رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل الرابع عشر
كتاليا:
روتين الأمس.
جميعنا متأهبين لجلسة التصوير الأخيرة اليوم، ولكن هذا غريب، كاثرين لا تبدو في كامل نشاطها ولا تتوقف عن التثاؤب في كل حين. على أن أكون حازمة معها، لا أريد أن تتهاون في العمل ولكنني سأتركها حتى يحين دورها.
انتهيت من جيكوب وسبينسر، وها هو ذا فيندير يستعد، هذه المرة أجلت أمر دانيال قليلاً، ربما أريده أن يعمل بعد ان تهدأ أشعة الشمس وتخفض قرصها قليلاً لأنه سيحظى بأكبر نصيب من الصور. نظرت إلى الساعة حول معصمي ثم ابتسمت لفيندر بهدوء: انتهينا. أحسنت عملاً.
تحرك مبتسماً وذهب لتغيير ملابسه، حان وقت دانيال فبدأنا بالتقاط الصور ولكن ما لم يكن في حسبانه أنه لن يلتقط الصورة وحيداً الآن. فهناك رفيق صغير نحتاج إليه.
استغرب كثيراً وهو يحدق إلى لوكاس الذي يسير نحوه ممسكاً بقفص معدني لببغاء أخضر اللون ومتوسط الحجم.
أخرجه من القفص ووضعه حول معصمه ليقف الببغاء مثبتاً نفسه بكلتا قدميه، طرف دانيال بعدم استيعاب فوضحت مبتسمة: ضعه على كتفك.
فغر فمه للحظة ثم أومأ بحيرة، اقترب لوكاس ليضعه على كتفه. نظر الآخر إليه بعدم اقتناع وتساءل: هل هذا ضروري؟
أومأنا له لتتدخل روز ممازحة: كن شاكراً أنه مدرب جيداً، وإلا صرخ في أذنك لتنزف دماً.
رمقها بملل: فليكن. وماذا لو أديت دوار غواص؟ سترغمونني على الإستلقاء في فم قرش وسيرتاح ضميركم عندما يتلذذ بي؟
قلّبت عيناي بتهكم: كفاك مبالغة. والآن لنبدء، لا تتحرك بسرعة حتى لا يغير الببغاء وضعيته. هيا.
بدأنا التصوير مجدداً وتوقفنا ما يزيد عن العشر مرات بسبب ما يحدث، أجفلنا مجدداً لصراخه متأوهاً محاولاً ابعاد وجهه عن الببغاء ليصيح متذمراً: تباً هذا مؤلم! لن يتوقف عن نقر وجنتي هل على احتمال هذا طويلاً؟
اقترب شون محاولا لفت أنظار الببغاء فاسرع الآخر يتخذ الوضعية السابقة فاستأنفت التصوير، ولكنني توقفت مجدداً بنفاذ صبر وضجر عندما نقر الببغاء وجنته وعنقه بقوة فصرخ الآخر مستنجداً: هذا يكفي أيها الطائر المزعج! تصرفوا وافعلوا شيئاً.! أشعر أنني وما ان أشرب الماء حتى يخرج من وجنتاي كالإسفنج بسبب كثرة الثقوب.!
ضحكت بخفوت رغماً عني ولكنني سرعان ما صمت وأشرت لشون ولوكاس ان يستمرا في الهاء الببغاء، استكملنا عملنا وهذه المرة تمادى الببغاء وصعد فوق رأسه ليفسد تصفيفة شعره، تنهدت بأسى وأغمضت عيناي أضع يدي على جبيني متسائلة: لماذا لم يأتي مدرب هذا الببغاء؟
أجاب لوكاس بلا حيلة: لقد كان مشغولاً واعتذر عن المجيء، قال أنه لن يتمادى في أفعاله لكونه أليف جداً ولكنني أرى عكس ذلك.
استمرت هذه المعاناة مع هذا الببغاء، وعندما انتهينا منه أخيراً وضعه لوكاس في القفص ليعيده.
بدأت المرحلة النهائية أخيراً، حيث حان دور كاثرين. وبعدها سنعود إلى الفندق لأخذ حاجياتنا ونغادر. انزعجت كثيراً من تثاقلها وتكاسلها، ومع انها كانت بالفعل موهوبة ولكنها. بطيئة إلى حد ما اليوم، لا تتوقف عن التحذلق وانتقاد كل شيء.
بل أنها بدأت تنتقدني وبطريقة غير مباشرة بعدائية!
تجاهلت الأمر بإرادتي ووجهت اهتمامي للكاميرا، ظلت تتأفف بينما أشرح الوضعية الملائمة، لاحظت روز ذلك أيضاً ووقفت بجانبي هامسة بعين ضيقة: تلك الفتاة مستفزة حقاً. آمل أن ننتهي بسرعة لتغادر!
رمقت روز بنظرة هادئة وأومأت بخفة.
عندما انتهينا أخيراً وبدأ قرص الشمس يدنو رغبة في معانقة سطح البحر أعلنت انه علينا العودة إلى الفندق لنستعد للمغادرة فبدأ كل شخص في التأهب. لمحت دانيال الذي سبق وقد غير ملابسه، نظر من حوله كما لو يتساءل عما عليه فعله حتى قرر التقدم نحوي بوجه متململ واخذ من يدي حقيبة عدة التصوير إضافة إلى المظلة والإضاءة تماماً مثل الأمس.
تبعته لننزل ولكنني أبطأت خطاي حين تقدمت كاثرين مباشرة ووقفت بجانبا متسائلة بحيرة: دانيال. أظنني نسيت ربطة شعري في غرفتك بالأمس.
أضافت مبتسمة بلطف: ابحث في أرجاء الغرفة من فضلك واعدها إلى إن وجدتها.
غرفته؟
في الأمس؟
عقدت حاجباي بحيرة شديدة وقلبت نظري بينهما باستغراب وعدم استيعاب!، اتسعت عينيه الزمردية ونظر بعيداً بسرعة وتمتم بتلعثم: لا يوجد شيء مشابه في غرفتي.
ولكن ابتسامتها اتسعت وأمالت برأسها لتتناثر خصلات شعرها الأسود الطويل حول وجهها: كانت لحظات قصيرة ولكن.
غمزت له بخفة: كنتَ عنيفاً حقاً.
فغرت فمي بذهول وتوقفت مكاني بعدم تصديق!
ع. عنيف؟ بحق الإله؟
بينما كنت أغوص في دهشتي غادرت هي بخطى مرحة بينما ظل واقفاً بوجه ممتعض ومتوتر، لحظة أنا. لا أصدق ما سمعته!
ماذا عن عقدته؟
بل لماذا وكيف! متى تخلص من عقدتِه؟
انتبه لتحديقي إليه فطرف ببلاهة قبل أن يصرخ باستيعاب: هي لَم تنسى أي شيء في غرفتي!
أعقب موضحاً بشيء من الإنفعال: أقصد. كانت لحظات فقط وأنا واثق انها لم تنسى أي شيء، وأيضاً لم أقصد اللجوء إلى العنف معها! أنا حقاً لم أتعمد.!
طرفت بدهشة أكبر أردد كلماته في رأسي.
لم. يقصد.
ازدردت ريقي ببطء قبل أن أرفع يدي بتلقائية نحو ثغري، حتى همست أكمل طريقي: سعيدة انك تخلصت من عقدتك.
هاه؟
لحق بي بحيرة: ما شأن عقدتي؟
يا الهي. هاذان الإثنان. هل. هل فعلها حقاً؟ تباً لا أصدق! ولكن لماذا؟ أيكون قد دَعاها إلى غرفته؟ ولكنه لا يبدو بأنه من بادر حقاً! ولكنها قالت بأنه كان ع. عنيفاً!
مَهلاً أيتها المزيفة ما الذي يجول في خاطرك الآن وما هذا التعبير الغريب على وجهك!
أجبته ببرود: عُد إلى المنزل مبشراً أباك بكونك قادر على الزواج وتأسيس أسرة لطيفة.
شهق بخفة ثم سرعان ما صرخ بتدارك: مرحباً لا يُمكِن أنكِ حلقتِ بأفكارك بعيداً!
أضاف بإلحاح غريب يتعمد ان يمشي أمامي ووجه مواجهاً لي ليبطئني: لم يحدث شيء حقاً! اتذكرين البطاقة المفقودة؟ لقد كانت بحوزتها بلا شك ولهذا استطاعت الولوج إلى غرفتي! ولكنني طردتها فوراً. حسناً ربما مستاء قليلاً للجوء الى العنف معها ودفعها بتلك الطريقة إلى الخارج ولكنها أرغمتني!
عقدت حاجباي أنظر إليه دون أن أقف، لا يبدو أنه يكذب حقاً.
هل عقلي هو الفاسد أم أنها من تعمدت إيصال رسالتها بتلك الطريقة؟
الأهم من هذا.
ما الذي أثلج صدري فجأة بعد أن تصاعدت فيه حرارة غريبة!؟، نظرتُ إليه بهدوء وتفكير ثم تمتمت بملل: لماذا تحاول التبرير لي؟
ارتخت ملامحه قليلاً وسار معتدلاً بجانبي بمسافة كافية وتساءل باستغراب: صحيح. لماذا أفعل ذلك!؟
نفيت برأسي بلا حيلة فرمقني بسرعة بنظرة مشتتة ثم التزم الصمت.
تحاول التقرب إليك.
قلتها بنبرة هادئة دون أن أنظر إليه، همهم بعدم فهم فوضحت بفتور: أنا أيضاً امرأة. لذا من السهل ملاحظة الأمر، لقد لاحظت نظراتها منذ الأمس.
أعقبت بسخرية حين وصلنا إلى الحافلة: يبدو لي أنه يوجد عذراء صغيرة مُعرضة للخطر.
تجهم وجهه بشدة وبدى سيغضب بالفعل فأسرعت أردف: ولكن ربما يمكنك التوقف عن التفكير فقد لا تضطر للعمل معها في الفترة الحالية، إلى أن يحين وقت محاكاة اللعبة وتبدأ بالتمثيل معها، كن حذراً حينها.
التمثيل معها؟
عملك القادم لن ينحصر على كونك عارض.
ماذا تقصدين!
قد تصبح ممثلاً قريباً جداً. إن حققت الدعاية نجاحاً فلربما يتم اختيارك لتلعب دور الممثل الرئيسي في اللعبة كذلك.
انهيت جملتي بالصعود قبله دون ان انتظر رده، وحين جلست بجانب روز لمحته يصعد ويفكر بوجه ممتعض بشدة فأدركت أن الأمر لن يعجبه، ولكن كما أسلفت. فات الأوان على الرفض.
جلس بجانب جيكوب فاستدارت كاثرين للخلف تنظر إليه ثم عبست لتعاود النظر للأمام متكتفة بإنزعاج.
ورغم أننا قررنا مبدئياً أن نعود ولكننا في النهاية اقترحنا بالاتفاق أن نذهب جميعنا إلى أحد المطاعم القريبة أولاً قبل العودة.
شعرت بتوقف الحافلة، فتحت عيناي ببطء. أستوعب استلقائي وقد غفيت دون أن أشعر، أبعدت رأسي عن كتف روز التي كانت تجلس بينما عينيها تركز على شاشة هاتفها بشرود، ولم تفتني تلك النظرة الغريبة التي تميل إلى الضيق في مقلتيها، تثاءبت مبتعدة عنها بتثاقل وكسل، لا أدري متى غفوت ولكنها كانت الغفوة الأجمل على الإطلاق.!
بالغت في تناول الطعام في المطعم حتى شعرت بالتخمة وغفوت في الحافلة رغماً عني! يبدو أن معدة الحوت معدية بطريقة ما.
والأدهى أنني كنت منزعجة وفي مزاج سيء طوال الوقت! فبينما كنت أفرغ طاقتي في تناول الطعام أدركت أن تصرفات كاثرين لا تطاق!
حديثها بدلال مفرط وانتقادها لكل شيء حولها، النظرة المليئة بالغنج والمودة التي تلقيها على دانيال أصابته طوال الوقت بالإضطراب، وبدلاً من أن ينهي طبقه كان قد تناول بالكاد بضعة ملاعق في حين أنني من تناولت الكثير حتى أصابني الغثيان!
ومع أن قضاء الوقت مع باقي الفريق كان ممتعا الا انه لم يخلو من محاولاتها الجاهدة في استفزازي مما عكر مزاجي.
طرفتُ بعيناي باستغراب انظر إلى جسدي أستوعب السترة السوداء الخفيفة الموضوعة علي، ليستْ نسائية.!
نظرت إلى روز بحيرة فبادرت مبتسمة: ها قد استيقظت ذا.
ثم نظرت للأمام وعاودت ترمقني بإمتعاض وقد همست لي بصوت خافت: ذلك المعقد استمر يطالبني بوقاحة أن أضع هذه السترة عليكِ، حسناً لم يكن وقحاً ولكنني أكره الأوامر والنبرة التي تحدث بها، على كل حال يمكنكِ حرق السترة ان أردتِ! أنا واثقة ان رائحة الشاب العازب تفوح منها.
نظرتُ نحوه بتلقائية فوجدته يضحك بخفوت مع جيكوب بجانبه وقد وقف الإثنان يتأهبان للنزول من الحافلة وكذلك الجميع، القى على نظرة فجأة فوجدني أحدق إليه، أسرع يعاود النظر للأمام وسار ببساطة لينزل.
كتاليا؟
آ. آه؟ لم أكن بحاجتها حقاً. ولكن.
أرأيت؟ أخبرته بذلك بالفعل ولكنه مستفز جداً، على كل حال لننزل سيتأخر الوقت، إنها التاسعة والنصف.
أومأت بهدوء وتحركت ممسكة بالحقيبة الصغيرة والسترة الخفيفة، حين نزلنا كانت الحافلة متوقفة في مواقف المجلة أسفل المبنى، بدأ الجميع يتجه حيث سياراتهم معاً أو بشكل فردي، كما سمعت صوت دراجة نارية فأدركت ان دانيال سيغادر كذلك.
علي أن أسرع مع روز لأخذ سيارة أجرة، تحركنا معاً ولكنني وقفت فوراً متفاجئة ولم تكن دهشتي أقل منها حين ظهر ديفيد فجأة بوجه هادئ ووميض أخضر حازم يميل إلى الإنزعاج قد لمع في مقلتيه.
أمسك بيدها وقال بغيض: الآن سنرى ما عنيته في رسائلك الغبية.
انزعجت روز محاولة سحب يدها بغضب: ما الذي تفعله! أخبرتك أنني سأبدأ بعيش حياتي كامرأة عازبة لما لا تفهم!
أعقبت وهي تمسك بأحد الأعمدة بيدها الأخرى لتوقفه عن سحبها: اتركني! لم يعد هناك ما يجمعنا. انتهى كل شيء أنا جادة ديفيد!
اتسعت عيناي ببلاهة ورفعت يدي نحو ثغري عندما فاجأها بتلك القبلة وهو يحيط وجهها بيديه!
ظلت روز متفاجئة للحظات حتى استنكرت الضيق الواضح في عينيها ومع ذلك لم تتحرك قيد أنمله، ابتعد عنها ينظر إليها بجدية ولا أدري ما همس به في أذنها ولكنه عاود يمسك بيدها ويسحبها معه، لم تقاومه وإنما سارت معه مطرقة رأسها وذلك التعبير الغريب يبدو أوضح فأوضح على وجهها! ما خطبها؟ لماذا كل هذه العدائية والحواجز التي تبنيها بينها وبينه؟ لماذا وإلى متى!
أدخلها سيارته ثم اتجه إلى مقعد السائق وانطلق بسيارته مبتعداً، عم الهدوء المكان فجأة. لم أعد أسمع أصوات الجميع هنا وهناك فلقد غادروا بالفعل. أصبحت المواقف خالية تماماً من أي سيارة.
لم يعد بإمكاني العودة إلى شقتها فلا أدري إن كانا سيتوجهان إلى هناك معاً، كما لا أستطيع الإتصال وإفساد أي لحظة عليهما.
و لن أعود إلى شقتي حيث سيتواجد باتريك هناك في أي لحظة. هذا مستحيل، أفضل النوم في الشارع على فعل هذا! لذا لا خيار أمامي سوى منزل السيد هاريسون.
علي الأقل يمكنني مداومة إخفاء أثر الكدمات عن الجميع كما أفعل الآن، أما المشد فسأتوقف عن استخدامه أمامهم حتى لا أتلقى أي سؤال بشأن ذلك. كما انني نزعته الآن، أنا بحاجة لتحرير كتفي قليلاً.
تحركت بخطى هادئة أسحب حقيبة ملابسي الصغيرة بينما اضع الأخرى الخفيفة على كتفي الأيسر، سترته السوداء لا أزال أمسكها بيدي. تنهدت متذكرة الأمر ولويت شفتي بمضض، هل يحاول التصرف بلطف؟ أظنني لم أتوقع هذا.
نزلت الدرجات الكثيرة التي تلتحق بمبنى المجلة، وصلتُ إلى الشارع ووقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة.
القيت نظرة على الساعة ثم عاودت النظر إلى الشارع.
تأففت بضجر وجلست على الرصيف بملل أراقب حركة السيارات القليلة، لم ألمح حتى الآن سيارة أجرة!
لفت انتباهي الصوت الذي وقع على مسامعي، صوت محرك دراجة نارية وقد توقفت أمامي مباشرة، لا داعي للتركيز والسؤال فمن السهل معرفة صاحبها، هذه الدراجة السوداء والجالس فوقها، من سواه.
رفعت يدي نحوه وقلت بملل: خذ سترتك.
لم يكن قد ارتدى الخوذة بعد، كما انه يضع الحقيبة الصغيرة التي تحوي ملابسه على ظهره وقد تمتم بملل شديد وهو يتثاءب بينما يأخذها من يدي: لا يبدو انك ستجدين سيارة أجرة هنا، لما لا تستقلي الحافلة؟
هذا بدلاً من عرضك على إيصالي في طريقك! ياللوقاحة!
طريقي؟
سأعود إلى منزلك.
ارتفع حاجبيه باستغراب شديد، تعجبت من ابتسامة صغيرة سلكت طريقها نحو ثغره وقد قال فوراً: آه ستعودين إذاً، ياللإزعاج.
أعقب يعقد حاجبيه وقد علت نبرته: هل هذا ضروري؟ لما لا تبقين حيث أنتِ الآن فلقد كانت أيامي السابقة مترعة بالسلام والهدوء وراحة البال حقاً!
طرفت بلا اكتراث وتساءلت: خلاصة القول. ألن تأخذني معك؟
امتعض فجأة: وتلتصقين بي؟ قطعاً لا.
لست شهماً على الإطلاق.
أنا كذلك عندما يتم تجاوز الخطوط الحمراء معي.
كما تجاوزتها تلك العارضة باقتحام غرفتك؟
تماماً. لم أكن لطيفاً معها حقاً ولا زلت أتساءل إن كنت قد دفعتها بقوة مبالغ بها، حسناً كما تعلمين.
أشار بيديه بإنزعاج وتبرم: أعلم أن النساء يتأذين بسهولة، قد يؤنبني ضميري إن أصابها سوء.
قد يصيبني مكروه أنا أيضاً إن بقيت هنا فالوقت متأخر، خذني معك أنا بحاجة إلى النوم حقاً!
قلّب عينيه وبدى رافضاً للفكرة تماماً، أوقف الدراجة وتنهد يعبث بمفتاح الدراجة التي أغلقها وهو يلقيه في الهواء ويلتقطه، نظر إلى الشارع ثم قال مشيراً بإبهامه على عجالة: انتظري هنا، سأوقف سيارة أجرة.
غادر بسرعة فتأففت بصوت عالي، لا اصدق! ما الذي سيخسره إن أوصلني معه طالما وجهتنا واحدة!
تأففت وضممت قدماي إلى بملل، متى سيعود. لقد ضجرت الإنتظار! لم يكن كلانا لينتظر هنا لو أنه أوصلني في طريقه وانهينا الموضوع قبل بدايته حتى. عقدة سخيفة ومزعجة.
تثاءبت بنعاس ونظرت إلى الساعة حول معصمي، ثم القيت نظرة شاردة على دراجته والخوذة الموضوعة عليها.
أعلم ان النساء من السهل أن يتأذين.
يقول ذلك بنبرة عادية. كما لو ان ما تفوه به أمر اعتيادي بالفعل. على عكس من سيقهقه بسخرية لسماع أمر كهذا وهو يعتبرني مجرد كيس ملاكمة. يخشى أنه قد أذاها لمجرد دفعها لخارج الغرفة؟ لماذا تنتابني رغبة الضحك فجأة مصحوبة بغصة مزعجة في جوف عنقي.
يا للسخف.
أرغب لو أكذب كلتا أذناي، ولكن لديه وجه أحمق يصرح عما في داخله ومن السهل قراءة أفكاره وملامحه. قالها وفي عينينه وميض هادئ وهو يفكر بجدية ما ان كانت كاثرين قد تعرضت لأي أذى لمجرد فعلة بسيطة كتلك.
هذا الرجل. لديه مبادئه الخاصة المثيرة للإهتمام.
تنهدت مفكرة بشأن عودتي إلى منزله، هو لم يعد يمانع العمل ولا يبدو مرغماً. لو كان العكس لكنت مصرة على المكوث في منزله وضمان عمله معي، ولكن الدافع الوحيد للعودة الآن هو الإبتعاد قدر الإمكان عن باتريك. قد أصبح مجرد ذكرى عابرة إن عدت إلى شقتي وكأن شيئاً لم يكن.
وقفت انفض الغبار عن ملابسي حين رأيت سيارة أجرة تقترب مني فأسرعت أرفع يدي لأشير له أن يتوقف.
توقفت السيارة أمامي وزفرت براحة وانحنيت قليلاً لأتحدث مع السائق ولكنني تفاجأت بالباب الجانبي يُفتح ويترجل دانيال من السيارة وقد لوح بمرح يجوبه سخرية: وها قد وصلت إلى وجهتي، شكراً جزيلاً.
انزعج السائق الذي بدى في عقده الخامس ليعترض: هل تمازحني يا هذا! لم تمضي دقيقة حتى وتطلب مني التوقف هنا؟
ابتسم بملل: ولكنني أردت الوصول إلى دراجتي. ها هي هذا كما ترى! كما أن هذه الآنسة تبدو بحاجة إلى سيارة أجرة كذلك، ها هي زبونتك ذا.
أعقب بتساؤل: هل أنا مضطر لدفع أي ثمن لدقيقة؟ لا يمكن أن تكون جاداً أنت لم تستهلك أقل من قطرات ضيلة من الوقود حتى، لذا لست بحاجة إلى المال مني صحيح؟ حسناً حتى لو أردت ففي الواقع انا مفلس حالياً ولا شيء بحوزتي.
لوى السائق شفته واشار له بيده بلا مبالاة: أنت حقاً ثرثار على عكس مظهرك، اذهب اذهب. لست بحاجة إلى شيء منك.
تدخلت بملل: لن أنتظر أكثر.
دخلت السيارة وجلست أحتضن حقيبتي الصغيرة بينما وضعت الأخرى بجانبي، نظرت إلى دانيال عبر النافذة وهو يصعد دراجته ويرتدي خوذته. تباً. أردت حقاً ان يوصلني وأجرب ركوبها، أنا واثقة ان ركوب الدراجة النارية تجربة جميلة!
لويت شفتي بغبطة شديدة ثم أغمضت عيناي أصف العنوان للسائق.
خلال الطريق فتحت هاتفي أعبث به، كنت أتفقد الرسائل والمحادثات وما إلى ذلك.
ولسوء الحظ لا يوجد تحديث في المدونة حتى الآن!
ابعدت عيناي عن هاتفي أخذ شهيقاً عميقاً، ولكنني طرفت بحيرة وانا ارى الطريق الذي يسلكه السائق.
اعتدلت في جلستي قليلاً ونظرت من خلال النافذة بتمعن.
سيطر على هاجس الحذر حين انتبهت لتواجدنا في مسار يؤدي إلى منفذ جمارك قديم.! ضاقت عيناي ونظرت إليه بهدوء لعلي أفتري عليه بظنوني، كان يقود بصورة طبيعية ولكن عيناه التقت بعيناي في المرآة الأمامية لأقل من لحظة.
هذا سيء.
ينتابني شعور سيء جداً.
نظرت إلى هاتفي بهدوء تام ونويت كتابة رسالة للأحمق المعقد ليتدارك ما أدى إليه عناده!
ولكنني توقفت حالاً عندما ضغط السائق على المكابح بقوة فانتفضت مذعورة ونظرت إلى ما تسبب في ذلك.
أوقف السيارة ونظر إلى الوراء حيث مكاني مبتسماً: آه كنت على وشك دهس قطة عابرة! لحسن الحظ تداركت الأمر فوراً.
رسمت ابتسامة مسايرة على ثغري: جيد. هل سلكت طريقاً مختصراً وما شابه؟
لمحت شبح ابتسامة غريبة على ثغره وقد أومأ ليعاود القيادة: هذا صحيح، يوجد طريق أسرع وأسهل من هذا الإتجاه، سنصل إلى العنوان المقصود في وقت أقل. فكما تعلمين.
نظر إلى من المرآة مجدداً وأكمل بنبرة بثت بي شعور الإرتياب: بقاء شابة يافعة في مثلك عمرك لوقت متأخر. خطِر جداً.
أحكمت قبضتي بقوة شديدة وأمسكت بحقيبتي أسيطر على نفسي، لا حل آخر.
دسيت الهاتف في جيبي وامسكت بالحقيبة الأخرى انتظر الوقت المناسب بصبر. وحين شعرت به يبطئ من سرعته حزمت أمري وفتحت الباب لألقي بجسدي خارجاً ممسكة بالحقيبتين، أفلت صرخة خافتة حين ارتطم كتفي بالأرض فأغمضت عيناي فوراً وجزيت على أسناني بعنف.
اللعنة. هذا مؤلم.
مؤلم جداً!
دمعت عيناي رغماً عني نتيجة الألم الفظيع الذي يحرق كتفي، ومع ذلك أخرجت هاتفي بسرعة لأتصل على دانيال بينما أسير إلى الطريق المليء بصناديق الشحن الضخمة للبضائع التجارية! جاهدت لأضغط على رقمه وما ان فعلت حتى دخل السائق بسيارته، لياقتي ليست سيئة ولكن الحقائب تعيقني. وكتفي من الصعب تجاهله أكثر! وهذا ما جعلني القي بالحقائب بسرعة وأكمل طريقي دونها.
شهقت بذعر عندما أمسك بيدي من نافذته المفتوحة وقال محذراً وفي صوته نبرة ماكرة: قفي عندك. لا فائدة من الهرب صغيرتي فالمكان مهجور ولن يسمعك أحد.
احتدت عيناي وانا احاول سحب يدي ولكن دون جدوى! ولهذا تحديداً عكست الأمر وامسكت بيده بيدي الأخرى وسحبته بقوة فارتطم جسده بباب مقعده وصفق رأسه بطرف النافذة، واصلت سحبه بقوة حتى صرخ: أيتها اللعينة.
طرفت بتفاجؤ عندما أوقف السيارة وفتح الباب مقرراً النزول ممسكاً بيدي، سحقاً!، كان لا يزال ممسكاً بيدي حتى أمسك بذراعي بقبضته بقوة وابتسم بخبث: لا تقلقي أنا منفصل عن زوجتي منذ زمن بعيد. لسنا خائنان، سنحظى بالمتعة بإرادتنا.
زمجرت بغضب: دعني أيها الكهل المنحرف!
دفعني بشراسة نحو صندوق الشحن خلفي فأصدر صوتاً تردد صداه نظراً لكونه فارغاً من أي شحنة وقديم جداً، انتابني الذعرالشديد حتى اصطكت أسناني ببعضها البعض ولامست البرودة أطرافي! ولكنني حاولت الحفاظ على هدوئي وقد رفعت عيناي نحوه بحقد وهمست محاولة التملص منه: قلت لك دعني وشأني، اخجل من نفسك أيها الوغد! إن كُشف أمرك فستطردك شركة المواصلات وستبقى بلا عمل. سأراك مشرداً بعدها ولن أرحمك أنا أقسم!
ابتسم مستمتعاً وقرّب وجهه: تبدين متمالكة لأعصابك رغم الموقف. لماذا لا تصرخين بفزع؟
ابتعد عني أيها المجنون!
قلتها بينما أدوس على قدميه بقوة فتأوه بخفة ثم رفع كلتا يداي فوق رأسي بحزم، لمعت عينيه بوميض ماكر ونظرة مليئة بالإنحراف الفاسد وهو يلعق شفتيه بلسانة، بدأ بتقريب وجهه فتسارعت خفقات قلبي برعب وقد هربت الدماء من عروقي!
عليه اللعنة.
ماذا أفعل!
اتسعت عيناي بذهول ما ان لمحت شيئاً يطيح به وقد اصطدم برأسه بقوة شديدة حتى وقع الرجل على الأرض جاثياً وهو يصرخ متأوهاً بشدة!
ما هذا؟ خوذة؟
طرفت بعدم استيعاب احدق إلى الخوذة الملقاة على الأرض، شخص ما رماها عليه! مهلاً. هذه الخوذة السوداء. نظرت فوراً نحو اليمين فوجدت جسداً قريباً في الظلام يتقدم بخطى واسعة، شيئاً فشيئاً اتضح وجهه لتتسع عيناي أكثر وقد أطبقت شفتاي بصمت تام ما ان انتابتني غصة قوية مزجت شعوري بالإطمئنان والغضب في آن واحد.
في ظل صراخ الرجل متأوهاً وهو يغطي وجهه ورأسه بيديه، اقترب هو بملامح منزعجة بشدة وعينيه الزمردية بدت داكنة في الظلام مترعة بالوعيد، نظر إلى وإلى ملابسي بتمعن ثم نحو الرجل واقترب منه ليقف أمامه مباشرة.
ومع أنه كان ينظر إليه، إلا أنه قال بصوت عميق: هل أنتِ بخير؟
أومأت بسرعة أمرر يدي على كتفي بخفة: نعم.
هل. تأخرت؟
حسناً. كنت على وشك أن يُعتدى على واللوم كله كان سيقع على من رفض إيصالي في وقت متأخر!
زم شفتيه للحظة ثم عقد حاجبيه بإنزعاج.
ثم تنهد بتبرم وبعثر شعره ليرفع قدمه قليلاً ليدفع فيها صدر السائق ويرغمه على الإستلقاء على الأرض، ظل واقفاً يدوس على صدره وتساءل: تباً لك هل تعلم كم كلفني شراء هذه الخوذة؟ لقد خُدشت بلا أدنى شك. بالكاد أتقاضي أجراً يكفي لشراء ما أحتاجه بالعمل مع أبي في المتجر، هل لديك أدنى فكرة عما ضحيت به طوال السنوات الماضية لأشتري هذه الخوذة فقط! ولكنني الآن ألمح خدش قد شوه جمالها. تعتقد بأنني سأفوت فعلتك؟
قالها يبتسم بشيطانية وتهكم وأكمل هامساً: كيف سأسترد حق خوذتي يا ترى؟
ارتفع حاجباي أحدق إليه بتعجب وغرابة في حين صرخ الرجل باكياً بألم: أسناني. لقد كُسرت أسناني أيها الوغد! سأقتلك. حتماً سأقتلك!
وهل فقد أسنانك فقط سيعوضني؟
أكمل بإنزعاج وقد تكتف بلا حيلة: هل أركل رأسك لأرها تحلق في السماء كما حدث مع خوذتي الثمينة؟
تأوه السائق حين دفعه بقدمه أكثر وتمتم فجأة بنبرة هادئة جادة: هل محاولة الإعتداء على امرأة كرهاً سيجعلك تشعر بحال أفضل؟
صرخ راجياً بينما بدأت الدماء تسيل قليلاً من فمه جراء جرح لثته وتكسر أسنانه: لن أكررها. أقسم لك لن أكررها، ابعد قدمك تكاد أضلعي تتهشم! أرجوك.
بقي يصرخ ويرجوه في حين تحركت قدماي أتجه إلى الخوذة لألتقطها من على الأرض، يوجد بالفعل كسر واضح فيها، كما انها تعرضت لبعض الخدوش الصغيرة.! هذا غريب. إلى هذه الدرجة بالغ في استخدام قوته وهو يلقيها عليه؟ وإلا ما كانت لتخدش بسهولة! امسكتها ووقفت بينما تعالت صرخات الرجل أكثر مشيراً بكلتا يديه للآخر أن يتوقف!
بصراحة لا أشعر بالشفقة عليه، لو كنت في كامل طاقتي لأنهلت عليه بالضرب أيضاً ولكن. ربما يكفيه تشوه فمه.
القى بالخوذة دون تفكير ليبعده عني في الوقت المناسب. ولكنه يبدو غاضباً لما حلّ بها. تبدو ثمينة بالنسبة له حقاً.
أخشى أنني.
سأكون مضطرة لتعويضه بأخرى!
أغمضت عيناي بلا حيلة ثم قلت: هل تخطط لقتله؟
نفي برأسه بسرعة: لست قاتلاً ولكنني أشعر بالأسى والغضب ولا يمكنني إبعاد قدمي. أنا حقاً أحاول. ولكنني كلما حاولت استخدمت قوتي أكثر!
رمقته ببلاهة ثم زفرت بإمتعاض: أنتَ الوحيد المختل هنا! على كل حال تمالك نفسك، لنسلمه للشرطة وننهي المسألة.
ما أن سمع الرجل بكلماتي حتى انتفض مجفلاً ودفع قدم دانيال بأقصى قوته ليبعده وبدى كسرعة الصوت وهو يتجه إلى سيارته ويركبها بذعر شديد ليغلق الباب ويدوس على دواسة البنزين بقوة ليحركها.!
أخذ دانيال شهيقاً عميقاً يراقبه بعينيه بملل ثم زفر وهو يرفع هاتفه ليصور رقم لوحة السيارة قبل أن تختفي، وعندما اختفت سيارته عن أنظارنا انزل هاتفه وتمتم: سيكون في قبضة الشرطة عاجلاً أم آجلاً.
ساد الصمت للحظة وانا انظر إليه تارة وإلى الخوذة والمكان تارة أخرى، حتى ابتسم بسعادة وقال بفخر: لحظة! على الأقل هذه المرة سأكون المتقدم بالبلاغ وليس العكس! يجب أن أبلغ جيمس بنفسي.
ارتفع حاجباي ببطء أحدق إلى سعادته وقد أكمل: ومن يعلم! ربما أتلقى جائزة مالية عندما أخبرهم أنني ساعدت فتاة كادت تتعرض للإعتداء بل وضربت المتهم كما أستطيع التسبب ببعض الجروح لنفسي لأبدو متأذياً من الحادثة ولكنني لن أفعل!
طرفت بعدم استيعاب. ثم تفاجأت بنفسي أفلت ضحكة خافتة من بين شفتاي.
ساد الصمت المطبق في المكان عدى من صوت ضحكاتي الخافتة متمتمة: إلى أي مدى أنت يائس!
نظر إلى بملامح قد ارتخت للحظة قبل أن يرمقني بإنزعاج: لا يستدعي الأمر الضحك أو السخرية أنا أحاول جاهداً لتحسين سمعتي.
نفيت برأسي بسرعة وتحركت أحمل حقيبتي فزفر يتناول الخوذة مني لينظر إليها للحظات قبل ان ينظر إليها بتبرم: لم تعد ذا فائدة.
أعقب يكمل طريقه: ولكنني خضت معها ذكريات ولحظات جميلة لذا لن ألقيها هنا.
تبعته متسائلة: أين دراجتك؟
أشار بملل للأمام فلمحتها بعيدة، عندما وصلنا أخيراً جلس على الدراجة وضاقت عينيه ينظر إلى بحذر: أنصتي إلى جيداً.
استرسل بجدية يوجهني بتركيز: ستجلسين خلفي. تمسكي بي، ولكن لا تلمسيني اتفقنا؟
وكيف هذا يا ترى! هل تحاول التخلص مني بإلقائي في أحد الشوارتع تحت إحدى السيارات؟
ولكنكِ ستكونين قريبة جداً مني!
وأين عساني أجلس إذاً؟
أعقبت بسخرية: إلا إن تطوعت وعدنا إلى المنزل سوية بسيارة أجرة.
لوى شفتيه بتفكير: حل مقبول ولكنني لن أترك دراجتي وحيدة هنا. ماذا لو تجرأ أحد الأوغاد وسرقها أو خدشها؟
أضاف يحدث نفسه بحيرة: في الواقع أستطيع إخفائها هنا في مكان ما غير ملحوظ ولكنها خطوة خطرة بالفعل وقد أندم لاحقاً على هذا فحتى لو أخذت المفتاح قد يتم سرقة لوحة الدراجة أحد أجزائها أو ربما الدراجة بأكملها! لذا لما لا.
ظل يثرثر مطولاً فتجاهلت هذه الثرثرة التي لا فائدة منها وجلست خلفه على حين غرة بعد ان وضعت حقيبتي الصغيرة داخل الحقيبة الأخرى ثم وضعتها فوق ظهري فأجفل وتصنم جسده فوراً وتوقف عن الثرثرة.
نظرت إلى ظهره حيث كان كالخشب السميك الذي يحتاج إلى تعاون قوي بين بضعة أشخاص لتحريكه، إلى أي مدى على أن اكون بعيدة عنه؟ لا أستطيع الإبتعاد أكثر سأسقط لو فعلت. تباً ولكنه لا يتحرك حقاً! ابتلعت ريقي وقد سبب لي الإرتباك رغماً عني. هذا الأحمق الذي يبالغ في ردات فعله.
تباً.
تمتمت على مضض: ضع حقيبتك حاجزاً بيننا.
ارتجفت يديه وهو يضعها على ظهره دون أن يلتفت نحوي ولو قليلاً، يمكنني ملاحظة سرعة نسق أنفاسه.
امسك بالمفتاح بيده المرتجفة ليشغل الدراجة، تعالى صوت المحرك في الأرجاء الفارغة تماماً من أي شيء ليتتابع صوت الصدى، ابتسمت بشيء من الحماس فلا أنكر أنني رغبت لو أجرب ركوب دراجة نارية!
اتسعت ابتسامتي حين بدأ يقودها وبدأ شعري يتبعثر ويتحرك حول وجهي ولكنني سرعان ما استنكرت توقفه فجأة وقد قال بهدوء: أعلم أن الخوذة في حالة يرثى لها، ولكن ارتديها حتى نصل على الأقل.
هاه! ارتفع حاجباي بحيرة بينما يمدها لي، وجدت نفسي أقلب عيناي بلا اكتراث: لا أريدها. ضعها أنت.
تأفف بضجر: الإحتياط واجب كما تعلمين!
كل شيء سيكون على ما يرام.
ارتديها بسرعة لنعود وننهي هذه الليلة الطويلة.
حاولت الرفض بشتى الطرق! ولكنه ظل يصر بكل الأصوات والأساليب وها أنا ذا أقوم بارتدائها باستسلام فهو لا يعرف معنى الإستسلام حقاً.
انزعجت قليلاً من كون قياسها كبير وغير ملائم لي ولكنني تجاوزت الأمر وأطبقت فمي، قاد دراجته أخيراً فأمسكت بحقيبته على ظهره.
انتظرت للحظات حتى انهمك في عالمه الخاص يقود الدراجة فنزعت الخوذة منزعجة منها ووضعتها في حضني. استمتعت في الضربات اللطيفة من الهواء على وجهي ومن تبعثر شعري بقوة فابتسمت بحماس شديد.
كنت أعلم هذا.
قيادة الدراجة أكثر متعة من غيرها ولكنني لم أجربها مسبقا، اتذكر جيداً أنني رغبت في هذا فيما مضى ولكن أبي رفض رفضاً قاطعاً نهائياً، لم يكن أمراً كهذا سيكون مقبولاً فلطالما اعتدنا على الذهاب مع السائق الخاص. كان يقلق بشأني دائماً. في أبسط الأمور وأصغر التفاصيل. كان يخشى على الأذى من كل ما حولي. وكلما زادت شهرة أبي في مجاله وزادت ثرواته زاد قلقه علينا أكثر. حظيت بالنسيب الأكبر من الدلال منه ومع هذا أثبت له انني لم أستحق شيئاً من اهتمامه.
ابتسمت بشرود ولكن سرعان ما اتسعت ابتسامتي حين انعطف دانيال للشارع الأخر وقد مالت الدراجة قليلاً. فشلت في السيطرة على نفسي وقد ضحكت مستمتعة: إنه الشعور الأفضل حقاً!
بدى مستغرباً قليلاً وقد القى على نظرة سريعة حتى اتسعت عينيه وتذمر بينما يعود للتركيز على القيادة: لماذا نزعتِ الخوذة أيتها المزيفة! ارتديها بسرعة.
ومن الأحمق الذي سيفوت فرصة كهذه! دعني أستمتع وأطبق فمك. قد لا أحظى بفرصة كهذه مجدداً.
أكملت عاجزة عن التوقف وقد تمسكت بحقيبته أكثر: لطالما أردت درجة ركوب دراجة نارية، كنت أعلم أنها ممتعة ولكنني لم أتخيل أن الشعور سيكون كالآن. الهواء لا يتوقف عن مداعبة وجهي وشعري كما أشعر أنني خفيفة جداً بل جزء من ذرات الهواء.
لم يعلق للحظات ولكنني تفاجأت به يقول بمكر: هكذا إذاً.
أعقب محفزاً: القي الخوذة على جانب الرصيف بحذر، تخلصي منها وتمسكي بالحقيبة جيداً.
أومأت فوراً وفعلت ذلك، تمسكت بحقيبته وتقربت منه أكثر فزاد من سرعته، في البداية خفق قلبي بذعر ولكنني سرعان ما تناسيت الأمر لخفة حركة الدراجة وميلانها إلى اليمين والشمال، تجاوزه للسيارات ببساطة والتحرك من بينها بكل سلاسة!
ضيقت عيناي قليلاً بسبب قوة الهواء ولكنني ابتسمت وقلت بصوت عالي ليسمعني: هل تسلك طريقاً مختلفاً؟
أومأ وقد سلك الطريق نحو الجسر الذي يؤدي إلى المنطقة التي تتواجد فيها مراكز المدينة الأساسية حيث المناطق الحيوية والمكتظة، ربما. ليجعل الوقت أطول. والطريق للعودة إلى المنزل أبعد. ليتسنى لي الإستمتاع أكثر؟
أغمضت عيناي لثواني ثم زميت شفتي قليلاً.
نظرت إلى ظهره بفم مطبق، تجولت عيناي على شعره الأسود الذي يشاكسه الهواء، ثم إلى ظهره مجدداً.
م. مع أنني لم أرغمه أو أطلب منه ذلك ولكنه أطال الوقت من تلقاء نفسه!
كما أسلفت. قد يكون معقد ومستفز ولكن. لديه مبادئه الخاصة كذلك. كما أنه لا يبدو كشخص سيء حقاً في جميع النواحي أو ربما كلها حتى. أعتقد أن دانيال ذو لون واضح جداً، ليس مزيفاً وهذا أمر ينجلي في تصرفاته وتعبيرات وجهه.
انتفضت برعب ممزوج بالحماس الشديد حين ارتفعت الدراجة قليلاً عن الأرض بسبب الإرتفاع البسيط في الشارع ثم انسيابه مجدداً إلى الأسفل! لا أدري إن كان على الشعور بالخوف أو السعادة ولكن قلبي لا يتوقف عن الخفق بسرعة جنونية.
شيئاً فشيئاً بدأ يبطئ من سرعته بسبب الإزدحام هنا، فحتى لو كان الوقت متأخراً فالمنطقة التي تلي الجسر دائمة الإكتظاظ في كل وقت بسبب مرافقها وضواحيها السياحية. توقفنا في إحدى الإشارات فأخذت شهيقاً عميقاً ثم زفرته مبتسمة: تأخر الوقت كثيراً. لقد مضى دون أن اشعر، سيتوجب على الإستيقاظ مبكراً.
سأسلك طريق العودة.
أعقب بتساؤل دون أن يلتفت وفي نبرته فضول واضح: هل هي مرتك الأولى حقاً؟ عجباً فلقد ظننتك ستصرخين وتطالبينني بخفض السرعة قليلاً!
لا أنكر أن الأمر كان مخيفاً. ولكنه يظل ممتعاً جداً.
أكملت أشرح محركة يداي بعفوية انطلقت من تلقاء نفسها: أقصد. ان تكون الأسرع والأكثر خفة من بين الجميع وتتحد مع الهواء سينتابك شعور أنك المسيطر بالفعل، الأمر مشابه لزيارة مدينة الملاهي وتجربة مختلف الألعاب الخطيرة هناك، تعلم أنها خطيرة وغير آمنة ولكنها تظل تجربة تستحق العناء.
أطلق زفرة ساخرة ثم انفرجت زاوية فمه بابتسامة سريعة ولم يعلق.
نظرت إلى السيارات المتوقفة بجانبنا ومن حولنا في الإشارة، ثم إليه بتردد.
وحينها وجدت نفسي أقول بهدوء: شكراً.
إلا أنني تفاجأت به يقول آسف في الوقت آنه.
نظرت إليه بحيرة وكذلك التفت نحوي بتلقائية بسرعة واستغراب لأسأله: بشأن ماذا؟
ماذا عنكِ! ما الذي يدعو للإمتنان؟
سألتك أولاً.
ح. حسناً إنه بشأن ما حدث قبل قليل، أقصد. لا أنكف أفكر بما كان سيحدث لولم أتدارك الموقف.
لا زلت تفكر بالأمر. بمناسبة ذكره أخبرني كيف علمت بالطريق الذي سلكه السائق؟
أجابني بملل: كنت أسير في الإتجاه نفسه ولكن بعد إحدى الإشارات استغربت انعطافه إلى شارع آخر معاكس لمنزلي لذا أسرعت اتبعه ولكنني تأخرت قليلاً بسبب الشوارع السخيفة والمارة.
أومأت بفهم بينما أكمل بفخر: بالطبع ستكونين شاكرة لهذا الموقف البطولي، لو لم أصوب عليه بكل دقة لكنتِ المصابة الآن، لا تعلمين كم استهلك هذا من قوة تركيزي وطاقتي.
التصويب؟ من يكون؟ فتى الأدغال! نفيت برأسي بضجر ولا حيلة ثم قلت بإستهزاء: من قال أنني أشكرك على هذا الموقف البطولي السخيف؟
ماذا إذاً!
إنه. بشأن إيصالي فقط، كما اخبرتك للتو أردت خوض تجربة كهذه وقد حظيت بها، هذا كل شيء. أما بالنسبة لما حدث فبالطبع ستكون مرغماً على الإعتذار لما سببته لي من توتر وذعر، آنسة مثلي كادت تتعرض للإعتداء فمن سيكون المسؤول حينها؟
آه، فهمت.
فتحت الإشارة فتحرك يتمتم على مضض: لم أكن أرغب في الإعتذار ولكن انتابتني الرغبة في ذلك فقط، أكره ان يتم لومي ولكنني المخطئ لا أريد أن أعتذر بل أنني منزعج لأنني اعتذرت حقاً.
لم يكن عليك الإعتذار إذاً. لا تعقد المسألة.
من الصعب السيطرة على ما يريد لساني التفوه به.
تعترف أنك مجرد ثرثار.
علي الأقل ثرثرتي صريحة.
تشير إلى انني مزيفة مجدداً؟
إنها الحقيقة!
أنزلني هنا.
كنت سأفعل لو لم يكن الوقت متأخراً.
أنت تدعي الشهامة.
ولكنني أجيدها أحياناً.
دانيال:
أوقفت الدراجة في المرأب بعد أن أنزلتها عند الباب الأمامي ودخلت، خرجت من المرأب عبر الباب المؤدي للمتجر مباشرة فوجدتها تصعد الدرج.
نظرت إلى حقيبتي التي أمسكها بشرود ثم حيث لمحتها على الدرج قبل ثواني.
ما مررت به غريب. غريب إلى درجة خيالية، عندما لمحت سيارة الأجرة تسلك طريقاً مختلفاً غير مألوف بالنسبة لي ومعاكس للعنوان لا أدري كيف قطعت الإشارة الحمراء فجأة. تحرك جسدي من تلقاء نفسه. توقف عقلي عن التفكير تماماً.!
تنهدت بعمق اتجه إلى علبة المناديل لأسحب القليل منها ورفعت القميص من على ذراعي أحدق إلى الدماء التي لوثتها وقد نتجت عن الكثير من الخدوش عندما اضطررت لقطع الإشارة، كدت أصطدم بإحدى السيارات الصغيرة ولحسن الحظ لم يكن السائق مسرعاً وإلا لكانت رأسي قد تهشمت تماماً بدلاً من الخوذة، بدلاً من ذلك اصطدمت بحافة الرصيف بقوة.
وكأنني سأعترف أن الخوذة تحولت إلى قطعة خردة بسبب اصطدامي! سأكون مجرد مثير للسخرية حقاً. بالكاد أستوعب ما أقوم به حتى.
لقد حالفني الحظ اليوم بالفعل!
كما أن يدي تحركت من تلقاء نفسها ما ان لمحت ذلك الرجل يحاول الإعتداء عليها، لم أفكر ما ان كان سيموت من القاء الخوذة عليه بتلك القوة المبالغ فيها.
هذه الفتاة مزعجة حقاً. مزعجة إلى أبعد درجة ممكنة ولا شيء جيد سيأتي من ورائها.
زفرت بلا حيلة والقيت بالمناديل في القمامة، لقد جفت الدماء ولا فائدة من محاولة تنظيف الجروح على أن استحم فوراً، وضعت الحقيبة على كتفي لأصعد، المنزل مظلم تماماً لا بد أن الجميع قد خلدوا إلى النوم. لن يتفاجئ كل من أبي وكارل لتواجدها فهما يتوقعان ذلك في أي لحظة ولكن العزاء الحقيقي سيقيمه لاري الذي سيتشنج قهراً لعودتها.
أمسكت بقبضة باب الغرفة بحذر لئلا أيقظ كارل، دخلت ببطء وخفة لأراه مستلقياً وظهره مواجه لي، مشيت على أطراف أصابعي ولم أنتظر لحظة واحدة إذ أخذت ملابسي من الخزانة وقد حاولت النظر من خلال إضاءة الهاتف، لو فتحت إنارة الغرفة فسيستيقظ فوراً ويتحول إلى وحش هائج لإفسادي نومه.
أخذت حماماً سريعاً في غرفة لاري وكيفين النائمان كذلك، خرجت أجفف شعري وأتثاءب بنعاس تام. دخلت الغرفة وقد تركت المنشفة الصغيرة على رأسي حتى استلقيت على سريري بنعاس ونظرت إلى السقف بشرود.
شبكت يداي خلف رأسي وارتخت عيناي أتذكر تلك اللحظة حيث ابتسمت بسعادة وحماس. لم تكن ابتسامة مزيفة، ليست مسايرة أو مجاملة كما ليست متكلفة بشكل أو بآخر. بدت مفعمة بالحماس الشديد لذا لم يأخذ القرار مني أكثر من دقيقة لأجد نفسي أسلك الوجهة المؤدية إلى الجسر ثم أخذ الطريق الأبعد للعودة.
ما هذا تحديداً؟ لم أكن أبالغ في البداية حقاً فلقد كنت أنزعج من مجرد سماع صوتها ورؤية ابتسامته المصطنعة فلماذا يبدو الأمر مختلفاً تماماً الآن؟
تقلّبت على جانبي الأيمن أنظر في أرجاء الغرفة حيث كانت الستائر المفتوحة عن النافذة تتيح بدخول إنارة خافتة في أرجاء المكان، ولكنني سرعان ما شهقت برعب أحدق إلى العيون التي تحدق إلى في الظلام!
اجفلت بإرتياب: لماذا تحدق إلى في الظلام بحق خالق الكون! منذ متى وانت مستيقظ كارل؟
طرف بملل يجوبه نعاس ثم استلقى على ظهره ينظر إلى السقف متمتماً: منذ ان أوقفت دراجتك في المرأب. لا يبدو انك عدت وحدك، الآنسة كتاليا معك صحيح؟ يمكنني سماع خطوات خافتة في الأعلى.
أومأت بحيرة شديدة ثم تأففت بإنزعاج: لا تفعل هذا مجدداً لا فكرة لديك كم يبدو مظهرك مخيفاً في الظلام.
علق بسخرية: منذ متى أصبح الاحساس لديك مرهف.
ستشتاق إلى صوتك كارل.
حذرته بإقتضاب فتمتم: دان.
همهمت بتساءل وقد ارخيت عيناي قليلاً، ليتساءل بهدوء ونعاس: ما الذي تهدف إليه حقاً من عملك مع الآنسة كتاليا؟
فكرت في سؤاله قليلاً قبل أن أجيبه بإنهاك: أعتقد أن الجواب بحوزتك مسبقاً.
ساد الصمت في الغرفة، علا صوت أحد قطط الشوارع الذي بدى يتشاجر مع قط آخر، ثم صوت خطوات تلك الفتاة في الأعلى ويبدو انها لا تزال تجوب في الغرفة.
الجواب بحوزتي وحدي دان.
عقدت حاجباي باستنكار شديد وفتحت عيناي أنظر إليه بعدم فهم!
ما الذي. يقصده؟
سألته بهدوء: وحدك؟
تقلّب على جانبه الأخر لأواجه ظهره وقد سمعته يتمتم: اللحظة التي ستفهم فيها أهدافك الحقيقية، ستستوعب أن الجواب لم يكن بحوزتك يوماً.
أضاف بصوت غريب: ربما ما تسعى إليه. لا يتعلق به فقط.
اسندت جسدي على مرفقي أنظر إليه بعدم فهم: ما الذي تحاول قوله؟
ولكنه تجاهل سؤالي ورفع الغطاء على جسده!
الجوب ليس بحوزتي؟
ما الذي يهذي به! الا يزال نائماً؟
عندما جلسنا على طاولة الطعام نتناول ما أعده أبي على الفطور أتى سؤال لاري ليسألني بشيء من الضيق: أخي. كيف كانت رحلة عملك؟ هل حاولت تلك القبي، ، المرأة إزعاجك؟
مضغت طعامي بملل ونعاس ورمقته بنظرة سريعة: لا شيء يذكر.
تنهد بأسى: هل سيتكرر هذا مجدداً!
أجابه أبي بإختصار: حسب ما يتطلبه العمل، تناول طعامك بصمت.
أومأ بخضوع قبل ان يزم شفتيه وقد لمعت مقلتيه بالكراهية تجاه تلك الفتاة بشدة، آه صحيح لا يبدو ان أحدهم على علم بوجودها هنا بعد!
فتحت فمي لأتحدث ولكن صوت أنثوي سبقني: صباح الخير جميعاً.
نظر الجميع بإتجاهها باستغراب عدى كارل فأغمضت عيناي أستعد لسماع اعتراض لاري وقد كنت محق إذ شهق ليصيح منزعجاً: لماذا أنتِ هنا!
فتحت عيناي بضجر وأكملت تناول طعامي بينما أجابته بنبرتها المرحة المزيفة: هل كنت قلقاً بشأني في الأيام الماضية؟ أعتذر على التسبب بالقلق لاري!
وكأنني سأقلق عليكِ! لقد عادت حياتنا إلى طبيعتها ولكنك ا.
قاطعه أبي بجدية: قلت تناول طعامك بصمت.
و. ولكن أبي! لقد كان لديها مكان تمكث فيه فلماذا هي هنا؟ الا يبدو دانيال أفضل حالاً عندما تكون بعيدة؟ هي حتى أخذته بعيداً عن المنزل ليومين، لا يجب أن تتجاهل محاولاتها لأخذه منا!
ابتسم كارل يحدق إليه بلا حيلة: توقف عن التفكير بهذه الطريقة.
ثم وجه حديثه إليها وقال: تناولي فطورك آنسة كتاليا.
رمقها كيفين بنظرة سريعة بينما لا زالت تقف عند باب المطبخ قبل ان تتحرك مبتسمة لكارل بلطف بالغ: شكراً جزيلاً.
عندما جلست تتناول فطورها بجانب أبي. أدركت أنها لم تكن المرة الأولى التي تستقر فيها على المقعد المجاور لي كذلك! بل وأدركت ما هو أهم.
ربما ذلك وبطريقة ما لم يعد يشكل فرقاً كبيراً بالنسبة لي!
هذا.
غريب!
لحظة.
لماذا يبدو وجهها شاحباً؟
عقدت حاجباي بإستنكار شديد وما ان واجهتني عيناها الرمادية حتى انتفضت في مكاني وأسرعت أحدق إلى طبقي.!
تساءل أبي يوجه حديثه إليها بإهتمام وهدوء: هل سار كل شيء على ما يرام في العمل؟
أجابته من فورها: نعم، قد تكرر مثل هذه الجلسات المطولة مع دانيال مستقبلاً، أنا واثقة أن الدعاية الجديدة التي قام بتأديتها ستحقق أرباحا كبيرة وتروج للعبة في كل مكان.
ثم بدأت فجأة تستكمل حديثها حول الأمر بحماس وأبي ينصت إليها.
أنا لا أتخيل هي تبدو شاحبة.! ما خطبها!
لمحت لاري يحدق إليها بتفكير وتمعن وتساءلت عن نوع الأفكار الإجرامية التي تراود عقله الآن! تنحنحت لأنبهه فأفاق من أفكاره وطرف بعينه بهدوء يستكمل تناول طعامه.
كانت لحظات حتى ساد الصمت على الطاولة مجدداً، غادر أبي المطبخ بعد ان انهى طبقه ونزل إلى المحل ليتأهب لافتتاحه.
ولم تمضي سوى ثواني حتى كسر الصمت صوتاً قادماً من النافذة من الخارج.
كيفين. نحن نعلم أنك في المنزل ولم تخرج للمدرسة بعد، أظهر نفسك بسرعة قبل أن أفقد أعصابي، سنلقنك درساً على ما فعلته بالأمس هل تسمعني! هيا يا دودة الكتب أظهر نفسك وكن جريئاً لتتحمل عواقب أفعالك الدنيئة مع إيما!
تبادلنا جميعنا النظرات الهادئة الغير مكترثة في حين عقدت هي حاجبيها باستغراب كما لو ترغب في ان تتأكد مما سمعته!
مضغ كيفين طعامه بهدوء وكذلك تجاهلنا الأمر وتساءل كارل بإهتمام يوجه حديثه إلى لاري: سترافق أبي غداً؟
أومأ له لاري فنظرت إليهما بعدم فهم: إلى أين؟
أجابني كارل: هل تذكر السيد راف من القرية؟
عقدت حاجباي متذكراً: مالك الحظيرة المقابلة للبحيرة! ما خطبه؟
كان في زيارة إلى العاصمة منذ يومين لدى أحد اقاربه واتصل بأبي راغباً في لقاءه، ولكن المكان بعيد قليلاً لذا سيذهب أبي وقد يبيت هناك.
نظرت إلى لاري: سترافقه إذاً!
أومأ لي بعبوس قبل أن يقترح: رافقنا داني!
نفيت برأسي: لا أستطيع ومن عساه سيحل مكان أبي في المحل!
اللعنة يا كيفين كم أنت جريء لتتجاهلنا!، أظهر نفسك وإلا سنغير ملامح وجهك تماماً في المدرسة حتى أبيك لن يتعرف عليك، هل ترتجف خوفاً وفزعاً الآن؟ هل تختبئ وتدرك خطأك؟ هاه؟ اخرج وإلا كسرنا الباب أيها الجبان.!
نظر كارل إلى كيفين وقال بإستيعاب: هل حقاً لن تتواجد غداً في المنزل؟ وافق أبي على التحاقك بالمسابقة؟
أومأ له كيفين فأسرع كارل يوضح لي مبتسماً بفخر: تم ترشيحه للمشاركة في مسابقة علمية على مستوى إقليمي!
ارتفع حاجباي وأومأت برضى: نضجت دودة الكتب وأصبحت ذا فائدة للمجتمع! هنيئاً لك. إياك والحاق الهزيمة بمدرستك، أو فريقك، أو حتى بنا. أياً يكن!
تمتم ببرود يدفع نظارته بسبابته: فريق؟ كفاك سخفاً لماذا سأكون جزءاً من فريق، تم اختياري من بين عشرات المرشحين من مدرستي.
لويت شفتي ممتعضاً: ياللتواضع!
توقف عن تجاهلنا كيفين وانزل حالاً! ان كنتَ تجرؤ على اظهار وجهك فواجهنا حالاً!
أغمضت عيناي لثواني قبل أن أقف بنفاذ صبر واتجهت إلى نافذة غرفة المعيشة لأطل برأسي بغضب وأرى ثلاثة من الحمقى من ضمنهم ذو الشعر الفاقع الذي اعتقد أنه يدعى آرنولد وزعيمهم المغفل تيدي! صرخت بحزم: أنتم يا حثالة هذا المجتمع! لماذا التجمع أمام منزلي؟ هل تريدون الموت قبل ان تتفح زهرة شبابكم؟ لا أمانع تهشيم رؤوسكم حقاً لذا ابتعدو من هنا قبل ان أنزل بنفسي.
نظروا للأعلى بفزع ليصرخ تيدي: لنعد يا رفاق ونتولى أمره في المدرسة.
اعترضت لأصرخ وقد بدأ المارة ينظرون نحوي في الأعلى: هاه؟ تتفوه بهذا بكل جرأة أمامي؟ اسمعني يا كتلة الشحوم يبدو ان الهدنة التي عقدناها ستنتهي حالاً!
نفي برأسه بتوتر وهو يتراجع خطوتين للخلف: لن أمسه بسوء سأهذبه بالحديث والقول فقط ليتوقف عن أفعاله! شقيقك أيضاً مخطئ لماذا نحن من نتلقى اللوم هنا! انت حتى لا تعلم ما فعله! ه. هذا ظلم!
عضضت على شفتي قبل ان ابتسم بخبث: تهذبه بالحديث؟ ما رأيك أن تفعل هذا بعد ان اهذبكم بكلتا يداي وقدمي؟ لا تقلق لن تتألم كثيراً لأنك لن تشعر بالألم أصلاً، سيكون الأوان قد فات على الندم حينها.
فتح فمه ليجادلني ولكنه توقف ما ان اشار ذو الشعر الفاقع آرنولد نحوي بسبابته وقال بغيض: لماذا يخشاك الجميع تحديداً! من تكون يا هذا انزل حالاً وتحدث إلى وجهاً لوجه!
اتكأت على النافذة انظر إليه بسخرية بينما وكزه رفيقه الثالث بقوة: اخرس ايها الغبي حذرناك مسبقاً ألم نفعل؟
تدخلت ببرود: لما لا!؟ لم أقم بالإحماء منذ مدة واعتقد أنني بحاجة لذلك، قف عندك سأكون هناك خلال ثواني.
تحركت بالفعل أنوي النزول ولكنني رأيت من خرجت من المطبخ وبدت وكأنها تجر قدميها ببطء وتثاقل ملحوظ!
تابعتها بعيناي حتى خرجت ويبدو انها ستتجه إلى عملها فلقد أخذت حقيبتها التي وضعتها على طاولة التلفاز.
لست خائفاً منك! أين أنت؟ هل تختبئ أنت الآخر؟
زفرت بإنزعاج شديد أنصت إلى صراخه وتحركت لأنزل، على التخلص من حفنة الذباب امام المنزل.
كانت تسبقني ببضع خطوات تنزل الدرج ولكنها كانت بطيئة جداً!
حينها لم أتمالك نفسي وقد تساءلت بإستنكار: أنتِ! ما الذي يحدث معك؟
أتى صوتها هادئاً وهي تنزل دون أن تتوقف: لا شيء.
تتحركين مثل امرأة تجاوزت الثمانين من عمرها!
وقفت للحظة تلقي على نظرة حازمة قبل ان تستكمل طريقها.
رأيت أبي مشغولاً بالتنظيف والتجهيز وقد اتجه إلى المرأب، سبقتني هي للخروج وقد كنت خلفها عندما رأيت الثلاثة يقفون عند الرصيف أمام المحل.
انعطفت هي يميناً وأكملت طريقها، تابعتها بعيناي ولم أستطع تجاوز طريقتها الغريبة في جر قدميها.
لا تبدو بخير.
هي حتى تتصرف بهدوء بالغ أكثر من المعتاد!، في البداية تلك الكدمات والخدوش، ثم كتفها.
هذه الفتاة تجيد اهمال نفسها بمهارة فائقة.!
تداركت وجودي أمامهم عندما سمعت تيدي يقنعهم بصوت خافت: لنرحل بسرعة أيها الحمقى!
التفت نحوهم بحدة فأجفلوا وتحرك ثالثهم ليغادر فوراً فجأة، بينما نظر تيدي إلى وقال بإنزعاج: س. سوف نرحل لا يجب أن نتأخر عن المدرسة.
قال ذلك يسحب المدعو آرنولد ذو الشعر الفاقع ولكنني انتبهت لوقوفه يحدق يميني حيث تبتعد بخطواتها عن المكان!، طرف بعينه ونظر إلى بإستغراب: تعرفها؟
أشرت إليه بذقني: لماذا تسأل!
اقتربت منه فأسرع يقول بإنزعاج يبد يد تيدي عنه: ظننت أنني رأيتها قبل يومين تقريباً!
أعقب ينظر إلى صديقه: تيدي انها تلك الفتاة التي أمسكت بيدي عندما قمتم بدفعي نحو الرصيف أيها الأنذال!
عقد تيدي حاجبيه بحيرة يحدق إليها بتركيز ثم نفي برأسه: لم أنتبه. أياً يكن ما المهم في هذا الشأن الآن! لنرحل.
أومأ له الآخر وقال يلوي شفته: معك حق، الوغد كيفين سيخرج عندما نغادر، لنمسك به في المدرسة.
تحرك الإثنان فاستوقتهما بغضب: توقفا! ياللجرأة كيف تتفقان على الظفر به أمامي؟
نظر تيدي إلى وقال بإقتضاب: أخاك المخطئ! كيف له أن يرفض طلب إيما اللطيفة! كل ما أرادته منه أن يساعدها في الدراسة الصيفية ولكنه تجاهل طلبها بكل وقاحة على مرأى جميع الطلاب في الساحة وأحرجها.
زفرت بإنزعاج شديد أمرر يدي على صدغي: إيما إيما إيما! متى ستتوقفون عن ترديد اسم هذه الفتاة بحق الإله! أنا أحذركم من وضع اصبعاً عليه.
ابتسم آرنولد بسخرية: ماذا عن خمسة؟
احتدت عيناي وابتسمت بتهكم: ضع عشرة ان كنت تشعر بالفضول.
أجفل قليلاً وابتلع ريقه ثم قال بفتور: أياً يكن.
مهلاً.
رمقني بنفاذ صبر: ماذا تريد!
سألته بجدية: قلت بأنك رأيتها قبل يومين، متى كان هذا تحديداً؟
رفع كتفيه مفكراً: كان ذلك قبل التاسعة مساءً حسبما أذكر، من تكون؟ زوجتك؟ لماذا تسألني بشأنها!
أجفلت لقوله ولا أدري كم مضى من الوقت من أن كنت أردد كلمته في عقلي!
تلاحقت أنفاسي لصعوبة تجاهل قوله ولكنني سرعان ما زمجرت في وجهه بحزم وقد تلعثم لساني رغماً عني: أ. أجب على سؤالي وحسب!
لن أتفوه بكلمة حتى ترغم كيفين على الاعتذار لإيما بعد أن.
هل تجادلني؟
ك. كان ذلك في التقاطع الخامس.
ما الذي رأيته آنذاك؟
لا شيء يُذكر! هاه. لا مهلاً!
أضاف يشير إلى بعدم تصديق: إن كانت زوجتك ف. هل كنت من فعل ذلك بها! اللعنة انت لا تمانع ركل ولكم الجميع حتى لو كانت زوجتك حقاً! تيدي إنه مجرد مختل بالفعل كما ذكرتكم.!
عقدت حاجباي بإستنكار شديد وهدأته متسائلاً بنبرة هادئة جادة: امنحني صبرك قليلا يا فتى وأجب على ما أسألك بشأنه! كيف كانت عندما رأيتها؟
نظر إلى تيدي بحيرة وتساءل يحدثه: ربما لم يكن من فعل ذلك بها!
امتعض تيدي بعدم فهم: أخبرتك أنني لم أنتبه ولم أرى شيئاً أجبه بسرعة لنغادر!
زفر آرنولد وقال بهدوء يضع يديه بداخل جيب بنطاله: أتذكر أنها كانت في حالة يرثى لها، لمحت دماءً على طرف شفتيها وبدت وكأنها قد خرجت من أرض المعركة بهزيمة ساحقة.
دماء!
شيء بين أضلعي قد فز من مكاني واختل توازنه وقد وجدت نفسي أستفسر بحزم: وضح أكثر! ثم هل غادرت وحدها؟ هل كان برفقتها أي شخص؟
فكّر قليلاً قبل ان يتمتم يضيق عينيه: لا أتذكر وجود شخص معها آنذاك، وما الذي على توضيحه أكثر يا رجل! أخبرتك أنها بدت وكأنها قد خرجت من معركة، شعرها مبعثر بشدة و الغبار يلوث ركبتها بوضوح وربما بعض الخدوش، لا أتذكر المزيد من التفاصيل كان هذا كل ما لفت انتباهي!
أعقب يتراجع للوراء: حسناً هذا يكفي! في المقابل حذر من كيفين من معاملة إيما بطريقته الوقحة وإلا اتبعنا اسلوب مختلف معه!
كانت. في حالة يرثى لها.
وقفت في مكاني كالمغيب عن الوعي وصدى كلماته يتردد في ذهني والكلمات تتجول بفوضوية.
دماء وخدوش.
بالإضافة التي تلك الكدمات مسبقاً. تعذرت بعذر سخيف وفشلت فشلاً ذريعاً في صياغة كذبة متقنة أكثر إقناعاً.
هل هذه الفتاة تتعرض للتعنيف؟ وإن كان ذلك صحيح. فمِمن!؟
هذا.
ولسبب ما أشعل في جوفي حرارة غريبة كان مزعجة بشدة!
كتاليا:
لا فائدة.
حتى بعد أن أخذت مسكن لا أشعر بالتحسن!
أحاول جاهدة التركيز أثناء التصوير ولكن الدوار قد عبث في رأسي أكثر من مرة حتى كدت أفقد توازني!
لدي الكثير من العمل اليوم ولا وقت للإستسلام للمرض، ما الذي أصابني؟ نزلة برد؟ هذا ما ينقصني واللعنة! لماذا أصبح حظي بهذا السوء!
وكأنه كان جيداً يوماً!
تنهدت بعمق ونظرت إلى ديفيد الذي كان يتحدث مع روز بصوت خافت عند جرار الملابس الذي تضع عليه تصاميم أزياءها، لقد تصالحا بالفعل. سعيدة لرؤيتهما يتحدثان معاً مجدداً!
ابتسمت بشرود وأعدت ناظري إلى العارض الذي انتهى من مكالمته المهمة ووقف في موقع التصوير مرة أخرى.
جلسة تلو الأخرى.
وها قد حانت الساعة إلى الواحدة والنصف مساءً. لم يتسنى لي الوقت لأخذ استراحة! هذا ما كنت أنويه فعله عندما نادى بي فريق المصممين إلى قسمهم لمراجعة صور لعبة رهينة القراصنة وكما توقعت.
تلقيت توبيخاً شرساً منهم جراء عدم التزامي بضرورة تصوير الثنائي معاً!
لم أجد عذراً ولكنني اكتفيت بمسايرتهم واقترحت ان ندمج الصور مما زاد من عصبيتهم ولكنهم في النهاية رضخوا للأمر الواقع!
خرجت من قسم التصميم واتجهت إلى الطابق الثاني حيث قاعة الطعام، وفي طريقي إلى المصعد صادفت فرانك الذي خرج من قسم المقالات يحاور أحد زملاءه هناك، انتبه لي وابتسم بعبث: ها أنتِ ذا! كيف كانت رحلة العمل في الميناء القديم؟
أجبته بهدوء: سارت الأمور بشكل طبيعي، لا جديد.
سمعتُ الجميع يثني على أداء الفريق. عمل جيد!
أومأت له وقد انتابني الصداع مجدداً فقلت ملوحة: سأذهب لتناول طعامي.
لم أتناول طعامي بعد، سأرافقك.
لا طاقة لي لأعترض.
رافقني وانتهى الأمر بنا نجلس على الطاولة نفسها نتناول الطعام، وحينها سمعت تعليقاً خلفي: من النادر رؤيتكما تخفضان راية الحرب أمام بعضكما!
التفت للوراء وقلت بلا حيلة: سايمون. لا أثر لك هذه الأيام أين اختفيت تحديداً!
أجابني بهدوء وهو يجلس بجانبي: عدت في الأمس فقط بعد أن أخذت إيلينور وأبنائي إلى عائلتها.
تمتم فرانك معترضاً: سايمون! كانت الاجواء رومانسية لطيفة لماذا حشرت نفسك على هذه الطاولة تحديداً من بين عشرات الطاولات!
ارتفع حاجبا سايمون: من الواضح أنها بالكاد تطيق سماع صوتك!
أيدته مبتسمة بإمتنان: أشكرك على التعبير عن مشاعري.
عبس فرانك مشيراً إلى ملعقته: ياللقسوة.! على كل حال لدي ما أقوله، لن أكون متواجداً في الغد لدي مهمة رسمية في إحدى المؤسسات، ستضطرين لتولي جدولي في الغد.
جدولي. وجدول فرانك! يالسعادتي. سألفظ آخر أنفاسي من شدة التعب!
أومأت له إيجاباً: لا بأس، سأعيد ترتيب أولوياتي. قد أضطر إلى تأجيل إحدى الجلسات الخاصة بي.
وها هو الغد الذي كنتُ قلقة بشأنه منذ الأمس!
كما ان الندم يعتريني بشدة، ظننت أنني وبحصولي على قسط من الراحة سأتحسن ولكن هيهات.
أشعر بالألم والخدر في عظامي، كما أنني أواجه صعوبة في التنفس بأريحية كما لو كان استنشاق الهواء مجرد عبء علي!
روز ليست متواجدة اليوم وقد اضطرت لأخذ يوم راحة، بينما جانيت مشغولة جداً في عملها ولم أستطع اعلامها برغبتي في الحصول على توصيلة فيبدو انها ستطيل البقاء في العمل أكثر من ساعات العمل الرسمية.
وضعت حقيبتي على كتفي بينما حركت كتفي الأخرى بصعوبة ثم أرخيتها، خرجت من المجلة أسير بخطى بطيئة وكل ما ينصب تفكيري عليه الآن هو رغبتي العارمة في العودة إلى منزل السيد هاريسون لأغمض عيناي وأنام في أسرع وقت.
تعالى رنين هاتفي فأخرجته من حقيبتي.
جف حلقي تماماً أنظر إلى رقم أبي الذي يعتلي الشاشة.
تسارعت خفقات قلبي ونظرت من حولي أبحث عن مقعد قريب، جلست على المقعد العريض المخصص لانتظار الحافلات، كان حولي بعض المارة والضجة في كل مكان والازدحام الطفيف للسيارات زاد من توتري.
أرغب حقاً في سماع صوته ولكن.
انتابني الإضطراب ورفعت الهاتف نحو أذني لأجيب بصوت مبحوح رغماً عني جراء توتري: م. مرحباً.
لم أسمعه رده.
ساد الصمت لفترة حتى قطعه بصوته الذي أثلج صدري رغم العتاب المترع في نبرته: تنازلتِ لتجيبي على مكالمتي إذاً.
فغرت فمي أحاول الرد ولكنني لم أجد ما أقوله.
بللت شفتاي بلساني مرتبكة وقلقة ليردف بصوته العميق: يومُ الخميس المقبل، كوني في المنزل في تمام العاشرة صباحاً، سأكون قد انهيت بعض الأعمال المهمة لدي، لا أهتم إن كنت مرتبطة بعمل أو أي هراء آخر.
اتسعت عيناي بعدم استيعاب وخرج صوتي متهدجاً: مهلاً. أنا.
ولكنني ذهلت به ينهي المكالمة وقد أغلق في وجهي دون حرف واحد!
يوم الخميس المقبل! بعد ثلاثة ايام من الآن؟
لا أريد العودة إلى المنزل!
لا تتملكني الجرأة للعودة وإن حاولت!
أنا.
لا أستطيع.
عليه أن ينصت إلي!
أعدت الإتصال به بسرعة اهز قدمي دون توقف ولكنه لم يجب، حاولت مرارا وتكرارا دون جدوى!
نال مني القلق والإنفعال ووقفت متناسية أي إرهاق أشعر به وسرت بخطى سريعة بلا وجه محددة!
هل سيحاول ان يضعني أمام الأمر الواقع؟
لا يمكنه أن يكون جاداً! أنا حقاً لا أستطيع اظهار وجهي لأياً كان في منزلنا! على الأقل ليس الآن.!
كيف من المفترض ان أقنعه؟
لم تكن لي وجهة محددة طوال الوقت!
أمضيت وقتاً طويلاً أتنقل من متجر إلى آخر دون أن أشتري شيئاً، ذهني شارد ومشتت وقد استقر الأمر بي في مقهى صغير راقِ واحتسيت القهوة وكلتا عيناي تحدق إلى شاشة هاتفي دون توقف أترقب ان يعاود أبي الإتصال بي.!
ولكنه لم يفعل.
تجاهل اتصالاتي ورسائلي عمداً.
تنهدت بلا حيلة وتمكن مني الضيق الشديد!
لا جدوى من اهدار الوقت خارج المنزل، على ان أرتاح حالاً أنا بالفعل منهكة ولم أعد أقوى على الحركة.
سأفكر في حل مناسب لاحقاً ولكنني بحاجة ماسة إلى النوم!
دانيال:
تأملت صمت وهدوء المنزل أبتسم بإسترخاء بينما أكنس أرضية المحل ولا أذكر أن مزاجي كان أفضل من الآن يوماً، لا أحد في الأرجاء!
التعليقات