مقربة مني: ميرنا!
جحظت بعيناي بصدمة وانا احدق بوجهه المليء بعلامات التعجب وتمتمت شفتاي من دون ارادة مني: سيف!

(وما بين حُبٍّ وحُبٍّ. أُحبُّكِ أنتِ.
وما بين واحدةٍ ودَّعَتْني.
وواحدةٍ سوف تأتي.
أُفتِّشُ عنكِ هنا. وهناكْ.
كأنَّ الزمانَ الوحيدَ زمانُكِ أنتِ.
كأنَّ جميعَ الوعود تصبُّ بعينيكِ أنتِ.
فكيف أُفسِّرُ هذا الشعورَ الذي يعتريني
صباحَ مساءْ.
وكيف تمرّينَ بالبالِ، مثل الحمامةِ.
حينَ أكونُ بحَضْرة أحلى النساءْ؟
وما بينَ وعديْنِ. وامرأتينِ.
وبينَ قطارٍ يجيء وآخرَ يمضي.
هنالكَ خمسُ دقائقَ.

أدعوك ِ فيها لفنجان شايٍ قُبيلَ السَفَرْ.
هنالكَ خمسُ دقائقْ.
بها أطمئنُّ عليكِ قليلا.
وأشكو إليكِ همومي قليلا.
وأشتُمُ فيها الزمانَ قليلا.
هنالكَ خمسُ دقائقْ.
بها تقلبينَ حياتي قليلا.
فماذا تسمّينَ هذا التشتُّتَ.
هذا التمزُّقَ.
هذا العذابَ الطويلا الطويلا.
وكيف تكونُ الخيانةُ حلاًّ؟
وكيف يكونُ النفاقُ جميلا؟.
وبين كلام الهوي في جميع اللّغاتْ
هناكَ كلامٌ يقالُ لأجلكِ أنتِ.

وشِعْرٌ. سيربطه الدارسونَ بعصركِ انتِ. )
نزار قباني
(سيف).

قدت سيارتي من شقتي مباشرةٍ نحو المركز التجاري الخاص بآدهم والذي استلمت فيه منصبي منذ ثلاثة ايام بعد طرد ميرنا منه منذ ثمانية ايام، سأكذب عليكم ان قلت لكم اني لم ابالي بأمرها. ولكني سأكذب عليكم ايضاً ان قلت انها تشغل تفكيري طوال الوقت، لاسيما بعد اصبحت فجأة لاتظهر امامي بين الحين والاخر بالصدفة، هذا الامر جعلها تبتعد عن عقلي ايضاً بشكل ما، هل افتقدها؟، لااعلم، ولكني اجد نفسي في بعض الاحيان احدق بالفراغ وابتسم بمفردي كالابله وانا اتذكر احدى عباراتها المضحكة او تصرفاتها الطفولية، لاسيما بيجاما تويتي تلك! هل هذا يعني افتقدها؟، اجل، وبشدة ايضاً! لاسيما لأبتسامتها العذبة تلك وهي تحدق بي بأعجاب غير مدركة اني اخبأ سكين الغدر خلف ظهري وسأطعن قلبها البريء قريباً! غير مدركة ان يوسف سيتخلى عنها للمرة الثانية. ولكن هذه المرة بأرادته!.

وصلت الى المتجر واتجهت الى المكتب، مكتبها القديم، كرسيها القديم، سجادتها القديمة، تركت كل شيء كما هو ولم احركه، اشعر بعطرها حولي. اسمع حروفها في كل شيء ألمسه. اتخيل وجهها بكل شيء تقع عيني عليه. وبعد كل هذا اسأل نفسي بحماقة، هل افتقدها؟ بل انا تائه بها وفاقد لنفسي!

جلست خلف المكتب ورأيت كومة من الملفات قد حضروها لي فوقه، تعحبت من كثرتها وانا البارحة قد انجزت الكثير من العمل، فتحتها ودققت فيها بتمعن لأفتح عيناي بذهول بعدها غير مستوعب مااقرأه! اغلقت الملف بعنف لأنزل نحو مخزن المتجر لأجد مالم اصدقه! البضائع كلها لاتزال هنا ولم يتم تصدير قطعة واحدة منها، انها كارثة! نعم انا اود ان اتسبب بالخسارة لأدهم ولكن من دون ان ابين اني انا من تسببت بهذا ودون ان اطرد ايضاً وانا لازلت في بداية خطتي بالكاد حققت الخطوة الاولى منها!.

التفت نحو رئيس العاملين الواقف خلفي وهتفت به بغضب:
ماهذا الهراء سيد كرم؟ لما لاتزال البضائع في مكانها ولم تصدروها؟
نظر بتردد نحو مساعده أمجد وتلعثم كلاهما في الاجابة فهتفت بهما بغضب اكبر:
لينطق احدكما، اين هم عمال المخزن؟
عند هذه الجملة سكت فوراً وبدأت استوعب اموراً لم انتبه لها من قبل وقلت بتلكأ:
ل. لحظة، عدد العاملين في المتجر 200 عامل. وجميعهم لهم اعمالهم داخل المتجر. فمن كان يتولى ادارة المخزن؟.

فأجابني السيد كرم بحزم:
انهم المئة موظف الذين اتهمتم بسببهم الانسة ميرنا بسرقة الرواتب!
فتحت عيناي بعدم استيعاب وانا اقول:
عن ماذا تتحدث انت؟
كان يعمل في المخزن مئة عامل. مابين حمالين وسائقين ومحاسبين. رغم ان الحاجة اليهم فائضة ألا ان الانسة ميرنا اصرت على بقائهم.
ولماذا لم تخبرنا ان المئة الراتب الاضافي كانت من اجلهم؟ ولما لم تجدول اسمائهم من الاساس في الملفات الرئيسية وتقدمها لنا؟
لم تستطع ذلك.

ولماذا؟
لأن هؤلاء المئة موظف هم ذاتهم الذين طردهم السيد ادهم من الشركة بحجة الغش والتزوير. ولكن الانسة ميرنا كانت تعلم انهم لم يفعلو ذلك. لذلك احضرت اسمائهم وقامت بأعادة توظيفهم سراً في المتجر كي لايغدون من دون عمل ويعانون هم وعوائلهم.
نعم، ماذا لو انجبت الشياطين ملائكة؟ ماذا ان وصلت للنهاية لأكتشف اني كنت الشيطان الوحيد في هذا الامر كله؟ هل يعقل ان يعميني انتقامي لهذا الحد؟

لم اعلق بأي شيء على حديث السيد كرم وخرجت من المتجر نهائياً مشتت التفكير. قدت سيارتي الى المجهول ولااعرف كيف لم اتسبب لنفسي بحادث وانا لاارى حتى الطريق امامي! كل مااراه هو تلك الصفعة الاخيرة التي نالتها فوق خدها الرقيق بسبب استعجالي وغبائي. تلك النظرات الحادة والباردة التي رمقتني بها للمرة الاخيرة قبل ان تختفي نهائياً، دعست على الفرامل فوراً لأقف بجانب الطريق اقبض على المقود بقوة اكاد اهشمه داخل قبضتي القاسية! ثواني حتى اخرجت هاتفي واتصلت على هاتفها لأجده مغلق. كما توقعت! فأتصلت برأفت استمع للرنين وانا انقر بأصبعي بتوتر فوق المقود الى ان اجابني رأفت:.

اهلاً يوسف. عفواً. سيف.!
رأفت. اين هي؟
لقد خرجت لتوها من الفندق واتجهت نحو المركز التجاري المعتاد الذي تقصده.
اغلقت الهاتف وانطلقت نحو المتجر، فمنذ ان خرجت من مكتب ابيها غاضبة قبل ثمانية ايام اعطيت تعليمات لرأفت بمراقبتها خشية ان يحصل لها شيء او ان تؤذى وجعلته يعرف لي مكان اقامتها ويراقب كل تحركاتها فأنا كنت سأفقد عقلي ان مرت على ساعة لااعرف اين هي حبيبتي وماالذي يحصل معها؟.

وصلت نحو المتجر لأجدها تخرج منه لتوها فوقفت بسيارتي بعيداً كي لاتلاحظني. خرجت بأكياس كثيرة تتشابه مع تلك التي رأيتها تشتريها في اليوم الذي تمت دعوتنا لعشاء مع السيد رشيد وزوجته وفي النهاية كذبت على والدتها واخبرتها انها لم تمتلك فرصة للتبضع! هذه المرة لن تكون مضطرة ان تكذب على امها. فهي خارج المنزل من الاساس!.

انطلقت بسيارتها لأنطلق خلفها حارصاً على ترك مسافة ليست بالقليلة بيننا، حسناً. لقد تبضعت. أليس من المفترض ان تعود للفندق؟ أليس من المفترض أن لاتخيب ظني بها؟ انا اراها المدللة المبذرة. أليس من المفترض ان تتصرف على هذا النحو؟ فلما لااراها اذاً تسلك طريق الفندق؟ اللعنة! ماالذي تفعله قرب ملجأ الايتام الان؟، ميرنا ارجوكِ لاتنزلي، ارجوكُ لاتكوني عكس مااظنك، ولكنها وللأسف كانت! نزلت من سيارتها وانا احدق فيها بصدمة وانزلت جميع المشتريات من الصندوق والتي كنت اظنها من اجلها ودخلت نحو الملجئ، احسست بروحي تخرج تدريجياً من جسدي ونزلت من السيارة وسارت قدماي من دون ارادة مني لتتبعها الى الداخل، لأشاهد منظراً جعلني ارى نفسي احقر شخص فوق هذه الارض. ضحكة الاطفال تلك وهم يستقبلوها فرحين! يهتفون بأسمها! يدورون حولها! الى هذه اللحظة وانا لااصدق ماتفعله، عليها ان تكون البطلة الشريرة وليس الاميرة الصالحة! فأنا لايمكنني ابداً ايذائها ان لم تكن تحمل جزء من روح امها وابيها بداخلها…

التفت كالابله من حولي. ربما اشاهد صحفي. كاميرا، ناس، اي شيء بحق السماء يثبت انها تفعل ذلك فقط من اجل الدعاية والاعلام، ولكن لاشيء! كل ماحولنا هي الارض والسماء وانا وهي واولئك الاطفال!

جلست على الارض توزع لهم الهدايا وتشاركهم لعبهم وضحكاتهم، كطفلة يتيمة مثلهم بالضبط! تخلى عنها الجميع حتى اقرب الناس اليها! تركوها وحيدة وحزينة دون ان يمد احدهم يده ليسحبها من وحدتها ويمسح لها دموعها، لم يشعر احد بما تعانيه، لم يهتم احد بصراخها، منبوذة وسط مجتمع مليء بالناس! اين الرفاهية التي سلبتها مني بالضبط كي انتقم منها واستعيدها؟، فكلانا يعيش داخل سجن تختلف قضبانه فقط. سجني انا من الحديد الصدأ وسجنها هي من الذهب. ولكن معدن السجن لن يغير مفهومه ولن يحسن من حياته، فالسجن يبقى سجن مهما كان مابنيناه به او وضعنا بداخله!

اقتربت منها وانا اسحب قدماي جبراً خلفي من شدة ذهولي ووقفت على مقربة منها لتتمتم شفتاي من دون ارادة مني:
ميرنا!

اتمنى ان يخترق النور الان فجأة عيني ويزعج صوت المنبه اذناي لأكتشف اني داخل حلم. لا بل كابوس! وسأستيقظ منه ماان تشرق شمس الصباح على نافذة غرفتي! ولكن ها هو الصباح قد طلع، وها هي الشمس شامخة في وسط السماء، لست احلم! هذا هو واقعي الذي يرفض عقلي تصديقه! سنوات وانا اراقبها، كيف لم اتمكن لمرة واحدة من رؤيتها تأتي الى هنا؟ فمن منظر الاطفال بالتأكيد هم يعرفونها مسبقاً. فكيف لم اعرف؟، لو ان عرفت فقط. فصدقوني هذا كان سيغير الكثير!.

رفعت رأسها إلى بصدمة وفتحت عينيها بذهول وعدم تصديق وهي تحدق بي ثم فجأة انتفضت من مكانها واقفة ودفعتني من صدري بقوة ارجعتني خطوة نحو الوراء وهي تهتف بي:
ماالذي تفعله هنا؟ لما تستمر بالظهور امامي الى كل مكان اذهب اليه؟ ألايكفيك مافعلته بي؟

ثم تركتني وسط ضعفي وتسارعت خطواتها نحو بوابة الملجئ تريد الخروج. ثواني حتى استوعب عقلي المذهول مايحصل حوله فتبعتها راكضاً قبل ان تخرج من الملجئ وامسكتها من يدها وادرتها إلى وانا اقول بتوسل:
ميرنا ارجوكِ.
فسحبت يدها بعنف مني ووقعت بضع دمعات من عينيها وهي تصرخ بوجهي قائلة:
ماالذي تريده مني سيف؟ ألايكفيك ماحصل؟ المتجر وحصلت عليه وطردتني. ماالذي تريده اكثر؟
عدت لأمكسها من يدها مرة اخرى وانا اقول:.

اقسم لكِ اني لم اتوقع ان يحصل هذا. لم اظن انه سيتجرأ ويضربكِ.
سحبت يدها مني مرة اخرى ولاتزال تحافظ على غضبها وهي تخاطبني بسخط:
ضربي؟ أترى ان هذا الخطأ الوحيد الذي ارتكبته بحقي؟
لا، كنت احمقاً جداً ومتسرعاً في قراري. اليوم فقط اكتشفت مدى غبائي.
وانا لست مستعدة ان اتحمل تصرفاتك الغبية! بل ولست انت الغبي بالموضوع بل انا لأنني.

ثم كتمت باقي كلماتها فوراً، ولكني فهمتها من تلك النظرات داخل عينيها الحزينة، نظرات هدمت كل حصن فولاذي بنيته بداخلي ليبقيها خارج اسوار قلبي، دون ان اعلم انها تجلس على العرش من الاساس وتلك الاسوار تحميها وتبقيها في الداخل تمنعني من اخراجها نهائياً!
فعدت لأقول بحروف متوسلة:
ميرنا ارجوكِ. فقط اعطيني فرصة لأشرح لكِ.
فدفعتني مرة اخرى من صدري وهي تهتف بي:.

لااريدك ان تشرح لي شيء، اريدك ان تخرج من حياتي فقط، اريدك ان تتركني ولااريد ان اراك مجدداً!
ولكن هذه المرة لم تستطع ارجاعي خطوة الى الوراء بل قمت بسحبها فوراً نحوي وعانقتها بقوة مانعاً اياها من الهرب مني وانا اهمس لها بكل ندم صادق:
انا اسف، ارجوكِ سامحيني، سأفعل اي شيء فقط من اجل ان تسامحيني!

حاولت التملص من بين يداي بشتى الطرق وهي تسمعني وابل من الشتائم والصراخ ولكني لم اسمح لها بالابتعاد وشددت قبضتي عليها اكثر الى ان استكانت من ثورة غضبها ليتغلب عليها الضعف وتبدأ ببكاء مرير ادمى قلبي وهي تبثني شكواها من بين دموعها فمسحت على شعرها بلطف وانا اقول:
ششش، اهدأي، كل شيء سيكون افضل من الان فصاعداً انا اعدك.
فاحسست بحركة رأسها بالنفي قبل ان تجيبني بنحيب:.

لا، لن يكون كل شيء افضل. لطالما حاولت ان اجعلها افضل ولكني دائماً اصبح اسوأ.
ابتعدت عنها قليلاً وحوطت وجهها بين يداي وانا اقول:
بل سيكون.
لن يكون، فالقدر لن يمنحني السعادة مالم يهيأ لي التعاسة من بعدها!

نعم هي محقة، فأنا سأمنحها حبي. سأجعلها تعش بعالم وردي لم تتخيل انه موجود سوى في حكايات الاساطير، وبعدها ستكتشف الحقيقة لتختم سعادتها بتعاسة فضيعة ربما لن تسامحني طوال حياتها عليها، ياليتنا نبقى في هذا العالم الوردي الى الابد، ياليتنا لانزال اولئك الاطفال البريئين كل مايهمهما هو اي لعبة سيختاراها لهذا اليوم، لماذا لااصارحها بالحقيقة؟ لما لااخبرها اني يوسف؟، انها ليست بجانب تصرفات اسرتها فلربما ستساعدني وستبقى بجانبي، ولكن ماذا ان اخبرتهما بكل شيء؟ ماذا ان اكتشفا اني يوسف؟، سيذهب كل تخطيط ال18عاماً هذا سدى، وعاد تفكيري ليدور بحلقة فارغة من اين ماانطلقت اعود لذات المكان.

مددت ابهامي نحو وجهها لأمسح دمعة ضعيفة استكانت هناك وقلت لها بهدوء:
لاتبكي، فهذا يؤذيني!
فتحت عينيها بدهشة وهي تحدق بداخل عيناي فتبسمت وانا ادرك ماالذي خطر في بالها الان فقلت:
اعلم، ولكن لااعرف كيف اعالج انفصام الشخصية هذا ياتويتي!
وفجأة شاهدت ابتسامة مرتجفة تزين ثغرها فقلت فوراً بلهفة:
اذاً. هل سامحتني؟
فبقيت صامتة من دون اي تعليق وهي تنظر بداخل عيناي فأردفت فوراً:.

ان كنتي لاتزالين غاضبة مني فلابأس. لاتسامحيني. ولكن اعطيني فرصة على الاقل لأثبت لكِ اسفي واكون جديراً بمسامحتكِ.
وماهذه الفرصة بالضبط؟
اقبلي دعوتي على العشاء هذه الليلة.
ضيقت عيناها بتفكير من دون اجابة فقلت انا فوراً:
حسناً اذاً اتفقنا.
فهتفت معترضة:
ولكني لم اوافق بعد.
ألم تسمعي بالسكوت علامة الموافقة على دعوة عشاء؟
اوه حقاً؟ هل يتم صياغة المثل بهذه الطريقة؟
اصوغه بالطريقة التي تعجبني!

لاتستفزني. فهذا ليس من صالحك في هذه اللحظة…
حسناً حسناً، لن اصوغ اي شيء من الان فصاعداً.
فتبسمت بزهو وهي تقول بنبرة انتصار:
جيد!
ثم استدارت واتجهت نحو سيارتها وانا اتبعها قائلاً:
اذاً سأنتظرك اسفل الفندق في السابعة والنصف هذه الليلة، هل يلائمك هذا؟
فألتفتت إلى فوراً وهي تقول بأستغراب:
وكيف تعرف في اي فندق امكث؟
فتبسمت بغموض وانا اقول:
مثلما عرفت انكِ في الملجئ.
فتوسعت عيناها بدهشة وهي تسألني:.

أتعني ان هذا لم يكن مصادفة؟
فأقتربت منها وقلت هامساً بأبتسامة:
انا لا أؤمن بالصدف ياانستي الجميلة، وقد اخبرتكِ مسبقاً، انا اعرف عنكِ اكثر مما تتوقعي!
تطلعت داخل عيناي بهُيام وهي تتمتم من بين شفاهها الباسمة:
من انت بالضبط؟
فتبسمت وقلت لها بدفئ:
مجرد احمق اخر اعتقد انه يستطيع مقاومتك دون الوقوع بغرامك!

عندها توسعت عيناها اكثر بعدم تصديق وهي تحدق بي تعجز عن نطق حرف واحد وبدأ اللون الاحمر يغزو تقاسيم وجهها الخجول، ولكن ما بال قلبي قرع طبوله بكل قوة؟ ماباله ذلك الاحمق الذي كلما استمريت بأدخاله بسبات اجده يستيقظ فزعاً ومتلهفاً ماان يسمع صوتها؟، وعينيها، اه عينيها! بهما سحر غريب بالفعل، سحر يجعلني افقد كل حواسي بالعالم الخارجي واركز داخلهما فقط!.

انا اضعف، انا اتحامق، انا انسى كل شيء واضيع بداخل عالمها، حان وقت هروبي لأتماسك، لأشحن نفسي ببعض القوة التي فقدتها ما ان بثت دموعها فوق صدري!.
أ. أ أنا على الذهاب الان. وكما قلت لكِ. سأمر عليكِ في السابعة والنصف.

ثم تركتها متسمرة في مكانها مذهولة ومصدومة من دون اي حركة وركبت سيارتي وانطلقت بها بأقصى سرعة بعيداً عنها، انا اكرهها. انا لااطيقها، لأنها تجعلني اعشقها بجنون! وكلما احاول تزييف كلماتي لأخدعها اجدها تخرج بصدق من اعماق قلبي، اقول لأمي ولرأفت اني سأكذب عليها بمشاعري. سأخدعها بكلماتي، نعم انا كذبت بمشاعري. ولكن ليس على ميرنا، بل كذبت على نفسي، فمهما قلت اني اكرهها. اكتشفت اني احبها اكثر!

(وما بين حُبٍّ وحُبٍّ. أُحبُّكِ أنتِ. ).

(ميرنا).

يقال ان قلب الانسان الطبيعي ينبض 72 نبضة في الدقيقة، ولكن ماذا نسمي من ينبض قلبه200 نبضة في الدقيقة؟، انا سأخبركم، نسميه عاشق! لا. نسميه مجنون! ماان سمعت صوت عجلات سيارته تحتك بأرضية الشارع من شدة السرعة حتى التفت بذهول قد ادركت لتوي انه غادر، هل حقاً ماسمعته ينطقه؟ أهو صادق بكلماته ام انها مزحة لئيمة من مزاحاته السخيفة؟ ربما ماعشته لم يكن واقعاً من الاساس! رفعت يدي من دون ارادة مني لأضعها فوق قلبي لأستشعر تلك الضربات المجنونة التي تتراقص فرحاً داخل صدري، تبسمت براحة واطمأننت حينها فقط، ماحصل لم يكن مجرد حلم عابر، انا عشت تلك اللحظة بالفعل!

عدت نحو الفندق بسعادة عارمة اجتاحتني وبدأت اجهز نفسي منذ الان من اجل موعد العشاء لدرجة اني حتى نسيت موعد دوائي وانشغلت بتحضير نفسي فقط…

جلست على الكرسي اراقب الساعة بشوق كطفلة وعدها ابيها بأخذها نحو مدينة الملاهي! يااللهي! انها بطيئة بالفعل اليوم! سأدفع اي شيء مقابل ان تصبح الساعة السابعة والنصف، وفجأة رن هاتفي ليقطع تحديقي بالساعة، فتحت حقيبتي اليدوية لأجد اسم زيد يظهر على الشاشة عندها فقط تذكرت اني لم اتناول دوائي! اجبته ليصلني صوته المستاء فوراً:
اين كنتِ ياميرنا؟، انا منذ ثلاثة ايام اتصل بكِ وهاتفكِ مغلق.
فقلت بأحراج:.

اعتذر كثيراً زيد. لم اظنك ستتصل.
ماذا تعنين لم تظني انني سأتصل؟ موعد تبرع الدم لكِ مر عليه عشرة ايام بسبب سفر متبرعك احمد واخبرتك ان تتوقعي مني اتصال في حال عودته لتحضري الى المستشفى فوراً. وانا منذ ثلاثة ايام اتصل بكِ وحتى ان اتصلت على هاتف المنزل بصفتي صديق واخبروني انهم لم يروكِ منذ ثمانية ايام، لقد قلقنا كثيراً انا وهيلين، اسوأ الظنون قد خطرت على بالنا.

تبسمت ملئ ثغري من تلك المشاعر العائلية التي يحملها الغرباء لي ولااجدها وسط عائلتي الفعلية! قلت له بعد ان افرغ شحنة غضبه وعتابه:
حسناً انا اسفة جداً، اعدك ان هذا لن يتكرر.
سمعت زفيره الحاد على الطرف الاخر قبل ان يجيب:
حسناً لابأس، ولكن اياكِ وان يتكرر هذا ياميرنا.
قلت لك اني اسفة لاتبالغ وألا سأشكوك الى هيلين.
ضحك ثم قال لي:
حسناً يامنتقمة! تعالي الى المستشفى الان لأرسل بطلب احمد كي يأتي يتبرع لكِ.

فنظرت نحو الساعة بتردد وانا اقول:
الان؟
اجل، لقد مر 10 ايام ياميرنا. ولااريد ان اجازف بالتأخر اكثر. قد تحصل لكِ مضاعفات.
فأندفعت الحروف فوراً من داخل فمي احاول ايجاد اي طريقة كي اتملص من القدوم:
ولكني بخير. ألا نستطيع تأجيل على الاقل لصباح يوم الغد؟، فلست اعاني من اي اعراض. كما وانني اخذ علاجي بأنتظام.

وبالطبع كل ماقلته كان كذباً فقط كي اتمكن من الخروج برفقة سيف، فطوال فترة مكوثي في الفندق تناولت الدواء ثلاث مرات فقط ونسيته في باقي المرات مما ادى الى تدهور حالتي بعض الشيء وظهور الاعراض التي تنبهني ان حالتي تصبح اسوأ كظهور البقع الحمراء على جسدي بسبب النزيف الداخلي وصداعي الدائم والدوار. عندما اصل لهذه المرحلة فقط كنت اتذكر دوائي واتناوله ثم اعود لأنساه مرة اخرى! ولكني سأتحمل، سأقاوم، سأدعي القوة والصحة. فقط كي لايتم حرماني من هذا الموعد!

تنهد زيد بقلة حيلة وهو يقول:
حسناً، ولكن غداً صباحاً اتوقع قدومكِ مبكراً. اتفقنا؟
ابتسمت بسعادة وانا اقول له احاول الاستعجال بالمكالمة قدر الامكان لاسيما ان الساعة تجاوزت الساعة السابعة والنصف:
حسناً حسناً سأكون هناك على الموعد تماماً.
ودعته وانهيت المكالمة ونزلت بأستعجال من غرفتي لأرى ماان كان سيف قد حضر او لا، ومن شدة استعجالي نسيت ايضاً امر الدواء!

خرجت من باب الفندق لأجده ينتظرني قرب سيارته يتكأ على مقدمتها ويكتف يديه امام صدره منتظر نزولي بصبر يبدو انه بدأ يفقده بسبب تأخري، ولكني فجأة وجدت بعض الاشراق والتعجب يغزو وجهه وهو يحدق بي بينما اسير بأتجاهه، نعم لطالما اعتنيت بمظهري واناقتي، ولكني اليوم اعتنيت بشدة! وركزت على ابسط التفاصيل. فهذه اهم سهرة في حياتي كلها! لذلك ربما تلك الاشراقة التي في عينيه هي شرارة اعجاب كنت انتظرها طويلاً!.

اقتربت منه وانا اقول بخجل:
اعتذر ان كنت قد تأخرت بنزولي!
استمر يحدق داخل عيناي بأبتسامة زادت من توتري فقلت له بأرتباك:
اذاً. هل نذهب؟
فقال بمكر:
اعتذر انستي، ولكني بأنتظار شخص اخر. انها نزيلة في هذا الفندق ايضاً ربما تعرفينها. ميرنا اليوسفي؟
رفعت حاجباي ساخرة وانا اقول:
اوه حقاً؟، لابد انك واقع بغرامها بشدة لترفض مرافقة واحدة مثلي.

ظننته سيعلق ساخراً على مزاحي كما نفعل دائماً ولكني تفاجأت به يستقيم بظهره ويطلق سراح يديه من تكاتفهما ويقترب مني خطوة ليقول بدفئ:
اجل، واقع بغرامها بشدة، ولن يغريني اي جمال اخر عدا جمالها!
احسست بحرارة تنبعث من كل اجزاء وجهي يكاد ينفجر من شدة خجلي فتبسم من منظري وسار قبلي ليفتح لي باب المقعد الامامي وهو يقول:
تفضلي.

تقدمت لأجلس في مقعدي وانا اشكره بتهذيب لااعرف منذ متى كنت استخدمه مع سيف. فلطالما كنا دائمي الشجار والتناقض. والان اصبحنا روميو وجولييت فجاة، لالالا، ليس هذين، فلا اريد من نهايتنا ان تكون حمقاوية، ولكن كيف ستكون نهايتي انا وهو ياترى؟ فمهما بلغ حبي لسيف. فأنا لازلت بأنتظار يوسف. يوسف الذي سأبيع الدنيا ومافيها فقط من اجله هو!.

قاد السيارة بهدوء لايتخلله سوى صوت اغنية هادئ لم اركز في كلماتها جيداً من شدة توتري!
وصلنا الى المطعم الذي اختاره لنا سيف وتفاجأت به يتجاهل جميع الطاولات ليستقل المصعد نحو طابق اخر. فسألته بينما انغلق باب المصعد علينا:
الى اين نحن ذاهبان؟
فنظر نحوي بأبتسامة وهو يقول:
انها مناسبة مميزة، لذلك سنتناول طعامنا في مكان مميز ايضاً.
تبسمت بحماس متشوقة لوصول المصعد نحو ذلك المكان المميز.

فُتخ باب المصعد في الطابق الاخير امام قاعة كبيرة لاتحوي سوى على طاولة يحوطها كرسيين متقابلين قرب نافذة ضخمة تحتل الجدار بطوله وعرضه تطل على جميع انحاء المدينة واضوائها المنيرة كنجوم زاهية في سماء حالكة السواد! خرجت قدماي من دون ارادة مني خارج حدود المصعد وانا احدق بذهول بكل شيء حولي وبهذا المنظر الذي سلب قلبي! اختفت بعض الاضائة من المكان فأدركت ان باب المصعد قد اغلق مجدداً ليحتل الغرفة نور هادئ تتخلله موسيقى ساحرة لااعرف بالضبط من اين تصدر!

اذاً. هل اعجبكِ المكان؟
نظرت نحو سيف بدهشة وانا اعيد كلمته بتشديد:
اعجبني؟ وهل الامر يحتاج الى سؤال!
ثم عادت عيناي تتجولان حولي وانا اكمل:
انه اروع شيء فعله احدهم من اجلي!.
احسست بيده تقبض على يدي بلطف وهو يقول لي بأبتسامة:
اذاً دعينا نجلس.
يااللهي! انا بالتأكيد داخل حلم. مايحصل حولي ليس حقيقة على الاطلاق! ماالذي جعل سيف يتغير هكذا فجأة من المتنمر الشرير الى الامير اللطيف؟.

سحب لي الكرسي لأجلس ثم احتل بجسده الكرسي المقابل لي وهو يقول:
بالمناسبة. لقد قمت بطلب الطعام مسبقاً، انه الطبق ذاته الذي طلبته في تلك الليلة التي تناولنا فيها العشاء مع السيد رشيد، اتمنى ان لاتمانعي؟
تبسمت وانا اقول:
كالعادة، تقرر وتنفذ. فلما تأخذ رأي؟.
احاول ان اكون مهذباً.
ولكني لااحب المهذبين.
فأرتكز بمرفقيه فوق الطاولة وامال جسده نحوي وهو يقول لي بأبتسامة دافئة:.

لابأس. لن اكون كذلك بعد الان، سأفتعل شجاراً مع احدهم ما ان نخرج من المطعم.
اطلقت ضحكة خفيفة وانا اجيبه:
كل هذا لأسامحك فقط؟
فقبض على اصابعي بيده وهو يقول بأبتسامة ولكن بنبرة جادة:
لا، كل هذا كي تكوني لي فقط!
كل شيء في وجهي قد توسع في لحظتها. عيناي، اذناي، فمي…

شعرت بأنفاسي تضيق وبالحرارة تنبعث من وجنتاي، يمسك يدي ويعترف لي في آن واحد؟ يااللهي! كنت اظنه امراً سهلاً وانا اشاهده بالافلام. ولكن الان ادركت ان اغلب الممثلين لايجيدون لعب الدور، فكيف لم يغمى عليهم؟، كيف لم يتوقف قلبهم؟، احتاج بشدة ان اتحدث مع نيوتن في هذه اللحظة، فانا اريد ان ادرس قوانين الجاذبية من جديد، هناك خطأ ما ارتكبه نيوتن بالتأكيد، اكد لنا اننا مادمنا نقف على الارض فأن اجسادنا لابد وان تخضع لقانون الجاذبية، ولكن جسدي الان لايخضع! اشعر اني اطفو داخل بركة من الماء ترفع روحي نحو اعالي السماء، الشيء الوحيد الذي يجعلني ابقى ثابتة في مقعدي هي جاذبية عيون سيف الساحرة التي كانت كالمغناطيس تجذبني اليه بقوة، لحظة! ألا تلاحظون اني بدأت اتعمق بأمور الفيزياء؟، أليس من المفترض ان يعبر العاشقين عن مشاعرهم بمصطلحات ادبية وشعرية بدل اثبات حبهم بقوانين فيزيائية؟

وفجأة قطع تواصلنا البصري الصامت انا وسيف صوت انفتاح المصعد ليدخل النادل يدفع بيده عربة حديدية تحوي اطباق طعامنا ومشروباتنا فوقها، رتبها بأتقان فوق الطاولة ثم تركنا ورحل تاركاً اياي وحدي مع المغناطيس، والان لنترك سيف جانباً فأنا قد وقعت بغرام جديد، الطعام! فقد كنت طوال الثمانية ايام بالكاد اتناول طعامي، اما اليوم، فأن وضعتم امامي عشرة اطباق فأنا على استعداد بأكلها جميعاً صدقوني!.

بدأنا بتناول الطعام ونحن نتبادل بعض اطراف الحديث الى ان فاجئني سيف بسؤال:
ألن تقولي صورة من توجد داخل هذه القلادة؟
القيت نظرة سريعة فوق قلادتي قبل ان ارفع بصري اليه بأبتسامة وانا اقول:
لما انت مصر بهذا الشكل ان تعرف؟
لنقل انه فضول لاغير، في كل مناسبة انتِ تغيرين كافة مجوهراتك التي ترتديها، ألا هذه القلادة تبقى ثابتة حول رقبتك ولاتنزعيها ابداً مهما كانت المناسبة ومهما كانت الملابس التي ترتديها!

استسلمت للأمر وانا اضم القلادة بين اطراف اصابعي وقلت بهدوء:
ان اخبرتك ستسخر مني بالتأكيد!
جربي لتتأكدي قبل ان تحكمي.
تنهد بحسرة قبل ان افتح له القلادة واقول:
انه ابن عمي، يوسف!.
فجأة رأيت الشوكة تنزلق من بين يدا سيف لتحدث ضربة مسموعة في الصحن وهو يحدق بصدمة داخل القلادة من دون ان يبدي اي ردة فعل اخرى، نعم انا اعترف ان ردة فعله اثارت استغرابي ولكن لم تسكتني بل اكملت:.

اختفى وهو بهذا العمر قبل 18 عاماً، كان في العاشرة تقريباً. ولم اسمع عنه اي شيء بعدها. ومنذ سبع سنوات وانا ابحث عنه، وظفت اكثر من محقق خاص. بحثت في كل مكان. ولكني لم اجده!.
لم يزد كلامي سيف ألا تفاجئاً وصدمة لااعرف سببها، واخيراً بدأ جبراً يرخي ملامح وجهه المنقبضة وتنحنح قبل ان يجيبني بهدوء:
ولما تبحثين عنه بهذا الشكل؟، أعني. لم اسمع يوماً السيد ادهم يذكره او يبحث عنه. فلما انتِ مهتمة بأمره بشدة؟

وجدت ابتسامة عاشقة تحتل رغماً عني تقاسيم وجهي وانا اقول:
لأني واقعة بغرامه بشدة!
ففتح عيناه بدهشة وهو يسأل:
لقد كنتما مجرد اطفال عندما رحل. فكيف لازلتي واقعة بغرام طفل؟
فأجبته معترضة:.

انه ليس مجرد طفل بالنسبة لي، انه اكثر من ذلك بكثير، انت لاتعلم مايعنيه لي ولاتعلم ماالذي فعله من اجلي، انه الفتى الوحيد في هذا العالم الذي احبني من دون لقبي ومن دون ماضي اسرتي، احبني لكوني انا فقط واعتنى بي، نعم هو حب طفولي، ونعم انا لست واثقة ما ان كان لايزال يكن لي ذات المشاعر، ولكن لايمكنني الكف عن حبه مهما فعلت، وسأظل ابحث عنه ولن افقد الامل ابداً.

ماذا ان وجدته واكتشفتي انه ليس الفتى البريء ذاته؟
لايهمني.
ماذا ان لم يبادلكِ مشاعركِ؟
سأفعل المستحيل كي اكون بجانبه.
ماذا ان اكتشفتي انه اصبح انسان سيء؟
لا، يوسف ليس هذا النوع ابداً.
انتي لاتعرفين عنه شيئاً، قلتي انه ترككِ منذ 18 عاماً. لاتعرفين ما فعلت به الحياة.

سكتُ ولم اجد مااعلق به، ليس لأني لااجد اجابة. ولكن اجابتي ستكون ساذجة ان نطقتها، فأنا سأستمر بحبه مهما كانت شخصيته، جيد ام سيء، فقير او غني، بكل حالاته انا احبه ولاتسألوني لماذا لأني لااعرف. انا اجده الشخص المثالي الوحيد في حياتي رغم انه لم يعش معي حياتي سوى بضع سنين منها…
تنهدت بقلة حيلة وانا اقول:.

اعرف انك تظنني تافهة وحمقاء، ولكن لايمكنني الكف عن مشاعري هذه، في كل موقف سيء يحصل لي في حياتي فأنه اول من يخطر على بالي، لو انه بقربي ماحصل لي هذا، وبكل موقف سعيد يكون هو اول من يخطر على بالي ايضاً، اتخيل كم سيكون سعيد لفرحتي! انه الصديق الحقيقي الوحيد الذي حصلت عليه، يعرف عني اكثر مما يعرفان ابواي، يذكرني بأشياء انا ذاتاً قد نسيتها كأنجاز فروضي او يعد لي احياناً بعض الشطائر كي لااشعر بالجوع حتى لو لم اشكي له جوعي، طفل نقي وبريء كهذا من المستحيل ان يغدو انساناً سيئاً عندما يكبر!

نظر بعيناي نظرة عميقة قبل ان يسألني:
وانا، هل ستتخلين عني ان ظهر يوسف في حياتك مجدداً؟
صمت لثواني اقلب بصري بين عينيه الساحرتين لأصاب بالضعف اكثر واكثر. واخيراً قلت له:.

سيف، بعد يوسف انت الشاب الوحيد الذي اثبت لي ان هناك قلباً لايزال حياً داخل قفصي الصدري، انت الشخص الوحيد الذي وقعت بغرامه خلال فترة قصيرة جداً، دون ان ادرك الاسباب، ودون ان اعرف متى؟ وكيف؟، انا وجدت نفسي واقعة بغرامك، ولكن يوسف. مايربطني به اكثر من غرام، انه شيء انا ذاتاً اعجز عن وصفه!.
ظننته سيغضب، سيستاء، ولكني تفاجأت به يبتسم! فسألته بتردد:
أ. ألست غاضباً؟

اومئ برأسه نافياً وابتسامته لاتزال تزين ثغره واجابني:
علي العكس، بل ازددت تمسكاً بكِ…
فرفعت حاجباي بدهشة ليكمل هو:
فعلى مايبدو انكِ فتاة صعبة المراس، عكس ماتصورتك تماماً، لذلك سأكون مطمئناً من انك لن تكوني الفتاة التي ستنساني ان غبت عن عينيها شهر واحد، فأنتي لم تنسي مشاعر حملتها لأبن عمكِ منذ 18 عاماً! وهذا هو نوعي المفضل، البريئة، والمخلصة!
فقلت له بنبرة هادئة ولكن تحمل كل الجدية والحزن بداخلها:.

سيف! ان كنت تنوي خذلاني يوماً، فلاتتمسك بي ابداً ارجوك! يكفيني الخذلان الذي تعرضت له من اقرب الناس الي. لست بحاجة لصدمة جديدة، لاسيما منك انت، فصدمتي بكِ ستقتلني…
حدق بداخل عيناي بنظرة لااعلم لما حملت كل ذلك الالم والندم ثم قال لي نبرة ضعيفة:
انا لن اترككِ ابداً، اعدكِ بذلك!
لقد كانت جملة قصيرة تتألف من كلمات بسيطة جداً، ولكن لااعلم لما حملت معها هذا القدر من الطمأنينة والثقة الى اعماق قلبي!

ظننت ان هذه الامسية ستكون الاروع! ستكون المثالية! لم اظن انها ستتحول الى كابوس يدفعني للهرب من سيف بأقصى سرعة ممكنة!.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *