التخطي إلى المحتوى

رواية أشباه عاشقين للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع عشر

(ميرنا)
هل جربتم في يوم ان تحلقو فوق غيمة؟ بالتأكيد لم تفعلو، فحتى انا لم افعل! ولكن مااعيشه الان من مشاعر تجعلني اشعر وكأني اطفو فوق سطح ماء او عالياً في السماء، ابتسامة بلهاء تبرز على شفتاي بين فينة واخرى من دون احد اشاركه اياها. انا فقط اضحك وحدي كالحمقاء تماماً، بالفعل الحب يجعلنا مجانين في بعض الاحيان، لا في الحقيقة في الكثير من الاحيان، ولأكون صادقة اكثر فأنا مجنونة بحب او من دونه!

قدت سيارتي وانا بحالة اللاوعي تماماً. اربعة ايام فقط وسنقيم حفلة خطوبتنا! يااللهي. انا اشعر ان كل شيء يمضي بسرعة. كيف حدث؟ وماالذي بالضبط قد حدث؟ قبل سنة انا لم اكن اعرفه من الاساس، وقبل عدة اشهر كنت امقته. والان سأرتبط به؟ اي جنون هو هذا؟
توقفت السيارة بجانب الشركة ونزلت منها وانا بالكاد اسيطر على خطواتي من عدم الاسراع اكثر!

صعدت الى المصعد واتجهت من فوري نحو الطابق الذي تتواجد فيه غرفة سيف، احاول قدر المكان ان لاابدو عاشقة ساذجة ولكني افشل ببراعة!
طن جرس المصعد فخفق قلبي مع طنينه وانا اتقدم خطوات حاولت جعلها ثابتة واتجهت نحو مكتبه، طرقت بابه ودخلت بأبتسامة، رأيته مقتضب الجبين يقف في وسط المكتب يقلب اوراقاً بين يديه والسكرتيرة تقف بأحترام امامه. تنحنحت قليلاً وقلت:
– مرحباً!

أتعلمون ما جعل ينبض بجنون ومعدتي تتقلص؟ هو ذلك الاشراق الذي غزا وجهه فوراً وهو يرفع بصره دفعة واحدة بأبتسامة إلى وقال بتفاجئ:
– ميرنا؟
ثم عاد الاقتضاب ليغزو ملامحه وهو يعود بنظره نحو السكرتيرة ويقول بعملية وهو يسلمها الملف:
– اصلحي ما اخبرتك به واعيدهم الي!
– حاضر سيدي!

ثم استدارت راحلة وهي تحيني بأبتسامة فأكتفيت ايضاً بالايماء بأبتسامة بقيت محافظة عليها حتى بعد ان خرجت من المكتب، وحتى بعد ان عاد ذلك المعتوه نحو كرسيه خلف المكتب دون حتى ان يكلف نفسه مصافحتي وانا اتقدم اليه! من الجيد اني ادعيت فوراً اتجاهي نحو الكرسي المقابل له وكأني لم اكن انوي التقدم بأتجاهه هو!
جلست على الكرسي اراقبه بينما هو يغرق ابصاره في كومة الملفات التي تتبعثر امامه ويقول لي اثناء ذلك:.

– ماهذه الزيارة المفاجئة!
– وهل هي مفاجئة بشكل جيد ام سيء؟
كل شاب مهذب كان سيجيب سؤالي. ولكن هذا الاحمق نظر إلى بأبتسامة وعاد ليطالع الاوراق وكأني كنت امازحه، ولااعلم ان كان مافعله سيجعلني اشعر بالسعادة ان بالسذاجة؟
10ثواني بالضبط مرت علينا والصمت يجالسنا يرفض تركنا، صمت جعلني اشعر اني ضيفة غير مرغوب بها الان! فكسرت هذا الحاجز وانا احاول تلطيف الاجواء بينما اقول بأبتسامة:
– اذاً، ألن تضيفني شيء؟

رفع بصره إلى وهو يقول:
– اوه اسف. لقد نسيت!
ورفع سماعة الهاتف ليتحدث الى سكرتيرته قائلاً:
– انسة نوال. احضري لنا من فضلك.
قطع كلامه والتفت إلى متسائلاً:
– ماذا تودين ان تشربي؟
– عصير فراولة!
كتم ابتسامته وهو يعود للتحدث مع السكرتيرة: – من فضلك عصير للصغيرة. اقصد للأنسة ميرنا!
اغلق السماعة وضحكت ضحكة مصطنعة وانا اقول: – ظريف!
ثم رفعت اصبعي بتهديد: – للمرة الالف. لاتناديني بالصغيرة!

اجابتي بأبتسامة بينما يعيد تركيزه الى الاوراق: – عندما تكفين عن طلب العصير دائماً سأعاملك مثل الكبار!
– ألايشرب الكبار العصير؟
نظر لي بطرف عينه وهو يقول:
– الكبار يفضلون القهوة دائماً. اما الصغار فكلما سألتهم عما يريدون شربه سيقولون عصير!
قلبت عيناي بملل مصطنع ولم ارد، وذلك السيد المحترم بكل بساطة عاد لينشغل عني بالعمل! تنهدت بضجر وانا اقول بتذمر:
– سيف! انا اشعر بالملل!
– والمطلوب؟
– ما رأيك ان نخرج؟

– اسف، لدي الكثير من العمل!
فهتفت به بتضايق: – سيف؟ هل تدرك انه بعد اربعة ايام فقط سنعقد حفلة خطوبتنا؟
زفر بضجر وهو يرفع بصره إلى قائلاً: – اذاً؟
فسألته بأستهجان: – ماذا تعني ب اذاً؟ ألا يمكنك ترك العمل ولو قليلاً وتخصيص بعض الوقت لي؟
فجأة وجدته يجيبني بحدة وجدية: – ميرنا! تعرفين جيداً مدى التزامي بالعمل. لذلك لاتبدأي منذ الان!
-ابدأ بماذا؟

– بتصرفات الفتيات السخيفة هذه، اترك العمل اليوم، دعنا نخرج. دعنا نسافر. خصص وقتك من اجلي انت تعمل كثيراً!
حسناً، لست محتاجة الى مرآة كي اعرف ان وجهي اصبح احمر ولا داعي ان اخبركم ان عيناي اكتست بطبقة دمع خفيفة خلفتها خيبي املي واحباطي!
قلت له بصوت مهزوز كالطفلة الصغيرة بالفعل:
– انا لم اطلب شيء سوى الخروج لبعض الوقت معاً!
– وانا اخبرتك ان لدي عمل، وتعرفين جيداً اني لااحب التهاون بعملي!

صمت، لم ارد بشيء، فجملته الاخيرة جعلتني افكر بعمق، وافكر بجدية لأول مرة!
سحبت حقيبتي ونهضت قائلة:
– اعتذر عن الازعاج!
ومن دون ان البي اياً من ندائاته خرجت من المكتب، وكالعادة، لم يكلف نفسه اللحاق بي!
حسناً لنتفق على شيء، ان شعرت المرأة بالاهمال من الذي تحبه فهذا شيء لن يمكنها تحمله او تقبله. بل وستختلق الاف الاعذار فقط من اجل ان تتشاجر معه لتقمع تلك النار التي اشعلها بداخلها!

قدت سيارتي مرة اخرى. ولكن هذه المرة ليس بأبتسامة وليس بأغنية رومانسية تأخذني نحو عالم اخر وتأسرني، بل وفي هذه اللحظة وددت حقاً ان اشغل موسيقى الحرب لبيتهوفن، فهي الوحيدة التي تلائم مزاجي الحالي!
جلست في المقهى بملامح مقتضبة وطلبت كوب قهوة بدل كوب العصير ذاك الذي يراني سيف اتصرف بطفولية ان طلبته! بعد تردد وتفكير داخلي سحبت هاتفي واتصلت بها، ثواني ووصلني صوتها:
– اهلاً ميرنا!

تنحنحت لأجعل صوتي متماسكاً بدل ان ابكي كالحمقاء وقلت لها:
– امي، أيمكنك موافاتي الى المقهى؟
قالت بنبرة باردة ولكن استطعت التماس بعض القلق يشوبها:
– أهناك شيء؟
– لا، انا احتاج للتكلم معكِ فقط!
– حسناً، ارسلي لي عنوان المقهى!
– سأفعل!
ارسلت لها العنوان وجلست في انتظار وصولها الي، حسناً لست معتادة على التحدث مع امي بأمور كهذه. ولكن في الفترة الاخيرة اصبحنا كذلك!

اغمضت عيناي لوهلة من الزمن، من الجيد اني اخترت الجلوس على الطاولات الخارجية. فنسمات الهواء الباردة التي تتراقص بين خصلات شعري وتتسلل الى صدري خلسة تجعلني اشعر ببعض الارتياح، وكأني وحدي من اعيش في هذا العالم البائس، وكأنه لم يؤذيني احد. ولن يؤذيني! وكأنه لابأس بكوني وحيدة رغم من يحيطوني! احياناً نشعر انه لا لشيء قيمة، وان تلك الطعنات والخذلان لم يعد يؤثر بنا بعد الان، لربما هذا ما يسمونه بالتعود! لن يفاجئنا او يصدمنا شيء. فكل شيء متوقع بالنسبة لنا!

– ميرنا؟
فتحت عيناي بدهشة وحدقت بأمي بعدم استيعاب. وكأنه لم تمضي على 15دقيقة بل 15ثانية، انا بالفعل لم اشعر بالوقت وانا اغمض عيناي كالبلهاء!
استعدلت بجلستي بينما جلست امي امامي وقالت ممازحة على اغماض عيناي ولكن من دون ان تبتسم:
– هل كنتِ تلعبين اليوغا ام ماذا؟
ضحكت رغم بؤسي وقلت لها:
– احاول ان اتعلم!
– ولم تجدي مكان سوى مقهى خارجي؟ وسط الشارع؟
تبسمت بمرارة وانا اجيبها وشيء ما يقبض لي قلبي:.

– انا خفية بالنسبة للكل، لا احد يلاحظني!
حدقت امي داخل عيناي لثواني ثم همست وكأنها تتمتم لنفسها:
– ولكني. الاحظك!
اكتفيت بالنظر داخل عيناها بملامح جامدة من دون ان اتحدث، ومن دون توقع كلانا وجدت دموع ساخنة من دون ارادتي تبلل لي وجنتاي، وهنا ارتسم القلق بشكل علني على وجه امي وهي تقول لي:
– ما بكِ؟ هل حصل شيء؟
لم استغرق الكثير من الوقت ولم اتردد في الافصاح عما يخالجني وانا اقول لها بأنفعال:.

– اشعر بالضياع امي، لا اعلم ان كنت احبه ام هو مجرد اعجاب طفولي ساذج بشخصيته ربما سيزول مع الزمن!
– سيف؟
– ومن غيره!
– ماالذي حصل؟

– انه يستمر بمعاملتي ببرود تارة وبأهتمام تارة اخرى وهذا يصيبني بالتشوش اكثر ويجعل مشاعري نحوه مضطربة، انه لا يتحذر حتى بالكلام معي ولايهمه ان كانت كلماته ستجرحني ام لا؟ سابقاً لم اكن اهتم لهذا الشيء كثيراً. ولكن الان اصبح الامر جدي وسنرتبط، ألايجب ان افكر بالامر بجدية الان؟
نظرت امي نحوي لثواني ثم فجأة ارتفعت زاوية فمها بأبتسامة واكتست عيناها بنظرة عكست شيء من ألم الماضي وهي تقول لي بخفوت:.

– وهذا ما اخبرتني به هي ايضاً!
قطبت حاجباي بعدم فهم فأخذت امي نفساً عميقاً جداً وهي تدير وجهها جانباً تراقب المارة من دون ان يكون عقلها مع حركتهم بالفعل، بل في مكان اخر تماماً! اعادت ابصارها الحزينة نحو عيناي المترقبة ثم قالت:.

– قبل سنين كثيرة، جاءت لي ياسمين والدنيا بأجمعها لايمكنها ان تحوي سعادتها لأن ادهم طلب يدها للزواج، بالنسبة لها كان الشاب المثالي الذي تحلم به. وتحقق حلمها! بادئ الامر كنت ارى لمعان سعادة يطغي على اشراق عينيها كلما تحدثت معه او تم ذكر اسمه امامها، وتزوجت به! ولكن شيئاً فشيئاً بدأت هذه الزهرة اليافعة بالذبول، انشغل عنها بالعمل والصفقات وتأسيس حياته وابراز اسمه في السوق! اقُيمت الحفلات. عُقدت الاجتماعات، وكثر سفر العمل، كلها امور خلقت بينهم مسافة لم تكن ياسمين قادرة على قطعها لوحدها! فأطباعها كانت مشابهة لأطباعك وتكره امور كهذه مثل الحفلات وعشاء العمل. وادهم كان يشغل وقته كله بهم! وفي الوقت الذي قررت فيه الانفصال عنه عرفت انها حامل بكِ، وبعد سنين طويلة استطعت ان ارى ذلك الاشراق يغزو عينيها مجدداً!

كنت اركز مع كل كلمة وحرف تنطقه. ومع كل جملة حول امي الحقيقية كان قلبي يعتصر بقوة، فما مرت به من الاهمال يشابه ما شعرت به طوال السنين المنصرمة، ولأول مرة اشعر اني بالفعل انتمي لها بشكل ما رغم اني لم اراها ابداً او اعرفها!
اكملت امي بينما تأخذ نفساً عميقاً اخر:.

– كنا صديقتان مقربتان منذ طفولتنا. ومن بيننا نحن الاثنتين كانت ياسمين هي الفتاة الحساسة والتي تنكسر بسهولة، لذلك كان يؤلمني بشدة ما كنت اراها تمر به، فأنا اعلم انه اكبر مما يمكنها تحمله!
ازدردت ريقي بصعوبة لأزيل تلك الغصة التي تخنقني وقلت له بتردد:
– وماذا. حصل بعدها؟
نظرت نحوي ورأيت دمعة ضعيفة تفلت من بين جفنيها:
– رغم ادراكها جيداً بخطورة الحمل ألا انها رفضت اجهاضك!
– هل كانت مريضة؟

– لا، ولكن وضع حملها كان خطر. وقد حذرها الاطباء انهم في النهاية سيفقدون احداكما. اما هي او انتِ، ولكنها قررت خوض المجازفة، لعلها تتمكن من انقاذك. رغم ادراكها جيداً ان حياتك تعني موتها، ولكنها لم تبالي!
يُقال ان حبنا لوالدينا هو شعور فطري لانملك القدرة على قمعه وانكاره، حسناً، اظن اني بدأت اصدق هذا الشيء الان، لم اراها، لم اعرفها، ولكن بمجرد تخيلها وتخيل ما فعلته كان شيء كافي ليحرق لي روحي.

– بعد ايام من ولادتك فارقت ياسمين الحياة تاركة اياكِ وحيدة مع ابيكِ.
ثم اغمضت عيناها بألم وهي تكمل مع دموع اضافية:
– لا زلت اذكر كلماتها وهي تلفظ انفاسها الاخيرة، لازلت اذكر توسلها ان لا اجعلك تنسيها.
ثم نظرت نحوي بأنكسار وهي تكمل:.

– نعم انا وانتِ مختلفتان يا ميرنا، ونعم تفكيري ارستقراطي عكس تفكيرك. ولكن اختلافنا ليس سبب برودنا مع بعضنا، كان يؤلمني حقاً رؤيتك تتعلقين بي يوم بعد اخر وترفضين منح حب مشابه لياسمين بعد كل ما فعلته من اجلكِ فقط!
مسحت دموعي المجنونة وانا اقول لها بصوت متهدرج:
– وابي؟ ألم يشعر ولو بقليل من الذنب اتجاهها؟
هزت رأسها بالموافقة وهي تجيب:.

– لقد فعل، ولا زال! حتى ارتباطي به بعد ثلاثة اشهر من وفاة ياسمين كان من اجلك فقط، ولكن يمكنني ان أؤكد لكِ انه لم يحب غيرها!
مسحت دموعها بطرف منديلها ثم اكملت:
– ما اقصده من هذا الحديث يا ميرنا هو اني لا اريدك ان تشعري بما شعرت به ياسمين، واريدك ان تفكري بقرارك جيداً بدل ان تنجرفي وراء عاطفتك لتعيشي التعاسة ذاتها التي عاشتها هي…
امسكت بيدي بلطف وهي تكمل:.

– اعلم انكِ معجبة بسيف، ولكن الزواج لا نفكر به بقلبنا بل بعقلنا، اريدك ان تسألي نفسك شيء، هل ستتقبلين كل سلبيات سيف وايجابياته؟ هل انتِ واثقة مما تريدين؟ ألن تندمي على قرارك لاحقاً؟ ان كنت واثقة من اجوبة هذه الاسئلة وقادرة على تحملها فأرتبطي به، اما ان خالجك اي شك فأبتعدي عنه وتألمي لعدة اشهر لفراقه. بدل ان تتعذبي طوال حياتك لجفائه!

ولأول مرة في حياتي اشعر ان امي بالفعل يمكنها ان تشعر بما يختلجني وارفض الافصاح عنه حتى لنفسي. لأول مرة تلمس بقلبي شيء كنت اعجز عن رؤيته، حديث جعلني ادرك ان سلوى الباردة ليست باردة بالفعل. فهناك صيف يزدهر بداخلها كنت عاجزة عن معرفته طوال سنوات، ولأول مرة اترك سذاجتي جانباً لأفكر بنضج بالفعل كما نصحتني!

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *