التخطي إلى المحتوى

كان صباح البلدة باكرًا، تسيطر عليه الأجواء الهادئة التي سبقت الحدث الجلل، ومع أول أشعة شمس تعكس ضوءها على الأرض، كان معتصم جالسًا بجانب سرير والدته، ملامحه شاحبة، وعينيه غائرتين من السهر والهموم. 

كانت الأم التي طالما كان يراها في صورته المثالية، في حالة من المرض الذي أخذ منها كل شيء، قلبه كان يعتصره الألم، وتساءل في نفسه ما إذا كان قد فعل ما يكفي لها طوال حياتها.

+

منذ أكثر من عامين قرر ترك كل شيء في القاهرة؛ أعماله، وأصدقائه، وكل شيء كان يتعلق بحياته المزدحمة، ليعود إلى البلدة التي نشأ فيها، ليكون بجانبها، يعتني بها في أيامها الأخيرة. 

كل تلك الأيام التي قضاها بجانبها، غارقًا في محاولاته المستمرة للسيطرة على مشاعره، خوفًا من الفقد، كانت تنتهي الآن بموتها.

+

وفي لحظة الوداع، التي كانت أكثر صمتًا من أي وقت مضى، توفيت الأم بين يديه، وسط صرخات من أخوته الذين تجمعوا حول السرير، مشهد لا يمكن لعقل معتصم أن يتخيله، حتى وهو يشاهد اللحظة بعينيه.

+

معتصم: “خلاص يا امايا؟” كان صوته خافتًا، يكاد لا يُسمع، ولكن الكلمات كانت تطير من بين شفتيه، عجزًا عن تحمل الحقيقة.

+

أخوته بدأوا في البكاء، وصوت العويل ملأ المكان، أما البلدة كلها فقد أصابها الحزن العميق، حيث توافد الجيران والأصدقاء لتقديم واجب العزاء، كانت أجواء البلدة تُشبه السكون بعد العاصفة، الجميع متأثر بالحزن الذي لا يُحتمل.

+

لم يكن الأمر مجرد فقد شخص عزيز، بل كان فقدًا لحياة كاملة، لأم كانت تعتبر عماد الأسرة، وصوتها الذي كان يملأ المكان. معتصم شعر وكأن قلبه قد انكسر، والوقت توقف بين يديه، وكأن العالم كله ينهار من حوله.

+

منذ اللحظة التي قرر فيها أن يترك كل شيء ويعود ليكون بجانبها، وهو لا يعلم أن هذا القرار سيتحول إلى آخر لحظات حياته التي سيقضيها في رعايتها.

كان يراقبها بحب، يحاول أن يعوض كل لحظة غياب، وكل لحظة كان يعتقد أنه كان يستطيع أن يساندها أكثر فيها.

+

أما البلدة، فكانت حزينة على فقدان السيدة التي لطالما كانت رمزًا للطيبة والنبل، ومنذ أن شاع الخبر، انحنى الجميع احترامًا لها، لم يتوقف أحد عن التحدث عنها، عن كم كانت تعني لهم جميعًا. 

كانت البلدة تُشبه السجن الكبير، الكل يتحدث عن الحزن، والكل يشعر بفراغ في قلبه، وكأن هذا الفقد مشترك بينهم جميعًا.

+

وفي تلك اللحظات، كان معتصم يعرف أن الحياة لن تكون كما كانت بعد الآن.

+

بقي معتصم في البلدة أسبوعين بعد وفاة غاليته و لكنه استوحش الدوار بدون قرة عينه حتى ضاقت نفسه ذرعا و ترك البلدة و مزرعته و أراضيه برعاية رجاله الأوفياء و قرر العودة الى القاهرة التي أصبحت ملاذه، و اشتاق لها و لمن هم من رائحتها… 

بينما عاد حمد الى لندن ليستكمل دراسته التي لم يتبقى على انتهائها سوى القليل، و ترك صافية مع عائشة في القاهرة حتى تكمل دراستها بعدما تحسنت علاقته بها أخيراً و لولا دراسته العالقة لما تركها بعدما ذاق حلاوة قربها.. 

+

                

في إحدى قرى البحر الأحمر السياحية، كانت السماء صافية، والمياه تتلألأ تحت أشعة الشمس، ما يضفي على المكان جمالًا استثنائيًا. كان معتصم يتجول في أنحاء المنتجع، يتمعن في تفاصيل التصميمات الحديثة والطبيعة المحيطة. لم يكن يدري أن هذه الرحلة ستأخذه إلى لقاء غير متوقع.

+

بينما كان يستريح بجوار المسبح بعدما أنهى صفقة مهمة مع أحد العملاء المهمين، لمح وجهًا مألوفًا يتقدم نحوه.

كان مروان، صديقه القديم، الذي لم يره منذ سنوات. ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه مروان وهو يقترب:

ــ معتصم! معقول؟! الدنيا صغيرة أوي.

+

نهض معتصم ليصافحه بحرارة:

ــ مروان! ياااه، فينك يا راجل؟ كنت فاكر إنك اختفيت من على وش الأرض.

+

ضحك مروان، وأشار نحو طاولة قريبة:

ــ تعالى نقعد… بعد الغيبة دي كلها لازم نتكلم للصبح. 

+

جلسا معًا، وبدأ الحديث بينهما يأخذ طابع الحنين إلى الماضي، يتذكران أيام الجامعة والمواقف الطريفة. فجأة، اقتربت فتاة ذات ملامح جذابة وشعر أسود طويل و عينين خضراوتين ترتدي بنطال برمودا أبيض و كنزة بيضاء بنصف كم، تحمل كوبين من القهوة.

+

ابتسم مروان وهو يشير إليها:

ــ تعالي يا ألارا مفيش حد غريب.. 

ثم نظر لصديقه و هو يقول: 

ــ معتصم، دي ألارا، بنت عمو نديم لسة راجعة من تركيا.. كانت عايشة هناك مع أهل والدتها الله يرحمها.

+

ابتسمت ألارا بلطف ومدت يدها:

ــ أهلاً، تشرفنا.

+

صافحها معتصم بابتسامة مقتضبة:

ــ أهلًا بيكِ، تشرفنا.

+

جلسوا معًا، وبدأ الحديث يأخذ منحى خفيفًا. مروان تحدث عن أعماله ومشاريعه في القرية السياحية، بينما شاركت ألارا ببعض الملاحظات عن الحياة في تركيا. كانت تتحدث بلغة بسيطة، وكأنها تستكشف العالم من جديد بعد عودتها.

+

لاحظ معتصم خجلًا خفيفًا في طريقة حديثها، لكنه لم يعطِ الأمر اهتمامًا كبيرًا. بالنسبة له، كانت مجرد فتاة جميلة تعرف عليها بالصدفة.

+

أنهى مروان اللقاء بقوله:

ــ لازم تشرفنا دايمًا يا معتصم… وأنا وألارا هنكون موجودين هنا لو حبيت تعدي.

+

هز معتصم رأسه بابتسامة:

ــ أكيد، ده واجب… و انت كمان لازم تجيلي القاهرة.. 

ـــ طبعاً أكيد.. كلها كام يوم و راجعين القاهرة… عمو نديم عنده بيت واسع في مصر الجديدة و هنعيش انا و هو و الارا هناك بعد ما رجعنا من تركيا. 

+

لم يكن معتصم يدري أن هذا اللقاء العابر سيغير مجرى الكثير من الأمور في المستقبل.

+

كانت مودة جالسة في غرفتها، يحيطها صمت يخفي صخبًا داخلها، ستارة النافذة تتحرك بخفة مع نسيم المساء البارد، شعورها بالحيرة بدا جليًا في نظرتها، وعينيها اللتين تسكنهما غيمة من الذكريات. 

عادت أفكارها إلى ذلك اليوم، حين وقفت بجوار ابيها تستمع لصدمة موت دماغ شقيقتها في اللحظات الأخيرة. والآن… هي تحمل قلب أختها في صدرها و هي لا تعلم، لكن عقلها ما زال يعذبها بسؤال لم تجد له إجابة: “هل أخون ميريهان بحبي لآسر؟… بينما هي فقط تحبه بقلبها الذي كان يومًا قلب أختها؟”

+

        

          

                

عادت إلى ذكريات اليوم الذي التقت فيه آسر بعد غياب طويل. كلماته كانت قليلة، لكن نظراته حملت أشياء لم تنطقها شفتاه. “مودة… إزايك؟” كانت نبرته عادية، لكن تلك العادية هي ما أصابتها بالارتباك. مر عامان على رحيل ميريهان، وعامان على كل لقاءاتهما المحدودة، التي دائمًا كانت تنتهي قبل أن تبدأ.

+

و على ناحية أخرى

كانت مودة جالسة في صالة المنزل، تتلاعب بيدها بكوب شاي دافئ، لكن حرارة المشروب لم تستطع أن تدفئ اضطراب قلبها. 

في الزاوية الأخرى، كان محمد يجلس على كرسيه المعتاد، يتأمل ابنته بنظرة مثقلة بالهموم. هو يعرف السر الذي لم يبح به قط، ويشعر بثقل الكلمات التي يود أن يقولها لكن لا يجد لها توقيتًا مناسبًا.

+

“مودة يا بنتي… عايز اتكلم معاكي شوية.” قال بصوت هادئ، كأنما يخشى أن يزعزع سلامًا هشًا.

+

رفعت مودة عينيها إليه، كأنها أدركت أن هذا الحديث لن يكون عاديًا. “خير يا بابا؟”

+

تردد لثوانٍ قبل أن يرد: “حكاية آسر… وإنتِ، مفيش داعي إنها تفضل عاملة البلبلة دي في قلبك… أنا شايفك متوترة و متلغبطة  و مش زي الأول.”

+

أشاحت بوجهها للحظة، تخفي ارتباكها: “الموضوع مش كده، أنا بس… أنا حاسة إني بغلط، أو يمكن… مش عارفة أوصف إحساسي.”

+

محمد نظر إلى وجهها الصغير الذي تحمل عبئًا أكبر من سنواتها، وشعر بوخز في قلبه. 

هو من أخفى الحقيقة عن ابنته وعن آسر، معتقدًا أنه بذلك يحميهما. لكنه الآن يدرك أن الأسرار لا تفعل إلا أن تعقد الأمور.

+

“مودة.. الحب مش حاجة غلط… لكن أوقات كتير اللي بيحصل حوالينا بيلخبطنا… آسر ممكن يكون تايه زينا، مش عارف يحدد إيه اللي جواه، بس ده مش معناه إنك تخافي… إنتِ بني آدم مستقل، ليكِ مشاعرك وحياتك.”

+

مودة استدارت نحوه، عيناها تمتلئان بالدموع:

“بس يا بابا.. إنت مش فاهم… كل مرة بشوفه، بحس إن اللي بينا مربوط بميريهان… بحس إن قلبي بيخونها… حتى وأنا مش عارفة ليه قلبي بيروح له.”

+

كلماتها أصابت محمد في الصميم. كيف له أن يكشف الآن أن قلبها فعليًا هو قلب أختها؟ وكيف سيواجه آسر بهذا السر، وهو الذي كان يومًا جزءًا من حياة ميريهان؟

+

“بصي يا مودة… يمكن اللي جواكي مش سهل… وأنا مش هقولك إن الحكاية دي هتتحل بسهولة… لكن اللي أقدر أقولهولك إن ميريهان كانت بتحبك أكتر من أي حد… وصدقيني.. لو هي هنا كانت هتدعمك.. كانت هتقولك ما تخافيش.”

+

تردد قبل أن يكمل:

“ومهما كان السبب اللي بيخليكي تحسي كده، لازم تثقي إن ربنا مش بيكتب حاجة من غير حكمة.”

+

لكن محمد كان يعلم أن حديثه لم يشفِ ألمها بالكامل. وهو نفسه ظل صامتًا بعدها، غارقًا في أفكاره، يواجه معضلته الخاصة: هل الوقت قد حان ليخبرهما الحقيقة؟ أم أنه سيزيد الأمر سوءًا؟

+

        

          

                

محمد عاد لغرفته تلك الليلة وهو يشعر بأنه قد شارك جزءًا من مشاعره دون أن يشارك الحقيقة.

قرار كشف السر أصبح معلقًا، لكنه يدرك أن هذه اللحظة آتية لا محالة.

+

ادهم بفطنته و ذكائه استطاع أن يقنع اللواء عبدالله الخولي صاحب أكبر شركة أمن في القاهرة بدمج شركته الصغيرة حديثة الانشاء الى شركاته ما يزيد من شهرته و يوسع من دائرة انتشاره.. 

تلك الشركة التي يتعامل معها الكثير من اصحاب الشركات و المصانع و المنشآت الحيوية.. 

و قد كان معتصم من ضمن عملاء اللواء عبدالله. 

أقام أدهم حفلا كبيرا للاحتفال بالدمج و دعا الكثير من أصدقاءه و عملائه من أصحاب الشركات و المصانع، و اللواء عبدالله من ناحية قام بدعوة عملائه بما فيهم معتصم. 

معتصم وجدها فرصة جيدة لكي يلتقي بصديقه الغائب مروان في ذلك الحفل ربما يكون حلقة وصل بينه و بين شركة اللواء المتقاعد.

بالطبع رحب مروان بدعوة معتصم و أقر أن يحضر الحفل برفقة ابنة عمه و بعد انتهاء الحفل يعودا الى منزل والدها بمصر الجديدة..

+

في طريقه من البحر الأحمر الى القاهرة تعطلت السيارة على مشارف المدينة، و قد كان العطل معضلا يحتاج لوقت طويل من التصليح لدى الميكانيكي.

لم يجد مروان بدا من الاتصال بمعتصم لعله يساعده..

بعد حوالي ساعة من الانتظار قام معتصم بجر السيارة الى أقرب ميكانيكي و اضطر مروان الى البقاء مع الميكانيكي لحين إصلاح السيارة و أرسل ألارا مع معتصم على أن يلحق بهما فور انتهاء الميكانيكي من إصلاحها. 

+

كان الحفل يعج بالحضور، أضواء القاعة الهادئة تراقص الجدران مع نغمات الموسيقى الراقية التي تسري في الأجواء، تضفي على المناسبة طابعًا احتفاليًا أنيقًا.

+

عند مدخل القاعة، اقترب معتصم من البوابة برفقة ألارا، التي كانت تستند بخفة على ذراعه. كانت إطلالتها ملفتة: شعرها الأسود الطويل المتناثر حول وجهها، عيناها الخضراوان اللتان تشعان بريقًا، وملابسها التي جمعت بين الجرأة والأناقة. لم تكن فقط جميلة، بل تحمل في ملامحها تلك الجاذبية التي تأسر الأنظار دون مجهود.

+

في البداية، بدا معتصم منشغلًا بتفاصيل المكان، ثم لاحظ وسط الحضور ريم واقفة مع شقيقتها روان. بجوارهما طفلة صغيرة تتشبث بثوب والدتها، فتاة لا تتخطى العامين، توقف بصره للحظات عند تلك الطفلة، وسرح ذهنه:

“أيمكن أن تكون ابنتها؟ ريم أصبحت أمًا…”

أبعد تلك الأفكار سريعًا، وأعاد تركيزه على المناسبة، يحاول التماسك، وهو الذي بالكاد بدأ في دفن مشاعره القديمة تجاهها.

+

بينما شق طريقه إلى وسط القاعة، لم يكن يعلم أن شيئًا أكثر زلزلة ينتظره.

+

في الجهة المقابلة:

كان أدهم يقف بين مجموعة من الأصدقاء، يتبادل حديثًا وديًا. لكنه شعر بحركة على أطراف القاعة، التفت بعفوية، فقط ليجد عينيه تتوقفان عند معتصم. لكن لم يكن معتصم هو ما لفت انتباهه… بل الفتاة التي كانت تمسك بذراعه.

+

        

          

                

عيناه اتسعتا ببطء، كأن الزمن قد توقف. ملامح وجهه تغيرت في لحظة؛ صدمة ارتسمت على وجهه، وتراجع خطوة دون أن يدري.

+

“ندى؟!”

لم ينطق بالكلمة، لكنها صرخت داخل عقله بكل وضوح.

+

أدهم تجمد في مكانه، يحدق في ألارا كأنها شبح خرج من الماضي. كانت الملامح متطابقة تقريبًا، لكن شيئًا ما كان مختلفًا. شعرها الأسود الطويل الذي لم تعتده ندى، عيناها الخضراوان… وحتى ملابسها الجريئة التي لا تشبه ندى أبدًا.

+

لكنه رغم ذلك لم يستطع أن يقنع نفسه بأنها ليست هي. قلبه أخبره بشيء آخر.

“مستحيل… كيف يمكن أن تكون هنا؟ كيف يمكن أن تعود من تحت الثرى؟”

+

بينما كان يتأملها، شعرت ألارا بثقل نظراته. رفعت عينيها نحوه بتلقائية، ثم توقفت للحظة.

أدهم لم يدرِ إن كانت لاحظت صدمته، لكنها بدا عليها بعض الارتباك. كانت وكأنها ترى شخصًا غريبًا، ولم يُظهر وجهها أي علامة تدل على معرفته أو تذكره.

+

داخل أدهم، كان الصراع مستعرًا:

“إنها ليست هي… أو ربما هي؟ مستحيل أن أخطئ هذه الملامح…”

+

لكن الوقت لم يسعفه لمزيد من التفكير. معتصم اقترب منه، وحيّاه بحرارة:

“أدهم باشا إزيك؟..ألف مبروك على الدمج… 

+

بصعوبة استطاع أدهم أن يحول نظره عن ألارا، وينظر إلى معتصم:

”  الله يبارك فيك.. و شكرا على حضورك”

حين رآه معتصم ينظر لألارا بهذا الشغف حانت منه نصف ابتسامة ظنا منه أنها أعجبته، فأردف بمكر: 

ــ أحب أعرفك على ألارا…. بنت عم مروان صديقي…

+

أماء لها برأسه و هو يبتلع رمقه بصعوبة: 

ـــ “أهلا… أهلا بيكم.”

كلماته خرجت بصوت خافت، وهو يكاد لا يصدق ما يحدث.

+

بينما ظل أدهم يحاول السيطرة على تعابيره التي كادت أن تفضح صدمته، ألقت ألارا نظرة قصيرة عليه. شعرت بنظراته الثقيلة التي لم تفارقها منذ أن اقتربت مع معتصم، وكأنها تحت المجهر. شيء ما في طريقة نظره جعلها تشعر بعدم الراحة، لكنها لم تتوقف عنده طويلًا.

+

تابعت حديث معتصم بلباقة وهي تلقي التحية الرسمية، لكن عقلها بدأ يعمل دون أن تدري: “مين الراجل ده؟ ليه بصته كانت غريبة كده؟ كأنه يعرفني؟”

+

أثناء ذلك، بدا أدهم غارقًا في دوامة من التساؤلات: “لو هي ندى، ليه بتتصرف كأنها ما تعرفنيش؟ وإن ما كانتش هي، إزاي شبهها للدرجة دي؟”

+

رفع أدهم نظره إلى معتصم مرة أخرى، ثم إلى ألارا، محاولًا أن يبدو هادئًا. لكنه لم يستطع أن يمنع صوته من التلعثم: ــ “تشرفنا يا ألارا.”

+

نظرت ألارا نحوه بإيماءة خفيفة، ثم عادت لتبتسم لمعتصم، وكأنها تحاول صرف الانتباه عن التوتر الخفي الذي شعرت به للحظات.

+

بعد دقائق قليلة، وبينما كان الجميع يواصل حديثهم، شعرت ألارا بحاجتها إلى التنفس بعيدًا عن ضغط الحفل. همست لمعتصم: ــ “هخرج أشم شوية هوا.”

+

        

          

                

تبعها معتصم بنظره للحظات، ثم عاد ليكمل الحديث مع أدهم. لكن أدهم كان بالكاد يستمع. عيناه ظلتا تراقبان ألارا وهي تشق طريقها نحو الشرفة المفتوحة. قلبه لم يتوقف عن التردد: “لازم أعرف الحقيقة… مش معقول الشبه دا يكون حاجة طبيعية “

+

+

بعد أن خرجت ألارا إلى الشرفة، وقفت بجانب الحاجز الزجاجي، تستنشق الهواء بعمق وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها. كانت تشعر بشيء غريب، إحساس لم تستطع تفسيره. ربما كان بسبب عيون أدهم التي شعرت وكأنها تلتهمها بالأسئلة، أو ربما كان ثقل المكان نفسه الذي بدا كأنه يحمل قصصًا لم تعشها لكنها تطاردها بشكل ما.

+

في الداخل، لم يتمكن أدهم من الصمود أكثر. تبادل نظرة سريعة مع معتصم ثم أعطاه عذرًا للخروج للحظات. لم يلاحظ معتصم اضطرابه، بل بدا مشغولًا بتبادل الحديث مع ضيوف آخرين.

+

وصل أدهم إلى الشرفة بهدوء، وتوقف للحظة قبل أن يخترق المساحة التي وقفت فيها ألارا. ظلت هي تنظر إلى الأفق، لكن صوت خطواته خلفها جعلها تلتفت ببطء.

+

ــ “يا ترى جو الحفلة عجبك؟” سألها بصوت متزن، محاولًا أن يخفي اضطرابه.

+

نظرت إليه للحظات، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة: ــ “أه طبعًا… الحفل رائع. الجو هنا مريح شوية بعيد عن الزحمة.”

+

هز رأسه بإيماءة موافقة، لكنه كان يبحث في عينيها عن أي أثر. ملامحها… نبرة صوتها… كل شيء يشبه ندى بطريقة مخيفة… لكنه قرر أن يكون حذرًا… هذه ليست اللحظة المناسبة لطرح أسئلته.

+

ــ “أحيانًا… الزحمة دي بتكون أكتر من مجرد ناس حوالينا، صح؟” قالها وهو ينظر مباشرة إلى عينيها، محاولة لمعرفة أي شيء من رد فعلها.

+

ابتسمت بخفة، لكنها بدت وكأنها تحاول فك شيفرة كلماته: ــ “يمكن… بس أوقات الواحد بيلاقي الراحة وسط الزحمة كمان… لو كان مع الناس الصح.”

+

نظر إليها بصمت، وكأن كلمتها الأخيرة ضربت وترًا حساسًا في داخله. أدار وجهه للحظات، محاولًا ألا يظهر صراعه الداخلي.

+

بينما بدأ يشعر بأن وجوده قد يثير الشكوك، قرر العودة إلى القاعة. 

قبل أن يغادر، قال بنبرة هادئة لكنها مليئة بالإيحاء: ــ “تشرفت بلقائك يا ألارا…بس أكيد الأيام هتجمعنا تاني.”

+

تركها خلفه، لكنها شعرت بشيء غريب في طريقته. وكأن كلماته لم تكن عادية، وكأن هذا اللقاء يحمل في طياته شيئًا أعمق مما يبدو عليه.

+

في تلك الأثناء تماما و قبل عودة أدهم للقاعة.. 

+

كانت ريم تقف أمام الطاولة الصغيرة في زاوية القاعة، تنظم بعض الأوراق وترتب تفاصيل الحفل. مظهرها متماسك، عينان تحملان القوة رغم تلك الذكرى التي خلفها الزمن في طياتها. 

مرت عامان منذ أن رأته آخر مرة، عامان من الصمت والابتعاد، لكنها اليوم لم تتوقع أن يكون جزءًا من الحضور.

+

        

          

                

بينما هي منغمسة في عملها، شعرت بأنفاسها تتباطأ فجأة، وكأن شيئًا ثقيلًا يطرق قلبها. رفعت عينيها، فقط لتلتقي بشخص مألوف يخطو بثبات نحو المكان. كان معتصم.

+

تجمدت في مكانها، كأن الزمن توقف للحظة. شعرت بدقات قلبها تتسارع بشكل غير متوقع، رغم محاولتها الحفاظ على هدوئها. 

معتصم كان يبدو مختلفًا؛ مظهره أنيق، لكن عينيه حملتا بعض التعب، وكأنه كان يحمل ثقله الخاص معه.

+

لاحظها من بعيد، لكنه لم يتوقف. خطا خطواته نحو مجموعة من الأشخاص الذين كانوا بالقرب منها، لكنه تجنب النظر إليها بشكل مباشر.

+

ريم ظلت تراقبه، تستعيد في لحظة واحدة كل شيء: حديثهما الأخير، كلمات الفراق التي لم تُقل، والصمت الطويل الذي تلا ذلك. 

شعرت بمزيج غريب من الألم والغضب والحنين، لكنها لم تكن متأكدة مما يجب أن تشعر به حقًا.

+

روان، التي كانت تقف بجوارها، لاحظت تغير ملامحها، فاقتربت وسألتها بخفوت:

ــ “ريم، إنتِ كويسة؟”

+

هزت ريم رأسها سريعًا، محاولة نفي أي أثر للمشاعر التي بدت واضحة على وجهها:

ــ “أيوة، تمام…”

لكن صوتها المرتبك كشف عكس ذلك.

+

روان نظرت نحو الاتجاه الذي كانت ريم تراقبه، ورأت معتصم. شهقت بصوت منخفض وقالت:

ــ “ده معتصم؟!”

+

ريم قطعت حديثها بصوت منخفض لكنها حاد:

ــ “روان، اسكتي.”

+

لكنه كان قد لاحظ. رمقها أخيرًا بنظرة عابرة، لكنها لم تكن مجرد نظرة. كانت تلك النظرة التي تحمل في طياتها ألف كلمة لم تُقل. تبادل الاثنان لحظة من الصمت عبر المسافة، وكأنهما يتحدثان دون أن ينطق أحدهما بشيء.

+

معتصم حرك رأسه بتحية خفيفة، لكنه لم يقترب. اكتفى بالنظر لثانية أطول مما ينبغي، ثم أكمل طريقه نحو الجهة الأخرى من القاعة.

+

ريم تنفست ببطء، وكأنها كانت تحبس أنفاسها طوال الوقت. نظرت إلى روان وقالت:

ــ “تعالي، نكمل شغلنا.”

لكن عينيها ظلت تلاحقه دون أن تدري، وكأنها لم تستطع الانفصال عن تلك اللحظة التي أعادتها لعامين مضيا.

+

مرت بعض الدقائق حتى استطاعت ريم لملمة شتات نفسها و حاولت ان تعتاد وجود معتصم حولها بنفس المكان.. 

+

وسط القاعة، حيث كانت ريم وروان تتحدثان قرب طاولة مليئة بالمشروبات، سحبت ريم إحدى الكؤوس وأخذت ترتشف منه بهدوء. 

كانت روان بجوارها، تمزح بشأن الحفل والوجوه الجديدة التي بدأت تظهر في الأجواء. فجأة، تجمدت ملامح ريم، وعينيها مثبتتان على شيء خلف ظهر روان.

+

ــ “روان… شوفي اللي داخلة من البلكونة و رايحة ناحية معتصم…”

قالتها بصوت خافت، لكنه كان مشحونًا بالدهشة، وكأن الكلمات بالكاد خرجت من حلقها.

+

استدارت روان ببطء، وعندما وقعت عيناها على ألارا، انكمشت ملامحها. عيناها ظلتا مثبتتين على الفتاة، بينما شهقت بصوت منخفض:

ــ “ندى؟!”

+

        

          

                

كان الصمت هو سيد الموقف للحظة، كلاهما تحدقان في ألارا التي كانت تقف بجوار معتصم، تبتسم بخفة وتتبادل الحديث معه ومع شخص بجواره.

+

روان همست، وهي تمسك بذراع ريم بشدة:

ــ “مش ممكن… دي ندى… بس شعرها… وعيونها… إزاي؟”

+

ريم ردت بنبرة مترددة:

ــ “شكلها زيها بالظبط… لكن… ندى عيونها كانت بنية. مستحيل تكون هي.”

+

روان ظلت تحدق، غير قادرة على تصديق ما تراه:

ــ “بس يا ريم… النظرة، طريقة الضحك… حتى الوقفة دي… شبهها جدًا…”

+

ريم، التي كانت دائمًا الأكثر تماسكًا بين الشقيقتين، حاولت السيطرة على أفكارها. لكن شيئًا ما داخلها كان يخبرها بأن ما تراه ليس صدفة.

+

بينما بقيتا في حالة من الصدمة، رفعت ألارا عينيها فجأة نحو مكانهما، ثم توقفت للحظة، وكأنها لاحظت نظراتهما. بابتسامة صغيرة ومتوترة، ألقت نظرة خاطفة، ثم عادت تتحدث مع معتصم، محاولة تجاهل التوتر الذي شعرت به.

+

روان قالت باندفاع:

ــ “ريم، لازم نسأل أدهم. ده أكيد يعرف مين دي.”

لكن ريم، بعد أن استوعبت الصدمة الثانية بعد رؤية معتصم، ردت بحزم:

ــ “لا، استني… متسرعيش. خلينا نشوف الأول هي مين بالظبط، وما نلفتش الانتباه.”

+

روان، رغم رغبتها في مواجهة الموقف، هزت رأسها ببطء موافقة. كانت كلتاهما تعلم أن هذا اللقاء لن يمر بسهولة، وأن الإجابة على هذا اللغز قد تقلب الحفل بأكمله.. 

و لكنها اخذت تردد بداخلها بدهشة اصابتها بالتشوش:  “معتصم و ندى؟!… طاب ازاي؟!.. دي أكيد شبهها بس مش أكتر… بس معقول يكون معتصم على علاقة بشبيهتها!!… أووف يا ربي قلبي مش هيرتاح أبداً”

+

وقف محمد عند أحد الأركان، ممسكًا بكوب من العصير لم يذق منه شيئًا، يراقب المشهد بعينيه المثقلتين بالهموم.

+

على بعد خطوات منه، كانت مودة وآسر يتبادلان الحديث. مودة تبدو متوترة قليلاً، بينما يحاول آسر أن يخفي اضطرابه بابتسامة باهتة. محمد شعر وكأن الزمن يتباطأ أمام عينيه، تلك المشاهد أعادته إلى الوراء، إلى الأيام التي كانت فيها ميريهان هي محور الكون.

+

“يا ترى لو ميريهان هنا… كانت هتبقى مبسوطة؟” همس لنفسه، وهو يحاول أن يتجاهل شعور الذنب الذي ينهش قلبه.

+

عيناه تجولت بين مودة وآسر. رأى في نظرات آسر محاولة لاستيعاب شيء أعمق من مجرد مشاعر الحب، ورأى في عيني مودة صراعًا مريرًا بين قلبها الذي يجرها نحوه وعقلها الذي يوبخها كل لحظة.

+

“أنا السبب…” فكر، قلبه مثقل بالندم. “أنا اللي خبيت عنهم… أنا اللي خليتهم يعيشوا الصراع ده.”

+

لكنه في الوقت نفسه، كان يدرك أن السعادة لم تكن يومًا من نصيب مودة. لطالما كانت تعيش في ظل مرضها القاسي… والآن، بعد أن فقدوا ميريهان، أراد بشدة أن ترى مودة لحظة من السعادة التي حرمت منها.

+

بجانب آسر، لمحها وهي تبتسم للحظة، ابتسامة قصيرة لكنها حقيقية. كأنها لحظة اختطفتها من الألم الذي يثقل كاهلها. هذه الابتسامة أشعلت في قلبه رغبة متضاربة: “لو كنت صارحتها من البداية… هل كان ممكن تكون الحياة أسهل؟”

+

حين اقترب منه أحد المدعوين لمصافحته، استقبلهم بابتسامة مهذبة، لكنه سرعان ما عاد للتأمل في المشهد أمامه. كان يتمنى لو كان يستطيع إصلاح الأمور دون أن يفتح جراحًا قديمة.

+

لكنه كان يعلم أنه مهما حاول، فإن الحقيقة ستطفو على السطح يومًا ما، ومعها كل الأسئلة التي كان يخشاها.

+

عاد أدهم إلى القاعة، لكن ملامحه كانت تحمل ظلالًا من القلق والتساؤل الذي لم يستطع دفنه. استقبل معتصم بابتسامة مصطنعة وبدأ معه حديثًا سريعًا ليتجنب لفت الانتباه.

على الطرف الآخر، عادت ألارا لتقف مع معتصم الذي كان يقوم بدور مروان ابن عمها في ذلك الحفل،فلم تكن تعرف سواه. كانت تعلم أن هناك شيئًا غريبًا في نظرات أدهم، في كلماته… لكنها لم تكن تستطيع تحديد ماهيته.

+

بينما أدهم وسط الحضور، بدأت أفكاره تتشابك:

“ندى؟ مستحيل تكون هي… لكن تشبهها لدرجة تخليني أشك في كل شيء. يمكن تكون مجرد صدفة.”

+

لكنه عاد وأقنع نفسه أن من الأفضل أن يظل صامتًا حتى يتأكد.

+

لاحقًا تلك الليلة:

أثناء خروج الجميع، كان أدهم يقف بجوار أحد الأصدقاء بالقرب من المخرج. لمح ألارا وهي تقترب من معتصم، تبدو منشغلة بالحديث معه. ابتسم معتصم عندما لاحظ أدهم، ثم أشار نحوه قائلاً:

ــ “أدهم..مبروك مرة تانية على الدمج..و ان شاء الله يكون في بينا شغل..نستاذن احنا بقى.”

هز رأسه بأيماؤة بسيطة فقد كان ذهنه منشغلا للغاية بتلك الفتاة التي ستفقده عقله بشبهها الكبير بينها و بين فقيدته، و لكنه صافحه بحرارة متناسيا ما بينهما من خلافات قديمة.. 

+

مد أدهم يده لها مصافحًا، لكنه شعر بالرجفة الطفيفة في يدها.

ابتسم بخفة وقال:

ــ “تشرفنا يا ألارا.”

+

ردت بصوت هادئ:

ــ “الشرف ليّا يا فندم… الحقيقة شرف كبير أكون جزء من الليلة دي.”

+

كلماتها كانت عادية، لكن وقعها كان ثقيلًا على أدهم. الملامح، النبرة، وحتى الطريقة التي تتحدث بها… كلها أعادت إلى ذهنه ذكرى شخص لم يكن يتوقع أن يواجهها مجددًا.

+

بينما غادرت ألارا مع معتصم، بقي أدهم واقفًا، يتأمل ظهرها وهي تبتعد. لم يستطع منع نفسه من الهمس بصوت خافت:

ــ “ندى… يا ترى إيه الحكاية؟”

يتبع… 

+

+

ايه رايكم 

مع تحياتي/دعاء فؤاد 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *