رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل الثاني عشر
زفرت بنفاذ صبر وأتكأت على الحائط خلفي، رفعت كلتا يداي بإنفعال لأشرح بحدة: للمرة العاشرة أخبركم أنني لم أنوي سرقة تلك الأشياء! هل سأنتظر طويلاً حتى تتفقدوا آلات التصوير؟ وهل أنا حمقاء إلى درجة سرقة تلك الأشياء بطريقة مبتذلة سخيفة!
أشار إلى الحارس البدين أن أهدأ وقد قال مسايراً بجفاء: انهم يتفقدونها لذا انتظري قليلاً. لو كنا نعتمد على أقوال اللصوص فقط لما كان هناك حاجة إلى الشرطة أوالتحقيق يا صغيرتي.
لويت شفتي بإزدراء قبل أن ألقي نظرة إلى الساعة حول معصمي بإنزعاج ثم زفرت وتكتفت بغيض أدك الأرض بقدمي بعصبية.
ذلك الشيطان الصغير. لو رأيته.
لو أراه فقط.!
قد أرتكب في حقه فعلة شنيعة تثير غضب الرأي العام.
أنا يتم اتهامي بالسرقة؟ وبسبب صغير لئيم لم يتوقف عن حشو حقيبتي بالمنتجات دون أن أشعر!
اللعنة.
لم أشعر بالإهانة يوماً بهذا القدر على الملأ!، تم إيقافي فجأة واحراجي أمام الجميع بعد ان تعالى صوت صفارة الجهاز ثم تم اقتيادي إلى إحدى الغرف التي طلبوا مني الإنتظار فيها ريثما يتم مراجعة الآت التصوير بعد ان تم تفتيشي، لم يحشو حقيبتي فقط فبعد ان تم تفتيش حقيبتي وجدوا في جيوب بنطالي الصيفي القصير بعض الأشياء التي لا أدري كيف أخفاها دون علمي.
ولاعة. سجائر. علكة، حلوى الجِل وغيرها من الأشياء. لا أصدق خفة اليد التي يتمتع بها!
لم أشعر ولو للحظة بكل ما فعله. لا بملئه عربة التسوق بذلك الهراء ولا بوضع يديه في جيوب بنطالي أو حقيبتي.
إلى أي مدى يكرهني هذا الطفل!
ضربت مرفقي بسبابتي بينما أتكتف بنفاذ صبر وقد زادت عصبيتي حتى قلت بنبرة عالية لا تحوي شيئاً من التهذيب: هل سأنتظر طويلاً؟ أنا هنا منذ أكثر من نصف ساعة!
رمقني الحارس البدين بإنزعاج وقد علا صوته أيضاً: وأنا قلت بأنه عليك الإنتظار كوني شاكرة أنكِ لم تذهبي مباشرة إلى مركز الشرطة!
أضاف بسخرية وتهكم يحدث زميله: بات اللصوص أكثر جرأة هذه الأيام.
أيده الآخر هازئاً بلا حيلة: أتذكر اللص من ذلك اليوم؟ أقسم أنه لم يسرق شيئاً بينما جيوبه تفيض من كثرة الحاجيات المسروقة.
سحقاً لهما.
كانت ربع ساعة إضافية حتى تم التأكد من برائتي في هذا الموضوع بعد مراجعة كاميرات المراقبة بالفعل، وقد صدقوا ما قلته بشأن تلفيق هذه التهمة من طفل طائش، خرجتُ أحمل المشتريات وأسير كالقنبلة الموقوتة التي توشك على الإنفجار، خطواتي واسعة وسريعة، أنفاسي غير منتظمة.
بحثت عنه في الأرجاء، بل وخرجت من المركز التجاري أعاني من ثقل الأكياس ولم ألمحه حتى في الشارع!، ولكنني وما أن وصلت إلى الرصيف المجاور للإشارة حتى سمعت من انفجر ضاحكاً ولم أستغرق أكثر من ثانية لأستوعب هوية من يسخر وقد قال بخبث: ها قد خرجتِ إذاً.
أحكمت قبضتي على المشتريات والتفتُ نحوه وقد همست بتحذير أنظر إليه بعين ضيقة: اقترب. إن كنت تجرؤ.
نفي بثقة: بالطبع لن أفعل!، تبدين كوحش هائج على وشك أن ينقض علي.
أيها الطفل المتمرد لقد تجاوزت حدودك كثيراً! أردت مرافقتك لنتفاهم ونتحاور قليلاً ولكنك لم تتفانى في توريطي واحراجي!
رفع كتفيه بلا مبالاة وبقي واقفاً على بعد مسافة كبيرة مني، وضع يمناه في جيبه فقلت بقهر شديد: حاول ان تحمل عني أحد الأكياس على الأقل!
لن أفعل.
ستلقى حتفك على يدي.
قد لا تسنح لك الفرصة.
هاه؟
أنوي القضاء عليكِ أولاً.
ليس قبل أن أفقدك أحد حواسك الخمس! أيها الطفل الكريه. ستندم حتماً على ما فعلته بي!
إن كنت تنوين إخبار أبي فلا بأس، سينهرني للحظات ويصرخ بي ثم سينسى الأمر، وسأنسى الأمر وأكبر وتمضي السنوات ولن أتذكر ما حدث.
زفرت بتهكم ونظرت للأمام حيث الإشارة، كان كتفي يرتجف من شدة كبح الذات والسيطرة على نفسي. حين فتحت إشارة المشاة أكملت طريقي بفم مطبق، كنت أعلم أنه يسير خلفي ولن يكلف نفسه عناء مساعدتي.
كما وأعلم أنه يخشى ان يعلم السيد هاريسون بما فعله ومع ذلك لا يزال يتظاهر بالقوة!
وقفت لثواني أعدل من وضعية الأكياس في يدي وقد ظهر أثر الخطوط الحمراء عليها من ثقل الأكياس التي أحملها.
زفرت بإنزعاج والقيت نظرة للوراء فوجدته يمشي يشبك يديه خلف رأسه بتبرم وملل، انتبه لي فنظر للجهة الأخرى مكملاً طريقه، كان قد أسرع في خطاه فمشيت خلفه وناديته حانقة: توقف وساعدني! هل سأستمر في حمل الخمسة أكياس حتى نصل إلى المنزل! هل تتجاهلني؟ إنها ثقيلة! لاري لا تتجاهلني بحق الإله! سحقاً لك سأخبر والدك حتماً. تذكر هذا جيداً.
ابتسم بمكر وهو يرمقني بنظرة انتصار وسار مبتعداً بخطوات واسعة.
وقفت لمهية فقط أنظر إلى يدي وقد تأوهت بألم مُزج بالرغبة في الثأر والركض خلفه لألقنه درساً.
تنهدت بلا حيلة حين أدركت أنه لا فائدة ترجو منه.
ما الذي كنت أنوي فعله أصلاً؟ التقرب إليه؟ يبدو لي هذا مستحيلاً.
لويت شفتي بإمتعاض شديد ولم أكد أسير خطوة واحدة حتى ذُهلت بجسدي يُسحب نحو الزقاق الجانبي على حين غرة!
أفلتُ الأكياس جميعها من يدي رغماً عني وحاولت التملص ممن وضع يده بقوة وعنف على ثغري ويده الأخرى تسحبني من خصري بقوة يمنعني من التحرك!
جرني معه إلى الزقاق أكثر حتى توارينا عن الأنظار وابتعدنا عن الشارع! اللعنة ما الذي يحدث؟ دب الرعب في قلبي وحاولت بكل جهدي الصراخ وابعاده عني دون جدوى! أتعرض للإختطاف في وقت كهذا؟ من يكون واللعنة!
سرت الرجفة في جسدي وتمكن الخوف مني محاولة دون توقف ابعاده عني، حاولت توجيه ضربة قوية بمرفقي نحو معدته ولم أكد أنفذها حتى سمعت صوتاً يهمس في أذني بنبرة هادئة تميل إلى المكر: لا تفكري حتى.
هذا الصوت.!
اتسعت عيناي بذعر وعقدت حاجباي أنصت إلى خفقات قلبي المتسارعة والتي تناسقت بطريقة غريبة مع أنفاسي الهائجة!، شعرت بالشحوب الشديد حين فرت الدماء من عروقي وهربت مسببة لي الدوار الناتج عن الخوف.!، أمال بجسده أكثر نحو ظهري يعانقني بقوة وقد أرخى ذقنه على كتفي ثم دفن وجهه في عنقي يتنفس بهدوء وانتظام.
الرجفة التي سرت في جسدي جعلت من قدماي ترتجفان أيضاً وقد كدت أقع فعلياً لولا أن زاد من قوة عناقه وشعرت به يبتسم: لا داعي للمبالغة. دعك من الخوف، كما انسي الحَذر.
استنشق الهواء بعمق وأكمل هامساً بصوت لا نبرة معبرة فيه: رائحتك جميلة كات.
خرج صوتي متقطعاً مرتجفاً وجسدي يلعب دور احترافي كمن تعرض لصدمة كهربائية بطاقة عالية: كيف تجرؤ على الظهور مجدداً باتريك.!
ابعد رأسه قليلاً وقد أمسك بكتفاي يديرني نحوه بقوة فتأوهت رغماً عني لوخزة ألم في كتفي.
الزقاق مظلم، ولكن الإنارة القادمة من الشارع كفيلة بمد الضوء الكافي لأرى البريق الشيطاني في عينيه الخضراء وقد ابتسم بهدوء يحدق إلى بتمعن، رفع ذقني بيده ببطء وقال وكلتا عينيه تتفرسان في وجهي: اللقاء السابق كان مترعاً بالعنف عزيزتي.
قالها يشير بكلماته إلى الجرح الموجود أعلى جبينه، احتدت عيناي وعضضت على طرف شفتي محاولة السيطرة على الخوف الذي يعتريني.
ومع ذلك خرج صوتي مبحوحاً لأصرخ بإنفعال محاولة ابعاد يده: أ. أيها المجرم السافل، تجرأت على ركل جرو صغير لا ذنب له وكسرت أضلاعه، اللعنة عليك عد من حيث خرجت، فلتختفي وحسب! فلتمت وتتعفن وتشيخ في السجن الذي تستحق العيش فيه! دعني وشأني لم أعد أطيق النظر إليك. لم أعد أرغب في حياة قد تكونَ جزءاً منها لماذا لا تستوعب كل هذا! إلى متى تنوي افساد حياتي!
قلت هذه الكلمات وأنا انتفض من شدة الهلع والإضطراب، فرائصي ترتعد ورئتاي على وشك الانهيار، ظننته سينهرني وينهال على بالضرب ولكنه استمر في التحديق إلى ويديه تحكم الإمساك بي، انحنى نحو قامتي واتسعت ابتسامته أكثر يحدق إلى ثغري وقد قال بصوت خافت مليء بالتملق والتودد: هل على التفكير ملياً بمسامحتك على فعلتك المتهورة الأخيرة؟
انتابني الإشمئزاز والإزدراء بينما يمرر إبهامه على طرف شفتي وأكمل وعيناه تحدق إلى عيناي مباشرة بكل ثقة: قرار الهرب من الشقة والعيش مع عائلة مكونة من الرجال فقط. هل تعتقدينها الطريقة الأنسب لحماية نفسك والتهرب من مسؤولياتك!
ك. كيف يعلم بهذا! هل. يعلم أين أعيش تحديداً؟ رأى عائلة السيد هاريسون حقاً؟
مهلاً. لا أريد تعريض أي شخص للمشاكل والخطر! ظننت أنني سأحمي نفسي بينهم ولم أرغب في أن يصل إلى هناك!
أو ربما. هذا ما ظننته.!
ازدردت ريقي ببطء وصعوبة وقد جف حلقي فأكمل متنهداً بأسى: آه كتاليا كم أنتِ عنيدة!
التفت يمناه حول خصري وأعقب بخبث يرفع يدي ويرغمني على وضعها على صدره: توقفي عن عنادك الفارغ، عودي إلي. يكفي هرباً، أنا زوجك وسأظل كذلك. لا زال هناك الكثير لنحققه معاً هل نسيتي؟
صرخت بإشمئزاز منتزعة يدي: كنت! لقد كنت زوجتك وانتهى كل شيء! انفصلنا منذ ثلاثة أعوام لماذا لا يتفهم عقلك النتن هذا! اتركني وشأني لقد ضقت ذرعاً، هذه المرة سألجأ إلى ال.
إلى من؟ والدك؟ شقيقك؟ أم الشرطة؟ أم تهديد فارغ كالعادة وأنت تدركين أنكِ لن تفعلي هذا بالفعل؟
ضحك بخفوت ثم توقف تدريجياً ونفي برأسه بلا حيلة: أعرفك اكثر من نفسك صغيرتي. كنتِ هائمة وواقعة في حبي إلى درجة تقديم تقرير مفصل عن نفسك، لدرجة التفوه بأسرار عميقة والتحدث في أشياءك الخاصة، بل وفتح باب لن يُغلق يوماً.
قال كلماته الأخير ببطء ينحني نحوي ممرراً شفتيه على جبيني فزمجرت بإزدراء أدفع صدره بقوة: نعم تعرفني جيداً. في حين أنك تهرب من حقيقتك وواقعك.
جابت عيناه الخضراء التي احتدت على ملامحي بصمت وقد قلّص المسافة بيننا مجدداً فتراجعت وأسندت ظهري على الحائط أحدق إليه بحذر وذعر، ومع أن الخوف كان يتربص بي من كل الجهات ويحاول أن يلجم لساني بشتى الطرق مدركاً العواقب، إلا أنني همست بصوت مرتجف يملؤه الحقد والحنق: وإن أفنيت عمرك تحاول تنظيف حياتك البائسة. ستبقى ابن امرأة عاهرة لا تعلم عن هُويتها شيئاً ووالد سكّير داعر أخطأ في حق البشرية عندما أنجبك. هذه هي الحياة التي أتيت منها. هذه العائلة التي خرجت منها، أردت أن تجعل مني مجرد…
تأوهت والذعر يلمؤني حين أمسك بشعري بعنف وزمجر في وجهي وقد التصق فمه في أذني حتى شعرت بحدة أسنانه: أطبقيه. قبل أن أمزقه.
زاد من قوته في شد شعري وأكمل بحزم وصوت بات أعمق وأكثر جدية مترعاً بالوعيد: لنتحدث في المهم الآن.
ابعد وجهه قليلاً وما ان فعل حتى فاجأته وقد اتسعت عينيه الخضراء للحظة حين بصقت في وجهه بإنفعال وقهر.
ظلت يده اليمنى تمسك بي بإحكام بينما يرفع الأخرى يمسح بها وجهه بعين لا تبشر بأي خير!
تهكمت ملامحه قليلاً ورسم على ثغره ابتسامة هادئة قبل أن ينظر إلى لثواني.
طرف بعينه ببطء ثم تنهد بخفة قبل أن يطيح بي أرضاً نتيجة للصفعة التي تلقيتها على وجهي!
تنفست بصعوبة والدموع قد تجمعت في مقلتاي، تحسست وجنتي بألم وفغرت فمي قليلاً أحاول التعبير عن ألمي ولكن صوتي أبى الخروج وقد شعرت حنجرتي بالضعف الشديد واستحوذ اليأس على سائر جسدي.
ارتجفت يدي اللتي أسند بها جسدي على الأرض، لم تمضي لحظة حتى أجبرني على الوقوف يشد شعري إلى أن سمعت صوتاً من فروة رأسي نتج عن تقطع بعض الخصل! سالت دموعي على وجنتي وهمست بكراهية مزجت بالألم: أكرهك.
أومأ بفهم وأشار لي أن أصمت واضعاً سبابته أمام فمه، حينها همست بإنهاك: ابعد يدك. توقف أيها اللعين ستمزق رأسي!
ولكن يده التي لا ترحم ظلت تشد شعري وقد تمتم بجمود: يوجد الكثير من الأسباب التي تدفعني لتلقينك درساً. ولكنني أكره أن تنتهي هذه الليلة دون أن أجني ثمرة واحدة.
أسرعت أقول بصوت عالي بينما يداي تضرب صدره: توقف عن شد شعري. توقف قليلاً!
أرخى يده وابتسم بإستهزاء: طالما ستكونين مطيعة. حسناً إذاً، أردت حقاً أن يكون لقائنا بعد هذه السنوات عاطفي ومليء بالمشاعر الجياشة ولكن لا شيء سيعود كما كان. ليس بهذه السرعة.
إن كنت تعلم هذا فلماذا تصر على.
هذا بالنسبة لكِ.
ماذا؟
أما بالنسبي لي. فكل شيء كما هو باقي، لم. ولن يتغير.
نفيت برأسي بإنفعال وزمجرت بغضب: أنت مجنون. بعد كل ما فعلته بي ولعائلتي؟ بعد أن كشرت عن أنيابك واتضحت حقيقتك أمام الجميع؟ بعد ان ساءت علاقتي بهانا وبعد كل ما تعرض له ريتشارد وأبي! رغم كل هذا؟ ستتصرف وكأن شيئاً لم يكن!؟
طرف ببطء وبرود فأكملت بأنفاس سريعة: لماذا خرجت من السجن بحق خالق الجحيم! هل هربت؟
ابتسم بتهكم: أهرب؟ يالخيالك الواسع عزيزتي كات.
كيف إذاً! حُكم عليك بالسجن لخمسة عشر عاماً ولكنك خرجت قبل انتهاء المدة بفترة طويلة جداً! ما الذي فعلته بربك!
وهل كنت تنوين الاستعداد للقائي بعد انقضاء فترة حكمي يا ترى؟
ألجمني سؤاله وبقيت أحملق فيه بيأس. بضعف شديد وقد تراجعت عن كلماتي حين ضاقت عينيه وقال: لدي طرقي الخاصة لا تقلقي لم أهرب لست بهذا الغباء طبعاً، والآن لنعد إلى المهم. على المياه أن تعود إلى مجراها بيننا. الزواج الذي جمعنا، علاقتي بوالدك التي ساءت وعليكِ إعادتها لما كانت عليه.
أنت حقاً. مجنون!
بالطبع لن يكون الأمر سهلاً. لذا ستتصرفين بطريقتك الخاصة.
أعقب بخبث: عودي إلى منزل والدك وابدئي بالعيش بصورة طبيعية كما كان الوضع في السابق، حتى تعود علاقتنا وتصبحين كتاليا زوجتي المهذبة والمروضة. سهل صحيح؟
مروضة.!
حدقت إليه وقد أظلم العالم من حولي من شدة تمكن القهر والحقد مني!
زوجته. المهذبة والمروضة.
لا أدري كيف أو متى!
ولكنني أدركت أن الغضب أعمى بصيرتي عندما تجرأت ورفعت يدي التي استقرت على وجنته بقوة وفجأة دون شعور مني.
ولم تكن سوى ثواني معدودة فقط.
حتى بصقت القليل من الدماء حين أعاد الصفعة لي وجثيت على ركبتي بإنهاك أجاهد لأدخل الأنفاس الثقيلة إلى صدري، هذه المرة جثى بجانبي وجز على أسنانه بنفاذ صبر: أيتها السافلة تماديتي كثيراً اعقلي وافهمي مدى صغر حجمك أيتها الشرذمة. سأمهلك الفرصة، ستعودين من حيث أتيتِ، ستزورين والدك رغماً عن أنفك لتفتحي معه موضوعنا، تحدثي معه بشأننا ومهدي المقدمة سأعتمد عليكِ هل تفهمين هذا؟
م. مثير للضحك. أرغب في الضحك حتى أفقد صوتي وتتقطع أمعائي.
قلتها أبتسم بسخرية وتهكم وأحدق إلى الأرض التي أستند عليها والدموع الساخنة تسيل على وجنتي.
تذكري. مهما حاولتِ أن تمضي قدماً فلا زلت تلك الفتاة المدللة التي لهثت خلفي في كل مكان ولم تبالي يوماً بمشاعر الآخرين. أذكرك مجدداً، أنتِ كتاليا التي لا تبالي سوى بمصلحتها الشخصية، التي ستفعل أي شيء وترتكب أي جنون لتحصل على مبتغاها.
خرج صوتي متقطعاً بوهن أرمقه بأعين ناصلة: لم أندم يوماً على أي شيء. أكثر من اللحظة التي التقيتك فيها. على الوهلة الأولى التي وقعت عيناي عليك فيها. لم أكن يوماً أعني لك أي شيء سوى بنك مركزي متنقل وكيس ملاكمة لتفريغ طاقتك واختلالك العقلي. لم يعد هناك أي داع للتبجح باتريك. فالحب الذي لن تتوقف عن تذكيري به. لن تستوعب إلى أي مدى تحول إلى كراهية تنبع من ظلام دامس.
ابتسم مستمتعاً فزادني ذلك قهراً وحرقة لأكمل: الجميع يعلم بحقيقتك بالفعل فلماذا تصر على بدء لعبة فاشلة من جديد. أبي يدرك نواياك. ريتشارد على علم بما ترغب فيه، حيلك لن تنطلي على أي أحد، الجميع بات يفهم إلى أي مدى خرجت من رحم والدتك ترضع المال باتريك. المغفلة التي أحبتك يوماً لم تعد الفتاة نفسها لذا أفق، لقد مررت بالكثير بسببك ولكن الشكر لك فلقد نضجت. لن أسامحك على أفعالك يوماً وكذلك عائلتي، اخرج من حياتي. حافظ على ما تبقى من كرامتك ولا ترغم أحدنا على رؤية وجهك مجدداً!
تأوهت عندما رفع ذقني بيده بخشونة وابتسم بعصبية: قلت ما لدي بالفعل ولن أكرره من جديد. وأيضاً. ارفعي الحظر عن رقم هاتفي وإياكِ وتجاهل إتصالاتي حتى لو كانت بعد منتصف الليل أو أثناء نومك، إن أردتِ رد المعروف للعائلة اللطيفة التي تحتويك في منزلها الآن فاحرصي على عدم استفزازي بطريقة أو بأخرى.
نظر كلينا إلى اليسار حين فُتح باب خلفي للمتجر الصغير بجانبنا ليخرج منه كهل يحمل حاوية قمامة ويدفعها للخارج، انتبه لنا وحدق إلينا باستغراب فأسرعت أبعد وجهي عنه لئلا يلمح الدماء التي تسيل من شفتي بسبب صفعات هذا اللعين عديم الرحمة. أو حتى الدموع التي تشق طريقها ولا تتوقف مهما حاولت واجتهدت!
ابتسم هذا الحقير للرجل بلطف ووضع يده على رأسي يداعب شعري بلطف وغمز له ممازحاً: رغبنا في خوض حوار خاص بعيد عن الأعين.
مرت لحظات حتى ضحك الرجل وسايره محفزاً: أرجو المعذرة.
عاد ليدخل فمحى ابتسامته اللطيفة المثيرة للإشمئزاز ونظر إلى بهدوء، رفع إبهامه ومسح الدماء عن شفتي ثم عاود يرسم ابتسامة جافة: ستدفعين الثمن ولو بشق أنفسي. والآن دعينا نتحاور بطريقتنا القديمة، عناق دافئ. قبلة لطيفة. أي شيء سيفي بالغرض.
قرّب وجهه مني يدنو نحو ثغري، أبعدت وجهي فوراً فأرغمني على النظر إليه ويده تكاد تكسر فكي.
أغمضت عيناي بألم وصرخت في وجهه محاولة ابعاده: توقف!
زاد من قوته على فكي فصرخت مجدداً محاولة التملص منه حتى رفعت يدي أضرب الجرح على جبينه بقوة!
ولكنني تفاجأت بيده التي أمسكت بكلتا يداي بعنف ودفعني للحائط خلفي، ضرب يدي بالحائط بقوة يثبتها وقرّب وجهه مني وكلتا عينيه تتفرسان النظر إلى ثغري.
تلاحقت أنفاسي ورفعت قدمي أنوى دفعه عني أو حتى ضربه بركبتي ولكنه واللعنة لا يتزحزح ولو لإنش واحد!
هربت الدماء من عروق جسدي وتجمعت الدموع في كلتا عيناي التي أغمضتها بقوة أرفض تقبل الواقع. أرفض تقبل حقيقة أنه تمكن مني بالفعل وأنهى الأمر كما يريده! بقبلة عنيفة وكلتا يديه يحكم قبضتهما على يدي بقوة، حاولت مقاومته ودفعته بكل قوتي الواهنة على صدره ليبتعد ولكنه كالشيطان الذي لا يتردد في غرس مخالبه في ضحيته دون رحمة، حاولت التحرر. الإبتعاد والنجاة من طعم الدماء الذي بت أشعر به في فمي، نظرت إليه بتعب وإرهاق، فوجدت خضرتيه تحدقان إلى بحدة وخبث وأبى أن يبتعد! شعرت أن أنفاسي ستنقطع لا محالة، دموعي لا تتوقف ولا شك في أنها تشبع رغبته الملحة في تحقيق النصر مرمماً كرامته!
تأوه بخفة حين غرست أظافري في قبضتيه فابعد ثغره عني أخيراً وابتسم بشيطانية وتلك الإبتسامة لا تفارقه، مرر إبهامه على شفتي فرأيت الدماء على سبابته، زاد نسق تنفسي لا إرادياً عندما قرب وجهه مجدداً وهمس في أذني: المرة القادمة على فراش عشنا الزوجي الجميل.
خَرج صوتي بوهن شديد وقد قدحتا عيناي حقداً وتوعداً: يوماً ما. قريباً. لن ينتابك شعور سوى الندم.
أصدر زفرة ساخرة وصفر بإعجاب، وقفت بصعوبة أستند على الحائط وجسدي يؤلمني بشدة!، رتبت شعري بيد مرتجفة ضعيفة حتى تمتم بملل وهو يقف أيضاً: تلك المرة حين بحثت عنكِ في مقر عملك، ظننت بأنني أخطأت الحسابات ولكنني لن أفعل أبداً. العاشقان في غرفة الإستراحة تحديداً في قسم التصوير، كانت تلك المرأة أنتِ بالفعل.
تسمر جسدي لوهلة.
وقفت في مكاني دون حركة.!
ومع ذلك.
رمقته بطرف عيني بإرهاق محاولة الحفاظ على هدوئي فابتسم هازئاً بمرح: هل أنتِ جادة! لجأت إلى وضعية حميمية هرباً مني فقط! آه بربك لما لا تفكرين بشعوري ولو قليلاً.!
أضاف بمكر وعين ضيقة: هل هو الرجل نفسه من محل الحلاقة؟
فغرت فمي بتعجب وقلق أحدق إليه بضياع وتشتت، فأومأ يتنهد بلا حيلة: آه نعم ما تفكرين به صحيح، رأيته مباشرة بالفعل.
أشرت إليه بسبابتي وقد اتخذت وضعية التهديد دون شعور: إياك وأن تقترب منه باتريك أو تفكر بهذا حتى. لن أسمح لك بالتدخل في عملي أكثر.
عملك؟
أكمل متكتفاً وتظاهر بالتفكير بحيرة: تقصدين أنه يساعدك في العمل الذي وضعته ضمن أولوياتك لتثبتي لأباك أنكِ قادرة على الوقوف على قدميك بنفسك ليفخر بكِ مستقبلاً؟ وكيف هذا يا ترى!
جزيت على أسناني ففرقع بأصابعه وأومأ بفهم: صحيح. العارض الذي رأيت صورته في المجلة التي انتظرت صدورها بشغف لأرى أعمال زوجتي الجميلة والموهوبة! قررتِ العيش برفقته تحت سقف واحد إذاً.
ابقى بعيداً وحسب. لا تفكر حتى في الاحتكاك به!
تنوين استغلاله هاه؟ لم تتغيري. خارج المنزل يكون العارض وبعد العودة يكون مجرد شخص تم استغلاله للعمل فقط، إضافة إلى الحماية المؤقتة التي تعتقدين أنكِ ستحصلين عليها ببقائك فيها في منزله.
أكمل ينظر إلى من رأسي إلى أخمص قدماي بإعجاب: هذه هي فتاتي حقاً. كتاليا القديمة!
من تتحدث عنها لم يعد لها أي وجود. أرجو أن حديثنا قد انتهي.
تحركت مبتعدة بخطى بطيئة صغيرة فلوح مودعاً بلطف أثار اشمئزازي: إلى اللقاء. انتبهي على نفسك جيداً كات. كوني حذرة!
تأكدت من هندمة ملابسي ومسح أي أثر للدماء من فمي وأنا أتحرك وقد عرجت قليلاً بسبب احتكاك ركبتي في الأرضية الخشنة، القيت نظرة عليها فوجدت خدوشاً حمراء والقليل من الغبار.
أخذت شهيقاً عميقاً وأكملت طريقي حيث أوقعت المشتريات إلا أنني لم أجدها!
عقدت حاجباي بإستغراب متجاهلة الألم في جسدي قدر الإمكان، ومع ذلك لم ألمح الأكياس هنا أو هناك! التفت من حولي وبقيت في مكاني حائرة.
لا يمكن أنها سُرقت!
لا أستطيع.
لا أستطيع البحث أو العودة إلى المركز وشرائها من جديد.
أفلت تنهيدة مرتجفة من بين شفتاي، ورغم رطوبة الجو المرتفعة إلا أنني بطريقة ما. أشعر ببرودة في أطرافي.
ببرودة تجعلني أرغب في البكاء، تضعفني وتنهكني وتجلب كل ما هو سيء من ذكريات! وكأنني أنتظر أدنى سبب لأنفجر باكية. تحركت بخطى ثملة غير واعية وعيناي بالكاد تطرفان، لا رغبة لي في العودة إلى المنزل. ولا في المشي أو الجلوس. لا أدري ما الذي أريده.
ربما.
أرغب وبشدة.
في الإتصال بريتشارد والشكوى له كما اعتدت. أو البكاء في أحضان أبي. أو محادثة هانا بعد منتصف الليل متسللة إلى غرفتها دون أن يشعر بنا أحد لنتحدث حتى بزوغ الفجر.
عندما تشوشت الرؤية عن الشارع وقفت فوراً أغمض عيناي بقوة أتخلص من الدموع الغزيرة كالسيل الجاري، أنفاسي متقطعة جراء كبحي البكاء، ارتخت ملامحي وسيطرت على ارتجاف كتفاي.
ماذا لو.
حاول إيذاء دانيال أو عائلته!
وجودي معهم.
ليس سوى عبء ثقيل! قد يلجأ إلى حيلة ما ليرغمني على الخروج من منزلهم! السيد هاريسون يبقيني في منزله دون مقابل مادي، لا يجب أن أجلب له المشاكل!
ولكن. لا يمكنني العودة إلى شقتي! أدخلت يدي في حقيبتي أحدق إلى هاتفي وتحديداً إلى رقم ريتشارد.
تماسكت أمنع نفسي من الانهيار على الأرض أستمر في النظر إلى هاتفي.
أرغب في الاتصال به والبكاء. أرغب في عدم التوقف عن الشكوى بشأن كل ما يزعجني!
لا. لا أريد لعائلتي البدء من جديد في خوض المتاعب بسببي! اخترت باتريك وأقحمته في حياتي. ولا ذنب لهم!
ولكنني. أفتقد وجود شخص ما إلى جانبي! ما الذي على فعله تحديداً؟
لاحقت عيناي المارة. سيطر على التشتت والضياع، انتابتني رغبة ملحة في التحرك نحو مركز الشرطة، حينها سيعلم أبي بالأمر فوراً. ثم سيعلم ريتشارد كذلك. وتبدأ معاناتهم من جديد بسبب حماقتي وسوء اختياراتي.
جلست على أحد المقاعد للحظات قبل أن أرغم نفسي على التحرك مجدداً أحتضن حقيبتي وأسير بلا وُجهة محددة.
وقفت في مكاني بجمود أمسح بيدي الدماء التي سالت مجدداً من شفتاي، التفتُ بجسدي نحو مصدر للضجة لفت انتباه بعض المارة أيضاً.
صوت قادم من الشارع المقابل مباشرة خلف شاشة الإعلانات، ما الذي يحدث هناك! شجار؟
تنفست بعمق أحاول التشبث بأي شيء في هذا العالم مبتعدة عن واقع ما حدث قبل قليل والآلام الجسدية التي أشعر بها.
أكملت طريقي بهدوء ولكنني وقفت مجدداً حين زاد علو الصوت وتحرك المتسبب في ذلك مبتعداً عن اللوحة الإعلانية.
طرفت ببطء أنصت إلى صراخ من يركل المقعد المجاور للوحة فابتعدن الفتيات عن المقعد وتحركن فوراً بإرتياب.
كانت لحظات قليلة فقط حتى خمنت أنه شجار مجموعة من الفتية المراهقين.
فتى بلون شعر فاقع يتشاجر مع آخر ويهدئهما ثالث كان ممتلئ بعض الشيء.
تجاهلت كل شيء وأكملت طريقي، بل وأنني لم ابالي لتحركني قدماي أمشي بمحاذاتهما في حين ابتعد الناس عنهم.
وما أن مررت بجانبهم حتى تفاجأت بالفتى ذو الشعر الفاقع يتم دفعه بقوة ليتعثر وقد دفعني دون قصد بقوة، كان من السهل لي التوازن مجدداً رغم شعوري بالألم الشديد في كتفي حين أمسكت بعمود الإنارة بسرعة، ولكنه فقد توازنه وكاد يسقط من فوق الرصيف على ظهره. امتدت يدي أمسك بذراعه بيمناي بقوة لأسحبه فتوازن فوراً واستقام واقفاً بعدم استيعاب قبل أن يصرخ عليهما: كاد يتم قتلي أيها الحمقى!
تركت يده أحدق إليه بجمود فالتقت عيناه البنية بعيناي ليطرف ببطء يحملق بي بنظرات مطولة. لا أدري إن كان يستحق المساعدة أولا، كما لا أهتم. تحركت يدي من تلقاء نفسها ولم أخطط لذلك.
ما ان انزلقت عيناه نحو ثغري حتى أسرعت أرفع يدي أخفي بها شفتي، تحركت بخطى ميتة ونظرتُ للناس من حولي بلا شعور محدد. وقفتُ عند مقعد انتظار الحافلات وتساءلت إلى أين ينبغي لي التوجه الآن!
لم أتوقف عندما سمعت رنين هاتفي وانما اكملت طريقي أدس يدي في حقيبتي لأخرجه.
وحينها أبطأت من خطواتي أحدق إلى الشاشة تارة وإلى الشارع تارة أخرى.
دانيال. لا بد وأنه استنكر عودة لاري إلى المنزل وحده.
بقيت واقفة أحدق إلى هاتفي دون أن أكلف نفسي عناء الرد عليه، وعندما توقف عن الرنين عاود يتصل مجدداً للمرة الثانية.
ثم الثالثة والرابعة.
دون توقف!
ربما بسبب الحاجيات التي كان على شراؤها! هل تم سرقتها فعلاً عندما أوقعتها؟ لابد وان لاري عاد إلى المنزل خالي اليدين.
استمرت اتصالاته واستمر تجاهلي بينما أكمل طريقي أتساءل إن كان على الاستسلام والعودة إلى شقتي وحسب!
ولكن باتريك واللعنة لن يتهاون في اظهار وجهه في أي وقت.
عندما توقف هاتفي عن الرنين أسرعت أنظر إلى قائمة الأسماء غارقة في أفكاري، وعندما رأيت جاك وروز يتشاجران في المحادثة الجماعية تساءلت ما ان كان على الاتصال بأحد الرفاق.
هل.
اتصل بروز؟ أم جانيت؟
لا أريد العودة إلى منزل السيد هاريسون. لن أقبل بعودتي في حين أبدو ضعيفة! لن أظهر أمامهم كإمرأة عاجزة عن الدفاع عن نفسها بعد ان اقتنع الجميع من حولي بأنني. قادرة على الاعتماد على نفسي. قوية. لست هشة لينة!
لا أدري مما على التألم تحديداً، تلك الكدمة منذ الأمس على جبيني وضربة دانيال خلف رأسي، أو تعنيف باتريك الوغد الذي زاد من ألم كتفي خاصةً. تنهدت بعمق وأخفضت ناظري إلى هاتفي عندما عاود دانيال يتصل وقد تحركت واتكأت على زجاج أحد المتاجرانتظر ان يتوقف عن الرنين. وما ان فعل حتى اسرعت اتصل بالرقم الذي قررت اختياره.
دانيال:.
اتكأت بمرفقي على نافذة غرفة الجلوس أنظر إلى الأسفل وأركز عيناي على المارة لعلي المحها قد عادت!
لماذا تتجاهل اتصالاتي بحق الإله! نال الغضب مني وانا أعاود الاتصال بها ولكن النتيجة نفسها.
التفت للوراء أنظر إلى لاري الذي يجلس أمام التلفاز يشاهد برنامجه المفضل بسعادة، تقدمت نحوه ووقفت أمام الشاشة احيلها عنه وتساءلت بجمود: لاري إن اكتشفت أنك كذبت بشأن ما حدث فحتماً سأعاقبك!
عبس وصاح بي بإستياء وهو يشير نحو أبي الجالس على الأريكة خلفه: لماذا لا تصدقني! أبي انظر إلى دان. أخبرتك انني تقدمتها لأعود إلى المنزل ولكنني عندما استشعرت غيابها عدت أدراجي ووجدت الأكياس ملقاة على الأرض! اليس من الواضح أنها لا تريد تقديم المساعدة او تحمل المسؤولية! لقد هربت بلا شك صدقني!
هذه النقطة تحديداً تثير قلقي. لماذا كانت الأكياس ملقاة بالكامل على الأرض! ما الذي دفعها لتركها جميعها دفعة واحدة بتلك الطريقة؟
عقدت حاجباي بينما اكمل متذمراً: لا بد وأنها أرادت مني أخذ الأكياس إلى المنزل، كانت مصرة أنه على مساعدتها أنا أعلم جيداً أنها تعمدت تركها في الشارع.
نظرت إلى أبي الذي بادلني النظرات بهدوء قبل أن يقول بجدية: استمر في الاتصال بها.
أجبته بإنزعاج امرر يدي في شعري بنفاذ صبر: لا تجيب مهما حاولت.
اقتربت منه مبتعداً عن التلفاز وقلت بكلمات سريعة: لم يكن علينا ترك هاذان الإثنان وحدهما، لاري لن يتفاني في محاولة ازعاجها وهي لن تمانع تفريغ غضبها به أيضاً فكلاهما بالكاد يتحملان رؤية بعضهما.
أومأ وظهرت تقطيبة بين حاجبيه قبل أن يقف ويقول بحدة: انتظر قليلاً فقط، وإن لم تستجب لمكالماتك فأخرج للبحث في المكان الذي ذكره لاري حيث وجد الأكياس.
خرج من غرفة المعيشة فوجهت ناظري إلى لاري الذي يبتسم بسعادة وهو منهمك بمشاهدة البرنامج، دخل كيفين يحدق إلى مجموعة الأوراق بين يديه ونظر إلى بنظرة سريعة قبل ان يتساءل: أجابت على اتصالك؟
نفيت برأسي بصمت فرفع كتفيه وجلس على الأريكة ببرود.
عدت نحو النافذة أنظر إلى المارة بتركيز. وحينها أدركت أنني.
أقف على خيوط أعصابي المشدودة بشدة! انتبهت إلى اناملي التي تحكم الإمساك بالهاتف بقوة. واستشعرت فكي الذي تصلب بإضطراب.
كما قلت مسبقا هذه الفتاة حقاً مثيرة للمتاعب. كم هذا مزعج!
قبل أن أخرج من غرفة المعيشة وبعد مرور ساعة من الانتظار وقفت عند الباب وقلت للاري بحدة: تبدو لي مسروراً جداً باختفاء تلك الفتاة، من الأفضل أنك لم ترتكب أي حماقة لاري. وإلا ستندم ندماً شديداً.
طرف بعينيه البنية بعدم استيعاب قبل ان تدمعا ليقول بوجه شاحب: لقد أخبرتك بما حدث بالفعل لماذا لا تصدقني! هي على الأغلب تتعمد الغياب لتبحث عنها وتسرقك بسهولة! لقد أرغمتني على حمل الأكياس كلها لذا انها حيلة منها.
أعقب وقد علا صوته وتورد وجهه لينفجر باكياً: إنها مجرد عبء في المنزل ولا يجب أن تبقى! أتمنى ألا تعود إلى منزلنا.
حدقت إليه بجمود في حين أشار لي كيفين أن أخرج بسرعة فتجاهلته وخرجت.
رأسي يضع الكثير من الإحتمالات دون توقف، وما عساني أفكر حين يخبرني أن المشتريات كانت ملقاة على الأرض ولا أثر لها فجأة؟ هذا لا يطمئن.
سيكون من السيء وقوع أي شيء لها، لا أحد يرغب في تحمل مسؤوليتها على كل حال سيكون هذا مزعجاً جداً.
تلفّت من حولي وعيناي لم تترك إنشاً إلا وتمعنت النظر إليه.
إنها الحادية عشر والنصف تأخر الوقت على غيابها! لا أثر لها ولا زالت لا تجيب على مكالماتي!
اللعنة لماذا ينتابني غضب وإنفعال فجأة. إن كانت تلهو في الأرجاء أو تتسكع.
إن كانت تمضي وقتها في اللهو أو حتى مع ذلك المدعو بينديكت دون أدنى مراعاة لمن يعتقدون ان مكروهاً قد أصابها.
فأنا حقاً.
تباً. كورت قبضتي بسخط لمجرد التفكير بالأمر.
ثم لا يبدو أنها قررت المغادرة فجأة! ليس وبترك حاجياتها في منزلنا ببساطة ودون قول كلمة واحدة!
وقفت أمام المكان الذي أخبرنا لاري بشأنه حيث وجد الأكياس على الأرض.
لا شيء ملفت، نظرت إلى يميني حيث زقاق مظلم، وإلى الأمام حيث يوجد هناك المحلات التجارية المختلفة.
لويت شفتي مقتضباً بشدة وزفرت بينما أتجه إلى مقعد قريب لأجلس عليه.
سأجرب إرسال رسالة مختصرة لها.
أين أنتِ تحديداً؟ هل أنتِ بخير؟
كان هذا ما كتبته ولكنني سرعان ما ابتسمت بسخرية! لماذا هذه الصيغة الغريبة في تساؤلي بحق الإله! أسرعت أحذف ما كتبته قبل الإرسال وكتبت بإيجاز كيف تجرؤين على تجاهل اتصالاتي!
اكتفيت بها وأرسلتها مترقباً ردها وقد وقفت أبحث في الأرجاء.
كتاليا:
وضعت رأسي ببطء وإنهاك على الوسادة، ليستشعر رأسي دفء الفراش الذي جعلني أغمض عيناي بتعب وقد رفعت الغطاء إلى منتصف جسدي.
شعري لا يزال مبتلاً بعد إستحمامي بالماء الفاتر المنعش، ورغم هذا فكل ما يسيطر على هو النعاس والرغبة في الإسترخاء وحسب. لا زلت أشعر بألم في ركبتي وظهري. ولاسيما كتفي. كما أن وجهي في حالة مريعة بعد مرور الوقت، تلك الصفعات تركت أثراً واضحاً جداً. ولا زال يتضح أكثر، كذلك الجرح على طرف شفتي يؤلمني لمجرد أن أفكر بترطيب شفتي بلساني.
فتحت عيناي الناصلة أنظر إلى من تقدمت نحوي مبتسمة بلطف وجلست على الأرض مقابل رأسي وأسندت مرفقيها على السرير متسائلة: تشعرين بأنك أفضل حالاً؟
أومأت لها بهدوء ونعاس: أنا بخير.
أردفت متسائلة بإهتمام: هل أنتِ واثقة أن ديفيد لن يأتي في أي لحظة؟ إن كان قادم في الطريق فسأعود إلى شقتي لا يجب أن.
أسرعت تنفي فوراً: لن يكون هنا اليوم لا تقلقي، وبصراحة لم أتواصل معه منذ الأمس. لذا لا بأس تأخر الوقت لذا ابقي هنا اليوم وغداً وبعد غد أو المدة التي ترغبين فيها بالبقاء هنا. لا تتصرفي برسمية أيتها الحمقاء!
ابتسمت لها بهدوء فارتخت ملامحها تحدق إلى بصمت فأغمضت عيناي هامسة: ملابسك تفوح منها رائحة عطر رجالي قوي. هل أنتِ حمقاء لتضعي على ملابس النوم عطر ديفيد؟ هل تستنشقين رائحته كل يوم قبل الخلود إلى النوم!
أعادت خصلات شعرها القصير خلف أذنها بثقة: بالطبع لا.
غمزت لها بخفة وشاكستها بصوت مبحوح نوعاً ما: آه أرى أن رائحته علقت في ملابسك إذاً ولا تفسير آخر.
توردت وجنتيها وأسرعت تشيح بوجهها متذمرة: كفاكِ سخفاً ودعينا لا نتحدث عن هذا المزعج.
أضافت بجدية فجأة تمرر أناملها بلطف على يدي: كتاليا هذا يكفي. حتى لو رفضت إعلامي بما حدث لكِ ولكن من الواضح أنك التقيت بهِ مجدداً! ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، طالما أنكِ بعيدة عن كنف عائلتك فلن يتركك وشأنك.! انظري إلى وجهك أنت في حالة يرثى لها!
قلّبت عيناي بنفاذ صبر فأسرعت تردف برجاء وجدية: بربكِ ألم تكتفي؟ أنظري إلى نفسك! ماذا عن الآثار الحمراء والزرقاء على ظهرك؟ هل تعلمين أن.
روز.
كتاليا!
صرخت بإسمي بصوت مرتجف ثم أكملت بإنفعال: كفاكِ تهوراً! أؤكد لكِ أنه لن يجرؤ على الإقتراب منكِ إن عدتِ إلى منزلك. توقفي عن التسبب بالأذى لنفسك.
نظرت إليها بجدية: إنه شأني الخاص. روز أنا حقاً منهكة ولا طاقة لي في الحديث الآن!
عقدت حاجبيها بعدم رضى فساد الصمت بيننا حتى قلت أغير الموضوع تماماً لأتجاوزه: لماذا لم تتواصلي مع ديفيد؟ أنتما لا تتحدثان معاً في المحادثة الجماعية أيضاً. تشاجرتما مجدداً؟
نفيت برأسها ولم تعلق فقلتُ بهدوء: ديفيد يبدو مستاء جداً. هل كل شيء بخير؟
هل هكذا تحاولين تغيير الموضوع؟
إن واصلتِ التصرف بهذه الطريقة فستندمين حتماً، ديفيد رجل جيد ويقدرك كثيراً، الجميع يعلم كم يحبك ويحاول جاهداً لأجلك روز!
قابلته؟
سألتني ببرود فراوغتها: ما خطبك تحديداً؟ كنتما تنفصلان وتتشاجرين ثم تعودان إلى بعضكما وكأن شيئاً لم يكن، اعتدنا خلافاتكما المميزة التي كانت تمنحكما طابعاً لطيفاً وتظهرعلاقتكما بطريقة فريدة أمام الجميع. فما الذي يحدث الآن؟ لماذا نشعر بوجود مسافة هائلة بينكما!
قلّبت عينيها بضجر: آه يا الهي. إنها عادتك في قلب الطاولة، فليكن سأغلق الإنارة على الإستيقاظ مبكراً للعمل، بالطبع لن تذهبي للعمل بحالتك هذه. لا تقلقي سأخبر الرئيس بأنه لديك بعض الظروف التي تمنعك من العمل، كما أنها جلسة تصوير بسيطة لا داعي للقلق بشأنها يستطيع فرانك تغيير جدوله و الإهتمام بالأمر.
انزعجت كثيراً من تجاوزها أمر ديفيد ولكنني التزمت الصمت وأومأت بهدوء. أغلقت الإنارة واستلقت على الجهة الأخرى من السرير بجانبي، الغرفة مظلمة عدى من ضوء خافت قادم من النافذة، نظرت إليها أحاول التركيز في هذا الظلام فبدت وكأنها استشعرت ما يعتريني فهمست: تصبحين على خير كات، توقفي عن التفكير في أي شيء.
ارخيت جسدي واتخذت وضعية أكثر راحة لأنظر إلى السقف الداكن دون وجهة محددة، حتى همست متداركة بصوت خافت: أحلاماً سعيدة.
مرت لحظات طويلة حتى انتظمت أنفاس روز وبدأت في التقلب يميناً وشمالاً، حينها فقط تذكرت أمر هاتفي ورفعت يدي قليلاً لأخذه من على المنضدة فشعرت بألم مميت في يدي وكأنه امتد من كتفي إلى سائر ذراعي مما جعلني أتسمر للحظة.
حاولت جاهدة حتى أخذته وارحت ذراعي فوراً لأستخدم يدي الأخرى، فتحت الهاتف الذي أغلقته مؤقتاً بعد ان غيرت وضعه إلى الصامت مسبقاً.
اتسعت عيناي أرى الكم الهائل من الإتصالات الفائتة!
وممن؟
من دانيال!
الكثير من المكالمات وأوقاتها متفاوتة، آه تباً قد تكون حركة سيئة بالفعل كما لا بد وأن السيد هاريسون على الأقل يفكر في اختفائي المفاجئ.
ربما كان على إعلامه بإتصال أو رسالة موجزة لدانيال.
رأيت رسالة منه كان مفادها أنني اتجاهل اتصالاته عمداً، ليس في اليد حيلة سأرسل رسالة قصيرة.
لن أعود إلى المنزل الليلة.
اكتفيت بهذه الجملة دون أي تعليل أو توضيح وأرسلتها، تفقدت المدونة التي أتابعها ولكنني لم أجد تحديثاً فانتابني الضجر والإنزعاج.
طرفت بعيني بدهشة حين تسللت يد روز إلى خصري لتعانقني وتمتمت بكلمات غير متزنة: أنا حقاً أحبك. أنا فقط لا أشعر بأنني أستحقك.
تنهدت محاولة ابعاد يدها لتهمس مجدداً بصوت خافت بالكاد يُسمع: ديفيد. آسفة.
سايرتها بلا حيلة: نعم فقط ابعدي يدك أنا لست معشوقك! تباً إن كنتِ تشعرين بتأنيب الضمير فارحمي قلبه وارأفي لحاله!
ابعدتها ووضعت وسادة بيننا حتى اهتز هاتفي بين يدي لوصول رسالة، إنه دانيال!
القيت نظرة عليها لأرى محتواها. لماذا كان هاتفك مغلقاً!
مضت ثواني حتى أرسل واحدة أخرى هل هذه أنتِ حقاً!
ربما يشك بالأمر لأنني أرسل الرسائل بدلاً من الرد عليه. تحركت أناملي لأنهي الأمر بجملة مختصرة ولكنني استغربت اتصاله!
هل على أن أجيب!؟ صوتي لا يزال مبحوحاً وبالكاد يخرج من حنجرتي، كما أن روز نائمة، صحيح بأن نومها ليس خفيفاً ولكن.
آه تباً.
في النهاية أجبت على الهاتف ووضعته على أذني دون أن أتفوه بكلمة.
أتى صوته مستنكراً: آنسة مزيفة!؟
ماذا تريد. أخبرتك أنني لن أعود أخبر والدك بهذا.
هل تعلمين كم مرة اتصلت فيها بحق خالق الكون!
قالها بصوت عالي غاضب ومترع بالحنق فأجبت: نعم.
وهل تعلمين أنني خرجت مضطراً للبحث عنكِ في الأرجاء!
الأمر لا يستدعي كل هذا. لما المبالغة!
مبالغة؟ اختفيتِ فجأة تاركة خلفك الأكياس ولم تكلفي نفسك عناء الاجابة على اتصالاتي! بل وأغلقت هاتفك لاحقا! لا أصدق انعدام مسؤوليتك ولا مبالاتك، على الأقل أعلمي لاري بمغادرتك لئلا نضع احتمالات سخيفة!
لما أنت غاضب.؟
تلعثم كثيراً حتى زمجر وصاح بي بنبرة حادة: اللعنة لستُ كذلك. من قال بأنني غاضب!
ثم أغلق الهاتف في وجهي فأغمضت عيناي بتبرم وأعدته على المنضدة.
علي كل حال سأبقى هنا حتى تختفي هذه الآثار من على وجهي وجسدي، أكره ان يوجه لي أيا يكن نظرة شفقة أو إهتمام مؤقت!، لذا سأبيت في شقتها ثم أعود وأجد حلاً جذرياً لمحاولة تدخل باتريك في تفاصيل حياتي من جديد. أريد أن أغلق كل باب قد يدخل منه مرة أخرى، أن أوقفه عند حده دون اللجوء إلى أي شخص من عائلتي أو من المقربين إلى فيكفي ما يمر فيه كل منهم. أشعلت ناراً لا يجب ان تلتهم من حولي.
مررت يدي على أسفل معدتي وقد ضاقت عيناي الدامعة رغماً عني. هنا حيث نمى كائن صغير بريء لم يخرج للحياة ولم يعلم شيئاً عن هذا العالم.
لا أدري إن كان محظوظاً أو العكس.
علي الأقل لم يخرج ويكتشف ان امرأة مثلي تكون والدته، أو شخص مثل باتريك يكون أباه!
علي الأقل ليس هنا ليرى الواقع المر الذي اختلقته من حولي بسبب طيشي وتهوري. بسبب حماقتي. مراهقتي البائسة ومشاعري السخيفة.
رفعت عيناي إلى السقف فسالت الدموع في مسارها نحو الوسادة، نظرت إلى تلك الفتاة بشعرها الأسود متوسط الطول وقد موّجته بطريقة ملفتة، وعينيها الرمادية التي تحدق من حولها بشغف وتمعن رغم لمعة الغرور والثقة فيها!، تنظر إلى اليمين تارة وإلى اليسار تارة أخرى. تقف أمام بوابة المدرسة ممسكة بالحقيبة المدرسية وتعض على طرف شفتها في كل حين بتوتر حقيقي.
أين هو؟
ألا يفترض أنه سيعود من هذا الطريق بعد الثانية والنصف مباشرة؟
حتى أنها خرجت مسرعة من الفصل قبل نهاية الحصة الدراسية بعشر دقائق كاملة غير آبهة بأي شخص، ضربت قدمها بخفة بالأرض وبدأت تضجر لتستند بضهرها على السور خلفها، الطلاب يخرجون بالفعل بعد انتهاء الدوام المدرسي وهي لا تزال تقف بترقب ولهفة.
كانت تتجاهل النظرات التي تخفي مشاعر عميقة من الكثير من الزملاء، تدرك حقيقة أن الكثير منهم يدفن حقده تجاهها بعيداً، وتدرك أن القليل فقط من يشفق عليها مدركاً مئة في المئة أنها ستقع يوماً ما في شر أعمالها ويُكسر غرورها بوحشية. فمهما كانت الطالبة المميزة والملفتة للأنظار واللاجئة إلى ثروتها لتحقيق مرادها وتنفيذ طلباتها والتسلط على الطلاب والطالبات فها هي تقف الآن تنتظر من بات يأسر تفكيرها طوال الليل وحتى عند الإستيقاظ صباحاً.
في النهاية هي أيضاً تعثرت بحفرة ووقعت فيها غير مدركة أو مستوعبة أنها يوماً ما ستحاول الخروج منها بشتى الطرق، زفرت بيأس ولكن سرعان ما اعتلت ملامحها ابتسامة ساخرة وهي تنظر إلى مجموعة الفتيات اللواتي خرجن معاً ويتناقشن حول إهتماماتهن. اقتربت تنظر إليهن شزراً وقاطعت حديثهن بقولها البارد المتهكم: هذا سيء. بدأت قدمي تؤلمني كثيراً لست معتادة على الوقوف هنا.
أعقبت تنظر إليهن بابتسامة واثقة تزين ثغرها: أتساءل إن كان هناك من ستتطوع لتجلب لي كرسياً أرتاح عليه.؟
تقابلت أعينهن ببعضهن بكره، بحقد وقلة حيلة قبل أن تقول إحداهن طوعاً ومكرهة: سأذهب أنا.
أضافت لصديقاتها مبتسمة: اسبقنني إلى المقهى سأتي بعدكن فوراً.
بدى الغيض واضحاً على صديقاتها لتتحرك إحداهن بخطى واسعة تنم عن نفاذ صبرها وابتعدت، فتبعنها الباقيات بينما زفرت تلك المتسلطة بملل وتكتفت تنظر إلى الساعة البيضاء حول معصمها.
أخفضت ناظريها إلى الأرض بإنزعاج وتوترت أعصابها ولكن سرعان ما انفرجت أساريرها وهي تلمحه يمشي برفقة أصدقائه من الجامعة ويضحك بمرح مبعثراً شعره الأشقر وعينيه الخضراء المزينة بأهدابه الكثيفة لم تلمحها بعد، مرت المجموعة أمامها وهي تبتسم وعينيها لا تعكس سوى الإعجاب واللهفة تتمعن النظر إليه وحده! فكما توقعت سيخرجون في هذا الوقت من الجامعة القريبة من مدرستها وسيسلكون هذا الطريق تحديداً.
حين تجاوز المكان الذي تقف فيه وجدت نفسها تنادي بتودد وتلعثم: باتريك!
وقف باستغراب ينظر من حوله حتى استقر ناظريه نحو مصدر الصوت، ثواني قليلة حتى ابتسم باستغراب ليتذكر: الفتاة من تلك الحادثة؟
أومأت فوراً وبحماس وقد انتابها السرور لمجرد تذكر وجهها، ومع أنها كانت تتعمد الخروج من المدرسة مبكراً لتنظر إليه فقط بينما ينتهي من الجامعة إلا أنها الآن تكاد تحلق من السعادة وهو يبتسم لها بلطف ولم يعلم ما عليه قوله أو ما يجده بينما تململ أصدقائه بضجر راغبين في إكمال طريقهم، بادرت هي لتقول وقد شعرت فعلياً بالإرتباك واختفى من على ملامحها أي أثر للغرور أو التسلط: ر. ربما يمكنني رد الجميل لك بطريقة أفضل. هل ترافقني إلى المطعم في الشارع المجاور؟ لا زلت لم أشكرك بطريقة مناسبة.
كانت كلماتها الجريئة سبباً في تبادل النظرات الساخرة بين أصدقائه لبعضهم ليصفر أحدهم هامساً لمجموعته: المحظوظ لفت انتباه ابنة رئيس مدينة إعلامية.!
بينما ارتفع حاجبيه بحيرة ولم يكد يفتح فمه حتى قال أحد أصدقائه مبتعداً: سنذهب إلى النادي إن انتهيت مبكراً ستجدنا في انتظارك باتريك.
لوحو له مبتعدين ولم يكن يعلم هو أو أحد رفاقه أنها أصبحت الأسعد لإنصرافهم. ظلت تحدق إلى وجهه بترقب وحماس فأومأ يرسم ابتسامة صغيرة: مع أنني لم أفعل شيئاً يُذكر. ولكن لا بأس.
أشرق وجهها واتسعت ابتسامتها تحملق فيه بعينيها الرمادية قبل أن تقول: إذاً لنذهب. لقد حجزت ال.
ولكنها تداركت الأمر وتوقفت فوراً مستوعبة أنها كادت تفشي له بخطتها المتقنة في محاولتها للتقرب إليه! فلقد أمرت بحجز طاولة مطلة على المتنزه المقابل للشارع ليكون حديثهما أكثر خصوصية. وربما أكثر عاطفية كما ترسم في مخيلتها وأحلامها، فهي كالمخدرة الواقعة تحت تأثير عاطفتها منذ اللحظة التي رأته فيها.
تبحث في تفاصيل حياته آمرة هذا وذاك ممن يسيطر عليهم نفوذ عائلتها لتأخذ منهم المعلومات التي ترغب في معرفتها، الأماكن التي يرتادها، الأشياء التي يحبها أو يمقتها، زملائه وأصدقائه.
فتاة مثلها تتجمل بالثراء لم تكن هذه المهمات صعبة عليها، ربما الشيء الوحيد الإيجابي في التهائها بما تفعله حالياً هو أنها نست دورها الكبير في التسلط على الطلاب من مدرستها! وربما كانت هذه الفترة هي الأفضل بالنسبة لهم أيضاً.
كانت تراقبه في طريق عودته لتدرك أنه يعيش في شقة أقل من متواضعة وربما هذا كان ما بدأ يزعجها في الآونة الأخيرة ولا سيما بعد التقرب إليه وقد بدءا في التقابل كثيراً.! هي تعلم أنه شاب جامعي فقير في العام الأخير، ولكنها تدرك أيضاً أنها تتجاهل هذا الأمر جاهدة.
جاهدة؟
بالطبع. فمنذ أن اكتشفت مستواه المعيشي وهي تبدو بطريقة ما أقل حماساً وربما مزاجها أسوأ، إلا أنها تستمر في مقابلته وانتظاره، تطور الوضع وباتَ أحياناً يمر على المدرسة ويرافقها إلى منزلها.
وأحياناً أخرى. إلى شقته!
انتفض جسدي وتبددت كل هذه الأحداث من أمام عيناي ليحل مكانها الظلام الدامس الذي ينتشلني إلى الحاضر مجدداً ويذكرني بالمكان الذي أتواجد فيه، وحينها رغبت بشدة في ان أغمض عيني وحسب. أن أنام وأهرب ولكنني لم أستطع. فتلك الفتاة تتحداني وترفض الخروج من داخلي مهما فعلت. أنا لا أدري حقاً إن كنت سيئة بالفطرة أو أنني أحببت ما كنت عليه بطريقة ما. لم أعد أفهم نفسي. هل سئمت من محاولة التغير؟ أو أنني فقدت الأمل وبدأت أشعر أن هذا مستحيل؟ تلك اللمحة من الماضي تحاول تذكيري باللعنة التي حلت علي. بعد مطاردتي لذلك السافل كالمعتوهة التي أدمنت رؤيته! أين كان عقلي حينها.!
تلك اللمحة. أخشى أن تتمادى. أخشى أن تبدأ المشاهد الأخرى بالعودة إلى ذاكرتي التي أحاول أن أفصل فيها الحاضر عن الماضي.
لم أعد أرغب في رؤية نفسي القديمة فلماذا إذاً أتذكر هذا الآن؟
لما لا يخضع عقلي لرغباتي!
أمسكت جهاز التحكم لأغير القناة باحثة عن برنامج أو فيلم لأتابعه بعد انتهاء الفيلم الذي كنت أتسلى به قبل قليل، استقر الأمر على إحدى القنوات التي تعرض فيلم درامي، ورغم أن هذا الصنف ليس نوعي المفضل إلا أنني ارخيت ظهري لأغوص في الأريكة بملل.
إنها الثانية ظهراً، ستعود روز قريباً ولا بد وأن جانيت سترافقها، هذا سيكسر الملل بكل تأكيد. نظرت من حولي بضجر وتحركت بتثاقل لأبحث عن شيء أمضي وقتي فيه، وقع نظري على حقيبة طلاء الأظافر الخاصة بروز، أخرجت منها طلاء بلون زهري فاتح، عدت إلى الأريكة لأضع الطلاء على أظافر قدمي ويدي أدندن بملل.
حركت يدي ليجف الطلاء بفعل الهواء وما هي إلا ربع ساعة حتى تعالى رنين جرس الشقة، تحركت لأفتح الباب فوراً ولكنني تفاجأت بباقة الورد الكبيرة أمام وجهي مباشرة!
اتسعت عيناي بإستغراب ولم أعلق.
أظهر وجهه من خلف الباقة الكبيرة ليطرف بعينه الخضراء بإنزعاج: لننهي هذا الخلاف ون. هاه؟ كتاليا! ما الذي تفعلينه هنا؟
تساءل بدهشة ولكنه سرعان ما شهق بخفة: ما الذي حدث لوجهك!
تسمرت في مكاني ونال الإرتباك والاضطراب مني، تباً نسيت الأمر تماماً، كيف عساني أبرر الأمر الآن؟
بقي شاخصاُ وعلى وجهه أمارات الصدمة ويترقب رداً فتقمصت الهدوء التام مجيبة بتبرم أخفيت خلفه اضطرابي ببراعة: فكرت في تجربة مكياج سينمائي والهام نفسي قليلاً، أياً يكن حاول اعادة هذا المشهد العاطفي الجميل عندما تعود روز، سأضمن لك تأثرها.
عقد حاجبيه متجاوزاً جملتي وأنزله يده وقد أصر بعدم اقتناع: مكياج؟
لم يبدو عليه التصديق إطلاقاً حتى انه رفع يده ليلمس وجنتي ثم لامس طرف عيني بسبابته ليتأكد ولكنني ضربت يده مبتعدة وقلت بإنزعاج: سأخبر روز عن خيانتك!
كفاكِ سخفاً!
المسني مجدداً وسأسلمك لها متلبساً. أعدك بهذا!
توقفي عن المزاج ما خطب هذه الكدمات! من فعل هذا؟
تساءل بإهتمام والتمست القلق في صوته ونظراته، رمقته بطرف عيني ثم تمتمت بضجر: أخبرتك أنه مكياج سينمائي ولماذا أنا هنا برأيك؟ أنتظر عودة روز لنتفاهم بشأن بعض أفكار العمل لذا توقف عن ازعاجي بثرثرتك.
ليس غبياً ليقتنع بعذر أحمق كهذا، ومع ذلك صمت للحظة ثم غير الموضوع من نفسه: لما لم تعد روز بعد؟
رفعت كتفاي: لا أدري ولكن جانيت برفقتها على الأغلب، لا تقلق سنمنحكما الخصوصية فور عودتها.
لا بد وأنه يتساءل في نفسه عن سبب وجودي هنا! لذا أعقبت متسائلة بمكر أنتزع منه فرصة التفكير: ستعتذر إذاً؟
امتعض مشيحاً بوجهه وهو يدخل ويدفع الباب بمرفقه بتبرم: وما عساني أفعل، مع أنني لم أخطئ في حقها ولكنني لا أفهم ما يرغب فيه عقلها المتحجر.
روز مخلوق غير قابل للتفسير. ولكن هذا المخلوق واقع في حبك بلا شك!
أيدني بلا حيلة حين مر بجانبي يضرب كتفي بخفة: قلتها بنفسك. مخلوق غير قابل للتفسير!
تسمرت في مكاني بعين قد جحظت وفم مطبق بقوة أمنع نفسي من التأوه بألم!
ضربته كانت خفيفة ولكنني شعرت وكأن عظامي تهبط وتصعد غير مستقرة!، ارتجف جسدي وزاد نبضي جراء تحمل الألم ولا سيما حين جلس على الأريكة معلقاً بسخرية: من يتابع هذا الفيلم في أيامنا هذه؟
خرج صوتي بصعوبة محاولة تغليفه بالنبرة الهادئة المازحة قدر المستطاع: كنت أشعر بالملل لا يوجد ما أتسلى فيه.
ترك الباقة على الطاولة ثم وقف مبتعداً عن الأريكة واتجه إلى المطبخ، افلت تنهيدة وصوت ضعيف من بين شفتاي ثم استنشقت الهواء ببطء أسيطر على ألم كتفي الذي بدأت أرى انه من الضروري الكشف عليه في المشفى، فحتى عندما استيقظت انتابني ألم مريع وبالكاد تحركت مبتعدة عن السرير.
كنت لا أزال واقفة عندما لفت انتباهي الباب الذي تحركت قبضته، لتدخل روز ممسكة بكيس متوسط حول مرفقها وفي يدها الأخرى حقيبتها وكيس آخر صغير، وخلفها جانيت التي تمسك بعلبة دانكن دوناتس وثلاثة أكواب من شروب الموكا الساخن.
ابتسمت روز وقالت بإهتمام بينما تتقدم نحو الطاولة مقابل الأريكة وتضع الأكياس: كيف حالك الآن كات؟
أجبتها على مضض: وكيف سأكون. لا شيء لدي عدى هاتفي.
نظرت إلى جانيت التي تحدق إلى بتمعن قبل ان تقول بهدوء: أخبرتني روز بما حدث. لنتجاوز الأمر ونقضي وقتاً ممتعاً.
بدت تحاول مواساتي فاستسلمت لأميء برأسي وأخذت العلبة منها وفتحتها فوراً لألتقط قطعة وأتناولها.
انتبهنا لروز التي تنظر إلى باقة الورد باستغراب وحدقت إلي، لم تكد تسألني حتى اتسعت عينيها قليلاً تنظر خلفي فأدركت أن ديفيد خرج من المطبخ.
ابتسمت لجانيت بخبث أشير بذقني نحو ديفيد، ولكن جانيت قلبت عينيها بملل وتمتمت: حاول كلاهما التحدث إلى الآخر في العمل ولكن لا أحد تنازل، إلا أنني أرى ما يفوق التنازل الآن!
نفيت برأسي بإستسلام وهمست لها بصوت خافت بشدة: ملائمان لبعضهما جداً. العقلية ذاتها!
رفعت جانيت كتفيها بلا اكتراث، بينما خرج صوت روز من حنجرتها بنبرة حازمة: ما الذي تفعله هنا!
لويت شفتي بنفاذ صبر: آه بربكم جميعاً متى ينتهي هذا السخف؟
نظرت روز إلى بعدم رضى: لماذا سمحتِ له بالدخول!
جابت عينا ديفيد عليها بترقب، ثم تقدم نحوها فاتخذت بدورها وضعية الدفاع والهجوم في آن واحد: م. ماذا! لا شيء يجمعنا نحن منفصلان فكرياً الآن، توقف مكانك واستدر نحو اليمين واخرج من شقتي.
ولكنه تجاهلها ووقف أمامها مباشرة، فتحت فمها لتتذمر ولكن اعيننا اتسعت حين جذبها إليه يعانقها: يكفي أيتها الحمقاء، لا أرى أي مبرر لما يحدث.
ارتخت ملامحي بشدة أحدق إليهما وتلك الدغدغة اللطيفة تداعب قلبي، بل وأكمل بجدية دون ان يبتعد عنها: لا تبني بيننا حاجزاً يبعدني عنك. توقفي.
ابتسمت بهدوء وهمست لجانيت: وجودنا كعدمه. لنخرج قليلاً ونعود لاحقاً.
أيدتني فتحركنا لنخرج ولكننا توقفنا عندما ابتعد ديفيد عن روز متأوهاً عندما وكزته بقوة في خصره ونهرته: لن أتأثر بنبرتك!
رفع كلتا يديه بجانبه: ما الذي على فعله تحديداً لتوقفي تصرفاتك الطفولية قليلاً!
هل تقول بأنني امرأة غير ناضجة الآن؟ ستشير مجدداً أنني السبب في كل خلافاتنا اليس كذلك؟
قلّبت عيناي بإستسلام عندما جادلها بإنزعاج: الجميع يتفق على هذا! إنها الحقيقة! لا يمضي يوماً في حياتي بسلام منذ بدأنا المواعدة، أنتِ من تبدء في استفزازي في كل مرة فكيف لا أغضب الا يحق لي ان تبدر مني ردة فعل حتى!
حلت العاصفة من جديد.
لم يعد هناك أي داعي لننصرف ونخرج من الشقة.
بادرت جانيت تتجه نحو الأريكة وتجلس لتتناول الدونات ببرود وضجر ففعلت المثل وجلست بجانبها، بحثت عن الأشياء التي جلبتاها في الأكياس الأخرى فوجدت بعض التسالي، تناولناها بينما أعيننا تتجه نحو شاشة التلفاز وأذننا تسمع الشتائم والجدال خلفنا بل وبدء ديفيد يقطف ورود الباقة ويرميها في أرجاء الشقة بغضب.
دانيال:.
تكتفتُ بملل بينما رفعت كلتا قدماي على الطاولة أمامي أحدق إلى كارل الذي استكمل حديثه مهدئاً: لذا اعتذر نيابة عنه سيدي، ثق بي لن يكررها مجدداً.
وجهت ناظري إلى الوغد الذي جادله بعصبية: تطاول على وأهانني، مع أنني اعتذرت له ولكنه لم يتوقف عن التصرف ببذاءة!
ابتسمت بسخرية وعلقت بضجر: يا لرفعة أخلاقك يا رجل. وكأنك لم تكن الرجل نفسه الذي بدء بالتطاول في الحديث أولاً.
نظر إلى بحدة قبل أن يشير نحوي: لن أتنازل!
تدخل كارل مجدداً: من فضلك تجاهله، تنازل هذه المرة فقط أعدك أنه لن يتعرض لك مجدداً. ثق بي!
سمعت زفرة متململة خلفي ولم يكن سوى جيمس الذي قال بلا اكتراث: لننهي الأمر بسرعة.
رمقني كارل بحدة وعتاب فانزلت قدماي من على الطاولة وزفرت لأقف بضجر محدثاً جيمس: ماذا؟ ستقول مجدداً أنني المخطئ؟ كنت بالفعل انظف المكان أمام محل الحلاقة عندما حاول استفزازي بتطاوله في حديثه وسخريته.! لقد داس بقدمه حيث أقوم بالكنس والتنظيف عمداً هل من المتوقع تركه وشأنه!
أعقبت أقترب من الوغد المتحايل: أنت. هل أنا مضطر للكذب يا ترى؟
شحب وجهه وأسرع يقف خلف كارل ليحتمي به ممسكاً بقميصه بقوة وصرخ موجهاً حديثه إلى جيمس: سيقوم بضربي مجدداً يا حظرة الشرطي! أرأيت؟ إنه ينوي استكمال جنوحه!
توقفت عندما رفع كارل كلتا يديه ونهرني بحزم: دعه وشأنه! هل ستزيد الوضع سوءاً الآن؟
ثم وجه حديثه إلى جيمس: لنتفق أن كلاهما مخطئان وحسب فلن تجني ثماراً من سماع جدالهما سيستمران في تراشق الاتهامات دون توقف.
تقدمته بخطى واسعة بينما استكمل عتابه وهو يلحق بي: إلى متى على التوجه إلى مركز الشرطة بسببك! لم يكن عليك أن تصب جمام غضبك عليه! إن كان مزاجك متعكراً منذ الأمس فلا ذنب لأي شخص لذا كفاك سخفاً وتعقّل!
تمتمت دون ان أتوقف: أخبرتك انه المخطئ، ولكنك اعتدت توجيه العتاب علي. أياً يكن انتهى الأمر!
نعم انتهى هذه المرة ولكن لا يزال هناك مرات قادمة! الم تخبرك الآنسة كتاليا ان تتوقف عن توريط نفسك؟ ماذا لو أسأت لسمعة العمل!
انتابني الإنزعاج ووقفت أرمقه بحدة: فليذهب العمل إلى الجحيم أنا لن أغير مجرى حياتي لشخص أو آخر أو لأي سبب كان. توقف عن ازعاجي كارل!
ضاقت عينيه الزرقاء بغضب قبل ان يهمس بحزم: ان بقيت تعيش حياتك بهذه الطريقة فستشيخ وحيداً أيها الأحمق.
تقدمني فلحقت به معترضاً: من الذي سيشيخ وحيداً! قريباً جداً سأعثر على امرأة تشاركني حياتي وسترى بنفسك كيف سأكون قادراً على ترميم مجريات حياتي لذا توقف عن الاستهانة بي، عد إلى المنزل واكمل نومك. تباً أنت تصبح مزعجاً جداً عندما لا تحصل على قسط كافي من الراحة!
وإلى من يعود الفضل برأيك!؟
أضاف بوعيد: سأنقل ما حدث اليوم إلى الآنسة كتاليا بنفسي، مسموح لها التصرف معك كما يحلو لها حتى لو عنى ذلك أن تتجاوز حدودها معك. من الجيد أن رقم هاتفها بحوزتي، لا بد من كتابة تقرير مفصل.
ابتسمت بسخرية واقتربت اسند يدي على كتفه: كارل. أتكون منزعجاً لأن ذلك الرجل كان في المحل مع أبي اليوم؟ ربما لا يزال مصراً أن يختارك كزوج لابنته.! تعلم أن أبي لن يعارضه.
تمتم بإنزعاج: دعني وشأني.
كم أنت مسالم! عليك أن تصرخ بأعلى صوتك وتخبره أنك لا تريد ابنته وحسب! الأمر بهذه السهولة.
صحيح. بالنسبة إلى وقح متطاول!
يالقسوتك! هل أساعدك؟
ابقى خارج الموضوع وإلا تفاقم! إياك والتدخل.
كانت دقائق حتى عبرنا اشارة المشاة، ثم توقفنا أمام أحد متاجر العاب الفيديو والأجهزة الالكترونية، لنتسمر في أماكننا نحدق إلى الصورة الدعائية المعلقة بجانب المتجر.
نظر كارل إلى ثم إلى الصورة ثم عاود ينظر إلى بعدم استيعاب: إنه. أنت!
أومأت بدهشة: تم نشرها بهذه السرعة!
اقتربت من الصورة الضخمة أحدق إليها بتمعن وتركيز ليعلق كارل بتفاجؤ: انه عمل. مبهر! هل الآنسة كتاليا من التقطتها؟
أعقب يطرف بعينيه ببطء: إنها موهوبة بالفعل، تبدو وكأنك جندي في ساحة المعركة! تباً دانيال تبدو ملفتاً حقاً. لا يسعنى سوى الشعور بالفخر!
تأملت التفاصيل أنظر إلى قطرات العرق الصغيرة على جبيني في الصورة، والجرح الموجود أعلى أنفي وقد برزت الندبة الموجودة على حاجبي أكثر بطريقة ما، السلاح الذي أمسكه يبدو واقعياً جداً كما تم إضافة تعديلات احترافية على الصورة!
هؤلاء الجنود خلفي في الصورة هم فريقي؟ وهؤلاء الأطفال ذوي الوجوه الغريبة والأعين الواسعة السوداء هم أطفال المختبرات!
وضعت يدي على خصري وأومأت برضى: لم أتوقع جودة عمل بهذا الإتقان.
هذا الرجل. يشبه آلبرت آرماندو!
قيلت بصوت يملؤه الحيرة خلفنا، التفت أنا وكارل باستغراب لنرى مجموعة من الفتية الذين يحدقون إلى الصورة الدعائية ثم.
نحوي!
عقدت حاجباي وأعدت ناظري إلى الصورة قبل ان استوعب أنهم. يشيرون إلي!
طرفت بعيني ببلاهة وعدم استيعاب قبل أن أقول لكارل: أعتقد أن اسم الشخصية التي لعبت دورها يكون آلبرت.
عقد حاجبيه: تعتقد؟
أجفلنا لصراخ الفتية خلفنا في آن واحد ثم قال أحدهم بحماس: إنه الرجل الذي أدى دوره! يا رفاق إنه هو! آلبرت آرماندو.!
تراجعت مع كارل بإستنكار بينما تجمهر المزيد من الفتية الذين خرجو من المتجر.
صرخ أحدهم: سألتقط صورة معك انتظر!
بينما صاح الآخر بحماس: إنه أنتَ حقاً! هذه الندبة حقيقية إذاً.
اتسعت عينا كارل ونظر إلى بهدوء: سوف. أعود إلى المنزل! حظاً موفقاً.
انسحب ببطء من بينهم فنظرت إليه بدهشة قبل أن أنادي به: تمهل أيها الخائن! كارل انتظر.
حاولت الخروج خلفه ولكنهم تدافعوا نحوي!
تراجعت رغماً عني للوراء ورفعت يدي اهدئهم محاولاً ان اتصرف بهدوء: على رسلكم! انه يشبهني فقط. على الذهاب فوراً! لست هو.
نفي أحدهم بحماس: من الواضح أن كلاكما واحد! انتظر لقد بدأت بث مباشر جميع متابعي حسابي يشاهدونك، هذه اللعبة انتظرنا صدورها منذ وقت طويل، سيتم اصدارها على الأجهزة المتقدمة قريباً أيضاً هل ستلعب دور البطل؟ لن يكون وجودك في الصورة الدعائية فقط صحيح؟
قلت بأنه يشبهني! ابتعدو. توقفوا!
اللعنة لماذا يتدافعون بهذه الهمجية. كارل اللئيم!
لمحته يحدق إلى من مكان قريب من تقاطع الإشارة وقد لوح لي.
صحت به لعله يعود: انتظرني! حاول مساعدتي!
تجاهلني وأسرع يغادر فجزيت على أسناني وحاولت الابتعاد متملصاً منهم.
كما ترون أيها المتابعين الأعزاء، هذا الرجل خلفي هو من لعب الدور الدعائي لبطولة آلبرت آرماندو. انظروا كيف يبدو على أرض الواقع. إن أردتم توجيه أسئلتكم له فقوموا بدعمي حالاً ونشر البث لأكبر عدد ممكن من أصدقائكم
بدء البث المباشر بالفعل!
نال الإضطراب مني وما ان قرب هاتفه من وجهي حتى حذرته: ابعد هاتفك يا فتى! أخبرتك انه يشبهني.
لقد غادر كارل بالفعل! زفرت بنفاذ صبر ومررت يدي خلف عنقي أحاول مسايرتهم: على الذهاب فوراً.
لا أحد ينصت.
أعتقد أنني. مضطر للجري بأسرع ما لدي!
كان هذا ما أنوي فعله وأنا أستمر في مسايرتهم أحاول اقتناص فرصة مناسبة، نظرت حيث كان كارل هناك قبل لحظات وقد اختفى تماماً دون أن يكلف نفسه عناء العودة او المراقبة من بعيد. ولكن سرعان ما تعلقت عيناي حيث تقاطع الشارع وغابت أصوات الفتية من حولي!
حتى حركة السيارات والمارة باتت بطيئة غير مرئية.
وعيناي لا تبصر سوى الكيان الواقف هناك.
عقدت حاجباي بإرتياب وذهول أستمر في التحديق بتمعن.!
مهلاً.
لا يبدو أنني أتخيل!
ذلك الجسد الواقف هناك.
فغرت فمي بذهول وارتخى جسدي تماماً أعجز عن ابعاد الفتية عني بل وبالكاد طرفت بعيني بينما تسمرت عيناي على من يقف هناك يخفي وجهه بقلنسوة قميصه الأبيض!
فقدت حواسي كلها عدى عيناي التي تبصر جيداً وبتركيز! يصعب رؤية وجهه بوضوح. ولكنها هيئته!
جف حلقي تماماً أدرك أنه بلا شك يحدق بإتجاهي! بأنه لمحني فعلاً!
هربت الدماء من عروقي فور ان استدار ليتحرك مبتعداً وقد أيقنت شكوكي لرؤية العرجة الخفيفة في قدمه بينما يمشي.
لحظة!
توقف!
تحركت قدماي أجرها ببطء محاولاً الخروج من بينهم ولكنني لم أستطع! بقيت أحدق إليه واستمرت قدمي في التحرك حتى صرخت بأعلى صوتي: توقف!
أجفلوا من حولي بذعر وقد ابتعدوا عني فأطلقت العنان لنفسي لأتبعه متجاهلاً أصوات السيارات وشتائم اصحابها الموجهة نحوي عندما قطعت الشارع بينما لا تزال إشار المشاة حمراء.
يمكنني رؤيته هناك!
تابعته عيناي بينما أتخطى ازدحام المارة حتى لمحته يلتفت نحوي قبل أن يدخل من بين الازدحام!
توقفت بتفاجؤ عندما أدركت أنني دفعت رجلاً كهلاً دون قصد قد أوقعتُ عكازه عنه وتعثر ليسقط!
تسارعت أنفاسي أحدق إلى من دخل في الزحام ثم وجهت ناظري إلى الكهل ذو البنية الضئيلة يتأوه يمرر يده على ساقه، تحركت أنوي استكمال اللحاق به واتباعه ولكنني وقفت مجدداً بتردد قبل أن أزفر بإنفعال وسحبت يد الرجل لأساعده على الوقوف: أنتَ بخير؟
التعليقات