التخطي إلى المحتوى

رواية تعافيت بك الجزء الثاني للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والأربعون

كنتِ أنتِ الثبات وسط الهشاشة، رقيقةٌ أنتِ مثل الفراشة
أخترتُ من خطئي طُرقًا لا تُشبهني، سِرتُ بها و ظننتها من غبائي وطني، لا وجدتُ بها راحتي و لا استقرت بها سُفني، كنت مُخطئًا و أنا أبحث عن الثبات وسط الهشاشة، ظننتُ نفسي يومًا خفيفًا أشبه الفراشة، و نسيت أن الفراشة تنجذب نحو اللهب، و ها أنا احترقت في اللهيب الذي جذبني.
صدح صوت جرس الباب فوقف عامر يقول بهدوء: أنا هفتح الباب خليكم أنتم.

أقترب من الباب يفتحه فتفاجأ ب فادي يقف أمامه و هو يطالعه بجمودٍ حينها حرك رأسه للخلف و هو يقول ساخرًا موجهًا حديثه ل يونس: تعالى يا يونس يا حبيبي، فيه خلقة محتجاك تتف عليها للصبح
رفع فادي حاجبه له و في تلك اللحظة خرجت جيسي من المصعد، فتحدث عامر بسخريةٍ يقول: تعالى يا يونس، دا أنتَ هتف لحد ما ريقك ينشف، أصل الحبايب هنا.

أقترب منه ياسر و هو يحمل يونس على ذارعيه و حينما وقع بصره عليهما يقفا بجوار بعضهما، فتحدث بصوتٍ حاد: أنتم بتعملوا إيه هنا؟ خير هو أنا مش مكتوبلي أخلص منكم؟
زفر فادي بضيقٍ منه، فتحدثت جيسي تقول بتهذبٍ و أدبٍ: معلش يا أستاذ ياسر احنا عاوزين نتكلم مع حضرتك ضروري، لو هنسبب ليكم إزعاج ممكن نمشي عادي جدًا.

زفر بقلة حيلة ثم أشار لهم برأسه حتى يتبعونه للداخل، فافسح لهما عامر و هو يطالعهما بسخريةٍ ارتسمت على قسمات وجهه، حتى دلفا سويًا للداخل و الجميع يقفون في حيرةٍ و خصيصًا الفتيات حينما وقع بصرهن على جيسي بخصلاتها البنية و لون بشرتها و هيئتها التي تدل على جنسيتها و التي لا تدل على المصرية و كذلك أخيها الذي يشبهها إلى حدٍ كبيرٍ و خصيصًا في لون عينيها، توترت هي من النظرات الموجهة لهما و خصيصًا هي من قِبل الفتيات، فتحدثت تقول بصوتٍ مهتز:.

إحنا متأسفين إننا جينا في وقت زي دا من غير ميعاد سابق، بس إحنا محتاجين نتكلم ضروري مع ياس، قصدي أستاذ ياسر
سألتها إيمان بجمودٍ و نبرة صوتٍ قوية إلى حدٍ ما دون أن تعي لذلك: معلش يعني بصفتك مين تتكلمي مع أستاذ ياسر؟ مين أنتم؟ أظن من حقي أعرف
حركت جيسي عينيها على أوجه الجميع تطالع نظراتهم ثم وجهتها نحو إيمان و هي تقول بثباتٍ واهٍ: أنا جيسي، جيسي اللي سمير اتجوز مامتها و رباها هي و أخوها.

نظر الفتيات لبعضهن، بينما إيمان ابتسمت بتهكمٍ و هي تقول: يا شيخة؟ و جايين لحد هنا برجلكم؟ بعد اللي البيه قالوا الصبح و ملقاش فايدة جاية أنتِ علشان تحاولي تقنعينا؟
أقترب خالد من شقيقته يمسكها من يدها و هو يقول هامسًا بهدوء رغم ضجره من طريقتها: ادخلي جوة و خدي البنات معاكي و ياريت يا إيمان متتكلميش و أنا و جوزك واقفين، يلا.

حركت رأسها نحو خالد فوجدته يرمقها بتهديد من عينيه و هو يحرك رأسه للداخل، فزفرت هي بقوةٍ ثم أقتربت من ياسر تأخذ يونس من على ذراعه فاوقفها عامر بقوله الخبيث الممتزج بالمرح:
لأ سيبي يونس، أصل أنا محتاجه في مُهمة محدش غيره ينفع يعملها
أبتسمت بانتصارٍ ثم تحركت من امامهم و الفتيات تلحقها للداخل، فتحدث خالد بعد اختفاء أثرهن جميعًا يقول بهدوء:.

اتفضلوا اقعدوا علشان نعرف نسمعكم، و ياريت كلامكم يبقى معايا أنا، علشان ياسر معندوش استعداد يتحمل أكتر من كدا.

جلسوا جميعًا بعدما حركا رأسهم بموافقةٍ على حديث خالد، فكان الوضع كما الآتي، خالد في المنتصف على الأريكة و على يساره فادي و على المقعد المجاور له جيسي و على يمينه ياسر يحمل يونس على قدمه و عامر بجواره في حالة تأهب و كأنه يستعد للفتك بفريسته ثم وكز يونس في قدمه فنظر له الصغير و هو يضحك له، فأشار له بالبصق في جهتهما، فعل يونس ما طلبه منه عامر و هو يضحك بمرحٍ حتى تحدث خالد قائلًا محاولًا تجاهل في فعله إبنه تحت نظرات عامر الضاحكة التي جاهد حتى يُخفيها:.

ها يا أستاذ فادي، خير؟ ياترى إيه اللي خلى حضراتكم تيجوا لحد هنا بنفسكم؟
رد عليه بهدوء يعتذر منه بقوله: أنا متأسف يا أستاذ طبعًا عن إننا جينا في وقت زي دا من غير ميعاد، و بعتذر لحضراتكم عن المعاملة اللي سبقت مني، بس كل دا أنا كنت معذور عليه، يعني الأمور اتلغبطت فجأة كدا، و أنا مكنتش أعرف، فأنا متأسف لحضراتكم و متأسف مرة تانية لياسر.

رمقه ياسر بجمودٍ و لم يُعقب، فتدخل عامر يقول ساخرًا: الكلام دا لما تكون موقع علينا عصير و لا اتأخرت علينا في ميعاد شغل، إنما اللي أنتَ عملته دي قلة أصل، أنتَ رفعت سلاح في وش أخويا، يعني دي ملهاش أسف عندنا.

تدخل خالد يقول و هو يبتسم بثقةٍ: أخويا قالك أهوه، سلاحك اللي اترفع في وش أخويا دي حقها كبير أوي و إحنا ولاد أصول يعني ممكن نقولك عاوزين حق أخونا، بس احنا مش هنعمل كدا، هنعتبرك غريب و مفيش عليك حَرج، و علشان أنتَ في بيتنا هنعذرك
تدخلت جيسي تقول مسرعةً: احنا مش جايين علشان كدا، جايين عاوزين نتكلم مع الدكتور ياسر، والدك دلوقتي محتاج يسافر يمكن و يلاقي الشفا برة،.

قبل أن تُكمل حديثها قاطعها هو بقوله: ربنا يتمم شفاه على خير، أنا معنديش حاجة ممكن أقدمها ليه، أنا يدوبك بحاول أسند نفسي بعد اللي حصل، كفاية ظهوره قلبلي كل حاجة، أنا بقيت متدمر
ردت عليه هي بنبرةٍ شبه باكية: أنا عارفة إن محدش ممكن يقدملك أي حاجة في الوضع دا، و عارفة إن جرحك منه كان كبير أوي، بس وجودك ممكن يفرف نفسيًا معاه، على الأقل كلمة منك ممكن تفرق كتير في نفسيته، أرجوك.

طالعها الثلاثة بدهشةٍ من حديثها خاصةً حينما تابعت حديثها بقولها: إحنا محتاجينك بس تتكلم معاه، قبل ما يسافر، أنا عارفة إنه مش من حقي حاجة زي دي، بس أنا و فادي ملناش غيره هو، و ماما مكانش ليها غيره و وصيتنا عليه قبل ما تموت،.

وضع يونس على الأريكة ثم وقف و هو يحاول جاهدًا التحكم في دموعه و هو يقول و أخويه ينظران له: اللي أنتِ جاية تطلبي مني ألحقه و أقدم له مساعدة نفسية دا، هو نفسه اللي دمر نفسيتي و حياتي، هو نفسه اللي كنت كل يوم بنام معيط بسببه، هو نفسه اللي سابني اتمرمط من غير ما يسأل فيا.

طالعه الجميع بشفقةٍ عليه، فتابع هو بنفس الآلم: اللي أنتِ بتقولي مليش غيره أنا و أمي و أخويا دا، أنا برضه مكانش ليا غيره، أنا و أمي و أخواتي البنات، اللي أنتِ جاية علشانه دا هو نفسه اللي قالي إنه مش مُلزم بينا بعد ما ضربني بالقلم، جاي دلوقتي و عاوز يسمع كلامي؟

أخفضت رأسها بألمٍ فتحدث فادي مُسرعًا بعدما وقف مقابلًا له: إحنا مش جايين علشان نحنن قلبك عليه، إحنا معاه و هو معانا و إحنا ممكن نعوضه عن كل حاجة، بس الدكتور قال إن كلامك في حالته هو اللي هيفرق، غير كدا أنا بعرض عليك الشغل معايا و تهتم بنصيبه في كل حاجة هو يملكها، دا حقه و أنا مبجيش على حق حد.

ابتسم له ياسر بتهكمٍ و هو يقول مُلقيًا بكل ما يعتل به صدره أمامهم جميعًا: طب عندك خبر بقى يا أستاذ فادي إن الأستاذ سمير كان هنا الصبح و عاوزني أتجوز أختك؟ معرفتش إنه كان هنا بيعرض عليا أكرر الزمن اللي فات علشان فاكرني نسخة منه؟

نظر لأخته و كأنه يتطلب منه تكذيبه فأخفضت رأسها مرةً أخرى، فتحدث ياسر بسخريةٍ: شوفت إنه خطى كل حدوده معايا و مفيش حاجة هقدر أشفعله بيها عندي؟ خلاص عدى كل الحدود معايا و اللي فاضل مني هو إحترام مرضه و سِنه.

أغلق فادي جفنيه ثم فتحهما بتروٍ و هو يقول: أنا مكنتش أعرف إن دا حصل، بس أنا أضمنلك برقبتي إن دا ميحصلش و إن محدش يقدر يجي جنبك، بس هقولك حاجة اعتبره مريض محتاج منك شفقة، بلاش أقولك أب محتاج ابنه، سمير سابلنا عمره و ضيع حياته علينا علشان أمي ماتت و إحنا صغيرين و كان مجبر يكمل معانا، و مقصرش في حقنا خالص، أنا متأكد إنك شهم و هتحسبها صح، تعالى حتى و كأنك بتزور مريض من اللي بتكشف عليهم.

كل ذلك كانت تتابعه إيمان من خلف السِتار الموضوعة على باب الرواق بعدما غلبها فضولها، فوجدت جيسي تقف بجانب أخيها و هي تقول بصوتٍ مختنق: بالنسبة لموضوع جوازنا أنا مكانش عندي أي فكرة عنه و الله، والدك فكر كدا على أساس يعوضك و يأمن مستقبلك، و مستقبلنا إحنا كمان علشان عارف إننا محتاجين حد معانا لو هو حصله حاجة.

لمحت إيمان الخبث في حديثها و الذي غفل عنه الجميع، فتابعت جيسي الحديث بدموع و للأسف كان صادقًا خرج من قلبها و هي تقول: بابا سمير عاوز قبل ما يمشي يصلح كل حاجة و يقربنا من بعض زي ما كان بيحلم طول عمره، كان نفسه يشوفنا مع ولاده بس الوقت كان متأخر، و بعرضه عليك افتكر إنه كدا بيعوضك و بيحمينا
اندفعت إيمان نحوهم و هي تقول بنبرةٍ جامدة بعدما فقدت ثباتها و صمتها و هي تقول:.

لأ يا حبيبتي دا في أحلامك، مفيش حد هيقرب من جوزي لأننا ناس شرقية و دمنا حُر، بصفتك مين تتكلمي مع جوزي و لا حتى يعتبرك أخته؟ أنتِ غريبة عنه زيك زي أي واحدة، اللي يحق له بس يتعامل معاهم هما أمه و أخواته البنات و أمي، غير كدا يبقى لعب في عداد الخطر
رمقتها جيسي بتعجبٍ من طريقتها و حديثها فتحدث ياسر موجهًا حديثه لزوجته: ادخلي جوة و خدي يونس معاكي، أنا عارف إنك طالعة علشان تاخديه، يلا.

زفرت هي بقوةٍ في وجهه ثم مالت على الأريكة تأخذ الصغير، فتحدث عامر مُنهيًا الحديث و هو يقول بعدما دلفت إيمان للداخل: بصوا يا جماعة علشان الحوار خد أكبر من وقته و حجمه في حياتنا، ياسر مش هيقدر يسامح و لا هيقدر يجي على نفسه، و بالنسبة لموضوع الشغل فاخويا دكتور قد الدنيا مش محتاج شغلكم، و بالنسبة لموضوع الجواز فهو ملوش لازمة علشان أخويا متجوز و فاتح البيت اللي إحنا فيه دا، يعني عروضكم دي لامؤاخذة ملهاش لازمة عندنا، و لا محتاجينها، عارفين الطريق و لا أجي أوصلكم أنا؟

نظرا لبعضهما ثم حركا رأسيهما بموافقةٍ، فقالت جيسي قبل ان ترحل و هي تلعب على أخر وتر لديها في التأثير عليه: أنا متأكدة إن شهامتك هتغلبك و طيبة قلبك هتحركك في الآخر، مستحيل الدكتور ياسر يفضل كدا و يسيب حد محتاجه حتى لو الحد دا ظلمه، إحنا خلاص بنجهز نفسنا و أقرب ميعاد هنسافر فيه، أتمنى تحسبها صح
التفتت لأخيها و هي تقول: يلا يا فادي، أكيد الدكتور هيحسبها صح و يعرف هو هيعمل إيه.

رحلت من أمامهم و خلفها أخيها، فارتمى ياسر على الأريكة و هو يزفر بقوةٍ، فخرجت الفتيات بعدما استمعن لإغلاق باب الشقة، ثم جلست كلًا منهن بجانب زوجها، حتى ربتت إيمان على يد ياسر و هي تقول بهدوء: مالك يا ياسر؟ هما كل ما حد فيهم هييجي هنا هيخليك تشيل الهم كدا؟ سيبك منهم كلهم.

تنهد هو بقلة حيلة ثم قال بصوت مختنق: أنا تعبت و جيبت أخري يا إيمان، خلاص كل حاجة جت عليا بزيادة أوي، و هو عمل كل حاجة ممكن توجعني في يوم و خلاص مفاضلش غير أني أطلع انا اللي وحش كمان، و دلوقتي دماغي بتصارعني علشان ألحقه، و بقيت مقسوم نُصين، نص عاوز ينتقم لنفسه و هو صغير و نص تاني عاوز حتة الرَحمة اللي جواه تحركوا.

مسدت على يده بيدها ثم قالت بهدوء: اللي يريحك في الاتنين أعمله، اللي تحس إنه الأحسن و هيخليك ترتاح أمشي وراه، شوف الحاجة اللي تخليك تعرف تنام و أنتَ مرتاح و أعملها
ابتسم لها بسخريةٍ و هو يقول: و هي سهلة كدا زي ما أنتِ فاكرة؟ مفيش حاجة هتريحني غير لما أموت، ساحتها أنا هرتاح بجد، علشان اللي زيي وجعه مرتبط بيه طول العمر.

نزلت دموعها رغمًا عنها فتدخل عامر يسأله بضجرٍ: ليه يعني؟ علشان إيه و مين يا ياسر؟ دول بشر يعني ميتزعلش عليهم و لا منهم
رد عليه بوجعٍ ظهر في نبرته و هو يقول: علشان دا أبويا يا عامر! مش واحد غريب أنا هكبر مخي و هعتبره مجاش في حياتي، أنا اللي وجعني إنه أبويا، و اللي أتوجع من أهله مبيخفش، المجروح من اللي منه جرحه مبيلمش يا عامر.

اقترب منه خالد يجلس على ركبتيه أمامه و هو يقول بتأثرٍ بعدما رفع كفه يحرك رأس ياسر حتى يواجهه بنظراته:.

هو مش أبوك، لو جينا للحق أنا اللي أبوك و أنا اللي يحق ليك تزعل منه و يحق ليك تتعب منه، هو مين؟ شالك قد إيه؟ كان معاك فين؟ كل دا أنتَ كنت فيه لوحدك و أنا كنت شاهد عليه، لو زعلان أوي كدا، فريح نفسك علشان أنا اللي أبوك و أنا اللي أختارتك ابن ليا، و أنا اللي أقدر افرم أي حد يزعلك، و لا خلاص ظهوره هيلخيك تنساني و تنسى أننا ملناش غير بعض؟

طالعهما الجالسون بتأثرٍ و زاد ذلك التأثر حينما ارتمى ياسر على خالد يحتضنه و هو يقول بصوتٍ مختنق: مفيش حد ممكن يجي ياخد مكانكم عندي، حتى لو هو نفسه، مفيش حد شالني و لا استحمل الجري ورايا زيك، و محدش ضحى بكل حاجة عنده زيك، محدش كان في ضهري طول حياتي زيك، لو جينا للحق بقى متقارنش نفسك بيه يا خالد، علشان أنتَ عندي أكبر منه بكتير و مقامك أعز كمان.

ربت خالد على ظهره و هو يبكي بتأثرٍ فاقترب منهما يونس و هو يتحدث بمرحٍ و كالعادة لم يفهم أيًا منهم حديثه عدا والدته التي قالت بنبرةٍ ضاحكة: بيقولكم بابا حضن يا ياسر علشان بيعيط، مش ياسر بيعيط؟
سألها خالد بسخريةٍ: و الجملة الأخيرة دي معلومة منك و لا استفسار منه؟
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة: و الله ابنك اللي بيستفسر أنا مالي، صح يا يونس؟

حرك رأسه موافقًا بقوةٍ ثم ركض نحو ياسر يحاول احتضانه، فابتعد عنه خالد و هو يضحك عليها، فوجد يونس يربت على ظهر ياسر مثلما فعل خالد وهو يغمغم بعدة كلمات غير مفهومة و ياسر ينظر له حتى ابتسم رغمًا عنه و هو يقول: عارف يا يونس؟ أنا نفسي و الله أطرد عمتك من هنا و أجيبك أنتَ مكانها تعيش معايا.

ضحك الجالسون عليه فرفعت حاجبها له و هي تقول بخبثٍ: تجيب يونس برضه و لا تجيب الشقرا اللي كانت هنا من شوية؟ رد يا ياسوري؟
اتسعتا حدقتيه بقوةٍ بعد حديثها، فتدخل عامر يقول بنبرةٍ ضاحكة: حقك! بصراحة يعني، أصل العرض مُغري و أي حد هيفكر فيه، عروسة حلوة معاها جنسية تانية بفلوسها بشركتها، بتهيألي يا ياسر هو مزعلكش أوي يعني
نظروا له بغير تصديق و خاصةً خالد الذي قال بحنقٍ:
و حياة أمك يا ابن سيدة!

حرك رأسه موافقًا وهو يقول ببساطةٍ: آه، هو يعني مضربوش بالنار، إحنا ممكن نعتبره كان بيأمن مستقبله و رجع، كإنه في إعارة يعني
أقتربت منه سارة تمسك قميصه و هي تقول بضجرٍ: بتقول إيه؟ سمعني كدا كلامك اللي هيخليك توحشنا كلنا دا؟ سمعني؟
رد عليها بخوفٍ زائفٍ و هو يقول: بقول يعني، إنه يستاهل الضرب في ميدان عام، و بعدين و لا ألف عروسة أجنبية تعوض ضُفر من ستاتنا الأصيلة اللي مفيش منهم اتنين في الدنيا.

تركته زوجته على مضضٍ و هي ترمقه بغيظٍ، فأضاف هو مفسرًا بعد نظرتهم له: يا جدعان أنا بهزر بلاش نظرات الاستحقار دي، ياسر عمره ما هيعمل حاجة زي دي
رد عليه ياسر مُنفعلًا به: أعمل إيه! أنتَ مجنون؟ أنا عمري ما أفكر حتى في حاجة زي دي مجرد التفكير، عيشت عمري كله بربي نفسي علشان مبقاش زيه، و أخرتها أفكر في حاجة زي دي؟

ردت عليه زوجته بتعجبٍ ممتزج بالضيق من حديثه: بس! هو دا السبب اللي هيخليك متفكرش في كلامهم و هو إنك متبقاش زيه؟
حرك رأسه ينظر لها وهو يقول رافضًا بنبرةٍ قاطعة: لأ طبعًا، فيه حاجة تانية و هي أني عمري ما هقدر أعوضك بأي حد في الدنيا دي، مفيش واحدة مهما كان هي مين تقدر تتساوى بيكي عندي، أنتِ لو الدنيا كلها اتحطط معاكي في كفة، كفتك هتطب و تكسب، ريحي نفسك و بلاش تخلي دماغك تلعب بيكي.

ابتسمت له بفرحةٍ مثل البلهاء فأضاف هو لهم جميعًا: هما غالبًا بيستعطفوني، بس أنا مش غبي و في نفس الوقت مش جاحد، و فيه حاجة لازم أعملها علشان أرتاح و أريح كل اللي حواليا، و من غير حتى ما حياتي تتأثر، أنا هعتبر دا اختبار ليا من ربنا
زفر هو بقلة حيلة ثم قال بهدوء: هبقى أقولكم، على كل حاجة قبل ما اتحرك، متخافوش مش هتصرف من غيركم.

علي كورنيش النيل جلست خديجة تستمع لأحاديثه في صغره و هي تشعر بسعادة لأجله خصيصًا و هو يقص عليها طفولته مع أخوته حتى شبابهم سويًا، و في نهاية حديثه بعدما توقف عن الضحكات تحدث يقول بهدوء: شكرًا على إنك ضحكتي على الهطل دا يا خديجة، أنا تعب اليومين اللي فاتوا دول نسيتهم، حاسس أني رجعت تاني زي ما كنت.

أبتسمت له و هي تقول بمعاتبةٍ: أنتَ بتقول إيه بس؟ ما طول عمرك من ساعة و القدر جمعنا بيك و أنتَ عمال تسمعني، تسمع هبلي و مشاكلي و عياطي و حزني، أنا على ما اظن جبتلك اكتئاب يا بني و الله
ضحك عليها و هو يقول بقلة حيلة: هعمل إيه طيب؟ كنت عاوزك تبلي ريقي بكلمة حلوة منك، بس أنا كان عندي إصرار، فضلت وراكي لحد ما نطقتك، صحيح بقيت مهلبية بس أنا راضي.

ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة: اللي جات في بالي و الله، استنى أشوفلك حاجة حلوة زيك كدا، بس و الله مهلبية أحلى.

حرك رأسه بيأسٍ منها و هو يضحك عليها فتنفست هي بعمقٍ ثم قالت بهدوء: كل حاجة بدأت صح من ظهورك، علاجي و حياتي اللي اتغيرت، بابا اللي كنت ببعد عنه و بعمل بينا مسافات، أخواتي و بنات العيلة اللي بعدت عنهم، وليد و حياته اللي بدأت تبقى طبيعية، حاجات كتير اتصلحت في وجودك، الفضل فيها بعد ربنا يرجع ليك، ساعات الناس بتكون ارزاق لبعض، و أنتَ رزق ليا و لأي حد تدخل حياته يا ياسين.

رفع رأسه يطالعها بدهشةٍ فوجدها تقول بهدوء من جديد: بقيت غريبة أوي من ساعة ظهورك في حياتي، بقيت واحدة تانية، واحدة بتفرح أكتر ما بتزعل، أنا مش عاوزاك تيجي في يوم و تتغير عليا زي ما طول عمري بشوف، عاوزاك تفضل كدا بحنيتك عليا و طيبة قلبك، عاوزاك تفضل ياسين اللي أنا أمنت ليه من الدنيا كلها.

ابتسم لها وهو يقول بهدوء: وعد مني أفضل مطمنك زي ما أنا و وعد مني أني هحاول بكل طاقتي علشانك و علشان يفضل بيتي هو الأمان ليكي، متخافيش أنا أضعف من أني أغضب ربنا فيكي
حركت رأسها موافقةً على حديثه و هي تبتسم له ثم قالت بصوتٍ خافت: و أنا متأكدة من دا، تربيتك و أخلاقك تخليك تعمل كدا و أكتر كمان، ربنا يكرمه اللي كان السبب في تربيتك.

رد عليها هو بسخريةٍ: قصدك رياض! ربنا يكرمه فعلًا، مش فاضحني أهو بس روحي روحي روحي من جوة كدا
ضحكت على طريقته فوجدته يقول بقلة حيلة: أنا فاكر مرة زمان قالي يا واد يا ياسين أنتَ سندي في الدنيا بعد ربنا سبحانه وتعالى، السؤال هنا بقى فيه سند بيفضح سند كدا؟ دا عم فهمي عِرف إنك قبولي الوحيد.

قال جملته الأخيرة بيأسٍ فقالت هي بنبرةٍ ضاحكة تسخر منه: ما هو أنتَ اللي غريب برضه يا ياسين، فيه حد يسجل خطيبته كدا و يسيب التليفون قدام باباه؟
رد عليها مُسرعًا: أولًا كنتي مراتي مش خطيبتي، ثانيًا بقى أومال اسميكي إيه؟ و بعدين هو أنتِ كنتي مسمياني إيه في الخطوبة؟
ردت على حديثه بلامبالاةٍ: هسميك إيه يعني؟ كنت مسمياك ياسين رياض الشيخ
شهق بقوةٍ ثم قال مُعقبًا.

يا نهارك مش فايت؟ ياسين رياض الشيخ؟ ما كنتي سجلتيني ياسين خطوبة و لا ياسين تبع طنط وفاء
ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة: و الله كنت هسميك كدا فعلًا، بس قولت لأ كدا قلة زوق، خليها باسمه الثلاثي و خلاص
تحدث هو بضجرٍ منها: هي بطاقة يا خديجة؟ ما تاخدي عنوان بيتنا و رقمي القومي بالمرة، إيه الجحود دا؟ يا رب أعمل فيها إيه؟ أخلي النص اليمين يصحل أخوه؟

قال حديثه بعدما رفع ذراعيه السماء و هي بجواره تضحك عليه حتى رمقها هو بغيظٍ ثم انزل ذراعيه، فوجدها تقول بضجرٍ: خلاص يا هندسة متكبرش الموضوع، ما أنا غيرته بعد الجواز و خليته إسم حلو زيك، لو زعلان كدا هخليه مهلبية، المهم إنك متضايقش.

ضرب وجهه بكفيه معًا و هي بجواره تحاول كتم ضحكتها عليه، حتى وجدته يقول: تعرفي إنك ست مُفترية و بوظتي الجو اللي كنت محضره ليكي؟ أنا كنت ناوي أخليكي تعيطي من الفرحة، شكلك هتعيطي من الحزن
عادت للخلف و هي تطالعه بغير تصديق و هو ينظر لها بوجهٍ ممتعض، فسألته بحماسٍ: خلاص خلاص، قولي بقى كنت هتعمل إيه؟ بسرعة علشان خاطري و لو كدا لما نروح هبوسك و الله.

رد عليها هو مُسرعًا بوقاحةٍ: إيه الإنجاز في إنك تبوسيني؟ أنا مش فاهم؟ دي حاجة المفروض إنها تحمسني يعني يا خديجة؟
ردت عليه هي بوقاحةٍ لم يعدها منها من قبل: أومال في وضعي دا عاوزني أعملك إيه؟ ارقصلك يا ياسين؟ دا أنا بقيت مَرمة محتاجة طالعة واحدة
ردد خلفها بدهشةٍ: مرمة! هو انتِ جيبتي الكلمة دي منين؟ دا أنا مهندس و اشتغلت مع عمال و عمري ما قولت الكلمة دي؟ إيه مرمة دي.

ردت عليه مفسرةً ببساطةٍ: مرمة، يعني شَروة واحدة كدا، زي الشقة اللي محتاجة توضيب من أول و جديد، على المحارة يعني
أشهر سبابته أمام وجهها و هو يقول بتوعدٍ لها: أسمعي يا كتكوتة! علشان متجيش تزعلي بعد ما تقومي بالسلامة، التريقة دي أخرتها هتبقى وحشة على دماغك، مش هتعرفي تتخطيها، أنا اتجبست قبل كدا و الهزار دا كله قعد ليا.

ردت عليه و هي تحاول كتم ضحكتها: يا سيدي سيبني أهزر مش أحسن ما اقلبها نكد و عياط، فُك كدا و فرفش و قولي إيه الجو الحلو اللي كنت عامله ليا قبل ما اتحول من شوية
ارتسم اليأس على ملامحه و هو يقول: لأ كدا كتير عليا و على طاقتي، المهم يا ستي أنا عرفت إن فيه انشودة كدا أو أغنية أنتِ بتحبيها، و لاحظت إنك بتسمعيها كتير من غير موسيقى، صح؟

حركت رأسها له بتشككٍ و كأنها تستفر منه بذلك فوجدته يبدأ الغناء بصوته العذب بهدوء بعدما ابتسم لها:
فَديْتك روحي يا روح الفؤاد، هواكِ ملاكِ برغم البِعاد، فأنتِ يا شَطري، بِكل المِداد، شريكةُ عُمري في أسري و قَهري، في خَطوي و صبري في درب الجهاد…

يا بسمةَ روحي في وجه الصچون، يا نسمةَ ليلي طويل السكون، يا رسمةَ نورٍ كبدرٍ تكون، يا خير العطايا في وجه الرزايا، خُطاكِ خُطايا، يا زوجي المَصون، أيا وجه صُبحٍ يبث الهُيام، و خيرًا يَهل كسطر الغمام، و حُبًا يُزيحُ هموم الظلام. بقلبٍ صبور، و روحٍ تفور، بنثر الظهور و فيض السلام، تَمر السنين وراء السنين، و صبركِ يبعث فيا اليقين، يهدهد روحي، بذاك الحنين، بقيدٍ سيكسر، و جيشٍ سيقهر، و بيتٍ سيعمر، بشملٍ متين.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *