التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي والعشرون

‏لقد شبه قيس ليلته بضوء الشمس، تشبيه دافئ وحنون ومتجدد بقلبه ككل نهار تطلع بهِ شمسه: ‏ وإن متُ من داءِ الصبابةِ أبلغا ‏شبيهةَ ضوء الشمسِ مني سلامِيا
ولكن حُبه بات يُنافس عشق قيس، وأطلق عليها الحياة بأكملها مهما فر منها فهو في فضائها آيضًا، لم يمت بداء حُبها بل حيا به: لقد عصى قلبي وغوت مذاهبه،
وعلى خدي البحر كُتبت نجانتي و سُلميِ،
وبكِ تركتُ الماضي بما يحملهُ
وجئت تائبًا
مُرحبًا بحُبك.

الذى أغوى قلبًا مُذنبًا
يريد جنتهُ
ف لم يمت ليصل
بل أغرم ب إمراة منسوجة من حرير الفردوس
فباتت حياته وحلوهُ
#نهال مصطفى.
وصل عاصي لمنزله بالغردقة بصُحبة أطفاله وزوجته. كانت تحمل ريان على كتفها وهو الأخر يحمل ركان وكل منهما مُمسكًا بفتاة. جاءت سيدة تركض من المطبخ مرحبة بعودتهم وأخذت تذيع كآبة المنزل بدونهم. في تلك اللحظة حضر رشيد ويونس وتعلو ملامحهم علامات الحيرة والفضول. فتدخل رشيد متسائلًا:.

-عاصي أيه الموضوع ال مينفعش يتأجل ده!
أشار لسيدة آمرًا: -نادي حد يطلع الشُنط دي فوق يا سيدة.
ثم أتبع: -تعالو نقعد في المكتب جوة نتكلم!
تدخلت تاليا المتشبثة بيده متسائلة بفضول طفولي: -هنيجي معاكم يابابي!
بادل صغيرته بابتسامة خفيفة وقال: -هتيجو معانا يا روحي.
مالت لعنده متحيرة: -عاصي ف ايه؟
-تعالي هتعرفي.

جلس الجميع بغرفة مكتبه فوق الطقم الاسود الجلدي اللامع. وضعت حياة صغارها بالعجلة الخاصة بهم وجلست بجوار الفتيات. تدخل يونس متسائلًا: -قعدنا! وبعدين؟
رمى لعندها ابتسامة خفيفة ثم عاد مرتسمًا ملامح الجدية على وجهه متحمحمًا: -رشيد بما إنك توأم رسيل، وأخوها الكبير. تسمح لي اطلب أيدها منك.

باتت علامات الاستفهام تتقاذف فوق روؤسهم وتتأرجح الأعين المتحيرة والتي تحاول استيعاب ذلك الطلب الغريب! بملامحها التي زينها الحُب مثل القمر تضيء الكونَ بجمالها، ضحكت بخفوت ممزوج بالتعجب وهي تهز رأسها باندهاش:
-عاصي! أنتَ بتعمل أيه يا حبيبي؟
فأكمل يونس متعجبًا: -بجد هو في أيه! أبو ريان إحنا قربنا نجوز ولادكم!

تبدلت ملامح رشيد مستمتعًا بدوره كوكيل لأخته. متخذًا دور وليها، اتكئ على مقعده للخلف وقال بجدية: -والله يا عاصي أنتَ فاجئتني بطلبك ده، زي ما أنت شايف أنا أختي مش بتفكر حاليا ف الجواز، بس.
فقاطعه عاصي متوسلًا متقنًا دور العريس: -لا أبوس أيدك أسالها أهي، أنا ممكن أقعد معاها وأقنعها بيا كعريس لُقطة مترفضش.
ثم دار لعندها بعد ما انزلقت غمزة خفيفة من عينيه لعندها وقال: -ولا أيه يا عروسة!

برقت عينيها بذهول: -عاصي بتتكلم بجد!
رد بثقة: -طبعا بجد. مش نفسك في فرح وفستان واطلب أيدك ونعيش جو المخطوبين ده! وأنا اشتريت.
ثم نظر لرشيد محافظًا على ابتسامته اللطيفة وأكمل: -شوف يا أبو نسب، أختك هتجي لها الشبكة ال تعجبها وهيتعملها أكبر فرح، وهيتكتب لها قايمة جديدة وكل طلباتك أنا جاهز لها.
هز رشيد رأسه وقال: -والبيت؟
عاتبته رسيل بمزاح: -رشيد!

رد الأخير بطاعة: -نغير العفش والديكور، ولو حابة بيت جديد خالص أنا موافق.
عقد رشيد حاجبيه: -طيب نفكر ونسأل عليك كويس ونشوف.
ضرب يونس كف على الآخر وهو يطالع أخته: -دول اتجننوا رسمي!
كتمت حياة ضحكتها وهي مستمتعة بهذه الأجواء ثم نظر لها عاصي متسائلًا: -وانتِ كمان هتفكري يا عروسة!
هزت رأسها بالنفي حيث طالعت فتياته وقالت بدلال: -هاخد رأي حبايب قلبي الأول.

ثم داعبتهم بلطف وقالت بخجل يغمره الضحك: -بنات، بابكم طالب إيدي وعايز يتجوزني. أيه رأيكم؟ شايفين إنه عريس لُقطة يعني ميترفضش ولا نرفضه يمكن يجي الأحسن منه!
انكمشت جبهته معترضًا: -حياة، اظبطي نفسك!
-الله! ده كلام بنات أنتَ مضايق ليه؟ سيبني اتكلم مع صحابي براحتي.
ثم نظرت لهن الغارقن ف الضحك وقالت مستعينة برأيهم: -هاه يا حلوين! ايه رايك يا توتا!

هتفت تاليا بحماس طفولي يتدفق من عينيها ولوحت بذراعيها: -أنا موافقة عشان بابي أحسن واحد في الدنيا كلها.
أشاد عاصي فارحًا: -بنت أبوها بصحيح، البنت دي بتفهم، تربيتي.
ثم نظرت لداليا بعد ما طبعت قُبلة رقيقة بجدار عنق تاليا: -ورأيك يا دودو!
وضعت الصغيرة سبابتها بفمها وقالت بشكٍ: -مش عارفة، بس ممكن تستنى وتتجوزي واحد تاني ولو مش عجبك أهو بابي موجود.
-استبن يعني!
ثم هتف عاصي مستنكرًا: -البنت دي بنت ك.

انفجر الجميع بالضحك وأخذت حياة داليا بحضنها وغمرتها بالقُبل وقالت متدللة: -دودو دي تربيتي.
رد معترضًا: -انجزي، مش هكرر عرضي مرتين! هشخب كلامي في دقيقة!
ظلت تتهامس مع داليا كأنها صديقة من عُمرها لبرهة من الزمن حتى اتفق الاثنان على رأي واحد. فتفوهت داليا مردده بثقة: -خلاص أنا موافقة عشان مامي قالت لي انها بتحبك مش هتعرف تتجوز حد غير بابي.

كست الفرحة معالم وجه الجميع، فأردف عاصي بسؤاله الأخير: -هااه وأنت يا يونس!
رد هو الأخر متعجبًا وبنبرة مزاح: -يعني مهم أوي رأيي يعني مثلا لو قولت لا هيجرى أيه! عاصي أنت أخر القعدة دي هتاخد مراتك وتطلعوا أوضتكم! يبقى أيه لازمته رأيي!

رد مبررًا: -لا مش هيحصل، أنا جيت لحد هنا عشان أطلب أيدها منكم ف بلدها ونقرأ الفاتحة. وزي ما أنتوا عارفين باقي شهرين ع مدرسة البنات، ومش هعرف أنقلهم القاهرة الا بعد السنة ما تخلص.
تدخلت مستفسرة: -عاصي أنتَ ناوي على أيه!

أشار لها متفهمًا حيرتها وأتبع: -أنا وتميم ومراد داخلين مشروع جديد وتقيل، ولازم أكون موجود ف القاهرة 24 ساعة. وأنتِ يا حياة هتكوني قاعدة هنا مع الولاد واعتبرينا مخطوبين بجد. وحتى زياراتي ليكم هتكون في وجود أخواتك.
ثم أشار لأخيها راجيًا: -رشيد، مش هوصيك، أختك خطيبتي وبس من الساعة دي! أنت فاهمني؟

وثبت من مكانها لعنده بإعتراض فوقف أمامها ليهدأ حيرتها: -عاصي! أنت عايز تسيبنا هنا وتزورنا بس! لا أنا مش موافقة طبعًا، بطل هزار.
قَبل جبينها بحنية وأخذ يمسح على رأسها بلطف: -مش عايزة فرح! اعتبرينا هنتجوز من أول وجديد. والجواز ده له شروط معينة. أنا عايزك تعيشي كل التفاصيل ال بتحلمي بيها، هاجي أزوركم، وعلى طول هنتكلم في التليفون.
ثم مال متهامسًا بأذانها: -عايز أجدد حُبنا ونبدأ من جديد!

غمغمت متسائلة بدلالها الذي صهر الحديد بنبرة خفيضة: -هتقدر تبعد عني!
تدخل رشيد آنذاك متحمحمًا ليقطع حوارهما وهو يسحب أخته من حضن زوجها وقال بنبرته الأجشة: -طيب بس نحترم المسافات! تعالى كده يا رسيل، وأنت نورتنا يا عاصي بيه! هنفكر ونرد عليك.
اتسعت ابتسامة عاصي وهو يطالعه بامتنان: -أنا عايز من ده طول فترة الخطوبة، عايزك الشوكة ال هتقف في زوري كل ما أقرب من أختك.
ثم توسل له ممازحًا: -رشيد أنا أملي فيك!

ربت رشيد على كتفه بتفاخر: -بس كده! دانا هطلع عليكم القديم والجديد!
فانضم لهما يونس قائلًا بجدية مصطنعة: -تمام يا عاصي بيه، قبل ما تيجي تشوف ولادك وأختي اتمنى تبلغنا قبلها ونقولك مواعيدك تناسبنا ولا لا. ومفيش زيارات بعد 10 بالليل، عشان أحنا بننام بدري.
فتدخل رشيد واكمل وهو يطالع ساعته: -الساعة بقيت 10 وماينفعش تقعد أكتر من كده!
عض على شفته متحسرًا لشروط أخوتها حتى مال معاتبًا: -عاجبك ال بيحصل فيا ده!

تحامت بظهر أخيها وقالت: -مش أنتَ ال عايز، اتفضل استحمل.
ثم هز رأسه متقبلًا على مضض طقوس لعبتهم الجديدة فجثا على ركبتيه ليُقبل صِغاره ويودعهما. ثم عانق فتياته وقبلهما بحب ودفء وقال ناصحًا: -مش عايز شقاوة ونسمع كلام مامي. اتفقنا.

كانت تنظر دورها على أحر من الجمر، جاء لعندها ثم سحبها من كفها لتقترب، أول ما فعله نزع خاتم جوازهما من يسارها ووضعه بيمينها ثم قبل ظهر كفها بدفء. اتسعت ابتسامتها وهي تعيش منه لحظة جديدة من الجنون كادت أن تطير أخر ذرة من عقلها. بادرت مرتمية بين ذراعيه وعانقته بشدة وهو تهمس له عن مدى اشتياقها له. فتدخل رشيد جاهرًا بامتعاض:
-أحنا اتفقنا على أيه! يونس وصل عاصي بيه لحد الباب.

ابتعدت عنه ضاحكة وهي تجفف دموعها وقال راجية: -هكلمك كل شوية اطمن عليك.
اكتفى بطبع قُبلة على رأسها قبل أن يرحل ثم سار مع يونس لباب وهو يطلب منه متوسلًا خائفًا من أن يهزمه الحنين: -يونس مش هوصيك، لو لمحتني جيت هنا ورجعت عن كلامي اضربني بالنار.
غمر الضحك الاثنان فعاتبه يونس بمزاح: -والله طول عمري بقول حياة أختي الكتابة والروايات أكلت عقلها، بس واضح انها أثرت عليك أنت كمان.

ربت عاصي على ظهره قائلًا وهو يتأهب لصعود سيارته: -بكرة لما تحب مش هنعرف نفوقك، ليك يوم يا بطل…

مر شهران على هذا الاتفاق.

انغمست رسيل بحياتها الجديدة مع صغارها، وامتحانات البنات والاهتمام بشغلها الذي أصرت عليه بعد محاولات كثيرة حتى اقتنع. وبآخر اليوم تقفل باب غُرفتها لتنفرد ب تلك المُكالمة التي تنام عليها كل ليلة حتى تستشعر بأنفاسه ووجوده معها. مكالمة يملأها الضحك والهزار وسرد أحداث اليوم الطويل وكيف مر اليوم بدون عناق بعضهما لبعض. والكثير من رسائل الحُب التي كانت تتغلغل ساعات عمله فتشق تلك الابتسامة على محياه. عاد الاثنان بالعمر لعشر سنوات ماضية، هناك فتاة مراهقة صاحبة الثامنة عشر عامًا تُغازل حبيبها الذي ينتظر كلماتها على أحر من الجمر.

وفي تلك الليلة التي تسبق ليلة زفاف العرسان وألتقاءهم بعد أشهر الغياب. شدت الغطاء فوق صغارها النيام بمهدهما، ثم عادت لتختها وتأكدت من غطاء الفتيات اللاتي يرقدن مكان أبيهم بجوارها. سحبت هاتفها وسارت على طراطيف أصابعها نحو الشُرفة التي فتحت بابها بحذرٍ وقفلته بنفس الحذر، جلست على مقعدها وهاتفته، فاستقبل مكالمتها بلهفة ممزوجة بالعتاب:
-فينك طول اليوم وبرن ومش بتردي! حياة أي حركات العيال دي!

كتمت الضحك وهي تبرر له: -الله! مش عروسة وبجهز عشان الفرح.
جز على فكيه كي لا يسمعه السائق: -تردي عليا وتقوليلي أنا ف المكان الفلاني.
ظلت تأكل بطرف شفتها السُفلية متدللة: -وصلت ولا لسه!
زفر دخان غضبه وقال: -نزلت من الطيارة وفي طريقي للفندق أهو.
غمغمت بنفس النبرة الخفيضة: -وأنا جهزت كُل حاجة عشان الفرح.
ثم تنهدت بارتياحٍ: -وآخيرًا بكرة هنكون مع بعض، أنا بجد مش مصدقة، شهرين يا عاصي! عملتها أزاي دي؟

تحمحم بخفوت وهو يُراقب الطريق حوله ثم قال مغيرًا مجرى الحديث: -متناميش، نص ساعة وهقول لك تنزلي.
تمتمت بمزاحٍ: -ومش خايف أخواتي يشوفك!
جز على فكيه متوعدًا: -أخواتك دول أنا هربيهم ع ال عملوه فيا، نعدي بكرة بس. مش هرحمهم.
وضعت ساق فوق الأخرى وهي تضحك بصوتها الدفين: -طيب جاي ليه! ولادي نايمين ومش هعرف أسيبهم وانزل أشوفك.
رد بإيجاز: -خلاص هطلع لك، وتبقي أنتِ ال اخترتي.

ردت معترضة على تهديده: -لالا خلاص، فات الكتير مش باقي غير كام ساعة ونكون مع بعض.
-أيوة كده، اتظبطي! أقفلي، معايا مكالمة شغل وأرجع اكلمك.
أردفت متدللة: -هستناك.

قفلت معه المُكالمة ثم فتحت نوت هاتفها الحديث من ماركة جلاكسي Z fold5 الذي أحضره لها قبل شهرين ممسكة بالقلم الألكتروني وشرعت في تدوين دقات قلبها المفعمة بسعادة تعجز الكلمات عن وصفها. أخذت تفكر للحظات قبل أن تكتب حرفًا، أخذت نفسًا طويلًا وبدأت بالكتابة:.

‏ كل ما أتذكره من بعد موت أمي أنني كنت أركض، اختبأ باحتياجات أبي وأخوتي، انشغل بها عن تقبُلي فكرة رحيلها وأنا نائمة بحضنها، عبثي وراء رجل وقعت فريسة لمكايده، يعد رحيل أمي مثل الكابوس الذي عشت لسنوات طويلة أعاني منه ومن لعنته التي أصابت قلبي، لذلك أبذل قصارى جهدي كي أعتني بطفلتيه حتى يحين اللقاء بأمها واسلمها تلك الأمانة بنفس راضية تمامًا.

ولكني لم أتوقف إلى الآن عن تذكر ما يؤلمني من حين لآخر. جاء ذلك العاصي لقلبي بوقته المناسب، تجرعت معه أسمى معانٍ الحُب وأجملها. كانت كل محاولاتي فقط، أريدُ أن أنجو بهذا الأحمرِ الرّطْب قلبي فكانت النجاة على كفيه.

بالغد ستكون أول ليلة بعد ستون يومًا من الغياب وفراغ جيوب قلبي منه. لم أنكر بروعة تلك التفاصيل التي عيشتها معه ونحن ننسج نوعًا جديدًا من الحب تحاوطه تلك اللهفة المؤجلة. كيف سيكون مذاق اللقاء الأول بعد أيام الشوق والحنين! كيف سأعبر له عن مدى شوقي لعينيه بعد ما عجزت كلماتي عن الوصف! كيف سيكون لقاء الشمس بالقمر بعد عصور من الفُرقة!

أخذت نفسًا طويلة وهي تتحسس نبض قلبها المتراقص وتعض في شفتها السُفلية بتلك الخفة التي ترفرف بها روحها. مررت عينيها عما كتبته ثم عادت لتواصل تدوين كلماتها:.

تتجلى أعظم صور الحُب في غيابٍ وافر الحضور. لم أنكر خلاء جسدك من الغُرفة ولكنك دومًا موجود، دومًا ما تحاوطني من كُل صوب وحدب. أشم عطرك فتُسكر أنفاسي كمثل لحظة فريدة تجمعنا معًا. ارتدى ملابسك وأنا أحادثك بالهاتف فيصاب جسدي بتلك القشعريرة الدافئة التي تنتابني عند رؤيتك بالضبط. وعندما يبلغ بي الشوق مبلغه لتقبيلك لدي بدل قمرك أربعة جميعهم يحملون تفاصيلك. أ لم أخبرك بأن قلبي مُحاط بك أينما كُنت! إنك رجل مصنوع من ذكرياتي فلا تُراهن.

تركت الهاتف من يدها وهي تتنفس بارتياح وتراقب شاشتها المُضيئة بابتسامة هادئة تغمرها اللهفة والحماس وأعين ينعكس بها لمعة النجوم ولكنها لم تكُف عن ذلك، تناولت أصابعها الهاتف وأخذت تُسجل جملة جديدة لتنضم لدولاب كتاباتها: – نسيت أمرًا هامًا، نسيت أن أحدثكم عن ذلك الرجل. الذي أيقظني وجهَه مُنذ اللقاءِ الأول وأيقنت أن هُناك حكايات كثيرة ستُنسج من عينيه اللاتي اتخذتهن مصدرًا لهيامي وإلهامي.

كان لعوبًا ذكيًا وحاسمًا لا يتراجع أبدًا. لم يَبدُ كأي رجلٍ إعتاده هذا العالم لقد كان مميزًا منذُ البداية حتى قسوته كانت مميزة وشهية آيضًا، وفي تلك اللحظة التي اكتب بها آمنت خلالها بأنه وطن دافئ لغُربتي
مع آخر كلمة لوصفه ظهر اسمه على شاشة هاتفها، بحماس سحبت الشاشة وهي تقول بنبرة مفعمة بالحيوية:
-حبيبي وصلت فين؟
-انزلي. بس الباب الخلفي مش حابب حد يشوفني.
وثبت من فوق مقعدها: -حالًا.

عادت للغُرفة ثم تناولت وشاحها الصوفي الذي رمته على كتفها ليُغطي سترتها القطنية ذات الحمالات الرفيعة التي تعلو بنطالها الواسع الفضفاض. ركضت بخفة فتاة مراهقة لتُقابل حبيبها السري في ساعة متأخرة من الليل. فتحت الباب الصغير بالمنزل لتصبح بالحديقة الخلفية للبيت، ثم همت راكضة نحو الباب الحديدي الصغير الذي يقف وراءه. سحبت ترباسه بحذرٍ حتى هلّ هلاله أمامه، تناست كُل شيء وكأرتطام سباح ماهر بموج البحر ارتمت هي بين يديه بقفزة مفعمة بالتودد واللهفة صارخة بخفوت بحضنه وشعرها الطويل الذي يطوق أكتافهما:.

-وحشتني!
ما أن عادت لمكانها بقلبه فأسقطت عنه عناء البُعد ومشقة عمله، وخف حِمل الدنيا من فوق رأسه، حاوط خصرها بذراعيه القوية القابضين عليه وهو يذوب بذلك العطر الذي ملأ منه جيوب صدره. لامست أقدامها الأرض من جديد لتُملي عينيها من رؤيته التي كانت قبل عشرة أيام وهي تبث الحب بأناملها بين ثنايا ملامحه مردفة بتلك التنهيدة المدججة:.

-أخيرًا. يعني خلاص دي أخر ليلة هنام فيها بعيد عنك. تعرف أن البُعد ده خلاني أحبك أكتر واكتشفت تفاصيل مهمة أوي مخدتش بالي منها قبل كده.
اكتفى بقطف ثمرة التوت من فوق فمها القُرمزي وهو يربت على ظهرها وقال محذرًا: -طيب نأجل كل الكلام ده لبكرة؟
-ليه يعني؟
عقد حاجبه مداعبًا: -خايف يخلص.
-متقلقش عندي غيره كتير فوق ما تتخيل. قدرك وقعك من واحدة كاتبة مدمنة تفاصيل. ومدمنة لوجودك.

تحمحم مستردًا رشُده كي لا تُسكره بعذوبة كلماتها أكثر، وقال ممازحًا وهو يتفتنها: -واضح أن هواكِ جاي على غيابي! ملينا وأحلوينا شوية.
تقلصت ملامحها بضحك معترفة بجريمتها الكُبرى التي اقترفتها طوال فترة غيابه وقالت بتفاخر: -وكمان ف كرش صغير أد كده. عشان مش مبطلة أكل. انا بقيت أكل ورا أربع عيال ياعاصي. متخيل!
رفع حاجبه مندهشًا: -كمان! كده يقولوا عليا كنت مجوعك!

أردفت متدللة: -تؤ. هقولهم وأنا جمبك بنسى الأكل والشُرب، وجودك مشبعني.
طبع قُبلة جديدة بين حاجبيها مفعمة بأنفاس الشوق التي لسعت قلبها ثم سحبها برقة للسيارة وأخرج صندوقًا متوسط الحجم وفوقه عِلبة سوداء قطيفة ومعه باقة حمراء من الورد وأهداهم لها قائلًا:
-كُل سنة وأنتِ معايا.
عقدت حاجبيها مندهشة ومنبهرة بما رأته: -عاصي! كل ده ليا بمناسبة أيه؟
-بجد مش فاكرة!

-لا النهاردة كام؟ أنا مش عارفة أفكر ف أي حاجة غير يومنا بكرة!
قفل زر بذلته متكئًا على باب سيارته المقفول وقال بصوت المتمهل: -زي النهاردة من تلات سنين بالظبط، خرجت لي حورية البحر من المية!

هبت شاهقة غير مستوعبة مرور الأيام بهذه السُرعة تركت العُلب بالأرض بتلك المشاعر التي احتاجها طوفان الهوى وهي تتعلق برقبته غير مصدقة: -ياخبر! أنا ازاي نسيت اليوم ده! تعرف أن ده يوم ولادتي الحقيقية. أنا على أيديك اتكتب لي عمر جديد وحياة جديدة يا أحلى قدر حصل لي.
-طول العمر وأنتِ جمبي.

كانت تنبض بحضنه تفيض حُب وسعادة، كان عليه أن يضمها إليه أكثر ليستمع لنبض قلبها بصدره أكثر وأكثر. فأسدل الليل وشاح نجومه على أكتافهم المُتعانقة. ثم همس لها قائلًا: -البوكس الكبير فيه شوكليت جاية مخصوص من سويسرا عشانك. والورد للورد طبعا. والnecklace عايز أشوفه عليكِ بكرة.
لم يكن احتضانه كافيا لوصف سعادتها فوضعت الكثير من القُبلات على وجنتيه كما إعتادت أن تُقبل صغارها وقالت وهي ترتجف من فرط الفرحة:.

-عاصي بجد، هحبك أكتر من كده أيه تاني!
مال متهامسًا على آذانها بعد ما أغواه شبح حبها وقال متيمًا: -ما تفكك من هنا وتعالى نهرب سوا…
ف تلك اللحظة جاء رشيد من الخلف وهو يضرب كف على الآخر وهو يصيح معترضًا بعواصف غضبه: -كمان بتستغفلوني! أنت هنا بتعمل أيه؟
تحمحم عاصي مستردًا وعيه وهو يتمتم: -انت طلعت لي منين بس!
ثم زفر معتذرًا: -حقك عليا يا سيدي، أختك عندك أهي وأنا ماشي.

-استنى هنا! هي وكالة من غير بواب! أحنا مش متفقين أن مفيش مجي بعد 10 بالليل، وكمان ف السر! مفيش احترام لكلمتي خالص! لما أبوظ الجواز هتنبسط!
كتمت حياة ضحكتها وهي تُراقب تمتمات عاصي التي ختمها قائلًا بتوعدٍ:
-وحياة أختك ال واقفة تضحك دي لهطلع عينك. استنى عليا بس.
تدخلت حياة راجية: -معلش يا رشيد ده جايب لي بس هدية، سامحه المرة دي!

أسبل عينيه متوعدًا لها وهو يتأهب ليصعد سيارته السوداء: -واستنى عليا أنتِ كمان. خلي رشيد ينفعك.

كانت تنتظر مرور الساعات حتى ارتفعت صيحات الفرح وتجاوبت مهللة بكل الأرجاء. انقلب حال البيت الهادئ الذي لا يعرف إلا صوت ضجيج ولعب صغاره إلى معلب كورة قدم، الجميع يركض خلف الساعات كي ينجز مهامه.
وصلت العائلة بأكملها لمنزله وكل منهما بات منجزًا لمهامه واستعداداته قبل غروب الشمس. ونفس الحال للعمالة اللذين يتسابقون كي ينتهوا من تجهيزات الحفل. وجاءت مختصة التجميل لتزين العروس.

تجلس حياة أمام المراة مرتدية قميصها الأبيض القصير مستسلمة لشغل الفتيات بشعرها ووجهها. وبين كُل لحظة والأخرى تلقى أنظارها على صغارها اللذين يلهون بالخلف وحولها ويصيحون بلعب وسعادة.
شرعت الفتاة بوضع مستحضرات التجميل على وجهها ولكن أوقفتها حياة للمرة الثالثة مترجية: -بليز. أرضع ريان الأول وهرجع لك نكمل، هو لازم ياكل دلوقتي.
ثم صاحت منادية لأحدى الخادمات: -شوفي لاما تشرب أيه يا صابرين…

تناولت صغيرها من الأرض متجاهلة ضجر فتاة التجميل وتعطيلها كل فترة. أخذت تُقبل صغيرها بمشاعر فياضة وهو تلهو معه وتضاحكه معبرة عن حبها الجياش. جلسه بأحد الزوايا وشرعت في إطعام صغيرها الذي يقبل على صدر إمه بالضحك والحماس الذي يزين وجوههم.
انتهت لاما من شُرب العصير ثم ذهبت لعندها: -مادام حياة يلا!

فرغت حياة من إطعام ريان وقالت بتوسل: -بصي باقي ركان، متقلقيش ريان بس ال بيحب يرضع طبيعي لكن ركان بيرضع من الببرونة عادي، بس لازم أنا أرضعه بنفسي عشان ما يغرش من أخوه، أصل النفسيات دي مهمة أوي عند البيبز وهي ال بتطلع أشخاص سوية أو غير سوية.
ثم غمغمت بإحراج يغمره الضحك: -أجيب لك تتغدي!
جزت الفتاة على فكها راسمة ابتسامة مزيفة وهي تتوقد غضبًا وقالت: -لا خالص، على أقل من مهلك…

بغُرفة كريم.
-كيمو أحنا ممكن بعد فترة كده نعمل زيهم، بصراحة الفكرة مجنونة موت وعجبتني.
أردفت نوران جُملتها وهي تفرد فستانها فوق السرير ثم اتجهت نحو كريم الجالس على الأريكة وأكملت حديثها بإعجاب:
-عاصي ده من وقت ما شوفته وأنا انبهرت بجمال أمه، رجل زي ما قال الكتاب، عارف أزاي يبسط الست ال معاه!
قفل شاشة هاتفه وعلى محياه ابتسامة شاحبة: -وأنا بجلدك في البيت! ما تلمي نفسك.

تنهدت بتمنى وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها: -مضطرة أعرفك سر كمان عني، أنا بقع في عزام الرجل الأربعيني بسرعة. السن ده له سحر خاص، نضج وحلاوة وشياكة ووقار، باشا في نفسه.
عمز بطرف عينه متقبلًا جنانها الذي اعتاد عليه وتناغم معه قائلًا بمزاح: -طيب وبتوع العشرينات، مالهمش من الحُب جانب!
ردت بتدلل: -لما تبقى أربعيني هحبك أكتر.
ربت على ركبتها برفق: -قومي طيب خليني أكلم لامار!

ضاقت عينيها متدكزة: -مش دي البنت السورية صحبتك، المضيفة! صح؟
-اه هي، جاية الأسبوع الجاي، وعايزة تجيب لك هدية، بفكر معاها.
زامت فمها وبملامح متقلصة يكسوها الضحك: -أنا حاسة إنك بتخوني وأني المفروض أخد موقف جدي وكده، بس مادام هتجيب لي هدايا كلمها كلمها.
كانت أن تنهض ولكنها تراجعت متذكرة: -كيمو قولها تجيب لي بادي لوشن معاها.
جذبها عنوة لعنده وانحنى بقُربها: -يعني مش خايفة أنها تخطفني منك.

أصدرت صوتنا نافيا يكسوه الدلال المفرط وقالت: -تؤ، عشان أنتَ مش بتحب حد غيري.
داعب بأنفه أنفها وقال بملامحها الضاحكة لحياتهم التي يملأها الهزار والضحك مع هذه الفتاة المفعمة بالمرح وهو يغمز بطرف عينه: -ما تيجي نأكل مانجا.

واندس الجمال بينهما في كلمات لا يدركها غيرهما، عالم خاص بهما وبلغته المميزة التي لا يتحدث بها سواهم. خرت ضاحكة بين يديه بملامحها المتقلصة من برودة نسيم الحُِب بينهم وهي تقضم شفتها السُفلية بغنج: -تعالى ناكل مانجا.

نوع خفي من اللطف بين زوجين يُسهلان الحياة على بعضهما حتى ينطبق عليهما المثل، تزوجت لأرتاح لا لحمل متاعب جديدة وقيود آخرى، الزواج أن لم يكن راحة ومتسع ورفيق روح لم يحضر الضحك الا بينهما فلا تتزوج.

بغُرفة تميم.
يجثو على ركبتيه يسند كفوف صغيرهُ ليعاونه على السير المتعرج ويشجعه هاتفًا: -عاش يا طاطا خلاص وصلنا وصلنا يا بطل. متتهزش أثبت يا طاطا. عاااش.
حتى انتهت مسافة مفرش الأرضية التي يخطو مثلها يوميًا ليدربه على السير، هلل فارحًا بابنه وهو يحمله ويرميه بالهواء ثم يتلقاه فارحًا:
-أيه الحلاوة دي!

غمر الضحك أرجاء الغُرفة بين الأب وابنه المُشاكس فتلقاه على ساعده وهو يقبله ويلقى أنظاره على تلك النائمة بكلل صاحبة البطن المنتفخة ذات الخمسة أشهر، فقال:
-تيجي نشوف شمس مالها عشان شكلها تعبانة.
وضع صغيره فوق السرير بجوار أمه، وشرع بالمسح على شعرها متسائلة بحنو:
-مالك يا شموسة؟

تمتمت بهزل وهي ترفع جفونها لعنده: -مرهقة بس من السفر والحمل. بجد يا تميم تعبت، لا عارفة أكون معاك أنتَ ومصطفى ولا عارفة اركز ف شغلي. حاسة بتعب وإرهاق شديد، أنا متعبتش ف حمل مصطفى كده. البنت دي متعبة أوي.
-ممكن متشليش هم أي حاجة وارتاحي بس. أنا ومصطفى زي الفل أهو ومستنين شمس الصغيرة كمان تيجي بالسلامة.

قبلة أشبه بقطرة مطر كبيرة وقعت على جبهتها كانت أشبه بيد حنونة تربت على روحها. تنفس بارتياح وهي تتمسك بكفه:
-تميم أنتَ أحن أب في الدنيا، فعلًا يا بخت ولادي بيك. ويابخت قلبي بحنيتك دي.

قبل طراطيف أصابعها بنعومة وقال: -أنتوا عيلتي يا شمس، أنا ماليش غيركم، أنا مش هكون بس أبو العيال دي، أنا أخوهم الكبير وصاحبهم وابنهم ال اتولد على أيدهم أول ما جم. أن جينا للحق أنا ال يابختي بيكم. لإنكم مليتوا عليا حياتي.
اعتدلت من نومتها لتسند على صدره وهي تحمل صغيرهما ليتوسط مجلسهم وقالت بحب: -ربنا يخليكم ليا وكل أيامنا تبقى جميلة.

‏نيابة عن ليالٍ الماضي المُظلمة، أهلاً بالغد الذي سينبت في جبين القلوب نجمات جديدة وستشرق الشمس من رحم الليل ف تُضيء عتمتنا. ومن اليوم تتورق في ليالٍ الوحدة أيام مكدسة بالحب والدفء…

بغُرفة مراد.
-مراد، بليز أمسك غالية. مش مبطلة عياط وأنا تعبت وهي مش مبطلة، دماغي دي هتنفجر خلاص مش قادرة.
ترك الهاتف من يده وأخذ صغيرته بحنية وشرع في مداعبتها حتى هدأ صوت بُكائها في دقائق معدودة ثارت اندهاش عالية:
-أنتَ عملت فيها أيه! أنا من الصبح بحاول معاها لحد ما خلتني أنا ال عيطت.

لفح ابنته على كتفه وأمسك ذقن عالية التي تقف أمامه متحيرة وقال بمزاح: -هي كانت عايزة حضن باباها بس. وأهو أول ما جات هديت.
ثم غمر بطرف عينه: -طالعالك.
داعبت الابتسامة ثغرها وقالت: -انا زنانة زيها كده! لا.
-ومين قال إنك زنانة! بس لما بوحشك بتعملي زيها كده بالظبط.
ضربته برفق على كتفه معاتبة: -أنتَ بتقول أيه! بطل بقا.

طوق خصرها لتصبح جزء لا يتجزأ منه وقال مغازلاً: -أبطل أيه! أنكري.؟ لما أقول لك عندي شغل بتفضلي تلفي حوليا زي النحلة كده.
كتمت صوت ضحكتها كي لا تُزعج صغيرتها النائمة: -مراد، أنتَ بكاش موت. أنا بس بكون زهقانة ومش لاقية حد يسليني غيرك.
عقد حاجبيه ممتعضًا: -يسليكِ! وكمان قرطاس لب ماشي ياستي.
ضحك الثنائي معًا حتى مال على مسامعها متهامسًا: -افتحي الشنطة دي هتلاقي هدية هتعجبك.

لمعت عينيها على لحن اسم الهدية التي قادرة أن تسعد كُل اثنى حتى ولو كانت تملك ميراث العالم. ركضت كالطفل لتفتح تلك الحقيبة الصغيرة فوجدت عبلة صغيرة، فتحتها بلهفة فوجدت ظرفًا وبجواره قِلادة من الماس مكتوب عليها غالية انبهرت بجمالها وهي تقفز كالأطفال ثم تابعت بفتح الظرف وهي تسأله:
-ده بردو تبع المفاجأة!
-افتحي؟

فتحت الظرف فوجدت بداخله ست تذاكر سفر، الأولى تحمل تأشير السفر لمكة لأداء مناسك العُمرة، والثانية للمالديف. افتر ثغرها وشعرت بفيضٍ من السعادة عانق قلبها واشتعلت نظراتها بفرحة ناطقة: -مراد! لا؟ معقولة؟ هنسافر سوا!

ثم مدت ذراعية لتحضنه بعرفان وهي تقفز ك حبة الفشار على مسرح فرحتها، فتمتم بصوت حنون ناطقًا: -بصراحة فكرت نقلد عاصي ونعمل فرح، ولا نسافر. فلقيت السفر أنسب لينا وأهو بداية جديدة لحياتنا ننسى فيها كُل ال فات.
أعلنت مشدوهة: -مراد، أنا بحبك…

مرت ساعات اليوم حتى حلت الساعة الثامنة مساءً، جاء عاصي برفقة رجاله، كل من يسري وبكر وكمال الذين يتفقدون بالحفل بأعين متسعة. ترك الجميع بأسفل وصعد لغُرفتها ليحضر عروسته. دخل من باب الغُرفة وهو يتفقد ذيل الفستان الذي يجسد تفاصيل جسدها الممشوق والمحدث بقلبه فتنة كبرى حتى وصل لتلك الطرحة البيضاء التي تكسوها من رأسها للكاحل. أشار لأخر فتاة بالغُرفة أن تُغادر. شرعت عيناه تتأمل تلك الحورية الواقفة ممسكة بباقة الورد. يقترب منها شيئًا فشيئًا بتلك الخطوات التي تعمدت الهرب من الحب لسنوات. ليُقبل بلهفة الكون نحو حورية البحر التي لا تغوص إلا في أعماق بحور الحُب.

وقف أمامها ورفع الطرحة التي تُغطي وجهها و لا تمكنه من رؤية ملامحها بحرية، رُفعت الطرحة فرفعت معها جفونها فتنهد تنهيدة شاعرًا سيبدأ بكتابة قصيدة مولودة من رحم عينيها تلك التي ‏حفظت خرائط السماء من كثرة التطلع بها، حتى استدلت على مخابئ الغيوم ومنازل القمر. في تلك اللحظة علم من أي بحر ‏تستمدُّ النجوم ‏لونها الزجاجيّ الفاتن، ‏آآه من عينيها.

قال حكيم ذات مرة: عندما نكتبُ عن النساء، علينا أن نغمس الريشة في قوس المطر ونزرع سطورها بنثار أجنحة الفراشات.
يبدو أنه كتب ذلك النص لكِ وحدك.
‏تفتحت بروحها زهور الربيع و تراقصت الفراشات التي رفرفت على قلبها لأجل نظراته الهائمة، وحل النور على أيامها برفقته، تقاسمت الطيور حصتها من صوتها العازف على أوتار تلك المشاعر التي غمرت كيانها وهي تقف متوجة لملكها وملك فؤادها، فتمتمت:
-شكلي حلو!

تأملها بتلك النظرة التي عجزت عن وصف جمالها، لقد كان من الاولى أن تكوني كحمامة بيضاء، رسالة مُعطّرة من يدي شاعر مُغرم أو وردة ياسمين في وسط باقة من الورد، فمن الظلم أن تكوني أنتِ بشرًا قد يَحزن أو يُجرح أو يتألم. جف حلقه من تكدس الكلمات به فلمس تلك الشفاة القرمزية التي افترق عنها لمدة شهرين كاملين، شرع أن يفضي ما بقلبه من شوقٍ فداعب طرمة فمها الكرزية مساومًا لثغرها على القُبل المتعطش إليها. ف همّ بقطف الكرز من فوقها بهدوء وتهمل كمن يروض الفراشة قبل الإمساك بها. كُل جزء من ثغرها نال حَقه عِوضًا عن أيام البُعد والجفاء، وكأنه أراد أن يُخبرها بطريقة ما أو بأخرى تلك للصدفة التي جمعتني بكِ وأتت بكِ لهنا، وهذه لإنك أنتِ، وهذه أيضا لابتسامتك الساحرة، و هذه لجمالك الذي خضع له الحُب، وأيضًا هذه للملامح التي لا يليق بها إلا القُبل. وآخرهم كانت ك دعوة صريحة من رجل ظمآن أراد أن يروي حلقه من فُراتك العذب، فلقد كان لهدوئه الساحر آثار البركان ببدنها يفوق مائة ثورة مندلعة.

أصاب الدوران رأسها فاهتزت بين يديه فستندها بكفه الراسي على ظهرها متسائلًا بخوف:
-مالك!
تشبثت برأسها ضاحكة وهي تتنفس بارتياح: -أنا كويسة، دوخت فجاة بس! مش عارفة في ايه.؟
رفع حاجبه مستنكرًا: -دايخة أيه بس من أولها! متهزريش. اليوم لسه هيبتدى.
ثم أمسك بكفها وسحبها برفق: -يلا ننزل!

تابعت خطاه لمنتصف الغرفة حتى تكرر ذات الدوران الذي لم يفارق رأسها منذ بضعة أيام ولكنه مصحوبًا تلك المرة بالرغبة في التقيؤ. تركت يده وركضت للحمام متألمة وهي تحاول التخلص من ذلك الشعور المؤلم. لحق بها قلقًا:
-حياة أنتِ كويسة!
مسحت فمها بالمناديل الورقية وهزت رأسها: -واضح خدني برد من البلكونة إمبارح. بقيت أحسن متقلقش!
نظر لها بشك: -متأكدة!
ردت بثقة: -تمام والله خلاص. يلا ننزل.

وصل العرسان لساحة الحفل تحت جمهرة الأصوات وتصفير كريم ونوران وصراخ عالية وحماس شمس وتميم وكل منهما يصفق بحرارة. أرسلت لهما حياة الكثير من القُبلات بالهواء وهي تقف بجوار الرجل الذي اتفق عليه عقلها وقلبها وبناته الممسكين بالورد. حتى شرعت صوت الموسيقى لأحدى الأغنيات الأجنبية.
علي طاولة العائلة، مالت نوران نحو مسامع زوجها متهامسة: -كيمو! أيه كُل الفساتين الحلوة دي! إحنا هنعاكس للصبح.

لكزها معترضًا بضحك: -أنا راجل وأعاكس براحتي، أنتِ تعاكسي بنات ليه!
قفلت عين وفتحت الأخرى وقالت معترفة بخطأها: -يعني أعاكس رجالة!
هز كتفيه غير معترضًا: -اذا كان كده ماشي.
أطلقت صفيرًا ناعمًا وهي تتفقد مجلس الرجال خلفها: -أيه كُل البدل السودة الجامدة دي!
ألقى نظرة للوراء ثم عاد معارضًا: -دول كلهم مخلفين أدك، بقول لك تعالى عاكسي معايا بنات أرحم.

تمايلت على كتفه وهي تضربه برفق ويضحكا معًا حتى تدخل تميم متسائلًا: -ضحكونا معاكم.
تنهد كريم قائلًا بخبث: -هقولك يا تيمو، أنتَ مش غريب بردو، كان في مرة قُطة بتخربش اه بس بتتكسف من خيالها، ومن وقت ما علمتها أزاي تأكل أيس كريم مانجا، بقيت قُطة شيرازي وبتعض كمان.

شهقت بخجل وهو تشير بسبابتها نافية ما يقوله: -كريم أنت بتقول ايه! لالا تميم متصدقهوش، الجدع ده بيقول أي كلام وخلاص. أنت ازاي تطلع كلمات السر بتاعتنا بره!
-ما تحترمي نفسك، أنا جوزك على فكرة!
تبادل كل من شمس وتميم الابتسامات الخفيفة حتى تحمحم تميم قائلًا بتوسل: -الطريقة لتيمو حبيتك، أنا جبت كل فواكه الموسم وزي ما أنت شايف! نفس البوز.
تدخلت شمس معترضة: -وايه بقا ال مش عاجبك يا بيشمهندس!

لحق تميم نفسه ويقبل يدها قائلًا: -ماليش بعد أم طاطا. هو أنا ليا غيرك.
ثم مال على آذانها متهامسًا: -بغزي العين يا عبيطة! كلهم عملوها مرة إلا أحنا عملناها مرتين!
تدخل مراد قائلًا: -الواد كريم ده من وقت ما اتجوز وكل أفكاره بقيت زي ما أنت شايف. مش عارفين نلمه.
فتعمد تميم أن يثير استفزازه: -وعلى أيه يا مارو، أهو كله كلام مفيش أي نتيجة خالص! أنتَ حد قالك هتبقى عم قُريب!

لكز نوران معاتبًا: -عاجبك كده أهي الحفلة بقيت علينا. أنت يا حلو منك له مش كده، دي منطقة أعراض.
-تستاهل، عشان تقول عليا قطة تاني!
لفت أنظارهم ركض حياة لبعيد ووقوفها بأي جنب لتتقيىء مرة أخرى، أسرعت شمس وعالية لترى ما بها أما عن كريم مال متهامسًا لزوجته بضحك مقلدًا صوت القرموطي
-واضح أن كرستين حامل يا جون يا أخويا.

بضحكة رقيعة انفجرت من جوف نوران إثر جملته الأخيرة التي لاحظها مراد قائلًا بعتب: -هتموت والع أنتَ ومراتك من التنمر بتاعكم.
التفتت الأعين صوب حياة التي بدّ عليها التعب والإرهاق حتى تدخل عاصي متسائلًا: -حياة أنتِ حامل!
جحظت عينيها بذهول: -لا طبعا يا عاصي، مش حامل لا. قولت لك دور برد.
ربتت شمس على كتفها وقالت له: -عاصي طيب اقعدوا وأنا هخلي سيدة تعملها حاجة دافئة. عشان بس محدش ياخد باله.

ركضت تاليا وداليا لعندها بلهفة: -مامي are you okay!
مسحت حياة على روؤسهن: -لا يا حبايبي. أنا بخير، خلو بالكم بس من ريان وركان مع الناني. وأنا هابقي كويسة.

استمرت الأجواء بالحفل ما بين سخرية نوران وكريم الغير منتهية، وحالة حياة المُتقلبة من كل حين للآخر، واهتمام شمس وعالية بالمعازيم وما بين رقص العائلة والأجواء الأسرية التي خيمت على المكان وفرحة الجميع والأهم سعادة حياة التي كانت عروس الحفل. حتى مرت أجواء الحفل بسلام ولم يبقى الا أهل بيته. أمسك بكفها وقبل وقال:
-يلا بينا!
-عاصي على فين!؟
أطلق زفيرا تحمسي: -هنروح اليخت!
-والولاد!

-نوران هتبات معاهم. حياة مش عايز كلام كتير يلا.
تشبثت بكفه متوسلة: -طيب بليز استنى أرضع ريان، وأنيمهم واطمن على البنات ونمشي. بليز يا عاصي عشان قلبي يكون مطمن.
وافق على مضض: -طيب يا ستي. اتفضلي.

تركته وذهبت للمربية وحملت ريان ثم طلبت منها أن تأتي ب ركان والبنات. تحركت صوب غرفة نومها وهي لم تكف عن تقبيل صغيرها الذي فارقته ليوم كامل ولم تكف عن سيل الاعتذارات المتواصل له. ما كادت أن تجلس على طرف مخدعها فجاء عاصي من الباب فطلبت منه: -عاصي، ممكن تساعدني افتح الفستان بس.

عض على شفته وذهب لعندها ليشد سحاب الفستان كي تتمكن من إطعام صغيرها. جاءت المربية حاملة ركان وخلفها الفتيات يركضن، أخذ عاصي صغيره منها وأمرها أن تنتظر بالخارج. وضع ركان بجوارها ثم سار ناحية النافذة ليُدخن سيجارته ربما تستطيع أن تحرق غضبه أخذ يترقب حنانها المفرط على الجميع. رغم أنها مازالت مرتدية فستان الزفاف الا أنها كانت ذات قدرة فائق للاعتناء بالأربعة أطفال. رغم عنه وهو يراقب جنونها وخفة ظلها وتلك الطفلة الخامسة بينهم تبسم وهو يلتقط لها صورة بعدسة هاتفه وهي تركض خلفهم. ما لبثت أن تغير ملابس الفتيات فتراجعت إثر بكاء ريان الذي لا يرتوي إلا من ثدي أمه. عادت صارخة بكلل وهي تشرح له العلة:.

-ريان مش بيرضع غير طبيعي. عكس ركان خالص. بجد تعبني معاه.
اتسعت ابتسامته وقال بغمز: -بيفهم زي أبوه.
أحضرت عُلبة اللبن الخاصة بركان وطلبت منه ان يرضعه حتى تُطعم ريان وهي تصيح منادية: -تاليا أنتِ ودودو يلا نوم. كفاية سهر لحد كده.
مرت قرابة الساعة وهو ينتظر أن تنيم صغارها. حتى تنهدت بارتياح وهي تضع ركان بمهده: -وآخيرًا!

اتجه هو ليشد الغطاء فوق البنات بعد تقلبيهن ثم أغلق النور العالي مكتفيًا بنور الأباجورة. جاءت لعنده وهي تجر ذيل طرحتها وقالت: -خلصت.
اكتفي بضحكة طفيفة على هيئتها وقال: -يلا بينا…
ما كادت لتخطو خطوة فتراجعت راكضة لتأخذ أقراص منع الحمل قائلة: -قبل ما أنسى…
-يلا يا ستي.
وصل الاثنان للأسفل فظل باحثًا عن نوران حتى وجدها هي وكريم أمام البوفيه يتغزلان بالأطعمة الشهية. فجهر من الخلف بنبرته الحازمة:.

-نوران. تباتي مع البنات فوق في الأوضة.
تدخل كريم معترضًا: -نعم! وكريم رجل كنبة واقف! أنا لسه عريس ومش موافق.
ربت عاصي على كتفه وبنبرته الجدية المبطنة بالضحك: -كُل عيش في البيت ده يا حبيبي.
فتدخلت حياة موصية نوران على صغارها وهي تشرح لها ما تفعله بالضبط. اتسعت عيني الأخيرة بذهول وهي تشد كريم الذي يتشاجر مع عاصي وقالت: -تعالى احفظ معايا.

استقل عاصي وحياة السيارة التي قادها بسرعة فائقة وكأنه يتسابق مع ضوء الشمس قبل أن يفسد ليلتهما. بعد عدة دقائق صف سيارته جنبًا ونزل منها بدون أي كلمة تترجم تصرفه. انتظرت عودته بفضول قاتل حتى عاد بعد قليل فسألته: -أنتَ نزلت الصيدلية ليه!
مد لها العُلبة الصغيرة وشرع بقيادة سيارته من جديد، فتشت بمحتوى العلبة مندهشة: -ده تيست حمل! ليه!
رد بإمتعاض: -نوصل اليخت وتعمله!

-عاصي بس أنا مش حامل، آكيد كُنت هعرف يعني! أنا مش غبية للدرجة دي؟
جز على فكيه: -بردو تعمليه.
ردت مجبرة: -حاضر، سوق بالراحة بس.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *