حكاية حور وفاطمة كاملة
حكاية حور وفاطمة كاملة
أخدت كام يوم أجازة سافرت فيهم البلد، وكانت معايا “حور” طول الوقت ما فارقتنيش لحظة، دايمًا حواليا لكنها ساكتة مهما حاولت اتكلم معاها، لحد ما أجازتي خلصت ورجعت القاهرة، ويدوب ماعداش كام ساعة غير ولقيتها اختفت.
دورت عليها في كل ركن في الشقة لكن من غير فايدة، مالهاش أي أثر.. قولت في بالي:
– ممكن تكون تمت انتقامها، وأخدت تارها، ورو*حها استقرت أخيرًا.. بس إزاي من غير ما تودعني؟!
حسيت جوايا بحزن لأني اتعودت عليها حواليا، وأخدت نفس عميق قبل ما أقفل نور مكتبي وأخرج، لكن رجليا اتسمرت مكانها لما سمعت صوت بينادي:
– “فاطمة”.
التفت ناحيته وأنا بقفل باب المكتب وعينيا بتبتسم ابتسامة خفيفة مجرد ما لقيت “حور” قدامي، عشان الابتسامة دي تختفي لما عينيا نزلت لمسافة متر تقريبًا من الأرض، عشان ألاقي طفل عمره ما يتعداش الأربع سنين، وجسمه كله تسلخات حر*وق، اللـ*ـحم باين ومناطق كمان من عضمها مكشوف.
اتنفض قلبي بصدمة من المنظر لكني قربت منه ونزلت على ركبتي قصاده وعينيا مليانة بالدموع، لكنه بعد عني واتخبى ورا “حور” اللي قالتلي:
– مش هيثق في حد.
وقفت مكاني قصادها وأنا بقولها:
– مين اللي عمل فيه كده؟
= عمته.
نطقت بصدمة:
– انتي بتقولي إيه؟
ومديت راسي ناحيته وأنا دموعي مشوشة رؤيتي، عشان تجاوبني “حور”:
– أيوه عمته هي اللي حر*قته.
نفسي ضاق والدنيا لفت بيا للحظات، اتمسكت بطرف المكتب وقعدت على الكرسي وأنا بقولها:
– إيه اللي حصل؟
= من وإحنا في البلد وأنا حاسة بتشويش قوي وذبذبات عالية، كنت شايفة طفل نايم على سرير في مستشفى، لكن الصورة كانت باهتة ومش واضحة، لحد النهارده الصبح ما قدرت إني أشوفه كويس، فعرفت إنه ما*ت وروحتله عشان أكون جنبه وأعرف حكايته، على ما أهله يخلصوا اجراءات المستشفى ، وتصريح الد*فن، والغُسل.
هزيت راسي بتساؤل وأنا بقولها:
– هو قريبك يا”حور”؟
= مش قريبي، بس شوفته، وبعدين هو أنا لما شوفتك وجيتلك كنت قريبتك يا “فاطمة”؟
حركت راسي بنفي وأنا بقولها:
– أنا بسأل بس عشان أفهم.. كملي.
= مجرد ما وصلت عنده شوفت كل اللي حصل بكل تفاصيله كأنه فيلم سيما… اسمه “آسر” وساكن في الشارع اللي وراكم، كان وحيد أمه وأبوه، جالهم بعد حرمان خمستاشر سنة، أبوه كان طاير بيه، أخيرًا جاله ابن يسنده هو ومراته لما يكبروا، ويكون ونسهم في الدنيا، ويفتكرهم بدعوة حلوة بعد وفا*تهم..
كانت بتحكي وأنا عينيى متعلقة بـ “آسر” اللي كان بيبصلي بخوف من ورا “حور” اللي كملت كلامها:
– أبوه يوم ولادته جهز عشر بنات يتامى وجوزهم، وعملهم فرح الكل بيحكي عنه
بصيت لها بتركيز قوي وأنا بقولها:
– عرفته.. أنا فاكرة الموضوع ده كويس، بس عمري ما شفت الولد.
– أمه كانت بتخاف عليه من نسمة الهوا عشان كده ما خرجتوش في الشارع خالص.. يعني يدوب بيلعب في البيت مع ولاد عمته اللي ساكنة في الدور الاول ، واللي أبوه ساكنها معاه في بيته اللي بناه بفلوسه بعد ما قعدت تشتكيله من الايجار ونقل العفش كل سنة والتانية.
ابتسمت بسخرية وأنا بقولها:
– عارفة الست دي، اتخانقت معايا مرة في السوبر ماركت عشان وقفت على الكاشير قبلها.
=أهي الست دي كانت راسمة أمال وأحلام طول عمرها إنها تورث أخوها اللي مالوش غيرها،وتاخد فلوسه ليها ولعيالها..خمستاشر سنة وحلمها ده بيكبر ويكبر، لحد لما جه “آسر” وأحلامها كلها اتبخرت، ومع كل يوم بيكبر فيه، أحلامها بتمو*ت فيه.. لحد ما الغل والسواد ما ملوا قلبها من ناحية العيل ده، حاولت كذا مرة تخلـ*ـص منه بس مامته كانت بتبوظ عليها كل حاجة من غير ما تقصد، يعني ربنا كان بيبعتها في اللحظة المناسبة، لحد من يومين كانت مسيحة الزبدة اللي أخوها جايبهالها، ونزلت الحلة حطيتها في أرضية المطبخ، و ضحكت مع الواد وبعتته يجيب حاجة حلوة من التلاجة وهو ما يعرفش اللي مستنية، وفعلًا اتخـ*ـبط وو*قع في الحلة.
شهقت بصدمة وأنا دموعي سيول، وعينيا بتبص لـ “آسر” اللي ماكانش فاهم أي حاجة من اللي بتتقال، عشان تكمل “حور”:
– عملت فيها العمة المصدومة وطلعت تجري على صر*يخه، وصو*تت كمان وفضلت تلـ*ـطم وشها لحد ما أبوه نزل على ملا وشه وشاف ابنه بيدوب قدامه في حلة السمنة، شده وشاله بين ايده ومش همه ايده اللي السمنة بتحر*ق فيها، وجع قلبه كان أقوى بكتير، ابنه اللي شاله وجري بيه على المستشفى زي المجنون كان واخد كل مشاعره، لحد ما وصل المستشفى اللي كانت رافضة تستلمه، لكن لما الدكتور شافه منهار أخده وحطه في الرعاية يومين، في اليومين دول قلبه بس اللي كان بينبض، لكن كل أجهزته كانت واقفة.. وفي اليومين دول برضه أبوه وأمه اتبهدلوا تحقيقات، وكان هيتعمل لهم محضر إهمال لولا رحمة قلب المأمور.
كنت بسمعها وعقلي رافض يستوعب أي حرف من اللي بتقوله، ولساني ما بيكررش غير جملة واحدة:
– ربنا بيوقف دايمًا ولاد الحلال للطيبين.
=صح.. بس الطيبين دول اتظلموا، والظلم ظلمات، الراجل خسر ابنه اللي كان بيترجاه من الدنيا وبالطريقة البشعة دي، وعلى ايد واحدة من د*مه.. واتهم مراته بالاهمال وطلقها.. يعني بيت كان مستقر كل السنين دي اتهد في لحظة.
ما سكتش” حور” غير صوت شيخ الجامع اللي كان بينعني “آسر” وهو مخنوق بالدموع، وبيقول إن الجسمان موجود في المسجد لصلاة الجنازة.
قبضة قوية في قلبي وأنا ببص لـ “آسر” بوجع وقهر وجوايا بحضنه مليون مرة وبقوله والله ربنا هيجيب لك حقك، والنهارده، عارفة إن المو*ت مقدر وبميعاد بس قـ*ـتل النفس كبيرة من الكبائر.. اطمن.
وقومت من مكاني عشان اتوضى وأجهز لجنا*زة طفل مالوش في الحياة ذنب، أو يمكن ذنبه الوحيد إنه وثق في عمته.
خلصنا الصلاة وخرجت من المسجد وأنا عيني على أمه اللي بيفوقوها كل عشر دقايق مرة، وأبوه اللي ماشي محني كأنه عنده سبعين سنة، أما القا*تلة واللي كانت ماشية تصو*ت وتعدد وتتخانق مع أي حد يقولها اسكتي، وتدعي عليه كمان إنه يجرب، فالناس كلها بعدت عنها، ماعدا أنا، روحت قربت منها وأنا دموعي مش قادرة تخبي كرهي ليها وأنا ببص لـ “آسر” اللي دموعه مغرقة وشه قدامي وهو بيقرب من أمه وبينادي عليها نفسه يحضنها.
الغضب اللي جوايا كان أضعافه جوه “حور” وهي بتبصلها بحقد وغل، لدرجة إن الست اتنفضت بقوة كأن صعـ*ـقتها شحنة كهربا عالية، ووقعت على الأرض تصرخ بألم، ميلت عليها أخد ايديها وأساعدها تقف وعينيا متعلقة بـعيون “حور” اللي فهمتني، ورجعت تاني بصت لها بنفس الغضب مجرد ما سيبت ايدها وبعدت عنها، عشان تقع تاني في الأرض وهي بتصرخ بوجع.
ربع ساعة بالظبط وكنا عند المقا*بر وأبو “آسر” حاضن جـ*ـثمان ابنه وضمه لصدره وساند راسه على راسه وهو بيعيط وبيقوله:
– في الجنة يا حبيبي.. في الجنة يا نور عين أبوك وعكازه.. سامحني يا ابني ما أقدرتش أحميك.. والله لو كنت أعرف إن هيحصلك كده ما كنت طلبتك من ربنا في كل سجدة.. سامحني يا قلب أبوك.. أنا عارف إنك مش خايف، بس أنا والله اللي خايف.. وقوي.. سامحني يا حبيبي.
“آسر” كان سامع كل حرف أبوه بيقوله، وهو ساند ضهره على جدار القبر وبيبص لأبوه بحزن قوي في الوقت اللي شيخ المسجد أخد الجثـ*ـمان ودفنه.
خمس دقايق وخلصوا وقفلوا القبر وابتدى الشيخ يدعي لأمه وأبوه اللي كانوا قاعدين على الأرض قدام القـ*ـبر وصوت قلبهم اللي بيتكـ*ـسر الكل سامعه، في الوقت ده مسكت عمته ايدي وهي بتقولي:
– رجليا مش شايلاني.. خدي ايدي بس لحد الكنبة دي.
نفضت ايدها بعيد عني وأنا بقولها:
– مش لوحدك.. عندك السور أهو اسندي عليه لحد ما توصلي للكنبة.
بصيتلي بحقد وغل قبل ما تسيبني وتمشي تسند على سور المقابر وتمشي جنبه، لحد ما سمعنا صرخة قوية بعدها وقعت على الارض.
كل الموجودين اتتفضوا وبصوا ناحيتها بخضة، وكلنا جرينا عليها وأولهم التربي اللي بص على السور برعب وصرخ بصدمة:
– دي مسكت سلك الكهر*با.. والله أنا كنت مغطية بفروع الشجرة على ما يجيي الكهربائي بكرا.
الكل وقف مكانه مصدوم والإسعاف اللي كان جايب “آسر” شالها للمستشفى، وأخوها ركب معاها وهو بيبصلها بصدمة خليته يفقد النطق، أما عيالها ففضلوا يصوتوا ويحطوا التراب فوق راسهم.
دقايق والكل اتفض من المكان، وأنا كمان رجعت بيتي ومعايا “حور” و “آسر” اللي صورته ابتدت تبهت بشكل تدريجي، عشان تقرب مني “حور” وهي بتقولي:
– ربنا جاب حق “آسر” وعمته ما*تت وداقت من نفس الكاس، وعشان كده لازم يمشي دلوقتي ، وأنا كمان همشي معاه، مش هقدر أسيبه لوحده.
بلعت ريقي بمرارة وأنا بمسح دموعي وبقولها:
– خدي بالك منه..
هزت راسها وهي بتودعني بابتسامة واسعة قبل ما تختفي من قدامي تمامًا مع “آسر”.
تمت
التعليقات