رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني والعشرون
سُئل أحد الحكماء ذات مرة: -متى يبدأُ الحُب؟
فأجاب بتلك اللمعة التي لا تُفارق الأعين عند ذكر مصطلح الحُب الذي لم يُخلق قلبٍ إلا ولُسع بناره: -يبدأ الحُب يا ولدي عندما ينتهي الحماس. ف لهفة البدايات ليست حُب، فالإنسان لا يُحب بإسبوعٍ أو شهرٍ، لا يمكنك أن تقول إنك تُحب البحر وأنتَ تقف على الشاطئ، لهذا يجب أن تخوض في أعماقه، وتضربك أمواجه، تشرب من مياهه المالحة، تجرح أقدامك بصخره. فتلمس عيوبه، وترى ظُلماته وقسوته، وتعرف كيف يكون غضبه، وبعدها فقط إما أن تُحبه كله. أو تكرهه كُله.
#لقائلها.
وصل عاصي وحياة للميناء الذي تُرص فيه العديد من المراكب الفاخرة التي تنتمي لملكية عاصي دويدار جميعهم ينزينهم الأضواء ومعالم الاحتفال بقدومها إلا مركبة واحدة كانت الأجمل والأكثر تميزا من بينهم يخت الحياة ، ذلك المرسى الذي ستبدأ عنده حياتهم الجديدة بكُل معالم الفرح والسعادة كما ابتدت من قبل، فكان مرسى لبدايتهما ونهايتهما. وقفت شاهقة وهي تتأمل هذا الفصل الساحر من الجمال، والمفرقعات والألعاب النارية الملونة التي تزين السماء. تركت كُل شيء ولجأت لحضنه كي تعبر عن سيل المشاعر العظيمة التي سرت بقلبها، عانقته بكل لهفة وحماس وأعلنت انبهارها: -أيه الجمال ده، يجنن يا عاصي. يجنن.
لأول مرة يراها بهذا الحماس الطفولي الجميل الذي غمر قلبه بأسمى معاني الحب. فحاورها قائلًا وهو يتأهب لحملها بين يديه: -أنا مستعد أدفع عمري كُله مقابل الضحكة الحلوة دي بس.
تغنجت بين راحتي يده وهي تعانقه بضحكة أحدثت أكبر الفتن بقلبه وتمتمت بهيام وهي تشبث بهِ أكثر: -وأنا عمري ما هعرف أضحك من قلبي كده غير معاك.
بعض الخطوات التي قطعها كي يقترب من مرسى المركبة، رفعها قليلًا بذراعيه وكأنه يُقيم وزنها من جديد، حيث قال ممازحًا بحاجبيه المنعقدة: -دول أكتر من عشرة كيلو زيادة؟
أطلقت ضحكة عالية مدفونة بحضنه وهي تضربه برفق: -ده الفستان مش أنا. وبعدين شيل وأنت ساكت، الحاجات دي بتتنظر.
بحرصٍ شديد قطع المسافة الفاصلة بين الميناء والمركبة بخطوته الواسعة حتى رست أقدامه على سطح المركبة وقال مُداعبًا بنبرة متخابثة: -لا وعلى أيه! كله ليا وبتاعي ف الأخر.
تغنجت بخفة وقالت بثغرها الذي لم تُفارقه الابتسامة: -نزلني!
لبى طلبها بدون جدال ثم تهامس قائلًا: -نتعشى!
أومأت بالموافقة وهي تتمسك بكفه مُتبعة خُطاه للطابق العلوي من المركبة. رجل أنيق كالصخرة وكانت تُزينه غيمة شتاء لا تُمطر إلا فوقها. بخطوات خفيفة صعدت السُلم وهي تمارس طقوس مختلفة تمامًا وكأنها بالفعل أول ليلة لهما معًا بالعمر. وقفت أمام الطاولة المرشوشة بالورد الأحمر والشموع وصوت الكَمان الذي يطرب قلبها وقالت مشدوهة: -واااو! أيه الجمال ده! عاصي أنا بجد مش مصدقة نفسي حاسة إني طايرة، دا لو حلم أنا مش هكون مبسوطة كده.
وقف أمامها وهو يداعب تفاصيل وجهها السعيد وقال بلطفٍ: -وأنا جمبك كُل يوم هيعدي لازم يكون مميز. يالا نأكل.
أبت متدللة وهي تبسط ذراعيها البضة على كتفيه: -مش جعانة أوي، ممكن نرقص الأول. القمر في ليلة تمامه والنجوم بتضحك، والبحر هاديء ومتسلطن بحبنا، وبيني وبينك مرة نفس الست العجوزة قالت لي، الرقص تحت القمر في ليلة تمامه مثياق أبدية للقلوب.
طوق خصرها الذي يداعبه شعرها متوليًا هذه المهمة الممتعة، وفي أحد زوايا فمها قطف تلك القُبلة الشهية وهو يتمايل معها على صوت الكمان، متسائلًا: -وقالت لك أيه كمان الست دي!
رفعت ذقنها حد كتفه ليتجاور ثغرها المنتفخ من القُبل بمسامع قلبه وقالت مُغرمة: -قالت كمان في أسطورة بتقول أن الانسان لما بيتولد حياته زي الهلال بالظبط بيكون لوحده تايه في الكون بيدور ع نصه التاني لحد ما يلاقيه ف مكان ما ووقت معين. فيظهرلنا قمر مُكتمل زي ما بنشوف، وعارف ده معناه أيه! أن مع اكتمال القمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعوا. ومع رجوعه لهلال مرة تانية ف اتنين عشاق بيتفرقوا.
ضمها أكثر لحضنه يذراعه الذي يراقصها بهِ وكأنه يدعوها بلغة جسده إليه كي يسد فراغات روحه متهامسًا بعد ما رفع أنظار لذلك البدر المنير فوقهما وقال: -شكلي هبتدى أصدق كلامها.
ثم حاصر خصرها بمرفقه الأخر وشرع في ترتيل كلمات الأغنية الأقرب لقلبه والذي قرر أن تُهدى لها في مثل هذا اليوم، كاشفًا هوايته الجديدة والتي لا يلجأ عندها إلا عندما يتوقد الحب والشوق بقلبه. على لحن الكمان بدأ في ترنيم كلماته بصوته العذب مغنيًا يا كُل العُمر يا عمري . اتسعت حدقة عينيها من وقع الصدمة وذلك الصوت الجميل الذي اندلع من جوفه اكتفت بتنهيدة طويلة انفضت بحضنه وهي تعانقه أكثر مستمتعة ببراعة أحساسه وصوت مُغنيًا لهاني شاكر: -يا كل العمر يا عمري يدوب عمري.
ولا يغلى يا روحي عليك
بحبك لو قريب مني
وأحبك لو بعيد عني
وأحب أسهر ليالي هواك
وأحب أنده لبكرة معاك
وتوحشني وأنا وياك
وأنّ جسدها قد عتق بالخمر أينما حضنها ثملت، قبل أن يبوح بهوى قلبه بآخر مقطع من الأغنية ضمها أكثر ليرفع قدميها عن الأرض فتُحلق في هواء هواه. وأكمل: -أصاحب مين وغير حبك ماليش أصحاب
وأكلم مين وغير قلبك ماليش أحباب
أصاحب مين وغير حبك ماليش أصحاب
وأكلم مين وغير قلبك ماليش أحباب.
فارق وجهها كتفه مشدوهًا ليتلقى بمنطبة على طير الحب الحاضر بقلبه، ففتحهما ببطء على صوت صياحها المتحمس: -أنا أزاي معرفش أن صوتك حلو أوي كده؟ أنت أصلًا أزاي تخبي عني حاجة زي دي!
عقد حاجبيه متستمتعًا بالتحدي المتبادل بينهم وقال وهو يقلد نبرتها: -أصل مرة ست عجوزة قالتلي لما تحب واحدة يابني متحرقش كل ورقك قدامها، لازم كل فترة تكتشف أن لسه في جديد عندك.
انفجرت ضاحكة وهي تتذكر نفس الجملة التي قالت من قبل عند كشفها لهواية الرقص أمامه، فختم جملته متسائلًا: -كده كام كام؟
-بطلت أعد، أنا موافقة إنك تغلبني على طول كده، خلاص أنا استسلمت يا عاصي بيه.
هام بسحر حوريته التي طوقها القمر بهالة الحب فزادت جمالًا فوق جمالها، فهامس قائلًا بولهٍ:
-أنا مش قادر أصبر دقيقة كمان. تعالى ننزل.
قبل أن ينتظر رأيها سحبها خلفه متدليًا لأسفل حيث اتجاه غرفتهما وبخطواته الواسعة التي كانت تتبعها ركضًا وهي تضحك طالبة منه: -عاصي الفستان ضيق، استنى طيب هقع.
فتح باب الغُرفة بكُل ما يحمله من شوق دام لستين يوم، فاليوم جاء وقت النحر، نحر فيه جميع الجسور بينا، الليلة أنا وأنتِ والحُب بغرفة واحدة. جذبها كمن لم يتلقي بنساء من قبل كي يفض براكين حبه بها فارتطمت بسياج صدره صارخه بضحك متعجبة من لهفته المراهقة التي أحدثت زلزالا بكيانها معاتبة بدلالٍ: -عاصي!
امتدت يده لسحاب فستانها وهي يتوقد حُبًا بأنفاسه التي تعلن بأن ما يكمن داخله حريقة لم تكفيها ليلة واحدة لتخمد، فجأة انسكب دلو الشك فوق رأسه وفأصاب بالتجمد قائلًا بغلٍ يملأه:
-فين الtest ال جبته؟
قطمت على شفتها بإعتذار: -نسيته في العربية، سوري!
كور قبضة يده بغيظ وقفل جفونه متخذًا نفسًا طويلًا كي يهدأ وهي يعض على شفته السفلية بإغتياظ، فقال: -غيري لحد ما أروح أجيبه.
وقفت أمامه رافضة ذهابه: -عاصي أنتَ مش واثق فيا ليه! بقول لك مفيش حاجة صدقني!
-لا مش مصدقك.
فضاقت عينيه بعدم تصديق وهو يقول: -مش مستعد نقضي باقي الليلة في المستشفى. غيري ومش هتأخر.
فأوقفته قائلة: -طيب هات شنطتي معاك، عشان شريط الحبوب فيها ونسيته هو كمان.
رفع حاجبه مندهشًا: -كمان!
بررت موقفها: -الله، نسيت. ليا شهرين مش باخد حاجة.
أومئ متفهمًا: -تمام يا حياة.
خرج عاصي من الغرفة وهي يلعن حظه سرًا أما عنها ركضت للتأمل تفاصيل هيئتها أمام المرآة بفرحة تتقاذف من أعينها. ذلك الفستان الرقيق الذي ينحت تفاصيل جسدها الممتلىء قليلًا وأصبح أكثر جاذبية وفتنة وتعلوه طرحة زفافها البيضاء التي تكنس الأرض ورائها، والعقد الماسي الرقيق كإطلالتها والتي يزين فراغ فستانها المتعري من أعلى. ظلت تقفز وتتنقل بالغرفة كفراشة تدلل على بستان من الورد. ثم ركضت ل تفتح خزانة ملابسه وشرعت بالحيرة ف اختيار ما سترتديه. مجموعة من ملابس النوم البيضاء، أمسك بقميص قصير للغاية ويعلوه روبًا يصل لركبتها ولكنها تراجعت، وأخرجت منامتها البيضاء الحريرية المتكونة من بنطال فضفاض وستره واسعة من نفس النوع. رفعت حاجبها بإعجاب: -هي دي! ونخلي التاني كمان شوية.
نزعت وشاح رأسها الطويل وألقته على السرير ثم أخذت ملابسها واتجهت للحمام كي تستعد لمجيئه. مرت دقائق معدودة حتى عاد عاصي حاملا بيده بعض الحقائب. في اللحظة التي فتح فيها باب الغرفة، فتحت هي الأخرى باب الحمام بشعرها المنساب الذي استمد سواده من ظُلمة الليل والذي يكسو ظهرها بأكمله ويتجاوزه. ما أن سقطت أعينها عليها تنهد بشرود متحيرًا من أيد تؤكل الكتف، فسُرعان ما عاد لرشده وهو يمد له جهاز اختبار الحمل وقال:.
-قبل أي كلمة، اتفضلي أعمل ده.
أخذته من يده ضاحكة وعادت للحمام مرة ثانية، أما عنه بدأ في خلع ملابسه وألقاه بعشوائية على عكس كونه شخصًا منمقًا للغاية ولكنه أراد أن يتحرر تلك الليلة من كل القيود. فتح خزانة ملابسه وأخرج منها بنطالًا لونه أبيض فضفاض ثم تناول سيجارة وأشعلها بجوار أحد نوافذ اليخت . خرجت حياة من الحمام وهي تسير على طراطيف أصابعها المطلية باللون الأحمر القاتم الذي يشبه حمرة شفاهها وهي تخطو بدلال فيتراقص خُلخالها. تركت الاختبار على الطاولة الخشبية وذهبت لعنده وهي تتمايل بشعرها الحريري يمينًا ويسارًا. وبثغرها المبتسم وشدت السيجارة من يده: -مش حابة ريحتها النهاردة.
دارت أمامه لتطفئ السيجارة بقلب المطفأة فعادت لتجد نفسها بين ذراعيه وتحت عينيه المقمرة بحبها. لُطخت ملامحها بحُمرة الخجل وقال بخفوت: -وحشتك!
رد مشدوها بجمالها وهي ينثر بذور حبه على ملامحها: -فوق ما تتخيلي!
-تفتكر اليوم ال صحيتك فيه من النوم لإني مش عارفة أنام من كتر ما أنتَ واحشني! أنا الشيطان كان بيقولي قومي يابنت اهربي وروحي لعنده ويحصل ال يحصل.
كان يذوب بين تفاصيلها الساحرة فتمتم: -من النهاردة مش هبعد عنك تاني، والليلة دي وعد من عاصي دويدار هتنسي فيها كُل ال فات.
كادت أن تستسلم لدعوته الصريحة ولكنها ترنحت متدللة: -استنى!
رد بملل: -في أيه تاني؟
وشوشت له: -نتيجة التيست لسه. بس ممكن نعمل حاجة أحلى لحد ما يظهر.
-حاجة أيه ال هتكون أحلى منك؟
أردفت بتلك النبرة الحنونة وهي تمرر كفوفها على وجنته: -أنتَ شربت النهاردة؟
ألقى نظرة على كفها الذي يستقر على وجنته وقال بنفس النبرة الهادئة التي ما زال محافظًا عليها: -أنا وعدتك.
ارتسمت الضحكة على محياهها لصدقه معها، فأتبعت متسائلة: -بتعرف تصلي. قصدي أننا نصلي سوا.
مال ثغره بابتسامة مبطنة بالحسرة واعترف: -بعرف أصلي يا حياة.
ثم أمسك بكفها ليجلسا معًا على طرف فراشهم و أكمل: -وهتصدقيني لو قُولت لك إني كُنت حافظ أجزاء من القرآن!
بعينين تتوهج بالغرابة، مع حاجبين منعقدين: -ده بجد!
أكمل متذكرًا تفاصيل ماضيه المُشتتة: -سنة 99 دخلت كُلية التجارة، وهناك كُنت شاب مراهق وطايش. تعرفت على جماعة من الأحزاب الدينية المتشددة. و ال للأسف بنسميهم أخوان، فضلت معاهم سنة وشهرين مجالس وخُطب وتحفيظ قران، لحد الخبر ما وصل لعبلة…
بد اليائس على ملامحه مع تنهيدة طويلة تحمل الأسف: -مش عجبها الحال، بلغت عن الشباب دول ومعرفش خرجتني ازاي، وكان أول تهديد ليها أننا مش هينفع نعرف شهاب دويدار، ده سر ما بينا.
تمتمت مستوفرةً: -وبعدين!
شد عُلبة السجائر المركونة على سطح الكومود ورمى واحدة بفمه كأنه يود حرق بعض التفاصيل التي تذكرها ولكنه تراجع إثر رغبتها في عدم حبها لتلك الرائحة، فأتبع بنبرة مؤسفة:.
-ركبت معاها العربية وخدتني على بار، كباريه، وقالت لي ده مكانك ومكاننا وسط الناس الهاي. بلاش تنزل من مستواك وتقعد مع ولاد الحارات الشعبية والمُتخلفين.
تعالى جؤجؤ صدره الممتلىء بدخان الماضي وهو يواصل ذكرياته المؤلمة: -يومها شربت أول كأس واتعرفت على ولاد الناس الأكابر زي ما هي مفهماني. تاني يوم روحت لوحدي وحبيت الجو والانبساط ال ف المكان، خلاص ده مكاننا أنا كُنت غلطان! ماهي عملت لي غسيل مُخ.
رشح جبينه ثم أطرق بأسف ليزحزح عينيها من عندها وبدّ عليه الارتباك وهو يتمتم: -يومها لمست أول بنت يا حياة. وبقيت واحد تاني، أخدت الكُلية في ست سنين او سبعة مش فاكر منا مش فاضي حياتي بقيت سفر وسهر وشُرب وستات متعديش.
برح به الماضي فأخرجه في صورة زفيرًا قويًا من الدخان الذي يحرق صدره ونظر لها: -لحد ما توفي شهاب دويدار. افتريت يا حياة بمعنى الكلمة، سُلطة وفلوس وستات زي الرز لحد ما تميت 32 سنه واتعرفت على مها.
غادرت مكانها وجثت تحت مظلة عينيه ممسكة بيدها وكأنها تذكره بها وبسعادتهما معًا وأن كل ما مر كان ماضٍ، فأطرقت بخفوت:
-حابب تكمل؟ لو هتضايق بلاش.
رد وكأنه بحاجة للبوح: -خلتني أحبها بس مخلتنيش اتغير عشانها، كانت بتحبني كده زي منا، وتقبلت أن دي حياتي خلاص ومش هتقيدني، فاتمديت بقا ومابقتش عامل حساب لحد، لحد ما جيتِ أنتِ!
اتسعت ابتسامتها وتلألأت عينيها، وقالت بغنج: -عملت أيه مميز عشان تقرر أنك هتتغير عشاني.
مسح على رأسها وقال معترفًا: -لقيت نفسي معاكِ. طير حُر شاف السما بعد سنين طويلة كان مسجون جوه قفص.
ثم رفعها لتتخذ من ساقيه مجلسًا وهو ينظر إليها مأخوذًا وأردف متسائلًا:
-عايز أعرف رأي حضرة الروائية مراتي، أيه هو الحُب ال يخلي رجل يحب ست واحدة من بين كُل الستات دي!
أحست بالفخر بسبب أعتزازه بموهبتها وحماسه لمعرفة رأيها. طوقته بحنان زاخر وقالت بهزار: -يمكن أنا وأنت اتقابلنا في زمانٍ تاني غير ده، وكُنا بنحب بعض. ولما التقينا في الدنيا الحُب ده اتجدد من تاني وحسينا أننا نعرف بعض من زمن! ده رأيي الروائي، تحب تسمع رأيي الشخصي؟
كان كفه متوليًا مهمة ملاعبة خصرها بحرافية وكأنه يُخدر فراغ الأيام الخالية منه، ك يد لامست آلتها الموسيقي العتيقة بتعطش وهو يتابعها باهتمام ويركز في حركة ثغرها المثير الذي يخشى أن يؤذيه بقُبلة متهورة منه ؛ وقال:
-أنا دايما بحب اسمع لك. قولي.
اكتفت بترك قُبلة برقة النسيم على أرنبة أنفه وشعرها كالستارة التي تُظلل عليهما ثم سندت جبهتها فوق جبهته وبنفس النبرة التي تحمل حرارة الشوق وهي تعبث بأناملها الناعمة بعظام كتفه:
-أنتَ عارف أن حواء مخلوقة من ضلع آدم. من ضلع جمب قلبه بالظبط، وكانوا عايشين مع بعض ف الجنة. لما نزلوا الأرض، ليه ربنا نزل كل واحد منهم في مكان مختلف؟ وتعبوا عشان يلاقوا بعض. ليه منزلوش سوا!
-ليه؟
أكملت بنفس النبرة المتغنجة:.
-دي كانت إشارة للحياة يا عاصي وده قانونها ال هتكمل عليه لنهاية الزمان، لكُل آدم حواء خُلقت من ضلعه ف السماء. بس لما بنلمس الأرض تعرف أيه بيحصل؟
اعتدلت ف جلستها لتُطلع عينيه بالأخص وأكملت بنفس النبرة الهادئة: -بنتوه من بعض، كُل واحد بيفضل تايه في الحياة ودروبها بيدور ع الجزء الناقص جواه، والجزء ال ينتمي له، ف ال ربنا مقدرلهم لُقاء فبيتلاقوا وبيعيشوا أجمل معاني الحُب، حب من الجنة. وف ال بيتلاقوا بس بيكملوا حياتهم مع ناس تانيين مش شبههم وبيتقتل الحُب على إيدهم. وف ال بيقضي عمره كله بيدور ومابيوصلش.
ثم عانقته وكأنها تعانق الصدفة التي جمعتهما: -وإحنا كُنا محظوظين ولقينا بعض، حتى ولو متأخر. المهم اتلاقينا.
ينظر إليها مأخوذًا حتى أنها لم تمهله الفرصة للرد متسائلة: -لكن السؤال هنا، هل هتفضل تحبني للأبد؟
كانت مداعباتها الحنونة وأنفاسها الهادئة تتسرب لبدنه ك ذبذبات كهربائية، حتى قال: -افتكر ال زيك مش هيليق بيها غير الحُب الأبدي.
بنبرة هادئة غارقة في غيبوبتها السعيدة قبل توهج الجمرة بينهما، وهي تقفز بشغف: -هنقوم نصلي الأول. يلا. حابة أوي أجرب الشعور ده معاك. زي مشاعر كتير لسه هنجربها سوا الليلة دي.
فرغ الاثنان من طقوس الوضوء بضربات قلبهما الهادئه وحمامات السلام التي عششت فوق قلوبهما. ارتدت حياة روبًا طويلًا يغطي قدميها وظلت تبحث عن وشاحًا تغطي به رأسها حتى استعانت بأحد مفارش الطاولة البيضاء. وهو الأخر كانت حركاته هادئه عكس قلبه الذي يرتجف. يرتجف من هول اللقاء الأول بينه وبين ربه بعد فراق عشرين عامًا. فرشت حياة مفرشًا أبيضًا نظيفًا بالأرض بدلًا من سجادة الصلاة بعد ما ضبطت اتجاه القِبلة مستعينة بجواله. ثم أشاحت بعينيها الزرقاء له وقالت بتوجس مبطن بالحماس:.
-يلا!
قفل أزرار قميصه الأبيض وشد أكمامه وهو يقترب ببطء شديد وقلب متراقص. وقف كإمام لها ووقف على يمينه تبعد عنه بمسافة خطوة للخلف. رست أقدامه الوردية التي تبرز منها العروق القوية متأهبًا للصلاة. وقف مشدوهًا لبضعة دقايق يستوعب هول الموقف حتى رفع كفيه لعند آذنيه مُعلنًا الصلاة بخجل من لقاءه الأول مع المولى عز وجل:
-الله أكبر.
رفعت كفيها فوق عظام صدرها بوجهها الباسم وعينيها الممتلئة بالعبِرات خاصة عندما تذكرت ذلك الموقف وصلاة الفجر وراء أبيها وكل المشاعر الآمنة التي كانت تغمرها حلت اليوم على دكة خُطاه. لم يكن صوته عذبًا فقط بالغناء ولكن كان أجمل بالقرآن خاصة وهو يرتل الآيات الصغيرة المترسخة في عقولنا مهما مرت الأعوام، ولكن لحظة الوقف خلفه تضاهي جميع أعوام العُمر.
مارس طقوس الصلاة كإنه لم يُفارقها يوم، نفس شعور الرهبة الذي سكن فؤاده قبل عشرين عامًا وبنفس ذكريات ذلك المسجد القديم الذي كان يجمع صُحبتهما. ولكن اليوم تقف خلفه أحد حوريات الجنة تلك التي هذبت قلبه بأرقى أنواع التربية. ما فرغ من صلاته حتى إنه لم يلتفت إليها فعاد ليُطيل السجود كانت لا تسمع إلا صوته همهماته مع ربه، ربما إنه يطرق بابًا جديدًا للتوبه! أم يعتذر عن سنوات الغياب! أم يعد ربه بإنه لم يكن أخر لقاء وسيتردد على بابه كثيرًا؟ ربما كان يدعو بأن يهدي قلبه العاصي؟ أم يبارك له في حياته الجديدة وحبه! أم يحفظ صغاره! لا تدري ولكنها لم تقطع خلوته، تركته ساجدًا ثم انسحبت بهدوء وألقت نظرة على اختبار الحمل فلم تجد إلا خطًا واحدًا باللون الأحمر. ابتسمت برضا ثم تركته وتناولت قرصًا من أقراص منع الحمل قبل بدء ليلتهما وتركت الشريط أيضًا بجوار المختبر. تحررت من ملابسها حتى عادت لعنده وجلست بمكانها نتظر قدومه. بعد سجوده الطويل رفع رأسه آخيرا فتحركت لتجلس بمحاذاته واضعة كفيها على ركبتيه المثنية بامتنان:.
-تقبل الله يا حبيبي! صوتك كان جميل أوي. أنا كل يوم مش هصلي غير معاك.
قَبل جبهتها: -يا ريت بجد، لو يوم لقتيني نسيت أو انشغلت فكريني. اتفقنا.
-حاسس بإيه!
تنهد بارتياحٍ: -أنا عُمري ما كُنت مرتاح زي كده، عارفة زي غيمة سودة كانت فوق قلبي لسنين طويلة وفجاة مابقيتش موجودة. عارفة أحساس ال اتولد من أول وجديد؟
تأرجحت عينيها بإعجاب: -وأنا أول مرة أشوفك مرتاح كدا. ربنا يريح قلبك وبالك العمر كله.
أومأت بحماسٍ مع ابتسامتها الخلابة وقالت بمزاحٍ: -التسيت بيقول أن مفيش حمل ولا حاجة. عشان تثق فيا بعد كده. أنا خلاص بقيت خبرة ف المواضيع دي!
شعر بالارتياح وهو يطبع قُبلة جديدة على وجنتها: -الليلة لو كانت اتضربت كُنت هزعلك. يعني كده الدار أمان!
أطرقت بخفوت: -الدار مش أمان. الدار مشتاقه لسُكانها.
كاد أن يغتنم الفرصة لينعم بها ولكنها قاطعته بسرعة: -عاصي أنتَ ليه صممت نبعد عن بعض الفترة دي كُلها، يعني فيها أيه لو كنا مع بعض وعملنا فرح وكل ده الحاجات دي وأحنا سوا؟
عقد حاجبيه معترضًا: -وده ينفع بردو! دي حسابات تخصنا إحنا كرجالة، متشغليش بالك أنتِ؟
تاهت في بحر ألغازه: -يعني أيه! مش فاهمة؟
تجاهل سؤالها الأحمق ودقت ساعة اللقاء فلم يعد يتحمل دقيقة أخرى في سنوات البُعد عنها. فترك الزمام لعينيه أن يتحدثا، هل يمكنني أن أدخل الحياة من باب عينيكِ الآن. أن أهزم التنهيدة بعناقك، أمشي إليكِ بقدمين سليمتين دون تردد وبكامل رغبتي إلى حتفي بين يديكِ، أدرك جيدًا أنني إن دخلت حجرتك الصغيرة سوف أخرج منها مقتولاً بكل أساليب الحب؟
كانت أنامله تعزف بالكلمات على أوتار قلبها، ونفس الحال لأناملها التي تدلك تقاطيع صدره الظاهرة، تدلك برفق فيتوقد جسده أكثر وأكثر وتتوهج منارات قِبلاته أكثر فأكثر. معها تحرر من قيود الزمان والمكان والأرض التي تجمعهما. كانت تتراجع للخلف سَكرة لا تعى أين هي وما ستفعله!، باهتمام جذب الوسادة ووضعها خلف ظهرها كي لا تصطدم بالطاولة الصغيرة. كانت تتراقص تحت يديه كروضة اقحوان تحت المطر وهو كان بارعًا في تفجير كل زهور الشوق المنكمشة بكيانها. فدبت أول رجفة بقلبها والتي تتذكرها أكثر من طريق بيتها. فلا تعلم أكانت تلك الرجفة خاصة بحلاوة الحب أمِ الأحلى من الحُبّ الحبيبُ؟ كان ذكيًا للغاية يُغني حبًا. ويعزف قصائدًا على أوتار جسدها. يرسم ثمرات الشوق على وديان قُربها، وكأنه يمنحها بصورة أو بأخرى وطنًا لا يعرف معنى الهجران بعد تلك اللحظة. شعر بهزيمتها واستسلامها ففسح مجالًا لتسترد أنفاسها من بين القُبل الطويلة. تسلل كفه لتحت ركبتيها المثنية والأخر وراء ظهرها وحملها بين يديه وهي هزلة تتشبث بحضنه كطفلة نائمة تتمتم بهمهمات حبه المتوقد. وضعها برفق على ذلك التخت. الذي سيشهد على حرب أبدية لحياة الحُب الأزلية والتي سيوقع عليها الآن بختم سلطان الهوى. تراقصت جفونها فتلاقت أعينهم الفائضة من اللهفة لتخبره بطريقة خاصة بهما أن أيها العصي حياتك فاقها الشوق! ومن هنا بدأت طقوس المعركة الروحية على خدود الحُب الذي طوق قلوبهما. لتُخبره بجملتها الأخيرة قبل أن يذهبا لعالم الحُلم سويًا: -ولو كَان ليا الف حيَاة، بردو هحبك ف كّل حَياة الَف مرة.
بغُرفة عاصي.
تنام نوران بجوار تاليا وداليا، وأجبرت كريم أن يقيم معها بنفس الغرفة، فرشت له مرتبة بجوار السرير عمومًا وبجوارها خصوصًا. استيقظت داليا من نومها وهي تتفقد هوية النائمة بجوارها، وربتت على كتفها لتوقظها: -نوران، مامي فين؟
ردت نوران بصوت مفعم بالنوم: -نامي يا حبيبتي الصبح هتيجي.
زفرت داليا بملل: -طيب قومي هاتي لي ميه.
تململت نوران بنومتها رافضة: -الصبح بردو، يلا نامي!
أصرت داليا بإلحاح: -نوران عايزة أشرب ميه قومي هاتي لي.
مدت نوران كفها لكريم النائم تحتها بالأرض وقالت بضيق: -كريم قوم هات ميه للبنت.
ربت على كفه بكللٍ وهو يتقلب في نومته: -قوليلها الصبح…
فلكزته بإلحاح: -قوم بجد أنا مش قادرة.
تأفف كريم وهو يضع الوسادة على رأسه: -نامي ربنا يهديكي!
وثبت نوران بجزعٍ وهي تجر في أقدامها جرًا: -يعني يا دودو هنزل تحت أجيب ميه! ما تنامي بجد.
أشارت داليا على الثلاجة الصغيرة: -في ميه هنا.
سارت نوران بأعينها المقفولة وفتحت الثلاجة لتُخرج قارورة الماء الزجاجية وهي تحت سطو نومها فانسابت الزجاجة من يدها لترتطم بالأرض وينتشر فتات زجاجها بكُل مكان، فزع كريم على مصدر الصوت وهي يلومها: -يخرب بيتك!
في تلك اللحظة جاء صوت بكاء صغاره النيام، فأغرورقت عيني نوران بعتب وهي تقف في منتصف قطع الزجاج المنثور: -لا كريم الحقني دول كمان صحيوا!
وثب كريم حائرًا بين صوت بكاء الصبيان وخوف الفتيات وتلك التي تقع في بئر الزجاج لا يمكنها التحرك. ارتدى نعاله الخشبي وذهب لعندها ليحملها كي لا تؤذى قدميها. و تركها على طرف السرير مؤكدًا: -متقربيش عشان الإزاز!
ثم دار حائرًا تائهًا بالغرفة: -ده ننضفه ازاي؟
نهضت تاليا مقترحة وهي تُشير لأحد الضلف: -أونكل كريم المكنسة هنا، ماما دايمًا بتنضف بيها لما نوقع أكل!
أخرج المكنسة الكهربائية من مكانها وقال بتحير: -سكتي العيال دي! أنتِ هتتفرجي عليا؟
شغل كريم المكنسة وشرع في تنظيف الأرض من فتات الزجاج بعناية كي لا يؤذى أحد. حملت نوران ريان وتركته على الفراش ثم جاء بركان ووضعته بجواره وسالت البنات: -بيسكتوا ازاي!
جاءت تاليا مقترحة: -مامي بتنيمهم على بطنهم كده وبتطبطب عليهم بشويش.
فتدخلت داليا مقترحة: -لا يا نوران هما جعانين، عايزين ياكلو. أكليهم، بس ريان لازم يرضع طبيعي زي ما مامي بتقول! رضعيه بقا.
انعقد حاجبي نوران باندهاش وهي موشكة على البكاء: -دي أعملها ازاي! كريم تعالى ألحقني.
فرغ كريم من كنس الأرضية ورجع المكسنة لمكانها. ثم أقبل لعندهم وهو يقول:
-حياة مجهزة الرضعة لكُل واحد أهو.
توترت نوران وهي تدور حول نفسها بارتباك: -طيب أنت امسك واحد وانا همسك التاني. صح كده. وأنتِ يا توتا اقعدي جمب أونكل كريم ولغوشي عليه عشان ميعيطش. وأنتِ يا دودو تعالى جمبي.
حملت ريان وشرعت أن تُطعمه ولكنها توترت خائفة: -كريم انزل اصحى شمس تتصرف معاهم، أنا بجد خايفة.
زفر كريم بأعتراض: -لا يا نوران. اعتمدي على نفسك في حاجة بقا. أعملي زيي أهو.
رمقته بتوجس: -ركان هادي. خد ريان وهات ركان.
جز كريم على فكيه: -نوران متعصبنيش!
-أنتَ بتزعق لي ليه! أنت السبب في كل ده، لو قمت جبت مية بسكات، مكنش كل ده هيحصل.
ثم زفرت بامتعاض: -أقول لك عقابًا ليك، هترضع الاتنين، اتفضل.
تدخلت تاليا قائلة: -نوران أنا جعانة عايزة أكل.
فأكملت داليا: -وأنا عايزة أشرب ميه يا نوران.
رمقتها بذهول وهي تلعن حظها: -يادي نوران وال جابوا نوران. هي حياة ازاي بعقلها كُل ده! اكل وشُرب ورضاعة! أنا دماغي هتطير خلاص.
أصرت تاليا: -جعانة يا نوران، اتصرفي. أعمليلي أي ساندوتش.
-أنتِ بتقومي كده في نص الليل بتاكلي عادي! وحياة بتأكلك.
ردت تاليا بفرحة: -اه، وهي كمان بتاكل معايا. بتقول عشان ريان بيأكل أكلها فهي بتجوع بسرعة زيي. وبتعملنا باستا بالجمبري والوايت صوص تجنن!
-ده الفجر!؟
ردت تاليا ببساطة: -في كل وقت. مامي ال يهمها نكون مبسوطين وبس.
تأرجحت عيني نوران بحسرة خاصة عندما شرع ربان في البكاء مرة ثانية وقالت لكريم: -أحنا مش هنأجل الخلفة لحد ما أخلص جامعة، أحنا هنلغي المشروع كله، كريم أنا أعصابي تعبت بجد.
ما كادت أن تنهض ولكنها تراجعت بسرعة: -كريم أقول لك روح اتجوز عليا أنا مش هنفع في أي حاجة بجد!
مع شروق الشمس.
خرج عاصي من الحمام بعد ما ابترد للمرة الثانية وهو يجفف شعره بالفوطة الصغيرة التي رماها فوق بطنها ممازحًا:
-لسه متحركتيش، قومي بطلي كسل.
تغنجت صارخة بدلال: -بس بقا، مش قادرة بجد. أنتَ عملت فيا ايه؟
هز كتفيه لا مباليًا بذنبٍ: -أنا معملتش حاجة، أنتِ ال قلبك بقا خفيف من الركنة.
وثبت مفزوعة وهي تعارضه وتتبع خُطاه للمرآة: -أنتَ بتقول أيه! لا بص لي كده، حاسة في إهانة وتلقيح عليا!
شرع بتصفيف شعره وهو يغمز بطرف عينه: -لا مش حياة ال أعرفها.
ضربته بقضبة يدها بغلٍ وقالت موبخة: -والله رخم، وبتكذب كمان. ومش هتعصبني لا. أنا واثقة في نفسي جدًا.
أطلق صفيرًا خافتًا وهو يتحاشى النظر إليها، فتأوهت غاضبة: -عشان الرخامة دي هسيبك وأنام.
رد بثقة: -هصحيكي.
تحدته بدلال: -مش هصحى. مش أنا قلبي خفيف! طيب استحمل بقا.
كادت أن تركض فأمسك بمرفقها بسرعة لتعود لعنده ففي تلك اللحظة أصاب الدوار رأسها فتأوهت متوجعة: -آآآه!
-مالك.
رفعت جفونها بتكاسل: -دوخت تاني! لا لا في حاجة غلط، أنا مش مظبوطة.
طوق خصرها وتمسك بها جيدًا ثم قال: -طيب تعالى ارتاحي. على مهلك.
مددت على طرف السرير، فانحنى ليضع الوسادة وراء ظهرها، فلم يخلٌ من مداعبتها متهامسًا: -بجد قلبك ال بقا خفيف ولا الجولة كانت تقيلة عليكِ!
لكمته في كتفه بغيظٍ: -بس بقا. بطل رخامة.
اكتفى برسم ابتسامة واسعة على محياه وهو يقول: -هعملك حاجة دافية تشربيها.
ردت ساخرة: -أيه الحنية دي كُلها!
رد بمكر وهو يسير ناحية ركن القهوة: -برمى شبك يمكن يطلع بسمك.
ردت متعبة متفهمة مغرى تلميحاته: -لا انسى. روحني لولادي!
رد مستنكرًا: -ولادك مين! مفيش خروج من هنا غير لما أرضى عنك.
ثم ولى رأسه لعندها وقال: -أنتِ شيلتي التاتوه ليه!
ردت بارتياح: -شوفت فيديو إنه حرام. والفترة الأخيرة رجعت انتظم في الصلاة تاني عشان البنات يتعلموا ده وميغلطوش غلطتنا، عشان كده شيلته. بس لو يهمك أوي أنا ممكن أرسم حنة.
شعرت ببعض التقلصات ببطنها فلم تنتظر رده بل أسرعت راكضة نحو الحمام ولم يصله له إلا صوت تقيؤها. ترك ما بيده كي يلحق بها ولكنه توقف بجانب الطاولة التي كان عليها جهاز اختبار الحمل. تجمد فكره لجزء من الثانية وهو يتأمله حتى لاحظ وجود الخطين الذي يعلن حملها. عض على شفته ساخرًا:
-بقول في حاجة غلط!
ثم صاح مناديًا: -أنتِ يا ست خبرة.
تركه مكانه ثم عاد إليها وسندها وهي تخرج من الحمام ويبدو عليها الإرهاق: -عاصي بجد أنا مش مظبوطة، معقولة أخدت برد!
هز رأسه مستنكرًا وهو يوصلها للفراش مرة ثانية: -أو حامل مثلًا!
ترنحت بتمرد: -يووه بقا يا عاصي! بردو مصمم؟
أطلق ضحكة ساخرة والقى لها اختبار الحمل قائلًا: -لحد ما تشوفي ده، هستناكي فوق عشان نفطر.
امتدت أناملها لتفحص النتيجة الإيجابية مرة ثانية فصرخت متمردة على ذلك الحدث: -عاصي لا! خد هنا أنتَ سايبني مع الكارثة دي لوحدي! عاصي طيب إزاي!
لكنه غادر الغرفة وهو يضحك ويضرب كف على الأخر متمتمًا وهو يشعل سيجارته: -أهم حاجة الثقة ال بتتكلم بيها! وأنا مُغفل وبلعت الطُعم!
ارتدت فستانها الأزرق الطويل ولملمت شعرها بعشوائية وسارت خلفه وبيدها الاختبار وحبوب منع الحمل. ركضت لأعلى وهي توبخه: -أنتَ ازاي تسيبني وأنا بكلمك!
ثنى سيجارته بقلب المطفأة وهو غارق ف الضحك: -الهانم بتاعت الثقة! أنا نفسي أعرف، الحاجات دي كل الستات بتعرفها؟ أنتِ فين من كل الستات دي!
جحظت عينيها وهي تجلس بجواره: -عاصي أنا مصدومة بجد! أنا كنت بأخد الحبوب في ميعادها. وكمان الب…
فابتلعت بقية حديثها متذكرة قصة حملها الأول: -استنى، بدأت أفهم، معقولة قصة الحمل الأول اتكررت. الدكتورة قالت لي ده اسمه حمل غزلاني.
ثم تشبثت برأسها: -لالا، الجهاز ده غلط. طول ما أحنا مع بعض أنا كنت بأخد الحبوب في وقتها. حتى شوف الشريط فاضي ازاي!
خطف الشريط من يدها ورماه بالبحر، فوبخته: -أنتَ بتعمل أيه!
-ملهوش لازمة بقا، حياة حبيبتي أنتِ بتستهبلي!
-عاصي أنتَ بتقول ايه! أنا بجد مصدومة!
عقد حاجبيه بخبث: -مش ريان وركان لما جم كنتي بردو بتاخدي نفس الحبوب دي!
غمغمت: -اه بس كنت ساعات بنسى، لكن أنا ليا 8 شهور منستش ولا يوم!
انفجر ضاحكًا على ملامحها المشدوهة من إثر الصدمة، فقال مداعبًا: -عارفة ليه بتستهبلي؟ عشان جوزك ما تنفعش معاه الحبوب دي، مشروع فاشل.
رمقته بذهول يحمل الشكوى: -عاصي! أنت بجد مبسوط؟ أنتَ متخيل أنا داخلة على أيه؟ خمس عيال يا عاصي. هتجنن يالهوي!
ردّ ببرود متعمدًا إثارة غيرتها: -وممكن يبقوا ستة. أنتِ وحظك! أصل أنا مش بخلف غير بالجوز.
وضعت أناملها على فمه متحسرة: -لا. ما تقولش! حرام عليك بجد. أنا أيه ال عملته في نفسي ده ياربي.
ثم ربتت على كتفه بترجي: -أنتَ كنت رميتني للسمك يومها أرحم ليا من ال بيحصل ده.
لم تهن على قلبه أن يُلقيها فريسة للأسماك وضمها لحضنه وهو يتنفس رائحتها وقال: -أعملي حسابك، كل سنة من ده، كل سنة عايز ضيوف جديدة تنور أوضتنا.
ردت مستنكرة: -أنتَ مش متجوز أرنبة!
سند ذقنه على كتفها وقال هامسًا: -بس أنتِ متجوزة عاصي دويدار.
حدجته معاتبة: -عاصي! أنتَ بتتكلم بجد!
-وجد الجد كمان.
ثم وضع تلك الخصلة المتطايرة وراء أذنها وقال بشموخ: -حياة أنا كنت غلطان لم منعتك تخلفي طول الفترة دي، أنا بكبر وعايز اسمى يتمد كمان وكمان. أنا مش عايز أمشي بحراسة. أنا عايز أمشي بولادي، ولاد عاصي دويدار.
ثم ختم جُملته بقبلة خفيفة على جدار عنقها وأكمل ممازحًا: -هتقدري ولا أجيب ال تساعدك!
غازلته متدللة وهي تتكئ بظهرها على سياج صدره وهي تخفض كفيه لمستوى بطنها التي تضم مضغة جديدة من حبهما وقالت: -أنت هتقدر تخلف من واحدة غيري!
رد متعمدًا إثارة غيرتها: -ما أنتِ ال هتربيهم.
سايسته قائلة بمزاح: -لما أقتل أمهم! اذا كان كده ماشي.
-شوفتي فاهمك ازاي!
دارت إليه بنيران غيرتها وهي تتمسك بياقه قميصه المفتوح: -سؤالي واضح ياعاصي بيه، هتقدر تخلف من واحدة غيري!
-أنا لو حابب أخلف دستة، فعشان بس أنتِ هتكوني أمهم. غير كده ميلزمنيش.
اتسعت الضحكة على محياها وغمغمت: -بحبك.
قبل جبينها ثم ضمها إليه لتستند برأسها على صدره قائلًا: -مبروك الحمل يا أم ريان. عايزك ترتاحي خالص. وكُل طلباتك مُجابة.
-الله يبارك فيك يا أبو ريان.
وبنفس الابتسامة رفعت عيونها لعنده وقالت: -الولاد وحشوني، يلا نرجع لهم.
-نطمن الأول على الحمل ونروح. يلا قومي.
كادت أن تقف متمسكة بيده وهي تقول بسعادة: -اليخت ده كل ما أجي فيه لازم أكون حامل! أنا بدأت اتوغوش! مش هاجي هنا تاني.
انحنى متهامسًا بتحدٍ: -أنتٍ مش هتيجي غير هنا.
ثم غمز بطرف عينه: -أششش عندنا فريق كورة لازم نكمله.
التعليقات