الممر الطويل في الطابق العلوي للمبنى كان هادئًا إلا من أصوات خطوات ريم ومعتصم المتسارعة خلف أدهم وألارا. كانا يحاولان اللحاق بهما، لكن أدهم وألارا قد اختفيا عن الأنظار، وكأنهما تلاشى مع توتر اللحظة. توقفت ريم فجأة، تضع يدها على صدرها وهي تلهث، ووجهها مليء بالانفعال.
+
بعدما أنهى معتصم مكالمته مع أدهم، أقبلت عليه ريم لتقول و هي تلتفت نحوه بغضب:
ــ هو أنتَ فاهم إيه بالظبط؟ كنتَ عايز تعمل إيه قدام أدهم؟!
+
معتصم (بصوت مرتفع، ينفجر غضبه المكتوم):
ــ أنا اللي عايز أعمل إيه؟ أنا كنت بحاول أقول كلمة حق! أدهم طول الوقت بيتصرف كأنه وصي عليكم كلكم!
+
ريم (تنظر إليه بحدة):
ــ وصي؟!… علاقته بألارا اللي معصباك للدرجة دي؟!
+
معتصم (يرد سريعًا):
ــ أيوة!.. عشان هو أكتر واحد بيتجاوز حدوده!. بيمسكها و بيهتم بيها، وكأنها ملكه، وبعدين ييجي يقولي أنا إني تعديت حدودي معاكي؟!
+
ريم (بدهشة، تخفض صوتها قليلاً):
ــ أيوة… عشان هو شايف ألارا بطريقة مختلفة تمامًا.
+
معتصم (بغضب، يقترب منها):
ــ مختلفة إزاي؟!. ريم.. انتي شايفة أدهم بعين التعاطف، بس أنا شايفه بعين الحقيقة… الطريقة اللي بيتعامل بيها مع ألارا… مش طبيعية.
+
ريم (بهدوء، تحاول تهدئة الوضع):
ــ طبيعي إنه يتصرف كده يا معتصم… لأن ألارا مش مجرد شخص عادي بالنسباله.
+
معتصم (يتراجع قليلًا، يحدق فيها):
ــ يعني إيه؟ عايزاني أصدق إن اللي بينه وبينها مجرد شفقة؟!
+
ريم (بتردد، تتنهد بعمق):
ــ ألارا… شبه ندى.
+
معتصم (يصمت للحظة، ثم يرفع حاجبيه في دهشة):
ــ ندى؟.. قصدك مراته الله يرحمها؟!
+
اومأت برأسها ليقول معتصم باندفاع، يحاول استيعاب كلامها):
ــ شبهها؟.. بس إزاي؟
+
ريم (تخرج هاتفها، تفتح ألبوم الصور، وتبحث بسرعة):
ــ استنى… أنا كنت محتفظة بصورة لندى… شوف بنفسك.
+
تمد ريم الهاتف لمعتصم، وهو ينظر للصورة بصمت. تتجمد ملامحه للحظة، وكأن الكلمات تخونه. في الصورة، تظهر ندى بحجابها الأنيق وملابسها المحتشمة، مع وجه يشبه ألارا بشكل لا يمكن إنكاره.. عينيه تنتقلان بين الهاتف وريم، ثم يعود نظره للصورة.
+
معتصم (بدهشة غير مصدق):
ــ مستحيل… ده نفس الوش.. نفس الابتسامة.. بس ندى… ندى مختلفة… الحجاب و اللبس و الطابع… مستحيل تكون هي.. بس… إزاي؟!
+
ريم (تهز رأسها ببطء):
ــ حتى أنا مش قادرة أصدق… بس أدهم شاكك إن ألارا هي ندى.
+
معتصم (يرد بعصبية، يمشي بخطوات غير ثابتة):
ــ طيب، ولو كانت؟ إيه اللي هيحصل؟… ده يفسر ليه أدهم بيتصرف معاها بالطريقة دي… بس ليه محدش واجهها؟
+
ريم (تتحدث بصوت منخفض، تخشى أن يسمعها أحد):
ــ لأنه ما عندوش دليل… بس إحنا حاسين إنه في حاجة غلط، حاجة مخفية… ولو ألارا طلعت فعلاً ندى… إحنا كلنا في مشكلة كبيرة.
+
معتصم (ينظر إليها بحدة، وكأنه يحاول استيعاب الحقيقة):
ــ وأنتي؟.. هتقدري تواجهيها؟
+
ريم (بصوت يحمل خليطًا من الخوف والحيرة):
ــ مش عارفة يا معتصم.. بس كل ما أسمع صوتها أو أشوفها، أحس إنها فعلاً ندى… ندى اللي كانت دايمًا أقرب لنا كلنا.
+
لحظات من الصمت الثقيل سيطرت على المكان، قبل أن يتنهد معتصم، وهو يدس يديه في جيوبه ويحاول أن يستجمع أفكاره.
+
معتصم (بصوت منخفض، وكأنه يتحدث مع نفسه):
ــ لو طلعت هي فعلاً… الدنيا دي كلها هتتقلب.
+
ريم (تنظر إليه بقلق):
ــ ولسه؟ أدهم نفسه مش عارف يعمل إيه… إحنا ماشيين في طريق مظلم يا معتصم… ومحتاجين نعرف الحقيقة.
+
—
+
أمضى أدهم وقتًا طويلًا في مكتبه، يحاول التفكير في خطوة تخرجه من هذا المأزق. مع كل دقيقة تمر، كان يشعر أن الأمور تنفلت من بين يديه أكثر فأكثر، وأن الحلول التي يحاول الوصول إليها تتلاشى قبل أن يتمكن من الإمساك بها. أخيرًا، قرر مواجهة مخاوفه بدلًا من الهروب منها.
+
وقف، التقط معطفه من الكرسي، واتجه مسرعًا نحو سيارته. كانت وجهته واضحة: منزل الارا.
+
—
+
حين وصل، وقف أمام الباب لبضع ثوانٍ قبل أن يطرق بخفة. كانت أنفاسه ثقيلة، كأن كل خطوة نحوها تحمل ثقلًا أكبر مما يحتمل. فتح الخادمة الباب و أخبرها أنه يريد مقابلة ألارا..
بعد قليل ظهرت ألارا و ملامح وجهها بها مزيج من الاندهاش والبرود.
+
قال بصوت خافت لكنه متوتر:
ــ “ممكن نتكلم؟”
ردت بتردد:
ــ “مفيش كلام بيننا يا أدهم.”
+
لكنه أصر، صوته يحمل نبرة رجاء خفية:
ــ “مش هطول… بس لازم أشرحلك.”
+
تنهدت، ثم فتحت الباب له ليعبر. وقفت بعيدًا، واضعة يديها أمام صدرها، كأنها تقيم جدارًا غير مرئي بينهما.
ــ “قول اللي عندك.”
+
وقف أمامها مباشرة، لكنه تردد للحظة قبل أن يقول:
ــ “أنا غلطت… غلطت لما اتصرفت بالشكل ده قدامك النهارده… كنت متعصب ومش قادر أتحكم في أعصابي.”
+
رفعت حاجبيها بسخرية مريرة:
ــ “ليه؟.. علشان معتصم لمس ريم؟.. طب إيه الفرق بينك وبينه؟.. إنت بتعمل اللي على مزاجك وبتتصرف كإنك الوحيد اللي ليك الحق؟”
+
شعر وكأن كلماتها طعنات في صدره… حاول التماسك وهو يقول:
ــ “ألارا، اللي شوفتيه النهارده مكنش المفروض يحصل قدامك.. لكن أنا… أنا غير.”
+
قاطعتْه بصوت مليء بالغضب المكبوت:
ــ “غير؟!.. غير في إيه بالظبط؟!.. فاكرني غبية؟.. مش شايفة اللي بتعمله… اللي إنت عملته النهارده مع معتصم، وكلامه اللي قاله، خلاني أشوفك بجد… انت مش الشخص اللي كنت فكراه.. إنت متناقض!”
+
اقترب خطوة، كأنه يحاول كسر المسافة التي وضعتها بينهما، وقال:
ــ “أيوه، أنا متناقض… متناقض لأن اللي بيني وبينك مش طبيعي.. مش مفهوم حتى بالنسبالي.. بس لازم تصدقيني…”
+
لكنها قاطعته مرة أخرى، بنبرة أشد حدة:
ــ “أنا مش عايزة أفهم… اللي شوفته النهارده كفاية… مش هقدر أعيش مع شخص شايف نفسه فوق الكل، فوقي أنا كمان.”
+
صمت، شعر وكأن الأرض تحت قدميه تهتز.. حاول أن يبرر، أن يوضح، لكن الكلمات كانت تخونه. وأخيرًا، قال بصوت يحمل أثر انكسار:
ــ “مش هقدر أعيش لو خسرتك يا ألارا… أنا آسف.”
+
لكن نظرتها لم تَلِن، بل ازدادت برودًا. أدارت وجهها عنه، وهي تقول بهدوء كسره أكثر من أي غضب:
ــ “أدهم، كل ما تلمسني و كل ما تحاول تقرب مني، أنا بحس إني أرخص حاجة في حياتك.. مش قادرة أفهمك.. ولا عايزة أفهمك.”
+
ثم خطت نحو الباب، فتحته وهي تشير له بالمغادرة:
ــ “أخرج يا أدهم.. لو سمحت.”
+
—
+
خرج أدهم من المنزل دون أن ينبس بكلمة. وقف أمام الباب للحظات، رأسه مثقل بالأفكار، لكنه لم يجرؤ على الالتفات مرة أخرى. كان يعلم أنه فقد شيئًا مهمًا هذه المرة، شيئًا قد لا يستطيع استعادته بسهولة.
+
ركب سيارته، لكنه لم يدر المحرك على الفور. فقط جلس هناك، يضع رأسه على عجلة القيادة، كأنه يحاول استيعاب ما حدث. همس لنفسه بصوت بالكاد يُسمع:
ــ “أنا السبب… وأنا اللي لازم أصلح كل ده.”
+
—
+
—
+
كانت الغرفة مليئة بصمتٍ غريب، كأن الجدران تراقب ألارا وهي تتنقل بين أفكارها. وقفت أمام المرآة، تتأمل انعكاسها بانزعاج واضح. مرّرت يدها على قميصها الضيق، كأنها تحاول تمزيقه بنظراتها. لم يكن جسدها هو المشكلة، بل الصورة التي تراها كل يوم ولا تستطيع أن تنتمي لها.
+
همست لنفسها، بصوت متحشرج:
ــ “ليه؟ ليه كنت طول الوقت حاسة إن ده مش أنا؟ اللبس ده، الطريقة دي… كأني طول عمري عايشة صورة مش بتاعتي.”
+
أخذت خطوة للخلف، وبدأت تفكر في تصرفات أدهم معها. المشاعر التي احتوتها منذ لقائهما الأخير طغت عليها بقوة، ممزوجة بالغضب والخجل. كيف تجرأ أن يقترب منها بهذا الشكل؟ ما الذي جعله يظن أن له الحق في ذلك؟
+
أطرقت برأسها وهي تتمتم:
ــ “يمكن… يمكن أنا السبب… أنا اللي ما بعرفش أحط حدود… لبسي؟ تصرفاتي؟ هو حس إن ده دعوة صريحة ليه؟!”
+
مدّت يدها لتمسح الدموع التي بدأت تتجمع في عينيها. لم تستطع منع نفسها من التفكير في ماضيها، أو بالأحرى الماضي الذي صنعه والدها لها. كل شيء كان مدروسًا بعناية، ملابسها، طريقتها، وحتى أفكارها. تذكرت كلماته التي كانت تتكرر دائمًا:
ــ “ألارا، اللبس ده طبيعي. ده اللي الناس كلها في تركيا بتلبسه… إحنا ناس متحضرين.”
+
لكنها الآن، لأول مرة، تسأل نفسها بصوتٍ عالٍ:
ــ “طب وأنا؟ أنا مرتاحة؟ يعني لو كل الناس بتعمل كده… ده معناه إنه صح؟”
+
رفعت بصرها مرة أخرى إلى انعكاسها، وتأملت تفاصيل وجهها. كانت هناك رغبة دفينة في التغيير، رغبة تلاحقها منذ وقت طويل لكنها كانت تخشى مواجهتها. فجأة، تراءت لها تلك الأحلام التي كانت تراودها مرارًا. نفسها في ملابس واسعة محتشمة، وحجاب يغطي شعرها. شعرت برعشة خفيفة، وكأن الفكرة تحتضنها.
+
ــ “كنت دايمًا بشوف الحلم ده… كأني حرة، كأني… كأني أخيرًا أنا!”
+
لكن الفكرة لم تأتِ بلا مخاوف. شعرت بضغط والدها في رأسها، كأن أصواته تتردد:
ــ “إحنا علمناكي تعيشي كده… التحضر معناه تكوني منفتحة.”
+
التفتت إلى خزانتها وفتحتها بعصبية، وأخذت تخرج الملابس قطعة تلو الأخرى. كانت تنظر إلى كل قطعة بامتعاض، حتى رمتها على السرير وكأنها تتخلص من عبء ثقيل. وقفت للحظة، تتطلّع حولها، وقالت بهمس يكاد يسمع:
ــ “هو ده اللي أنا عايزاه؟ أعيش حاجة مش بتاعتي؟”
+
خطرت لها فكرة مفاجئة، ربما بدافع من لحظة صدق نادرة. اتجهت نحو حقيبة صغيرة كانت مخبأة في زاوية الخزانة، وبدأت تبحث فيها. أخرجت منها وشاحًا قديمًا، بسيطًا لكنه نقي. كان هو نفس الحجاب الذي كانت تراه في أحلامها.
+
حملته بيدها، قلبته بين أصابعها، وكأنها تتحسس طمأنينة غريبة فيه. وضعت الوشاح على رأسها، وقفت أمام المرآة، وتنفست بعمق. شعرت لأول مرة أنها ترى نفسها بوضوح.
+
ابتسمت ابتسامة خفيفة، لكنها سرعان ما اختفت وهي تقول لنفسها:
ــ “بابا لو شافني كده هيثور… هيقول إني رجعية… إني بضيع اللي بناه فيا.”
+
لكن صوتًا آخر داخلها همس بلطف:
ــ “وأنا؟ أنا عايزة إيه؟ مش دي حياتي أنا؟ مش حقي أختار؟”
+
—
+
—
+
كانت ألارا جالسة على طرف السرير، تحدّق في الملابس التي ألقتها بعشوائية قبل قليل. شعرت بالاختناق من كل قطعة ملتصقة بجسدها كأنها تطوّقها بقيود غير مرئية. لم تكن الفكرة جديدة، لكنها الآن أكثر وضوحًا، أكثر إلحاحًا.
+
نهضت ببطء، توجهت نحو الخزانة مرة أخرى، وبدأت تبحث بين ثنايا الملابس عن شيء يناسب شعورها الجديد. أخرجت بلوزة واسعة، وسروالًا فضفاضًا، نظرت إليهما وكأنهما نافذة على ذاتها الحقيقية.
+
همست لنفسها:
ــ “مش لازم أعمل كل حاجة مرة واحدة. ممكن أبدأ كده… ألبس حاجة مريحة، حاجة شبه اللي بحلم بيه.”
+
أمسكت الملابس، ارتدتها ببطء، ثم وقفت أمام المرآة. شعرت براحة غريبة، وكأنها تتنفس بحرية لأول مرة منذ وقت طويل. دارت حول نفسها بخفة، تتحسس القماش الذي لم يعد يقيد حركتها.
+
ابتسمت بخجل، وقالت بصوت مسموع:
ــ “يعني لو بابا شافني كده، يمكن ما يزعلش… يمكن يفكرها صدفة.”
+
لكن داخلها كانت تعرف أنها ليست صدفة. كان هذا القرار هو أول خطوة تجاه حلمها، تجاه تلك الفكرة التي كانت تلاحقها في نومها وصحوها.
+
امتنعت الارا عن الذهاب الى الشركة الى أن اتصل بها معتصم يخبرها ان هناك اجتماع عاجل في الصباح الباكر للشركاء و أنه من الضروري حضورها لأنها تنوب عن مروان الذي مازال بالبحر الأحمر يتابع بعض التجديدات بقريته السياحية هناك..
خفق قلبها بشدة، فجزء منه اشتاق لأدهمه و جزء آخر لا يريد رؤيته بعد ذلك الموقف الذي جعلها تشعر بالدونية و الانحطاط..
و لكنها قررت العودة بشخصية جديدة اكثر التزاما.. أكثر احتشاما.. و لن تسمح له بأن يلمسها مجددا مهما كانت الأسباب..
+
عندما اقترب موعد خروجها من المنزل، كانت تشعر بتوتر خفيف. أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تتوجه إلى والدها، الذي كان يجلس في غرفة المعيشة يتفحص أوراقًا مهمة.
+
بابتسامة متوترة، ألقت التحية:
ــ “بابا، أنا خارجة..رايحة الشركة.”
+
رفع نديم رأسه عنها، ونظر إليها بتمعن. لاحظ الملابس الفضفاضة، ولكن دون أن يُظهر استغرابًا. سألها بهدوء:
ــ “إيه اللبس ده؟!”
+
شعرت ألارا أن قلبها يكاد يتوقف، لكنها حاولت أن تبدو طبيعية.
ــ “حبيت أغير شوية، اللبس الواسع أريح.”
+
ابتسم نديم ابتسامة صغيرة، لكنه كان يخفي خلفها شكوكه. قال باقتضاب:
ــ “طالما مرتاحة تمام.”
+
كان هذا الرد كافيًا لتخرج ألارا وهي تشعر بانتصار صغير. كانت تعلم أن هذه مجرد بداية، وأن الخطوة التالية ستكون أصعب. لكنها قررت أن تأخذ الأمور ببطء، لا شيء سيمنعها من أن تصبح كما تحلم.
+
بينما كانت تسير في الشارع، شعرت بنظرات مختلفة من حولها. لم تكن تعلم إن كانت هذه النظرات حقيقية أم أنها من نسج خيالها. لكنها لأول مرة لم تهتم.
+
قالت لنفسها وهي تبتسم بخفة:
ــ “أهم حاجة إني بحس إن دي أنا.”
+
—
+
عندما وصلت إلى شركة أدهم، سارت بهدوء عبر الممر، وحاولت قدر الإمكان ألا تواجهه. كان الغضب الذي بداخلها ما يزال قويًا، وكانت ترفض تمامًا التفاعل معه. هي فقط هنا لإتمام عملها، ولا شيء أكثر. كان يجب أن تركز على مهامها، وأن تظل بعيدة عن كل ما قد يعكر صفوها.
+
اجتمع الشركاء في قاعة الاجتماعات، حيث جلس معتصم وأدهم على طاولة مستطيلة كبيرة، بينما دخلت ألارا متأخرة بعض الشيء، محاولة تجنب نظرات أدهم. كانت ترتدي ملابسها الفضفاضة الجديدة التي أعطتها إحساسًا بالقوة والثقة، لكنها لم تمنع قلبها من الخفقان بشدة عندما التقت عيناها بعينيه للحظة خاطفة.
+
ألقى معتصم نظرة خاطفة بين الاثنين، ولاحظ التوتر الذي يملأ الغرفة كأن الهواء مشحون بالكهرباء. بدأ الحديث سريعًا، محاولًا كسر الجمود:
ــ “طيب، خلينا ندخل في الموضوع على طول. الاجتماع ده مستعجل عشان في صفقة جديدة تتعلق بمجالين: السياحة والأمن. والموضوع ده ضروري نناقشه النهارده.”
+
أدهم (بنبرة عملية، وهو يرفع بعض الأوراق):
ــ “الصفقة متعلقة بتأمين قرية سياحية جديدة بنخطط لتوسيعها. مروان اتفق مع مستثمرين، لكنهم طالبوا بتأمين خاص ومواصفات معينة للأمان بسبب بعض الأحداث الأخيرة في المنطقة. الموضوع يحتاج تعاون بيننا لتحديد الأولويات.”
+
ألقت ألارا نظرة سريعة على الأوراق أمامها، محاولة أن تبدو مركزة. سألت بنبرة هادئة ولكن واثقة:
ــ “المواصفات المطلوبة للتأمين محددة في العقد؟ وهل هناك تقدير أولي للتكاليف؟”
+
رفع أدهم عينيه نحوها ببطء، متفاجئًا قليلاً بنبرة صوتها الواثقة. رد بهدوء، لكنه لم يستطع إخفاء صرامته:
ــ “التكاليف موجودة، لكن المشكلة مش في الفلوس. المشكلة في التنفيذ والوقت. المنطقة دي معروفة إنها صعبة التأمين.”
+
قاطعه معتصم، محاولًا تخفيف التوتر:
ــ “عشان كده احنا هنا. كل واحد له دور. أنا ممكن أساعد في إدارة اللوجستيات وتوفير المعدات المطلوبة. ألارا، بما إنك بتنوبي عن مروان، ممكن تشوفي احتياجات القرية السياحية وتشوفي إذا في إضافات؟”
+
أومأت ألارا بهدوء، وسحبت الأوراق لتتصفحها:
ــ “تمام. هراجع التفاصيل كلها، ولو في حاجة ناقصة هبلغكم فورًا.”
+
ساد الصمت للحظة، وكأن الجميع ينتظرون من الآخر أن يتحدث. كانت أعين أدهم تتحرك بين الأوراق وبين ألارا، وكأنها تحاول أن تفكك اللغز الجديد الذي تمثله له.
+
قرر معتصم أن يكسر هذا الصمت مرة أخرى:
ــ “طيب، نقطة تانية محتاجة نقاش. المستثمرين عايزين ضمانات إضافية تتعلق بمستوى الخدمة والأمان. ده هيطلب عقد اجتماعات إضافية مع الموردين والعملاء. ألارا، تقدري تنسقي مع فريق مروان؟”
+
أجابت ألارا بهدوء، ولكن بلهجة عملية تحمل لمسة تحدٍ:
ــ “أكيد. بس ممكن كمان أشوف نماذج عقود مشابهة لمشاريع سابقة؟ عشان أضمن إن كل الجوانب مغطاة.”
+
أدهم (بصوت منخفض ولكنه قاطع):
ــ “دي مسؤولية فريق الأمن، وأنا هتابع التفاصيل بنفسي.”
+
رفعت ألارا رأسها ونظرت إليه مباشرة لأول مرة، وردت بنبرة جادة:
ــ “تمام، بس برضه مش غلط يكون عندي خلفية شاملة، عشان أقدر أتعامل مع أي استفسار من جانب مروان أو المستثمرين.”
+
شعر معتصم بأن الأمور على وشك الانفجار، فتدخل سريعًا:
ــ “تمام يا جماعة، مش لازم ننفصل كده. كلنا فريق واحد في الآخر.”
+
بينما استمر الحديث حول الصفقة والتفاصيل، كانت العيون تتحدث بلغة أخرى. نظرات أدهم نحو ألارا لم تكن خالية من الفضول والأسف، بينما كانت ألارا تحافظ على جمود وجهها، لكنها شعرت أن نظراته تخترقها كأنها تسأل: “من تكونين؟ ولماذا تتغيرين بهذا الشكل؟”
+
عندما انتهى الاجتماع، وقف الجميع استعدادًا للخروج. مر أدهم بجانب ألارا، وهمس بنبرة مشوبة بالغموض:
ــ “واضح إنك بتخططي لحاجات كتير.”
+
رفعت رأسها ونظرت إليه بثبات:
ــ “والواضح إن ده مش هيعجبك.”
+
غادر أدهم الغرفة دون رد، تاركًا ألارا تتنفس بعمق، وقد شعرت أنها انتزعت جزءًا من حريتها من قبضته، حتى لو للحظة.
+
تراجع ليعود لها مجددا و أشار إليها بيده، طالبًا منها أن تتبعه. كانت عيناه تتحدث لغة لا تريد ألارا تفسيرها. ترددت للحظة، لكنها تبعته في النهاية، عازمة على مواجهة ما يحدث بهدوء.
+
في الداخل: أغلق أدهم الباب خلفهما ونظر إليها نظرة مطولة، وكأنه يحاول قراءة أفكارها. وقفت ألارا بعيدًا، تقاطع ذراعيها أمام صدرها، تحاول إخفاء ارتباكها خلف قناع من الهدوء.
+
أدهم (بصوت منخفض، لكن حازم) و في داخله تتسلل السعادة بمظهرها المحتشم:
ــ “إيه اللي بتحاولي توصلليه باللبس ده؟ بتبعدي عني؟”
+
ألارا (بهدوء مشوب بالتحدي):
ــ “وأنت شايف إني محتاجة أشرح نفسي ليك؟.. اللبس ده بيعبر عني… عن اللي أنا عايزاه، مش اللي إنت متوقعه.”
+
اقترب أدهم خطوة، لكن بقيت المسافة بينهما شديدة الوضوح.
أدهم (محاولًا السيطرة على غضبه):
ــ “أنا مش بعاتبك و مش معترض على التغيير بالعكس… بس فجأة كل حاجة فيكي اتغيرت. إيه اللي حصل؟”
+
ألارا (تتحدث بثبات):
ــ “اللي حصل إني قررت أكون أنا… كفاية إني كنت بعيش على توقعات الناس… حتى إنت، دايمًا كنت بتحكم على تصرفاتي.”
+
أدهم (بغضب مكبوت):
ــ “أنا عمري ما حكمت عليكي… أنا كنت بحاول أفهمك!”
+
ألارا (بسخرية خفيفة):
ــ “تفهمني؟.. يمكن تكون بتحاول، بس دايمًا بشروطك.. وأنا مش مضطرة أرضي حد تاني.”
+
ارتفع حاجبا أدهم قليلاً، وكأنه يراها لأول مرة… كان مزيجًا من الإعجاب والدهشة.
أدهم (بصوت أهدأ، لكنه لا يخلو من الحدة):
ــ “إنتي بتبعدي عني، مش عن الكل…. ليه؟”
+
تقدمت ألارا خطوة واحدة فقط، ترفع رأسها قليلاً لتواجهه، وقالت بوضوح:
ــ “لأنك أكتر واحد حسسني إني لعبة.”
+
توقف الزمن للحظة، وكأن الكلمات صفعت أدهم. فتح فمه ليرد، لكنه لم يجد ما يقوله. كانت تلك الحقيقة التي لم يدركها أبدًا.
+
ألارا (متابعة بنبرة أكثر هدوءًا):
ــ “دلوقتي، لو تسمحلي، عندي شغل لازم أخلصه.”
+
فتحت الباب وغادرت، تاركة خلفها أدهم في مواجهة أفكاره وارتباكه.
+
—
+
كان أدهم مستغرقًا في مراجعة أوراقه في مكتبه، محاولًا التهرب من دوامة الأفكار التي تطارده، حين رن الهاتف الداخلي. رفع السكرتير سماعة الهاتف، ثم أطلّ برأسه داخل المكتب:
ــ أدهم بيه، في حد مستني برة… بيقول إنه آسر صديق حضرتك.
+
توقفت يده عن التقليب بين الأوراق، ونظر إليه باستغراب.
ــ آسر؟! خليه يدخل فورًا.
+
دخل آسر بخطوات مترددة قليلاً، لكنه سرعان ما رسم ابتسامته المعتادة على وجهه. وقف للحظة أمام أدهم قبل أن يقول بصوت دافئ:
ــ أدهم! يا راجل، فينك؟
+
نهض أدهم من كرسيه، اقترب منه وعانقه بحرارة:
ــ آسر! معلش انشغلت عنك، مختفي فين من ساعة حفلة الدمج!
+
ضحك آسر وهو يربت على كتفه:
ــ أهو شوية شغل وضغوط… إنما ما تتخيرش عنك، واضح إن الدنيا عندك مش سهلة.
+
جلس كلاهما على الأريكة الصغيرة في زاوية المكتب، وبدأ أدهم يصبّ القهوة بنفسه.
ــ طيب، خليني أسمع منك، إيه اللي جابك فجأة؟
+
تنهد آسر، محاولًا ترتيب أفكاره، ثم قال بنبرة منخفضة:
ــ الموضوع كبير شوية يا أدهم… وله علاقة بمودة.
+
ارتسمت الجدية على وجه أدهم، وأصبحت عيناه تراقبان صديقه بدقة.
ــ مودة؟.. حصلها حاجة؟
+
هزّ آسر رأسه مطمئنًا:
ــ لا، هي كويسة… بس العلاقة بينا مش زي الأول… ومن فترة… اكتشفت حاجة خلت الأمور تتلخبط أكتر.
+
رفع أدهم حاجبيه متسائلًا:
ــ حاجة زي إيه؟
+
تردد آسر للحظة قبل أن يقول:
ــ أدهم… مودة اتزرعلها قلب ميري لما كانت في المستشفى في ألمانيا و أنا معرفش.
+
تصلب أدهم في مكانه، وحدّق في صديقه بدهشة لم يستطع إخفاءها.
ــ قلب ميري؟!… بتتكلم جد؟
+
أومأ آسر ببطء:
ــ آه…أبوها اعترفلنا بكده… بس كان بعد خلاف بينا… الحقيقة مش عارف أتصرف إزاي، أنا بحبها يا أدهم، لكن وجود ميري في القصة عامل زي الحاجز بيننا.
+
جلس أدهم في صمت، وكأن الكلمات خانته للحظة. كانت الصدمة في عينيه واضحة، لكنه أخفى شعوره العميق خلف نبرة هادئة:
ــ دي صدمة كبيرة يا آسر… بس خليني أسألك، علاقتك بمودة ليها علاقة بميري؟ ولا أنت بتحبها عشان هي مودة وبس؟
+
ابتسم آسر ابتسامة باهتة:
ــ لو كنت سألتي السؤال ده في الأول، كنت ممكن أشك في نفسي… لكن دلوقتي، أنا متأكد… بحبها عشان هي مودة… بس في نفس الوقت مش قادر أتجاهل الحقيقة.
+
تنهد أدهم وأمسك بفنجانه كأنما ليجد فيه إجابة لما يحدث.
ــ مودة قوية يا آسر، هي محتاجة حد يقدر قوتها دي. أنا عارفك كويس، وعارف إنك نضيف من جواك… لكن لو بتفكر تكمل، لازم تكون مستعد تتحمل كل حاجة، خاصة اللي فات.
+
هزّ آسر رأسه موافقًا:
ــ عشان كده جيتلك… أنا فعلاً مش عارف أعمل إيه، أو أبدأ منين.
+
نظر أدهم إليه بعينين متفهمتين وقال:
ــ ابدأ بالصدق يا آسر… خليها تحس إنك معاها بجد، مش مع ذكريات… وخليك صبور، لأنها لو حسّت للحظة إنك مش ثابت، كل حاجة هتنهار.
+
ظل آسر ينظر إلى أدهم بشيء من الامتنان، ثم ابتسم وقال:
ــ أدهم أنت دايمًا كنت أحسن مستشار… شكراً على نصيحتك.
+
ابتسم أدهم بخفة وقال بجدية:
ــ متشكرش دلوقتي… خلينا نشوف النتيجة الأول.
+
خرج آسر من مكتبه و بداخله أمل جديد في اصلاح علاقته مع مودة، و بينما هو في خضم شروده اصطدم بألارا بينما كانت تسير في الممر..
ـــ آه أنا اسفة جداً..
حين رفع رأسه لينظر لها اول ما طرأ بخاطره قال:
ـــ ندى؟!
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب.. فقد تكرر الاسم أمامها عدة مرات.. تارة من أدهم و الآن من ذلك الرجل؟!
ـــ لأ مش ندى
قالتها ببرود، فتنحنح آسر من الحرج ثم قال بنبرة ذات مغذى محاولا معرفة هويتها:
ـــ أنا آسف.. أنا آسر صديق أدهم.. انتي السكرتيرة الجديده؟!
ـــ لأ أنا شريكته.. ألارا..
هز رأسه بتفهم و عقله يكاد ينفجر من الحيرة…( يا الهي هل يشبه الانسان شخص آخر الى هذا الحد من التطابق؟!)
تخطته حين سكت تماما و تركته غارقا في أفكاره…
+
عاد آسر مسرعا الى مكتب أدهم بعد اللقاء الصادم مع ألارا، وجهه يحمل خليطًا من الدهشة والارتباك.
+
آسر (مباشرًا):
ــ أدهم، إنت عارف مين البنت دي؟
+
رفع أدهم رأسه بهدوء مصطنع، وقال بنبرة حاول أن يجعلها طبيعية:
ــ مين قصدك؟
+
آسر (بحدة):
ــ ألارا! البنت اللي بره… إنت مش واخد بالك؟!
+
صمت أدهم لبرهة قبل أن يقول بنبرة حازمة:
ــ واخد بالي وعارف الشبه اللي بتتكلم عنه.
+
آسر (بتوتر):
ــ مش شبه، دي ندى، أدهم! أنا متأكد.
+
تجنب أدهم النظر المباشر إليه، ثم قال بصوت خافت:
ــ أنا عارف إنها هي يا آسر.
+
ارتفع حاجبا آسر في صدمة واضحة، وقال بصوت أقرب للهمس:
ــ إنت متأكد؟.. إزاي؟
+
تنهد أدهم، وأسند ظهره إلى الكرسي، كأن الحديث استنزف طاقته:
ــ كنت شاكك من أول ما شفتها… وكل تصرف ليها بيأكد الشك ده… بس المشكلة مش في ندى… المشكلة في اللي خلاها تبقى “ألارا”.
+
آسر (بدهشة):
ــ تقصد إيه؟
+
أدهم (بجدية):
ــ فيه حد لعب اللعبة دي… غير ملامحها، ومسح ذاكرتها.. وحاول يصنع شخصية جديدة تمامًا.
+
آسر (بصدمة):
ــ إنت بتتكلم عن مؤامرة؟ مين ممكن يعمل كده؟
+
أدهم (بعزم):
ــ واحد اسمه نديم.
+
تجمد آسر في مكانه للحظات، محاولًا استيعاب ما سمعه. ثم قال بصوت منخفض:
ــ مين الراجل دا؟!
+
أدهم (مؤكدًا):
ــ عامل نفسه ابوها و لسة معرفش عنه حاجة.. وأنا محتاج مساعدتك يا آسر… انت اصلا جيتلي في الوقت المناسب..
+
آسر (باندفاع):
ــ أكيد.. بس إزاي؟
+
نظر إليه أدهم نظرة طويلة قبل أن يقول:
ــ عايز اعرف كل حاجه عنه.. قصة حياته من يوم ما اتولد لحد النهاردة… لو جمعت عنه معلومات مهمة اكيد هنمسك طرف الخيط اللي هيوصلنا للحقيقة الكاملة..
رد آسر بعزم:
ـــ أنا معاك يا صاحبي.. و هنفذ اللي تقول عليه بالحرف..
—
+
يتبع…
هستنى رأيكم
مع تحياتي /دعاء فؤاد
التعليقات