التخطي إلى المحتوى

لم ينتهي حفل الزفاف بعد 

فبعدما غادر معتصم منكسرا منهزما، انتهت الرقصة لتعود ريم الى مقعدها معتذرة من خالد عن عدم مقدرتها على المزيد من الرقص بسبب ارهاقها طيلة اليوم. 

بينما استمرت شيرين في الغناء لتغني أغنيتها الثالثة و الأخيرة، فقد اتفق معها معتصم على ثلاث أغاني فقط اختارها بنفسه كتعبير منه عن مشاعره تجاهها.. 

+

بدأت موسيقى الأغنية تصدح رويدا رويدا، فقامت تيسير بوكز أدهم من ذراعه لتقول له و هي تشير برأسها الى ندى: 

ـــ قوم ارقص مع مراتك… عوض الرقصة اللي زي الزفت اللي رقصتها معاها يوم فرحكو. 

+

أخذ يزفر أنفاسه بضيق، فهو لا يريد الاجتماع بها مرة أخرى أيا كانت الأسباب بعدما جرحت كرامته بلا أدنى شعور بالذنب من جانبها، و لكن أمه نظرت له نظرة تحذيرية كناية عن عدم وجود فرصة للرفض، فقال بضيق بالغ: 

ـــ ماما انتي عارفة اني ماليش في جو الرقص و الكلام الفارغ دا. 

ناظرته بتغيظ شديد لتقول بسخرية: 

ـــ يابني هو انا بقولك قوم اشقطلك واحدة ارقص معاها… دا انا بقولك قوم ارقص مع مراتك.. 

ضحكت روان لتقول: 

ـــ يابني دي فرصة كل المتجوزين بيستنوها.. عارف لو مكانتش رجلي وارمة و الله ما كنت سايبة محمود.. 

+

ثم صدرت منها ضحكة لفتت انتباه ندى التي كانت شاردة في عالم آخر لتنظر لها بتساؤل، فردت عليها بنبرة ذات مغذى: 

ـــ دا أدهم يا ستي عايز يرقص معاكي. 

+

نظر لها شقيقها بغيظ فقالت تيسير بحماس و هي تدفع أدهم للوقوف: 

ـــ يلا يلا بسرعة الأغنية بدأت.. 

+

اضطر ان يرضخ لرغبتها حفاظا على المظهر العام أمام الناس، فمد يده لندى التي عانقت كفه بكفها ليذهبا سويا الى ساحة الرقص. 

وضعت كفيها على كتفيه على استحياء بينما هو أحاط خصرها بذراعيه و قلبه يدق بعنف من ذلك القرب الذي تمناه كثيرا و لكن لم يناله بعد.. 

+

بتوحشني

+

بتوحشــني وأنا وياك .. بتوحشــني وكل يوم بشوفه معاك

+

بيوحشــني وكل ثانيه مش وياك

+

بتدبحني .. وكل ليله بعيشها معاك

+

تفرحني تخوفني وتجرحني وأخاف بكره يفوت عمري

+

وأنا لسى بتوحشــني

+

يتوعدني آه مفيش بكره .. مفيش بعدوه .. مفيش ولا لحظه من غيرك

+

وترجع تاني تتأخر وتوحشــني .. واعمل إيه اعمل إيه مليش غيرك بيوحشــني

+

بترسملي حجات أكتر.. وعود اكبر وألقى نفسي من غيرك

+

وتبنيلي أمل تاني .. وأعيش تاني أعيش بعذابي من غيرك

+

وأنا وياك .. بتوحشــني

+

وأنا وياك .. بتوحشــني وكل يوم بشوفه معاك

+

بيوحشــني وكل ثانيه مش وياك

+

بتدبحني .. وكل ليله بعيشها معاك

+

    

تفرحني تخوفني وتجرحني وأخاف بكره يفوت عمري

+

وأنا لسى بتوحشــني

+

آاااااااهٍ يا الله…. ما بكِ يا شيرين!!… تضغطين على الجراح و انتي لا تدرين… 

+

كانت كل كلمة يسمعها أدهم و كأنها تخرج من قلبه لتلك التي بين ذراعيه ساكنة، تتمايل معه بذهن شارد و ملامح حزينة…. تنظر في عينيه كل حين و كأنها ستأكله بعينيها و قد لاحظ ذلك جيدا… إذن لماذا الفراق؟!.. إن عينيها تصرخان بعشقه و يرى جيدا ذلك الهيام الذي تحاول إخفاؤه عنه بإخفاض عينيها حين تلتقي عيناه بهما. 

و حين تطمئن أنه قد أبعد ناظريه عنها تعود و تتأمله من جديد و كأنها تراه لأول مرة… أو ربما لأنها تراه لآخر مرة.  

“الشخص الذي يحبك هو أكثر شخص يتأملك حين يطمئن أنك لا تراه” 

قرأها في أحد الكتب و تجسدها ندى له الآن بالحرف… 

+

ـــ ليه؟! 

+

نظرت له باستفهام، ليرد بوجع: 

+

ـــ لما انتي بتحبيني بتعملي فينا كدا ليه؟! 

+

لم ترد و انما اكتفت بتنكيس رأسها للأسفل ليسترسل بمزيد من الوجع: 

+

ـــ ايه اللي غيرك فجأة؟!.. الليلة اللي قبل ما تنزلي فيها الكلية كنتي بتعترفيلي إنك بتحبيني من سنين..

 معقول  فجأة كدا عقلتي و حسيتي انك كنتي غلطانة؟! 

توترت وصالها و أخذت تبحث في عقلها عن سبب مقنع، و لكن لم يسعفها عقلها لقول أي شيئ، فسألها بترقب: 

+

ـــ ولا يمكن قابلتي في الكلية حب جديد؟! 

+

اتسعت عينيها بصدمة مما وصل إليه عقله، لترد بانفعال مكتوم: 

ـــ لا حب جديد ولا قديم يا أدهم… أنا حاسة اني هنفجر من الوجع اللي جوايا و انت زي ما تكون قاصد تزيدني منه.. من ساعة موت بابا و انا بنهار و انت مش حاسس… اه اعترفتلك بحبي ليك بس مش قادرة أكمل و انا ميتة من جوايا.. اديني فرصة اتعافى من المحنة اللي انا فيها…اديني فرصة بقى حرام عليك.. 

+

بدأت عينيها تتلألأ بالدموع، فقد جعلها تبوح بمشاعرها بعدما فاض بها الأمر، و لكن حمدت الله أنها استاطعت أن تتحكم في لسانها من أن يذل.

+

فضمها الى صدره حين أشفق عليها و قال بخفوت: 

+

ـــ اهدي يا ندى الناس هتاخد بالها انك منفعلة و بتعيطي…

تمالكت نفسها حتى لا يلحظ الضيوف تغير شكلها خاصة أن الأعين كانت تتابعهم…

وضع كفه على ظهرها و الأخرى مازالت حول خصرها يتمايل معها على أنغام الاغنية الرومانسية و هو شاردا بكلامها.. 

إذن هي قصدت الابتعاد عنه لأنها نفسيا غير متزنة…غير مؤهلة نفسيا للانخراط معه في تلك الحياة الوردية التي رسمها برفقتها!…إنها تذكره بأخته ريم و مأساتها النفسية حين فقدوا أباهم…. شعر حينها أنه قد ظلمها خاصة حين لمس صدق نبرتها المهمومة و أنه قد ضغطها نفسيا.. و لكنه أبداً لم يكن يقصد أن يقسو عليها… لو شرحت له ما تمر به لما وصلا بهما الأمر الى ذلك النفق المسدود. 

+

        

          

                

ـــ مقولتيش ليه كدا من الأول؟!.. بدل ما الشيطان يلعب في دماغي و يوصلني للافتراضات دي.

+

هتف بتلك الكلمات بعتاب و مازال يضمها الى صدره. 

حرفيا تريد أن تبكي…. لم تعد تتحمل التمادي في الكذب و التمثيل الى هذا الحد، و لكنها ليس أمامها الآن إلا أن تجاريه فيما فهم منها لتقول: 

+

ـــ أظن عزلتي في قوضتي كانت اكبر دليل على اني كنت فعلاً مش قادره أرجع لحياتي معاك.. و مع ذلك قاومت بس مقدرتش أضغط على نفسي أكتر من كدا و فضلت اتهرب منك يمكن تفهم أو تقدر بس انت فكرت في أسوأ الاحتمالات. 

+

تنهد بضيق من نفسه، كم كانت بارعة في جعله يصدقها… لدرجة أنه قد تجاوز عن غضبه منها الأيام السابقة و قرر مساعدتها لتتخطى محنتها و ان تتطلب الأمر أن يعرضها على طبيب نفسي. 

+

انتهت الأغنية سريعا و انتبها لذلك حين تعالت الصيحات من الحضور بعدما حيتهم المطربة بحرارة و قامت بتوديع العروسين و من ثم غادرت الفندق. 

+

قبض أدهم على كف زوجته و عادا الى الطاولة و هو يشعر بقليل من الارتياح بعد تصريحاتها تلك، كما أن ندى شعرت و كأنها أزاحت عن كاهليها حملا ثقيلا، فعلى الأقل ستتركه و هو راضٍ عنها بعدما محت الظنون السيئة من رأسه و لو بالكذب. 

+

بينما هناك في زاوية أخرى يجلس آسر برفقة مودة و هو شاردا تماما، فقد كان يتمنى لو كانت ميريهان معه الآن و رقص معها تلك الرقصة الرومانسية. 

+

كان يختلس النظر بين الحين و الآخر الى شقيقتها و لكن هيهات… لم تستطع مودة أن تحل محلها بقلبه رغم يقينه بمحاولاتها التقرب منه بشتى الطرق، فحتى ذلك الزفاف طلبت منه الذهاب معه و آسر بطبعه شاب حنون فلم يتمكن من رفض طلبها رغم رفض عقله محاولاتها المتكررة للتقرب منه… هو يعشق ميريها و لن يكون لشقيقتها مهما فعلت.. أو هكذا يقنع نفسه. 

+

ـــ آسر ما تيجي نرقص سلو مع بعض. 

+

نظر لها آسر بصدمة، حتى أنها ندمت على ما تفوهت به، فهي لم تكن يوما متهورة او مندفعة في كلامها الى هذا الحد، فزجرها بنظرة حارقة ثم قال بانفعال: 

+

ـــ انتي زودتيها اوي على فكرة… مش معنى اني وافقت اخدك معايا الفرح اني خلاص حبيتك و دايب فيكي… متنسيش اني من كام شهر بس كنت خطيب اختك.. و متخليش خيالك يصورلك انك ممكن تحلي محلها.. 

+

أخذت تنظر له بعدم استيعاب و عينيها متلألئة بالعبرات، أيعقل أن يدهس كرامتها بلا شفقة بتلك الطريقة القاسية؟!.. هل هذا حقا آسر ذلك الرجل اللين الذي هو أبعد ما يكون عن أن يكسر خاطر انسان؟! 

+

لم تتحمل الجلوس بجواره أكثر من ذلك و دون أن تتفوه بحرف هطلت دموعها بغزارة و فرت هاربة من أمامه الى خارج الفندق. 

بينما آسر زفر أنفاسه بعنف متضايقا من نفسه أن تفوه بتلك الكلمات القاسية، و لكنها حقا تلك المرة فاجئته بوقاحتها حتى طفح كيله. 

بعد دقيقه او دقيقتين من شعوره بالذنب تجاهها نهض ليتفقدها، فهي لن تستطيع أن تعود لمنزلها بمفردها. 

+

        

          

                

كانت مودة تعبر الطريق المزدحم بالسيارات و عينيها مغشيتين بالدموع فأصبحت رؤيتها مشوشة علاوة عن شعور المهانة الذي طمس حواسها، فانفصلت عن العالم تماما حتى أنها لم تستمع لأصوات الأبواق المتصاعدة من السيارات التي تعبر من بينها، و حين رأى آسر ذلك المشهد بعدما خرج من الفندق، هوى قلبه بين قدميه و ركض خلفها لينتشلها في لحظة قاتلة كادت أن تصطدم فيها بسيارة نقل لم تستطع تقليل سرعتها لتتفادى اصطدام عدد كبير من السيارات ببعضها البعض، و كادت أن تكون هي كبش الفداء.. 

صرخ حينها آسر بدون وعي و كأن حبيبته هي التي أمامه و كأنه سيفقدها للمرة الثانية.. 

ـــ ميريهااااااااااااان

التقفها بين أحضانه بعيدا عن السيارة الكبيرة ليضمها الى صدره بقوة غير مصدقا أنه استطاع أن يلحق بها في الوقت المناسب قبل أن تُدعس تحت إطارات السيارة… 

بينما هي أصابها اضطراب ما بعد الصدمة، فقد كاد أن يتوقف قلبها عن النبض، لولا همسه الدافئ الذي أعادها الى وعيها.. 

أخذ يهمس بصعوبة و هو يلهث من فرط خوفه عليها: 

+

ـــ الحمد لله… الحمد لله محصلش حاجة.. مودة انتي كويسة.. مش كدا؟!.. مودة قولي أي حاجة.. حرام عليكي قلبي معادش متحمل فراق تاني… ليه بتعملي فيا كدا؟!.. ليه بس؟!.. ليه؟! 

+

أخذت أصوات السيارات تتعالى فقد كانا واقفين بمنتصف الطريق، فسار بها ببطئ حتى وصلا للرصيف و أجلسها الى احد المقاعد الخشبية، و من فرط اضطراب جسدها الذي أصبح كالهلام لم تستطع أن تصمد كثيراً لتسقط رأسها على كتفه تحاول ألا تستسلم لتلك الغيمة السوداء التي تداهمها، فأحاط كتفيها بذراعه خشية أن تسقط و أخذ يهدئها بكلامه: 

+

ـــ مودة اجمدي… الحمد لله انها عدت على خير… أنا آسف إني كلمتك بالطريقة دي بس غصب عني صدقيني… شوقي لميري مدمرني و مخليني مش متقبل اي حد غيرها في حياتي… بالذات انتي. 

+

بدأت عبراتها تعرف مجراها من جديد، ماذا تفعل بذلك القلب الذي أذلها له… قلبها يصرخ بعشقه لا تعرف كيف و متى حدث ذلك… و لكنها لا تستطيع التغلب على نداء قلبها المُلِح… لقد تغيرت طباعها كثيرا حتى أنها أصبحت لزجة.. لم تترك فرصة الا و تتقرب اليه.. و كأنه حق مكتسب لها تسعى للحصول عليه بأي طريقة.. كيف ستهزم ذلك القلب الخائن.. 

مسكينةٌ هي… لا تدري أنه قلبها الجديد يسعى فقط لاسترداد مالكه الأصلي لا أكثر.  

نظر لها ليرى تلك العبرات التي تهطل بصمت، فزفر أنفاسه بضيق… إنه يضعف أمام تلك الدموع، لا ينكر أنه  بدأ يميل لها و لكنه يأبى أن يترك لقلبه العنان وفاءا لذكرى حبيبته الراحلة. 

+

أعطاها منديل لكي تجفف عبراتها و لكنها  تجاهلت يده الممدودة و جففتها بكم فستانها. 

سحب يده متنهدا بعمق ثم قال بجدية بعدما أبعدت رأسها عن كتفه: 

ـــ يلا عشان أوصلك… الجو برد أوي و انتي كدا هتتعبي. 

نهضت بصعوبة دون أن تتفوه بحرف فكل الأبجدية لا تساوي شيئًا مما يكنهُ صدرها. 

كانت تترنح بمشيتها فأسندها سريعا قبل أن تسقط فصاحت به بنبرة ضعيفة: 

ـــ ابعد… كفاية لحد كدا.. انا همشي لوحدي. 

+

        

          

                

لم يستمع لها و انما أسندها من كتفيها باصرار غير مكترثا برفضها حتى اوقف سيارة أجرة استقلاها سويا و انطلقا الى منزل مودة. 

+

انتهى الزفاف على خير ليأخذ خالد عروسه بالسيارة المزينة الى شقته ليبدأ معها حياة جديدة لم يختبرها من قبل. 

كانت ريم كالآلة التي لا احساس بها، كيفما يأمرها خالد تطيعه، فهي تريد لهذه الليلة أن تنتهي حتى تنام لتتخلص من ذلك الكابوس الذي جثم على صدرها. 

+

أما على الناحية الأخرى أشفق أدهم على حبيبته بعدما أفصحت له عن مشاعرها السلبية التي حالت بينهما ليأخذها تلك الليلة لتنام بين أحضانه شاردا فيها و في هيامه بها، فأخذ يمسد على شعرها الناعم القصير و كل منهما متمسكا بخصر الآخر في صمت تام أبلغ من أي كلام. 

كل منهما هائما في أفكاره و مستقبله مع الآخر الى أن غلبهما النوم و هما على ذلك الوضع لم يتزحزح أي منهما عن الآخر و كأن أحدهم سيهرب من صاحبه. 

+

بينما معتصم اعتكف بغرفته بمجرد أن عاد الى شقته 

بدل ملابسه ثم لزم الفراش يحاول السقوط في النوم، و لكن يقف شيطانه على رأسه يُخيل له مشهد ريم برفقة زوجها بغرفتهما الخاصة حتى يهتم أكثر “من الهم”…فماذا يريد الشيطان الرجيم  للانسان سوى الحزن و الغم و الهم.

أخذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كلما خُيلت اليه تلك المشاهد حتى طفح به الكيل و نفذ صبره على نفسه، فهناك نيران مشتعلة بصدره كيف لها أن تنطفئ… فلم يجد أفضل من سورة يوسف يستمع أليها لعلها تطبطب على قلبه المكلوم…

قام بتشغيل السورة الكريمة على هاتفه بصوت عال نسبيا و استمع إليها بقلبه قبل أذنيه حتى أنه كان يرتل مع القارئ بصوت منخفض الى أن سقط في النوم حين أوشكت السورة على الانتهاء.

+

أما عند ريم… 

نهض عنها بعدما أتم زواجهما و هو يشعر بضيق بالغ، فقد كانت جامدة كالانسان الآلي… لم يلمس منها أي مشاعر حب أو اشتياق الأمر الذي جعله يكره الزواج مبكراً جداً… 

و الأدهى لم تُبدي أي ذرة خجل او ندم او حتى اعتذار عما بدر منها من جمود… لم تحاول حتى أن تبرر له.. ربما كانت خائفة؟!.. انه حتى لم يستطع فهم موقفها. 

+

يا لَسوء البداية يا خالد… هكذا حدثته نفسه، و لكنه حاول اقناع نفسه بأن ذلك ربما يكون طبيعيا لها كونها حديثة العهد بتلك الأمور…. يحاول أن يجد لها عذرا. 

+

أما ريم نهضت بتعب الى المرحاض الملحق بغرفة النوم بعدما ارتدت مئزرها تاركة خالد جالسا هائما في صدمته، لتقوم بملأ حوض الاستحمام بمياه دافئة و من ثم صبت سائل الاستحمام ثم نزعت مئزرها لتغوص في الحوض و هي تغمض عينيها تحاول الشعور بالاسترخاء و لو قليلا بعدما فقدت الشعور بكل شيئ تماما.. 

لا تدري متى أصبحت بلا مشاعر هكذا و كأنها تعاقب نفسها.. و تعاقب ذلك الذي ألقى بنفسه في طريقها في وقت خاطئ تماماً ليكون هو كبش الفداء. 

+

في لحظة انفصلت فيها عن الواقع انهمرت الدموع من عينيها… لا تدري دموع الندم هذه أم دموع الاشتياق لرجل خسرته بكامل إرادتها.. 

تركت لدموعها العنان لعلها تتخلص من ذلك الجمود الذي أصابها و من تلك المشاعر الحبيسة التي تكاد تقتلها… و لكنها كانت تكتم شهقاتها بصعوبة حتى لا يسمعها خالد و يظن بها الظنون. 

+

        

          

                

حين خرجت مرتدية بورنس الحمام نظر لها خالد بطرف عينه ثم قال بضيق خفي: 

ـــ انتي كويسة؟! 

هزت رأسها بايجاب ثم التقطت بيجامة قطنية بأكمام و ارتدتها ثم وقفت أمامه تسأله بنبرة باردة: 

ـــ جعان أجهزلك أكل؟! 

نظر لها يتأملها قليلا بخواء ثم قال بعدما أشاح بوجهه للجهة الأخرى: 

ـــ ماليش نفس. 

انتظر أن تسأله عن السبب، انتظر منها لمسة حنونة او كلمة تُنسيه جمودها معه،  و لكنها خيبت آماله و ذهبت مباشرة الى الفراش ساحبة الغطاء عليها و من ثم تدثرت به جيدا و نامت أو تصنعت النوم. 

+

رغم شعورها البغيض بالذنب تجاهه إلا أنها لم تستطع أن تتغلب على تجهمها و الخواء الذي بداخلها… فيبدو من تاريخها المرضي أنها قد أصيبت بالإكتئاب جراء ما مرت به من أزمات في الفترة الأخيرة. 

+

بينما خالد انتفض واقفا ليلتقط ملابسه بانفعال من الخزانة، فلم يتوقع ان تمر ليلته الأولى بهذه الشاكلة و لا في أسوأ احتمالاته و كأنها قد جُبرت عليه. 

+

مرت الليلة ثقيلة عليهما، و قد كان كل منهما هائما في ملكوت آخر، كل منهما موليا ظهره للآخر و كأنهما متخاصميْن. 

+

مرت تلك الليلة الكئيبة ليطل عليهما نهارا جديدا بعد ليلة حالكة، استيقظ خالد أولا و أخذ يتأمل ريم و هي نائمة، هل يعقل أن قالب الثلج هذه هي نفسها ريم التي سلبت قلبه و عقله؟!.. ريم التي عشقها بكل جوارحه؟!.. كيف تحولت بين ليلة و ضحاها؟!.. أم كان مغفلا لم يلحظ ذلك الوجه البارد خلال الفترة القصيرة التي قضاهما سويا… 

زفر أنفاسه على مهل ثم قرر أن يعطيها فرصة أخرى لربما كان ذلك أمرا طبيعيا بسبب الارهاق النفسي و البدني أثناء تحضيرات الزفاف… فتلك الليلة لن تمحو حبه لها بهذه السهولة. 

أخذ يمسد على شعرها و يزيح خصلاته من على وجهها ثم انحنى يقبل جبهتها و وجنتيها الى أن بدأت تتململ في نومها و تمط جسدها بكسل. 

حين فتحت عينيها وجدته ينظر اليها ببسمة هائمة، فيبدو أن خالد رقيق القلب قد تجاوز عن تلك الليلة الحالكة و نسيها. 

ـــ أحلى صباح دا ولا ايه؟! 

اغتصبت ابتسامة على شفتيها لترد له تحية الصباح بصوت متحشرج من أثر النوم، ليسألها بترقب: 

ـــ نمتي كويس؟! 

أخفضت جفنيها بخجل من رقته رغم جمودها معه لتكتفي بايماءة من رأسها. 

رفعها من كتفيها لتجلس بمحاذاته بالفراش ثم التقط كفها الصغير بين كفيه و من ثم تحدث بجدية تتخللها عاطفته الجياشة: 

ـــ ريم أنا هنسى اللي حصل امبارح و كأنه محصلش… جايز كنتي خايفة… متوترة… مضغوطة.. او….. او جايز مفيش جواكي مشاعر كفاية ليا… هلتمسلك كل الأعذار لحد ما نتعود على بعض.. بس عايزك تحاولي تقربي مني… تحبيني.. تتفاعلي معايا عشان نكمل مشوارنا و احنا سعدا. 

هزت رأسها بايجاب و هي تتحاشى النظر بعينيه، فهي حقا تشعر بالسوء من موقف قلبها تجاهه و كأنها تقترف اثما في حقه. 

ـــ عايز اسمع صوتك يا حبيبتي.. 

+

نظرت لعينيه لتقول بعد كثير من التردد: 

+

ـــ حاضر… هحاول يا خالد… هحاول.. 

+

        

          

                

ابتسم لها بحب ثم أخذ يطالعها بوله و هي تحاول الصمود أمام نظراته العاشقة المتطلبة ثم سرعان ما غلبه اشتياقه البالغ لها ليحيط رقبتها بكفه يقرب وجهها من وجهه حتى التصق بها و بدأ معها ملحمة عشق جديدة و لكنها أيضا لم تكن متكافئة البتة رغم محاولات ريم في التمثيل و لكنه كان يشعر بأن كل حركاتها و ردود افعالها مصطنعة.. 

+

انتهى فابتعد عنها و هو يلعن حظه… و لكنه لن يستسلم و لن ييأس… مازال المجال أمامهما طويلا و سيفعل كل ما بوسعه حتى يُخضعها له حتى يصبح ادمانها أو…….. 

+

استيقظت ندى لتجد نفسها بين أحضان حبيبها.. هو متشبث بها و هي متشبثة به، فابتسمت بعشق بالغ متناسية ما هو منتظرها من هلاك… فلتستمتع بتلك اللحظة و حسب. 

أتاها اشعار رسالة نصية فانقبض قلبها بخوف ثم انسحبت من حضنه بحرص بالغ حتى لا يشعر بها.. 

التقطت الهاتف و خرجت من الغرفة بهدوء لتذهب لغرفتها و أغلقت بابها عليها بالمفتاح. 

قرأت نص الرسالة “هتخرجي بعد ساعة بالظبط هتاخدي تاكسي لموقف عبود و هناك في واحد تبعنا هيستناكي.. و احنا معاكي ع التليفون” 

شهقت بصدمة، فبأي حجة ستخرج و اليوم هو يوم عطلة الجمعة.. 

قامت بالاتصال بالرقم و بعد محاولات مستميتة أقنعت الطرف الآخر بتأجيل اللقاء للغد حتى تتمكن من الخروج بحجة الذهاب الى الجامعة و أكثر ما أقنعهم حتى لا يشك أدهم بأمرها ان خرجت اليوم و بالتالي سيبحث في الأمر و لن يمررها.

+

جلست تبكي بحسرة على الفراق المحتوم، ثم استعاذت بالله من الشيطان و نهضت توضأت و صلت الضحى ثم جلست تقرأ سورة الكهف. 

و حين انتهت نهضت بدلت ملابسها لبيجامة شتوية ثم عادت مرة أخرى لغرفة أدهم فوجدته يخرج من المرحاض و بيديه منشفة يجفف بها شعره… 

ـــ صباح الخير يا ندوش. 

اغتصبت ابتسامة على ثغرها ثم دلفت و أغلقت الباب لتقول بنبرة جاهدت لتبدو طبيعية: 

+

ـــ صباح الورد يا دومي.. 

+

ثم ضحكا معا بقهقهة، فتلك المرة الأولى التي يقومان فيها بتبادل الكنيات، و لكن أدمعت عينيها حين خطر ببالها أنها ربما تكون الأخيرة. 

وضع منشفته جانبا ثم تقدم منها و جذبها من يديها ليجلسا سويا على حافة الفراش..

أخذ يمسد على شعرها و يزيح غرتها من على جبينها و هو يقول بنبرة حنونة:

+

ـــ عاملة ايه النهارده؟!

+

هزت رأسها و هي تطالعه بعشق:

+

ـــ الحمد لله تمام.

+

حمحم ليجلي حنجرته ثم التقط كفها بين كفيه و قال و هو ينظر لأصابعها يداعبها: 

+

ـــ بابا الله يرحمه اضرب بالرصاص قدام ريم… كانت تقريباً لسة في اولى او تانية اعدادي و طبعاً المشهد كان صعب عليها جدا… صعب لدرجة انها دخلت في صدمة نفسية و panic attack… و لحد دلوقتي لسة متأثرة و نفسيتها بتتعب من أقل سبب.. أخدنا معاها مشوار طويل في العلاج التفسي لحد ما الحمد لله اتحسنت نوعا ما و بدأت تنسى.. 

+

        

          

                

تجلت علامات التأثر على وجهها مشفقة على ريم و ما لاقته من معاناة صعبة، فاسترسل أدهم بجدية بعدما نظر بعمق لعينيها: 

+

ـــ حالتك النفسية اللي انتي بتمري بيها دلوقتي فكرتني بيها.. عشان كدا لما صارحتيني امبارح عذرتك و قدرت موقفك.. لأننا ببساطة مرينا بنفس المعاناة.. و لو لزم الأمر يا ندى اننا نروح لدكتور ليه لأ؟!.. لازم عجلة الحياة تدور.. مينفعش تقف. 

+

أطرقت رأسها بحزن، فهي بالفعل قد تخطت صدمتها في وفاة والدها لتصاب بما لا يقل عنها صدمة، ألا و هو إجبارها على فراقها له لأجل غير مسمى. 

تنحنحت بتوتر لتقول: 

ـــ حاضر… حاضر يا أدهم هروح لدكتور.. بس يومين كدا على ما أستعد نفسيا للخطوة دي. 

ابتسم بأمل ليحيط كتفها بذراعه يضمها الى صدره و هو يقول: 

ـــ ماشي يا حبيبتي اللي انتي عايزاه… أنا كل اللي بتمناه انك تكوني مبسوطة و مفيش حاجة تأثر عليكي تخليكي بالكآبة دي. 

بصعوبة تمكنت من حبس عبراتها بمآقيها ثم اغتصبت بسمة على شفتيها و احتضنته بقوة ليبادلها العناق و يخالجه شعور قوي نحوها بالمسؤلية و كأنها ابنته أو شيئا من هذا القبيل بعدما تخلى عن  رغبته فيها و نحى بداخله مشاعر الزوج نحو زوجته. 

فك عقدة ذراعيها حول خصره و هو يقول: 

+

ـــ يلا نقوم بقى عشان نفطر مع ماما.. زمانها حاسة بالوحدة بعد خروج ريم من البيت. 

+

عقدت ذراعيها حول خصره مرة أخرى ثم أخذت تتوسل اليه بنبرة طفولية: 

+

ـــ طاب ممكن تخليني في حضنك شوية. 

+

استجاب لرغبتها ليحيطها مرة أخرى بذراعيه مشبكا أصابع يديه و كأنها ستنفلت من حضنه، و مستندا بذقنه على رأسها، بينما هي رأسها مستقر بأريحية على صدره و مغمضة عينيها. 

بقيا على ذلك الوضع عدة دقائق ليقول أدهم: 

+

ـــ امممم… مش كفاية؟! 

+

ضمت نفسها نحوه أكثر و شددت من عناقها لخصره و هي تقول: 

ـــ عشان خاطري خليني شوية كمان 

+

اندهش منها و لكنه كان سعيدا للغاية بكونها تنعم بقربه و ينعم بقربها بعد فترة من الخصام، فأبعدها قليلا و اعتدل ليجلس بمنتصف الفراش ثم جذبها من خصرها و أجلسها بمحاذاته و وضع رأسها على صدره و عادا لوضعيهما مرة أخرى كلٌّ متشبث بالآخر ثم قال و هو يسند رأسه للخلف: 

ـــ كدا أحسن… عشان لو طولنا ضهرك يبقى مرتاح. 

+

هزت رأسها بتأييد و هي تشدد من احتضانه أكثر و أكثر و كأنها تحتمي به، و حينها ظن أدهم أنها ربما تحتاج الى ذلك الحضن الدافئ الذي تفتقده بفقدان أبيها. 

+

لم يتركها أدهم إلا حين حانت صلاة الجمعة، و لولا الصلاة لما تركها خاصة حين شعر بشدة احتياجها لذلك القرب. 

+

مر اليوم سريعا و قامت الأسرتين بزيارة العروسين، و رغم ضيق خالد الشديد من سوء البداية الا أنه أظهر السعادة أمامهم و بالمثل فعلت ريم، الأمر الذي طمأن أدهم و امه و جعلهما يشعران بالارتياح من ناحيتها. 

+

في صباح اليوم التالي يوم السبت

+

ارتدى أدهم ملابسه الميري و قبل أن يغادر الغرفة عانقته ندى عناقا طويلا فقد كان عناق الوداع. 

+

ابتعد عنها بعد دقائق طويلة من العناق و قبل أن يفتح الباب جذبته من ذراعه لترتمي على صدره مرة أخرى و تطوقه بقوة، الأمر الذي أثار دهشته البالغة ليقول و هو يطوقها بقوة: 

ـــ مالك بس ياندى؟!…أنا كدا ابتديت أقلق عليكي يا حبيبتي..

ردت و هي تحاول منع نفسها من البكاء: 

+

ـــ متقلقش يا حبيبي أنا كويسة…كل الحكاية اني اكتشفت اني بحبك أوي أوي أوي.. و كبرت في نظري أوي لما قدرت موقفي منك. 

+

شدد من احتضانها ثم قال بحب: 

+

ـــ لو أنا موقفتش جنبك في محنتك يبقى مستحقش اني اكون جوزك و حبيبك يا ندى…

+

“آااااهٍ يا أدهم… كيف سأعيش بدونك بعدما امتلكت كياني و وجداني و أغرقتني في بحور حنانك الدافئة… و لكن أن أعيش بلا روح خير من أن تُزهَق روحك يا روح الروح”

و كان هذا لسان حالها….. 

+

تركها على مضض بعدما أخبرته أنها ستذهب الى الكلية متأخرا قليلا اليوم حتى لا يتأمل في توصيلها، ثم بمجرد أن انصرف الى عمله ذهبت لغرفتها لتقرأ تلك الرسالة التي وصلتها قبل مغادرة زوجها العزيز و كان نصها: “لما تكوني لوحدك كلميني” 

+

قامت بالاتصال بالرقم فأتاها رد الطرف الآخر  

+

ـــ اسمعي… هتخرجي بشكل طبيعي جدا و معاكي شنطتك فيها الامانة و تليفونك… متشليش اي حاجة تانية… احنا هنوفرلك أي حاجة تحتاجيها.. مش عايز مخلوق يشك في طريقة خروجك… كأنك هتخلصي يومك في الكلية و راجعة تاني..هتروحي الجامعة الأول و تستني شوية و بعدها هتاخدي تاكسي لموقف عبود و هناك واحد تبعنا هيركبك ميكروباص و الباقي هنقولهولك بعدين.. 

+

همت لترد عليه و لكنه كان قد اغلق الخط لتنظر الى الهاتف باشمئزاز ثم أخذت تدعو الله أن ينجيها من شر أولئك الناس. 

و في الأخير نفذت ما قيل لها بالحرف ثم قامت بتوديع تيسير بحرارة و خرجت إلى مصيرها المجهول….. 

+

يتبع… 

يمكن موقف ندى يكون غامض شوية و مش منطقي بس كل حاجة هتكون واضحة مع الأحداث و هتفهموا وقتها ان ندى خوفها على أدهم كان أكبر من أي حاجة

+

هستنى أرائكم و توقعاتكم 

مع تحياتي/دعاء فؤاد 

+

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *