التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الخامس عشر

كن لي كما أهوى
اليوم أسطر نهاية رواية جديدة نسجتك من بين سطورها وحروفها كبطل جديد، وبصورة مختلفة لقلبي وللعالم الذي
يشاركني الحُب فيك.
يا ترى من تكون في جملة أبطالي!
ذلك الشخص المحب حد الجنون، أم ذلك المتعجرف الذي لا يفكر إلا بنفسهِ!
أم ذلك التائه الذي لم يجد موطنه لتلك اللحظة؟ أم ذلك المحب الذي وعد وأوفى وسلك دروب الهوى كما هوى؟
أي منهم تكون؟

طرزت من ثوب نظراتك العديد من الرجال ولكني لا أرى أي واحد منهم يكفيك ويكفي حبي الشديد لك.
أود ولو أكتب لكَ كل يوم وكل ساعة وكل لحظة أنتَ فيها تراود وتروض بالي على حبك، وكأن الكتابة عنك ولك هي الهواء الذي أتنفسه وأحيا بهِ.

اعتقد بأنني ساكتب وأسهب بِحبك وكلامي عنك ولا أخشى أن تكتشف يومًا كم أنا ضعيفة وهشة في كلماتي وفي حبي الذي زرعه الله بقلبي. تلك الحورية التي وصفتها ذات مرة بالجبروت ومرة أخرى بأنها قطعة أثرية نادرة جدًا، فهي أرق من نسيم الفجر في كنف وكلف عشقك…
رسيل المصري،
بعد مرور عام
بقصر دويدار.

اجتمعت العائلة بأكملها لإعداد مراسم زواج الثنائي الأكثر جنونًا، وبعد إلحاح مريب من كريم استطاع أن يأخذ موافقة شمس بقيام حفل الزفاف بعد انتهاء العام الدارسي الأول ؛ بشرط حصولها على تقدير يرضيها، فوضى عارمة بالقصر من أهل البيت ل طاقم العمل الخاص بتجهيزات الحفل، غير ذلك طاقم الطهاه اللذين يقومون بإعداد جميع وصفاتهم على الفحم في أحد أركان الحديقة.

كانت البداية عند تلك العروسة المرتبكة التي لا تضبط خطواتها، ظلت تجوب ذهابًا وإيابًا بقلق يتقاذف من معالم وجهها وهي تهاتف كريم بإضطراب وتوتر حتى تجاهل مكالماتها وفوجئت بهِ يفتح باب الغرفة منزعجًا: -الف مكالمة في الدقيقة! حصل أيه لكل ده؟
ضربت الأرض بساقها الأيمن وقالت ب صوت متهدج للبكاء: -انا عايزة ألغي الفرح، ممكن نأجله لبكرة!
-نعم يا روح خالتك؟ وأنا واخدك المراجيج!

قفل الباب خلفه ثم اقترب منها وربت على كتفها بضيق: -استهدي بالله كده واخزي الشيطان!
-يا كريم اسمعني بس. حاسة اني متوترة وكل حاجة ناقصة، الميك ارتست عربيتها عطلت على الطريق، الفستان عايز يضيق، انا حاسة أن دي مؤامرة عشان الفرح يبوظ!
هز رأسه مستخفًا بمشاكلها وهو يرمقها من رأسها للكاحل: -بلاش فستان وميك اب. البيجامة البيضة دي حلوة.

انفجرت بانزعاج: -كريم متهزرش! أنتَ مش حاسس ليه بالورطة ال أنا فيها! طبعًا وأنت عليك بأيه هي بدلة بتلبسها وشكرا على كده.
-عايزاني أعمل لك أيه طيب! هبعت حد يروح يجيب الكوافيرة م.
قاطعته بوجهٍ عابث: -اسمها ميك اب ارتست.
زفر باختناق وهو يكور قبضة يده من كبحه لمشاعر الغضب وتمتم بضيق: -فرقت يعني!
-اه فرقت حد بيقول كوافيرة الزمن ده! أنت عايش فين؟

جز على فكيه بجزعٍ: -هبعت حد يجيب الست هانم. ومشكلة الفستان أنا مش عارف المفروض أعمل فيها أيه!
ثم صمت لبرهة وكأنه تذكر شيء ما: -نوران، استني. أنتِ كل ال شاغل دماغك دي الفستان والميكاب وبس!
تراجعت خطوة للخلف لتجيبه بملامحها المنكمشة: -اه، هي العروسة المفروض أي يشغل دماغها غير شكلها اليوم ده.

كل يوم يتأكد من حجم الكارثة التي تنهار فوق عاتقه ولكنه مازال مكملًا السير بصدر رحب. رفع حاجبه الأيمن مستفهمًا: -وبس!
-ما تتكلم على طول يا كريم، أنا دماغي مش فاضية تحل في ألغاز دلوقتِ!
دنى منها نفس الخطوة التي ابتعدتها عنه ولكن بنبرة أكثر هدوءًا وأعين يتوقد منها اللهفة: -يعني مفيش حاجة تاني خايفة منها، اطمنك متوترة مثلًا. وكده.

هزت كتفيها بعدم فهم لمغرى تلميحاته: -لا مفيش، هتوتر من أيه، المهم شكلي يكون حلو النهاردة وبس.
ضاقت عيني كريم بنظرة ماكرة وغير سؤاله بنبرة أكثر لينًا: -طيب أنتِ بعد الفرح والفستان وكل الأجواء الجميلة، عارفة هيحصل ايه!
زفرت بوجه ثم قالت بإمتعاض مصحوبًا بالثقة: -أيه يا كريم أنتَ بتتكلم مع عيلة صغيرة!
تنهد بارتياح: -أنا ربنا نصرني، فلوس الجوازة دي حلال.

تأرجحت عينيها بحيرة وأكملت ببلاهة: -هنروح بيتنا نتعشى، وننام بقا لإني تعبانة وحاسة إني محتاجة أنام لمدة أسبوع.
تسمرت معالم وجهه بصدمة محاولاً إدراك جملتها. خيم فطر الحزن فوق ملامحه وقال ممتعضًا وهو يتأهب للرحيل: -مش كُنتِ عايزانا نأجل الفرح، أنا شايف إننا نلغي الجوازة كلها…
ثم أخرج هاتفه بعجل و أجرى لها حظرًا من كافة مواقع التواصل الإجتماعي: -وادي بلوك عشان ومش عايز اسمع صوتك النهاردة.

صرخت منادية باسمه ثم عاندت قائلة: -كريم. دي اخر مرة صوتك يعلى عليا. اقولك، إحنا نلغي الجوازة دي كلها ونرتاح.
لم يلتفت إليها بل أكمل سيره مغادرًا الغرفة، فثرثرت قائلة: -مش كل مرة تسيبني كده وتمشي، ده مش اسلوب ده على فكرة!
قبل أحد عشر شهرًا.

عاد مُراد بعد مرور يوم طويل في عمله. أكل خطوات السُلم ركضًا متجهًا إلى غرفتهما التي تحوي قمرًا جديدًا نور حياتهما، فتح الباب بلهفة وبعد ما رمى سترته السوداء على فراشه اندفع ملهوفًا ناحية تخت صغيرته المصبوغ باللون الوردي. تبدلت ملامحه عن رؤيته للسرير خاليًا من غاليته.
جهر مراد بصخب مُناديًا بنبرة مرصعة بالقلق والحب: -عاليه، عالية.
ثم طرق باب الحمام بخفوت وكرر ندائه: -عالية أنتِ جوه!

فتحت عالية الباب وخرجت منه في كامل أناقتها وبريقها. بفستانٍ قصير باللون الأبيض يصل لركبتيها، وشعرها المموج والمتدلى فوق كتفها مع الحُمرة الوردية التي تصبغ شيفاها، قطمت شفتها السُفلية بخجل وهي تقترب نحوه وقالت بنبرة رقيقة:
-رجعت قبل معادك يعني.؟
لم يلتفت لجمالها بعد مازال مشغولًا بفك أزرار قميصه، فسألها بحماس: -غالية فين؟

لم يمهلها الفرصة لتُجيب وأكمل بنفس الحماس: -روحي يا عالية هاتيها من عند مامتك عشان وحشتني أوي.
رفعت حاجبها ويبدو أن الغيرة لمست قلبها، أدركت بأنها جاءت بضُرة جديدة تشاركها في حبيبها. خطت قدميها لتقف أمامه واضعة يديها في خصرها بدلالٍ:
-أنت جاي ملهوف كده عشان خاطر غالية وبس!
تعالت جفونها تدريجيًا لتتأمل جمال كاحلها لوجهها مُطلقًا زفيرًا قويًا وبنظرات تلمع إعجابك، فأردف متنهدًا:.

-الحلاوة دي كلها على فين!
ما زالت نبرتها سائمة منه، فأردفت بجزل طفولي: -هتكون على فين مثلًا! هنزل كده الشارع لسمح الله؟
أطلق ضحكة بإملاق يخلو من الإدراك: -لا بجد، الشياكة دي كلها ليه؟
ثم ضاقت عينيه محاولاً استيعاب الأمر: -أنتِ لقيتي نفسك تخنتي شوية قولتي تجربي الفستان وتشوفي المقاس ؛ صح!
ملأت نظرات الاستياء ملامحها وهي تعض على شفتها السُفلية لتكبح غضبها منه: -مراد متجننيش!

تنهد بملل: -مالك يا عالية، روحي هاتي غالية عشان ألعب معاها شوية قبل ما أنام.
عقدت حاجبيها بإمتعاض: -تنام! يعني يا تلعب مع غالية يا إما تنام. مفيش أوبنشن تالت يعني؟
ثم اقتربت منه بخطوات سُلحفية وهي تُطيل النظر بعينيه الشاردة ف جمالها الساحر، صعد كفيها بهدوء ليستقرا فوق كتفيه، باتت حمرة الخجل تكسو بقية ملامحها وكملت بنفس النبرة المنخفضة:.

-يعني مفيش وقت لمراتك البعيدة عنك ليها أكتر من6 شهور. ولا أنا خلاص هتنسي.
قفلت جفونها لبرهة ثم فتحها بذهول: -هما ال40 يوم عدوا!
ردت بدلالٍ: -شوفت!
ختم سؤاله بضحكة خبيثة: -وأنا اللي مليت من كتر ما بسألك و تقوليلي لسه لسه!
ثم تنهد بارتياح: -ده الواحد نسى إنه متجوز يا شيخة!
حدجت عينيها بحدة، منادية باسمه ؛ فلحق نفسه قائلًا ؛
-أيوه بردو غالية فين!

ابتعدت عنه بضيق وهي تدفعه برفق وتقول بإمتعاض وهي تنزل حذائها ذو الكعب المرتفع: -والله؟ غالية مع ماما يا مراد، روح هاتها والعب معاها وأنا أصلا غلطانة إني بفكر فيك وبرتب لليوم ده من اسبوع.
ألتف ذراعه حول خصرها ليجذبها لحضنه مرة ثانية محاولًا ترميم الحدث، مال على مسامعها وهمهم: -بهزر معاكِ. روقي بس ؛ دا اليوم يوم عيد بالنسبة لي.

تملصت من قبضته متمنعة عنه: -وسع كده، روح قضي أعيادك مع بنتك. وأنا هحتفل لوحدي.
أحكم قبضة ذراعيه على خصرها، ووقف الاثنان أمام المرآة ليردف بهمس بأذانها بعد ما رواهم بقُبلة خفيفة: -وده ينفع بردو؟
ردت بتمرد أنثوي وهي تتمايل كطير ظمأن يطلب من صاحبه أن يرويه ببعض الحُب: -قول لنفسك.

غمغم بكلماته المُدججة بسُكر الشوق وهو يتنقل فوق ملامحها كفراشة تتنقل في البستان وقال: -هقولها إنك وحشتيني وإني بحبك وبحب القدر ال جمعني بأرق ست ف الدنيا. وإن الليلة دي حاسس أنها ليلة فرحنا.
وضعت كفيها فوق ذراعية الملتفين حول خصرها وبنبرة سكيرة تحت تأثير خمر حضنه وكلماته: -أنتَ كمان وحشتني أوي، ووحشني كل لحظه لينا مع بعض. أقولك على سر، أنا عمري ما عرفت أكون سعيدة غير وأنا معاك، وفي حضنك.

لفها تحت يديه كالفراشة الكرنب البيضاء ليلتقيا وجها لوجه وتمتزجا أنفاسهما المدججة بعبير الشوق. كاد أن يرتشف من مائها ليروي عطش الشهور السابقة ولكنها أوقفته واضعة أناملها فوق شدقه كحاجز بينهما: -مراد، تتعشى الأول ونتفرج على فيلم سوا.
قبض على معصم كفها الفاصل بينه وبينها وباليد الأخرى شد سحاب فستانها حاسمًا قرار اقتراحاتها بسياسة: -وماله…
#باك.

عودة للوقت الحالي ؛ فاق مراد من شروده على صوت نداء عالية المتكرر: -مراد! أنا بكلمك، روحت فين؟
شد ستائر النافذة التي كان يراقب منها تجهيزات فرح أخيه وقال بمزاح وهو يدنو منها معلنًا رغبته فيها: -عايزة تعرفي روحت فين؟
تراجعت معترضة عن تلمحياته: -مراد!
بأعين متلصصة قبل ذراعيه التي تطوقها وقال ليتأكد: -قولتِ لي غاليه فين!
نبس ببنت شفة: -مراد!
بالطابق العلوي.
#فلاش باك.
قبل سبعة أشهر.

بعيادة النسا والتوليد، فرغت الطبيبة من فحص بطن حياة المنتفخة كالبلون الكبير ؛ ففارقت تخت الفحص بعناء وحركة بطيئة إثر ساقيها المتورمة من أسفل، جلست بصعوبة فوق المقعد المجاور لمكتب الطبية وسالتها بتوجسٍ: -في حاجة يا دكتور؟
ردت الطبية بأسفٍ: -للاسف في ضغط جامد من البيبيز على عُنق الرحم، وهو سبب الالم ال حساه.

ثم فرغت من تحديد التحاليل المطلوبة وأكملت: -حياة، لازم تعملي التحاليل دي في أسرع وقت، على يوم الاتنين بالكتير لازم تولدي قيصري.
جف حلقها من شدة الخوف وهي تعانق بطنها بقلق وقالت بذهولٍ: -بس أنا لسه في نص السابع وو
قاطعتها الطبيبة مكملة: -في حالات طارئة بتواجهنا وخصوصًا للستات الحامل في توأم، أغلبهم بيولدوا قبل معادهم. تخلصي التحاليل دي وأشوفك السبت!

أخذت الورقة من الطبيبة بيدها المرتعشة وأردفت بتساءل: -ممكن حتى نأخرها لأخر الاسبوع.
ثم بررت موضحة: -دكتور، جوزي مسافر الأربع، وأنا مش حابة أعرفه بميعاد الولادة. فممكن من الأربع الجاي نبتدي الإجراءات اللازمة. هيكون في خطورة!
تمتمت الطبيبة بدون إقناع: -طيب مش هوصيكي الراحة التامة، متتحركيش من السرير، ولو حسيتي بأي حاجة غريبة تعالي فورًا.

حل المساء ؛ فعاد عاصي إلى منزله بالغردقة، فوجد صغاره يجلسن باهتمام بصُحبة حياة عارية البطن في منتصف تخته. قفل الباب خلفه وهو يحدق بمدى استمتاعهما برؤية قدمي الأجنة تسبح بجوف حياتهما. هتف مستفسرًا:
-في أيه هنا؟
تحمست تاليا بفرحة: -تعالى شوف رجل البيبي يا بابي وهو بيعوم جوه.
عقد حاجبيه مندهشًا ورمي سترته البنية على أقرب مقعد وانضم لمجلسهم بفضول: -بيبي أيه اللي بيعوم جوه؟

بملامح وجهها الضاحك نادته: -تعالى كده، اقعد جمبي.
ثم سحبت انامل يديه وحركتهم بصورة دائرية فوق بطنها. فتلاقت أعينهم اللامعة بوهج الحُب وخُتمت ببروز قدم أحد المراوغين ببطنها فانفجرت ضاحكة بتنهيدة متعبة: -شوفت.

جملة من المشاعر تغلغلت بقلبه ولا يعلم كيف يمكن التعبير عنها. شعور مبهم من الانتماء لروح إمراة ليست من دمه ولكنها خُلقت من جزء ما بجوار قلبه. راقت له اللعبة فكرر مداعبة صغاره مراتٍ متكررة متبعًا توجيهات صغاره الذي بات يشاجرهن كأشخاص كبيرة معترضًا بأن لا يمكن لأحد غيره ملامسة بطنها. حتى فاض صبره منهن فحمل واحدة على كتفه والأخرى أمسك بملابسها ممزاحًا: -وبعدين فيكم؟

صاحت حياة معترضة: -بالراحة عليهم يا عاصي هما مش أدك.
واصل مداعبة فتياته الضاحكات برفقة أبيهم ويدللهم بحب ومرح حتى هتف قائلًا وهو يداعب بطن صغيرته المتراقصة بالضحك والتوسل بأن يتركها: -سبيني أخلص حقي منهم.
ثم خفض الأخرى من فوق كتفه لتتمدد بجوار أختها وواصل في تقبيل وتدليل قطتيه الصغيرتين. تدخلت حياة بينهم وهي تتمسك بكتفه: -بس بقا كفاية، حرام البنات.

جففن صغاره أعنيهم المغرورقة بدموع الضحك الهستيري اللاتي انخرطن فيه إثر مداعبات ولادهم الظريفة، رمقهم بأعين محذرة بضحك: -عشان يتحدوني تاني، محدش يقرب من مراتي غيري فاهمين!
جذبتهم حياة لحضنها باحتواء أم وقبلت كُل منهما وقالت: -دول حبايب قلبي. ولا تقدر تعملهم حاجة.
ثم همست بمسامعهما: -أحنا 3 يبقى أحنا أقوى مش كده!
هتفا معًا: -كده.

في تلك اللحظة جاء طرق صوت الباب من المربية الخاصة بيهما، فتح لها عاصي الباب، فقالت بهدوء: -عاصي بيه ؛ ميعاد نوم البنات جيه.
تنهد بارتياح وقال بمزاح: -تصدقي جيتي في وقتك.
قبلت حياة كل منهما بدفء ومشاعر صادقة وقالت برقة: -يلا نِدي بابي البوسة بتاعته ونقوله جود نايت!

قبلوهن الاثنتان في نفس اللحظة فكان لكل وجنة منها نصيبٍ بالقُبلة، ودع عاصي صغاره بحنان زاخر ثم قفل الباب وعاد لحياته المتكئة على ظهر السرير. جلس بجوارها ليطبع قُبلة الشوق فوق ثغرها الوردي. فبادلته نفس القُبلة ولكنها ممزوجة بأنفاس التعب المخفي عنه. مسح على شعرها ثم انتقل بشدقه لجبهتها يطبع قبلة آخر أكثر طولًا. غمغمت كي تلتهي عن الألم:
-أخبار الشُغل أيه.

شرع بفك ساعة يده ثم أزرار قميصه التي تقيد حركته و أجابها: -كُله تمام. أنا ظبطت كل حاجة هرجع بس من سفرية ألمانيا، وهنسافر كلنا أمريكا، حجزت لك في أكبر مستشفى هناك. هتقعدي فيها لحد ما تولدي.

تأرجحت عينيها بتردد على أوتار اعترافها أم تصمت! اكتفت بصدور إيماءة خافتة ثم سحبت يده لترسو فوق بطنها وأخذت وضعية النوم والاسترخاء وقالت بكلل: -ممكن تعمل لي مساج لحد ما أنام. أصل ولادك مش مبطلين شقاوة جوه. طالعين لباباهم!
ضاقت عينيه ممازحًا: -يعني مش لمامتهم!
#باك…
ب الطابق الذي يقع فيه جناح عاصي بالقصر.

تقف حياة شاردة في ذكرياتهما الجميلة أمام المراة مرتدية بذلة نسائية بيضاء وتعلق ‏أقراط آذانها المرصعة بأحجار الماس الملونة. وهي تدندن مع الأغنية التي علقت برأسها الفترة الأخيرة وكأنها كُتبت خصيصًا لأجلهما. وتمتمت بهمسٍ وهي تراقب صورته المنعكسة بالمرآة أثناء انشغاله بصغارهما بمقلتيها اللامعة:
-ليه تبقى مين علشان تزورني تقوم تبات
جوا في سواد العين، وأخبيك بالسنين.

يجلس بجوار صغاره اللذين وثقا عهد العشق بين فرس البحر حوريته. ويتأملهما بشجن وعيون مكدسة بالحب الأبوي الممزوج بالندم وهو يلامس وجه ريان الأشبه بالقطن الأبيض الناعم: -أنا أزاي كنت عايز احرم نفسي من النعمة دي.
ثم هتف مقاطعًا لخلوتها وهو يقرأ الاسم المحفور على الأساور التي يرتديها التوأم المتشابه: -حياة! راكان نام.
دارت إليه بابتسامة خفيفة وقالت: -طيب كويس، دقيقة كمان وهتلاقي ريان حصله.

قبل كَف ملاكه النائم ثم ألتفت للآخر فوجده يغرق بالنوم هو الأخر. ربت بهدوء عليه ثم قبل قدمه الرقيقة وتراجع بحذر، لقد كان يرتدي قميصه الأبيض و بنطاله الأسود مع رابطة عنقه المنقوشة. أقبل لعندها وهي تغرق بكلمات الأغنية وتتراقص كعود ريحان يغازله الهوى، تولى مهمة قفل عُقدها مصحوبًا بقبلة حارة بجواره كانت سببًا في اندلاع تنهيدة خفيفة من قلبها ثم سألها بصوت خافت:
-بس أيه الروقان ده كله!

دارت إليه وهي تروغ كفيه بأناملها الناعمة وقالت بشجن: -أنغام منزلة أغنية جديدة، وهم ؛ حاسة أن الأغنية اتكتبت عشاننا.
ثم خطت آخر خطوة لتبقى بين يديه تحديدًا وقالت: -في وقت نسمعها سوا؟
ضبط مظهر عُقدها الماسي المُلتف حول رقبتها وقال: -المستعجل يتأجل عشانك يا حياة.

أومات بحماس وهي تدور لتعيد تشغيل الأغنية من جديد، رفعت أهدابها إليه وقالت بصيغة آمرة: -حاول تحفظ الكلمات بقا عشان دي هتبقى أغنيتنا المفضلة خلاص.
تركت الهاتف ذو الصوت الهادئ على التسريحة وعادت لتتوسط يديه وتتقاسمه ضربات قلبه، ثم همت لتعانقه بخفة النسيم كما يعانق الزهور وهي تحاور عينيه بسيل متدفق من عشقهما وتردد مع الأغنية:
-ھو إنت مين! علشان في ثانية تشيل حاجات
وتهد رصة ذكريات. وتلخص العمر في يومين.

ابتسامة رقيقة رُسمت على محياه وكأن الأمر راق له، تسللت يداه تحت سترتها البيضاء وضمها إليه أكثر وهو يراقب زهوة تلك الملامح التي تغرد بحبه كعصفور مغرد ؛ مررت ظهر أناملها فوق وجنته وملامح وجهه وأكملت تمتمة بصوت خافت جدًا:
-ليه تبقى مين؟ علشان تزورني تقوم تبات
جوا في سواد العين. وأخبيك بالسنين.

بخطوات بطيئة متمهلة تحركا الاثنان على أوتار الموسيقى وهو يُراقصها ببراعة رجل مُغرم يعرف من أين تُدلل الأميرات، صرخت أنغام بسؤالها التعجيزي لوصف مدى جرعة الحب بينهما:
-يا أخي الشوق ليك واخدني لفين؟ ومين عنك يرجعني!
قليل منك ما يرويش عين. ولا كتيرك مشبعني؟

فتسلطن عليهما الحب والهيام حتى ختمت المقطع الغنائي بقبلة خفيفة رست فوق شِدقه وبالأخص شِفته السُفلية، ثم تابعتها بغمزة عين من مقلتيها المتيمة قبل أن يُديرها أمامه كالفراشة ليجذبها بلطف مرة ثانية لتعود لموطنها. لتعود بين يديه. عادت لمعانقته من جديد ولكن تلك المرة توقفت فيها على طراطيف أصابعها وضمته كما تضع الأم ابنها العائد من الغُربة. امتزجت خُطى الجسدين وكأنه جسد واحد وهما يستمعان لبقية الأغنية:.

-يا قلبك لو عينيك نايمين
وعن نوم عيني تمنعني
بحبك كل يوم حبين
وأجيب قلبين منين يعني
افترقت رأسها المستندة على كتفه لتلقى بعينيه من جديد وقالت بولهٍ: -ساعات فعلاً بحس إني محتاجة قلبين، لان قلب واحد في حبك مش مكفي. قولي الأغنية عجبتك مش كده؟

انهارت فلسفة الكلمات أمام جمالها ودلالها وأنوثتها الساحرة التي ينهار أمامها سلطان الغرام. شرع بفك رابطة عُنقه بهدوء فسألته: -عاصي جميلة! أنت ليه هتغيرها. هنتأخر كده والوفد الإيطالي ده مواعيدهم مظبوطة بالثانية.

فك أول زر من قميصه ومال إليها ليفرغ بثغرها طاقة الكلمات التي تسربت لقلبه فكانت آخر كلمة قالها وهو ينزع عنها سترتها البيضاء لتقع تحت قدميها بهدوء ؛ وارتمت معها تلك المواعيد المهمة عند قدميها صرعًا لا حراك لهم:
-براحتنا!

شرعت أن تعارضه بإصرار ؛ فكتم أنفاس تمردها بقبلاته الهادئة التي كانت من نصيب ملامحها الغارق بهما كبلبل يتنقل هنا وهناك في روضة جمالها، فلم يمهلها لحظة واحدة تتفوه ببنت شفة وتعرقل غيث اشتياقه لها بل أجبرها أن تنبض في قلبه بنار عشقٍ تلتهم غابة بأكملها. ليذوبا الثنائي في براعة وجمال صوت أنغام وهي تسأله بأخر سؤال قبل أن يُسلب عقلها وكأن ذلك السؤال هو مفتاح بوابة الحب بينهما في كل مرة يجمعهما الهوى و بغنجات من لواحظ: -بتحبني أد أيه؟

بتنهيدة تتهدج حنانًا وحُبًا وهو يزيح تلك الخُصلة عن وجهها النائم تحت عينيه وجدها ترخي سدول عقلها تحت مرمى أنظاره مستسلمة لموج الحب كما اعتادت أن تستسلم لموج البحر فأخذ يتأمل تلك الملامح الهائمة في سكرة لقاءهم المتجدد كل مرة كأنها أول مرة من اللهفة والحنين والخجل، فظل قلبه مُعلقًا بطرف السؤال ويتأملها بعجز وحيرة ؛ هل الحب العظيم الذي يتوهج في داخلي كيف يُحشر في كلمة واحدة وهي نعم أحبك؟

في تلك اللحظة جاء صوت رنين هاتفه القاطع لتلك اللحظة العذبة التي لم ينعم بها بعد. فأفترق عنها بصوت مختنق وهو يجيب على الهاتف بمضض، حتى تفوه بغاز غضبه: -قُولت جاي، مسافة السِكة…

وضع الهاتف بجيبه ثم أمسك بكف تلك الحورية النائمة على الأريكة والتي تأخذ أنفاسها بهدوء ولكن صداها واصلًا لمسامعه، شدها من كفها لتفيق من جملة المشاعر التي تكسوها وتُغرقها. ثم انحنى ليأخذ جاكت بذلتها المرمي بالأرض وقال بعجل: -ألبسي يلا خلينا نخلص الزفت ده…
شرعت بارتداء سترتها باختناق وبلوم: -عاجبك كده يعني؟ هتبطل أمتى تصرفات المراهقين دي!
فجر غضبه بوجهها صارخًا: -حياة أنا مش طايق ن.

برقت محذرة وهي تضع كفها فوق فمه: -أشش الولاد نايمين! صوتك يا عاصي.؟
عض على شفته السفلية بغضب دفين ثم أخذ حافظة نقوده ومفاتيحه وقال بضيق: -هستناكي في العربية، استعجلي مش كل مرة كده تأخرينا.
وبخته بإعتراض وهي تهندم ملابسها: -بردو أنا السبب ف الأخر! وأنا الغلطانة. عادتك ولا هتشتريها!

شدت حقيبتها بفتور وهندمت شعرها بعجل ثم تابعت خُطاه متوجهة إلى غرفة عاليه، طرقت الباب بخفوت حتى فتحت لها، اعتذرت حياة بخجل، خاصة عندما لمحت مراد بالغُرفة وعالية التي تتوارى خلف الباب إثر ملابسها القصيرة، غمغمت بإحراج: -عالية، ريان وركان نايمين فوق. ممكن تخلي بالك منهم، في ميتنج مهم ساعتين بس وراجعة.
أومأت بسعة صدر: -من عينيا يا حبيبتي، هغير هدومي بس واطلع اقعد معاهم.

ردت بامتنان: -بجد شكرا يا عالية. وكمان البنات راجعين من النادي بعد شوية. خلي بالك عشان بيحبوا يشيلوا الولاد وممكن يوقعوهم.
كادت أن تنصرف ولكنها تراجعت قائلة: -انا مجهزة كل حاجة، فساتين البنات وبدل الولاد. لو اتاخرت خلي سيدة تساعدك. أنتِ عارفة شمس آكيد مشغولة مع نوران.
-اطمني يا حبيبتي. هخلي بالي منهم لحد ما ترجعي.
بغُرفة تميم.
-تميم تميم، ممكن تركز معايا بقا وكفاية لعب مع مصطفى. يا تميم!

ضربت الأرض بقدميها بجزع إثر اهتمام تميم المبالغ بصغيره الذي بلغ شهره الثامن. سيل متدفق من القُبلات كان من نصيب وجهه الدائري ناصع البياض قبل أن يضعه في فراشه، قائلًا:
-الولا ابن ال مهما قعدت معاه مش بشبع منه. هو المفروض هيمشي امتى يا شموسة؟
برقت عينيها بذهولٍ: -والله؟
ثم صرخت بوجهه: -تميم أنا بكلمك. وأنتَ بتقول لي مصطفى هيمشي أمتى؟ لا بجد! تصدق أنا غلطانة؟

قالت جملتها وتأهبت أن تنصرف من أمامه فأمسك بمعصمها متسائلا: -رايحة فين؟ استنى هنا.
فجر كبت يومها بوجهه: -الفستان طلع ضيق عليا، وكمان لسه عايزة اروح أقف مع نوران وكمان شقتها عايزة تظبيطات. وسيدة بتجهز في أكل العرسان تحت ومش هقدر اطلب منها أي مساعدة. وسيادتك قاعد هنا وبتسألني مصطفى المفروض هيمشي أمتى؟ انا محدش بيفكر فيا ولا شايل همي خالص ولا بقيت باجي على بالك.

ثم انبثقت من عينيها دمعة تدل على عجزها وقلة حيلتها: -حقيقي أنا تعبت، تعبت وأنت مش حاسس بيا.
مسك كفها بهدوء ليجلسا الاثنان على طرف الفراش وجهًا لوجه، تلقي تلك الدمعة على طرف إبهامه ثم قال ليهدأ من روعها:
-بس بس. محصلش حاجة لكل ده. لو على الفستان متشليش همه أصلًا فستانك على وصول. بصراحة فستنانك ده مش عاجبني، ف طلبت لك من أسبوع واحد على ذوقي وهيوصل كمان شوية.
تفرغ فاهها بذهول: -ايه؟

ثم احتوى كفوفها وأكمل: -والحاجات ال عايزة توديها الشقة عند نوران، سيبي مصطفى مع عالية وتعالي هوصلك. ونخلصها سوا ياستي.
ثم تنهد بارتياح: -باقي أيه تاني!
شاحت أعينها بحيرة وتساؤلات: -أنتَ حليت أزاي كل حاجة كده بسهولة!
بادلها بابتسامة خفيفة: -عشان تعرفِ إن في حد هنا شايل همك وبيفكر فيكي طول الوقت، ومش زي ما أنتِ مفكرة.

بنظرات إعتراف لتلقي على عينيه بأنسب وصف يصفه: -انت بقعة الأمان الوحيدة بهذا العالم، في كل المرات
التي أرغب فيها الهروب من كل شيء.
لم تجد نفسها إلا بحضنه وهي تتنفس عطره ممتنة لوجوده بجانبها: -أسفة او عليت صوتي عليك، ممكن متزعلش مني، أنا بجد مضغوطة ومش متحملة.
ربت على ظهرها بعرفان وحب: -عمري ما أقدر أزعل منك. أنتِ كل دنيتي يا شموسة.
فارقت حضنه بابتسامة ارتياح يغمرها: -ربنا يخليك ليا.

رفع كفيها لمستوى ثغره ليطبع فوقهم زهور عشقه ولم يتوقف بهذا القدر بل رمق عينيها بعتبٍ: -يصح بردو العينين الحلوة دي تعيط.
ثم مال نحو عيونها وقبل كل واحدة منهما بتأنٍ ومثلمهما كانا من نصيب وجنتيها. وآخرى فوق رأسها وختم صك اعتذاره بواحدة هادئة ليُهدأ من ارتعاشة شفتيها المنتفضة، ثم تفوه قائلًا بتشجيع: -يلا بينا…
استقبلت اقتراحه بابتسامة امتنان: -يلا بينا…

بالشركة…
ظلت تكتب في بعد البنود المقترحة بالعقد الجديد بتركيز شديد ينافس تركيزه معها وإشاده بأنها أمراة متكاملة حتى بالعمل لا يفوتها شيء، رمقته بنظرة معاتبة وكأنه تسأله: لمَ تنظر لي هكذا؟ ثم تحمحمت وقالت بهدوء مترجمة نهاية اجتماعهم:
-مستر رافايل بيقولك إنه موافق على كل شروطنا.
بنظرات تلفت نظر الأعمى وهو يرمقها بإعجاب شديد ممزوجًا ببسمة خفيفة واضعًا سبابته فوق فمه وقال بثقة: -ما هو لازم يوافق؟

شاحت عينيها بعيدًا عنه والتفتت إلى الوفد الإيطالي بامتنان: مبارك لنا مستر رافايل
-Congratulazioni a noi، professor Rafael.

تقاذفت نظرات الرضا العرفان من الوفد الإيطالي وشرعوا بجمع أوراقهم ملقيين رسائل الشكر والتقدير والسعادة البالغة لانضمامهم لهذا الاتفاق ؛ انصرف الوفد واحد تلو الآخر بانتظام حتى أشار عاصي لمساعدته أن تقفل الباب ورائها. تأكدت حياة من خلاء الغرفة عليهما، فوثبت بضيق يتقاذف من بين كلماتها وهي تفتح تستعد لارتشاف الماء:.

-عاصي جرالك أيه! أنت مش مركز خالص طول الاجتماع وكل ما أسألك على حاجة تقولي اللي تشوفيه، وطول الميتنج باصص لي وبس.
فرغت من شُرب الماء ثم وضعت الكوب بغل فوق الطاولة وأكملت بنفس النبرة: -أدي اللي كُنت خايفة منه، انا شكلي كده هفض الشراكة معاك، أنا مش هعرف اشتغل كده.؟
وثب بوقار ساطع مفارقًا مقعده الذي يرأس طاولة الاجتماعات ودنى منها واضعًا يده بجيبه وبنظرات بإعجابه قال:.

-كده مش عارفة تشتغلي! دا أنتِ اقنعتيني أنا شخصيًا في ربع ساعة بكل البنود ال في العقد وال كلها لصالحنا. أنا كنت قاعد بتعلم منك وبس.
حاولت إخفاء ابتسامتها عنه محتفظة بوجهها الغاضب الذي قرأه بنظرة، فقالت بثقة زائدة: -عاصي أنا مش هعرف اشتغل في الجو ده.
ثم زفرت بامتعاض: -عينيك بتربكني يا أخي!
أمعن النظر بتلك العيون التي كانت بمثابة وطن صغير يرغي بالانتماء إليّه، دنى منها أكثر وقال بجدية مفتعلة: -المهم.

تنهدت بارتياح: -آخيرًا هتقول حاجة مهمة.؟
-أنا كُنت مركز في حاجة واحدة وبس طول الميتنج.
ثم لملم شعرها المنسدل على هيئة كعكة دائرية وأكمل: -الَ وهي، الميتنج ده هيخصل أمتى!
كمن يقف بثبات على أرض تهتز من تحتها محاولة إدراك ما يشير إليه وقالت ساخرة: -والله تعبت نفسك!
عقد حاجبيه متسائلًا باهتمام: -أحنا كنا بنقول أيه قبل التليفون ما يرن؟

تاهت أفكارها في زحمة تفاصيل يومهم بجهل، ثم غمغمت بدهشة: -أنتَ بتقول أيه؟
تنهد ب اشتيهاء وهو ينحني إليها: -نكمل كلامنا بقا.
ابتعدت عنه بإصرارٍ: -لا ده جنان، أنا مستحيل أطاوعك في الجنان ده، وفي الاخر بطلع أنا السبب في كل الكوارث الكونية ال هتحصل.

سُدت مسامعه عن كلمات إعتراضها، فركت ذلك المقعد الجلدي بقدمه وحملها لتجلس على طرف الطاولة وبأنفاس عالية تتمنى ولو أنَّ الحُب منارة تُرى، لرأيت في قلبِي مدينة مخصصة لكِ. هبت معارضة في حرب تعلم هزيمتها فيها: -عاصي مش هينفع، أحنا ف الشركة.
زفر بضيق ثم رفع سماعة مكتبه آمرًا المساعدة بغضب: -عندي شغل مهم لازم أخلصه مع مدام حياة، مش عايز تليفونات.

ثم قفل الهاتف بضيق ليعود سابحًا في موجها العاتي وهو يتمتم بشوق: -تعرفي عن عاصي دويدار أنه مش بكمل حاجة بدأها للآخر.؟

هناك شخص واحد يخطو معك الصِعاب مؤنساً تتلطَّفُ الأيامُ به وينزع كل أشواك روحك ويستبدلها بورد لا يعرف مذاقه غيركما. في تلك اللحظة التي شرعت بالتناغم معه متجردة من سترتها البيضاء ووشاح إعتراضها متناسية الزمان والمكان بين يديه، ف رن هاتفها بصوته العالي كمن حقن الدماء برأسه فزفر مختنقًا بامتعاض:
-لا مش عيشة دي!
تناولت هاتفها بأيدي مرتجفه وقالت: -دي الناني بتاعت البنات. هرد.

تبدلت ملامحها سريعًا ثم قالت بعجلٍ: -جايين حالًا.
هبطت من فوق الطاولة ومسكت سترتها بيدها وقالت بلهفة: -عاصي ف مشكلة مع البنات ف النادي. تعالى نروح لهم بسرعة.

بغُرفة عالية.
تقف بمنتصف غُرفتها متشبثة برأسها التي تكاد أن تنفجر. من صغاري عاصي اللذان لم يكُفان عن البكاء. وابن شمس الذي يحبو هُنا وهناك وتساعده غالية التي تقف مستندة على المنضدة التي تتوسط الغُرفة. وتشد كُل ما يقابلها ليقع أرضًا. صرخت بصوت فاض منه الصبر:
-غالية بليز كفاية كده!
ثم جلست على طرف السرير وحملت ريان وأخذت تربت على كتفه وهي تعاتبهم: -أنتوا بتفتكروا العياط مع بعض!

هدأ ريان قليلًا ولكن زادت ثورة ركان، تأففت بجزع ف وثبت ووضعت ريان الذي يصغر ابن شمس بشهرٍ واحد ووضعت حوله وسادة لحمايته، وترجته: -أن مش هتقعد مؤدب ومش هتعيط، عشان خاطري بلاش عياط.

ثم فزعت راكضة وحملت راكان على كتفها وأخذت تجوب به الغُرفة ذهاباً وإياباً وهي تربت على كتفه، ثارت غيرة ريان عندما وجد نفسه بالأرض مقيدًا بين الوسادات وأخيه مدللًا على كتفه عالية، رفع الصغير كفها وانفجر بالصراخ ففتحت شهية مصطفى الأخر على البكاء. فتابعتهم غالية وهي تهبط على الأرض باكية ولكن كان الشعور مختلفًا عند راكان الذي اسعده صوت بكاء من حوله واتسعت شدقه الصغير بابتسامة واسعة وهو يتراقص على أصوات بكائهم، رمقته عالية بقلة حيلة وجثت على الأرض موشكة على البكاء:.

-أنتوا لو عايزين تجننوني مش هتعملوا كده صح!
فتح مراد الباب وتفقد الغرفة المكدسة بالأطفال وتتوسطهم زوجته، ضحك معبرًا: -ده ايه المهرجان ده!
صاحت عالية متوسلة: -مراد تعالى الحقني…

وصل عاصي بِصُحبة حياة إلى النادي بوجهه المكفهر، هبط من سيارته ف خبط بابها بعنفوان، لحقت به حياة بخطواتٍ اشبه بالركض:
-حبيبي، ممكن تهدأ، نفهم بس فين المشكلة وبلاش عصبيتك دي.
مرتديًا نظارته السوداء مواصلًا سيره بخطواته الثابتة تجاهل رده عليها فكل همه يصل لتلك السيدة التي أهانة ابنته. أقبلت المربية عليهم ؛ وبدون بوادر:
-فين الست ال استجرت تمد أيدها على بنتي!

بنظرات مستاءة كانت من نصيبه ثم تسللت بينهم بهدوء ووجهت حديثها للمربية: -قوليلي حصل ايه وأنتِ كُنت فين؟
-أنتوا بقا أهل البنات دول!
أردفت تلك السيدة صاحبة الشعر الأصفر جملتها الأخيرة بنبرة تحفز على الشجار بينهم، رمقها بنظرات ساخطة وأشار بسبابته بنبرة حازمة ساخطة:
-أنتِ قبل ما تمدي أيدك عليها، عرفتي هي تبقى بنت مين!

جثت حياة على ركبتيها وضمت تاليا الباكية لحضنها وأخذت تواسيها بحنان على هيئة قُبلات دافئة لتهدأ من جسد الفتاة المرتعش: -خلاص يامامي أهدي! انا جمبك أهو.
ترنحت تلك السيدة التي تراقبه بكبرياء: -مادام هنمشيها بنت مين ومش بنت مين، يبقى أعرفك بنفسي، أا
قاطعها مزمجرًا: -مش عايز أعرف عشان مش هيفرق لي.
وبنفس النبرة وجه الحديث لابنته داليا: -داليا، احكي أي اللي حصل بالتفصيل.

شرعت داليا أن تروي لأبيها القصة بمنتهى الجراءة: -انا وتوتا كنا بنلعب، وجيه الباد بوي ده وعايز يلعب معانا وأحنا رفضنا. وانا وقفت له وقولتله مامي قالت لنا مش نلعب مع حد غريب.
أصدر إيماءة خافتة وهو يأكل تلك المرأة بعينيها: -كملي يا روحي.
ألقت داليا نظرة اخذ فيها أذن حياة وقالت: -هو بقا يرخم علينا طول الجيم، وانا زعقت له. راح يا بابي زقني كده ووقعت على الأرض.

شرعت الفتاة بتمثيل ما حدث بالضبط، ثم انحنت وجلبت حجرًا من الأرض وأكملت: -توتا لما شافتني وقعت مسكت الstone وضربته!
اطلقت السيدة ضحكة ساخرة: -دا أنتوا مخلفين بلطجية بقا! والله شايفة إنكم تهتموا بتربية ولادكم قبل ما تدخلوهم نادي له اسمه ومكانته زي ده ويضربوا ولاد الناس بالحجارة.
مالت حياة على المربية: -أنتِ كنتي فين؟
بررت موقفها: -كنت بجيبلهم أكل.

أكملت داليا بجراءة وهي تحكي لوالدها: -وبعدين يا بابي جات طنت وزعقت جامد ومدت أيدها على توتا. ضربتها بالقلم وهي بقيت تعيط.
توترت السيدة قليلًا وقالت: -البنت دي بتكذب. أنا
أشار بيده ليخرسها وقال بنبرة تهديدية: -بنتي مش بتكذب، وكلمة زيادة في حق بناتي هنسى إنك واحدة ست.
تدخلت حياة بغضب لتوجه لها العتب واللوم: -أنتِ ازاي تمدي أيدك على طفل في العمر ده! أنتِ مجنونة!

صاحت السيدة بصوتها العالي كي تهرب من ذلك الموقف: -انتوا شكلكم روباطية بقا! فين المسئول عن النادي هنا، الأشكال دي ازاي بيدخلوها كده!
ركض أحد رجال الأمن نحوهم: -في حاجة يا عاصي بيه، أحنا خلاص حلينا المشكلة؟
دار إلى موظف الأمن موبخًا بصوته المرعد: -موضوع أيه ال اتحل؟ ازاي بنت عاصي دويدار حد يمد أيده عليها وتقول لي الموضوع اتحل؟

ثم مال ناحية ابنها ونزع هويتها ورماها بيد موظف الأمن: -عضويته تتغلى من النادي هو وأهله، روح بلغ سامح بيه بكلامي.
صرخت السيدة بإعتراض، فقاطعها بحدة: – أنتِ لسه حسابك مجاش. اتفضلي اعتذري لبنتي زي ما أيدك اتمدت عليها، رغم أنه مش كفاية.
ترنحت السيدة بكبرياء وتمرد وهي تخرج هاتفها: -لالا، أنت أكيد مجنون، أنا هجيب لك ال يتفاهم معاك.

رد بفظاظة: -ياريت، بدل ما أنا مش قادر اتصرف معاكي بالطريقة اللي تستاهليها. ااه وياريت ال هتكلميه عرفيه دول يبقوا بنات مين! قوليلو بنات عاصي دويدار وبس.
ثم ربت بغضب دفين على عنق الولد: -تاني مرة اتعلم تسمع الكلام ومترخمش على بنات الناس.
ابتعدت السيدة قليلا وهي تتحدث مع زوجها، غمغمت حياة بعتب: -خلاص يا عاصي، بلاش تلغي العضوية، أحنا كده كده راجعين الغردقة. كفاية كده!

رد بإختصار: -إحنا مش هنرجع الغردقة تاني. مكاننا هنا والقصر.
-أيه؟
جاءت السيدة على استحياء وهي تطرق أنظارها أرضًا ولم تسطع مواجهة عاصي صاحب الملامح المرعبة، نظرت لتاليا بإعتذارٍ: -متزعليش مني، أنا لما شوفت ابني بيعيط اتعصبت عليكي.
كادت حياة أن تتدخل لتقبل اعتذارها ولكن أوقفها عاصي سابقًا الحديث: -وأحنا مش قابلينه.

ثم انحني وحمل صغيرته وقال باعتزاز: -ال يفكر يزعلك تاني افتحي دماغه هو وال خلفوه! سامعة، بنت عاصي دويدار مابتخفش من حد.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *