التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الحادي والعشرون

هناك طائر جميل كُتِب له التحليق
هناك عالم بأكمله نجح الطائر في أسره
نجح في جعله يتمنى لو لم يحلق أبدا
ولكنها في النهاية فطرته
هناك ريان، وهناك قلوب أحبت بصدق
ولكنها مطمئنة أن الطائر الجميل في رعاية مولاه
وأنه لن يُنسى أبدا.

جالسة جواره على الفراش في غرفتهما تتابعه وقد غفا أخيرا بعد معاناة، لم يقبل عيسى تناول الطعام، فطلبت منه برفق أن يسترخي قليلا فاستجاب لها هذه المرة، حتى سرقه النوم، تتأمله بإشفاق فالتعب والإرهاق ظاهران بشدة على ملامحه، سمعت دقات على باب الغرفة فهرعت ناحية الباب قبل أن يتسبب الصوت في إزعاجه، خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها فلم تجد أمامها سوى سهام التي بدا عليها أنها أتت للتو من الخارج فسألتها ملك: خير؟

ردت عليها سهام بنظرات حادة: الحاج عايز عيسى.
فين عمو أنا عايزه أتكلم معاه؟
كان هذا سؤال ملك الذي ردت عليه سهام بانزعاج: بت أنتِ أنا مش فيقالك، بقولك نزليله جوزك.
ردت عليها ملك بتحذير: أنا هحترم بس إن الحالة اللي أنتِ فيها دي بسبب اللي حصل لرفيدة، ومش هرد عليكِ.
أنهت كلماتها وتخطتها لتنزل تبحث عن نصران في الأسفل ثم استدارت تنبهها بما أشعلها: وياريت الصوت علشان عيسى ميقلقش.

تتمنى لو أسقطتها من على الدرج الآن، ليست في حالة تسمح لها بالانشغال بملك، كل ما يشغلها الآن هو أن تتعافى ابنتها، أن تراها بخير.

نزلت ملك إلى أسفل وعند غرفة مكتب والد زوجها دقت الباب لتتيقن من وجوده في الداخل وبالفعل سمعت صوته يسمح لمن في الخارج بالدخول، فدخلت مسرعة وأغلقت الباب خلفها، بدا الحزن على وجهه وكان واضحا تماما بالنسبة لها أن التفكير أنهكه، جلست على المقعد المقابل له ولم تعرف بماذا تبدأ حتى قالت أخيرا: عمو هي رفيدة كويسة؟
هز رأسه قائلا: الحمد لله يا ملك.
طب هي فين؟

كان هذا استفسارها الذي لم يرد عليه بل سألها هو: عيسى اللي فين؟
بررت له غيابه مسرعة بلهفة: عيسى أنا ضغطت عليه يرتاح لحد ما حضرتك ترجع، ونام بالعافية، عمو عيسى حالته بتسوء ومتأثر أوي بحالة رفيدة وطنط مش سايبة أي فرصة تخليه فيها يحس إنه هو السبب في كل ده.
لم يكد يرد عليها حتى وجد ابنه يقتحم الغرفة دون استئذان وكان أول ما تفوه به: رفيدة فين؟
ما هو لو بترد على تليفونك كان زمانك عرفت هي فين.

كان هذا جواب نصران على ابنه الذي هاتفه كثيرا ولم يستجب وتابع نصران بانزعاج: لكن أنت طلعت تجري على القاهرة علشان تروح لصاوي وبنته من غير حتى ما ترجعلي.
زفر عيسى بتعب وكرر السؤال وكأن هذا التوبيخ لم يكن له: اختي فين يا بابا و اتأخرت كده ليه؟

طمأنه نصران بقوله: رفيدة أنا اتطمنت عليها، و متقلقش كل حاجة هتبقى بخير، البلا اللي المؤذية دي كانت بتحطهولها متمكنش من جسمها أوي، الحمد لله إن احنا لحقناها دلوقتي.
طب هي فين؟
سأله بعينين راجيتين فجاوبه نصران: اختك مش هينفع تفضل هنا، وكمان علشان ابن اخوك اللي مش هيبقى فاهم هي بتمر بإيه، هي معندهاش دور برد دي هتتعصب وهتنهار و هتتعب خصوصا الأيام الجاية زي ما الدكتور قال.

يعلم أن والده يتحدث عن أعراض انسحاب المخدر من جسد شقيقته والتي تبدأ بعد يومين من عدم تناوله وأكد ذلك قول نصران: هو قال لو ربنا كرمنا على شهر هتكون كويسة بإذن الله، أنا ودتها مكان هترتاح فيه ومعاها أم عز، وسهام هتروحلها والدكتور هيتابع كل حاجة من أول الدوا لحد حالتها كل يوم، وعز كمان قريب منهم علشان لو احتاجوا حاجة، واحنا مش هنسيبها.
طلب من والده بلهفة: طب اديني العنوان، أنا عايز أروحلها.

طاهر معاها دلوقتي
لم يرضه جواب والده فهتف بإصرار: حاج نصران أنا مليش دعوة باللي معاها، أنا عايز ابقى معاها دلوقتي
توجه نصران ناحيته وربت على كتفه قائلا بهدوء: طاهر عنده رحلة وهيمشي، خليك أنت بكرا، روح دلوقتي كمل نوم علشان تبقى فايق بكرا لما نحتاجك.
دقات على الباب تبعها دخول سهام التي هتفت: أنا جهزت الحاجة يا حاج، همشي بقى.

كانت قد أحضرت ملابس لابنتها ومجموعة من أغراضها التي ستحتاجها واستعدت للذهاب إليها من جديد برفقة حسن الذي ينتظرها في الخارج.
أخبرها بما استمعت له بغير رضا: بكرا على العصر ترجعي علشان يزيد، وأخوها وأنا هنروحلها.
وافقت على الرغم من أعتراضها، وبعد خروجها حث نصران ابنه بقوله: يلا يا عيسى خد مراتك واطلعوا، علشان أنا مبقاش فيا حيل للكلام مع حد.
تحب أعملك حاجة يا عمو؟

كان هذا عرض ملك الذي رد عليه بقوله: لا يا حبيبتي شكرا.
أشارت له بعينيها على عيسى خلسة فانتبه لها عيسى الذي قال: مش شايفك أنا بقى كده؟
طالعته بضجر ثم هتفت: أنا طالعة يا عمو علشان زهقت.
جلس عيسى على الأريكة في غرفة مكتب والده الذي اعترض قائلا: ما تقوم يا بني تشوف حالك و تسيبني في حالي.
مش قايم من هنا.

كان هذه رده الذي جعل نصران يتجاهله، مفضلا الصمت، لم يرد عيسى تركه يعلم أن ثباته زائف، والده في أشد الحاجة إلى رفيق الآن، أمنيته الوحيدة الآن أن ينتهي كل هذا حينها فقط سيشعر أنه بخير.

بحلول الليل تزداد الأجواء برودة، والأمر في غرفة شهد كان غير محتمل خاصة مع عدم نوم يزيد الذي أحضرته شقيقتها إلى هنا قائلة أنه سيبقى لديهم اليوم، وحين سألت عن السبب سمعت ما لم يسرها أبدا، مقتطفات فقط علمتها مريم وقصتها عليهم بأن الخادمة تضع المخدر ل رفيدة، لم تحتج سبب أكبر من هذا لبقاء الصغير لديهم وفاقت من شرودها هذا على صوته يقول: شهد.

طالعته بغيظ وهي ترد عليه: عايز إيه يا يزيد، أنا عايزة أعرف أنت مش عايز تنام ليه؟..
هو مش الجو برد؟
أشار عليها قائلا بمراوغة: وأنتِ منمتيش ليه، هو مش الجو برد؟
ضحكت وجذبته من خصلاته سائلة: طب عايز إيه يا لمض؟
كان نائما جوارها ويتشبث بها وهو يلقى على مسامعها سؤاله: هو أنتِ هتبقى مرات بابا؟
مطت شفتيها بانزعاج معلقة على ما قاله: هو أنا مش باينلي هبقى مراته خالص، احنا شكلنا هنقضيها من بعيد لبعيد.

يعني أنتِ لما تبقى مرات بابا مين فينا هينام جنبه؟، أنا هقولك على حاجة أنتِ نامي في الأوضة بتاعتي وأنا اللي هنام جنبه.
شهقت باستنكار لما قاله وهي ترد عليه وقد اعتدلت في نومتها: نعم يا حبيبي، هو أنا هتجوز أبوك علشان أنام في أوضتك في الآخر؟، أنا طبعا اللي هنام جنبه.
اقترح عليها بحماس فكرته التي ظن أنها سترضيها كثيرا: خلاص أنا علشان بحبك هسيبك تنامي جنبه يوم، وأنا باقي الأيام.

ثم أخذ يعد على أصابعه وأكمل: أنا ست أيام وأنتِ يوم.
ضحكت ساخرة ثم ردت عليه وهو تطالعه بضجر: لا وعلى إيه بقى، خدوا الأسبوع كله وأنا هبقى أنام في حضن أمي.
طب أنا جعان.
تنهدت بغيظ ثم أردفت: دلوقتي؟..
رسم الحزن على وجهه فهزت رأسها قائلة وقد أرغمها: حاضر هقوم أعملك سندوتش.
تركت الفراش وتحركت نحو الخارج متمتمة بانزعاج: قال هو ست أيام وأنا يوم، وعلى إيه بلاها جواز أحسن.

وقفت في المطبخ تعد له ما سيتناوله وحين عادت وجدت الصغير يقف على المقعد في شرفتها ويحدث أحدهم، فانكمش حاجبيها باستغراب ودخلت إلى شرفتها سائلة: بتكلم مين يا يزيد
نظرت من الشرفة فلم يكن سوى طاهر الواقف في الأسفل، طالعته باشتياق وظهر على وجهه إرهاقه وهو يقول: شهد لو سمحتي نزلي يزيد، خليكي ونزليه.

قال هذا مراعاة للتوقيت المتأخر ولكنه لم يستطع عدم رؤية ابنه في نهاية يوم كهذا استنزفه تماما، نزلت شهد وكانت بمفردها فعلق وهو يضرب على رأسه: يا بنتي مش قولتلك خليكي ونزلي الواد.
ردت على هذا بحزن: وشك بيقول إن اليوم حط عليك جامد.
هز رأسه مؤكدا صحة قولها فأعطته ابتسامة حانية وهي تطمئنه: ولا يهمك، لو اليوم حط عليك النهاردة حط أنت عليه بكرا وفاجأه.

ضحك وكذلك هي، لم ترد سؤاله عن أي شيء فإنهاكه يشرح أنه لن يستطيع سرد ما حدث، أكملت هي قائلة: سيب يزيد يبات هنا النهاردة، وروح أنت نام، أحسن هو فايق على الآخر ومش هيسيبك تنام، هيطلع عينك أسئلة من بتاعة بعد الساعة 12 دي.
كان الصغير واقفا في شرفتها فسأله: تيجي معايا يا يزيد ولا هتبات عندك النهاردة؟
غمزت شهد للصغير فرد بابتسامة: خليني مع شهد يا بابا.

ابتسم طاهر وهو يسأل ابنه بتهكم: بقت كده يعني؟، خلاص خليك عندك.
كان سيرحل ولكن استوقفته شهد قائلة: استنى.
مدت له يدها تقدم له الساندوتش متابعة: خد كل ده.
قطب جبينه سائلا بضحك: ساندوتش؟
هزت رأسها قائلة بابتسامة: اه أنت أكيد جعان، حالتك تصعب على الكافر.
تناوله منها بغيظ وهو يرد عليها: يا بنتي ما تكملي الجملة عدل.
هتفت بتصنع البراءة: ما هي عدل اهي، أنا عملتلك حاجة يا كابتن سفيه أنت.

حرك رأسه بمعنى أنه لا فائدة وتحرك مغادرا وهو يقول: أنسة متدنية.
بس بتحبها.
كان هذا قولها الذي جعله يستدير ويطالعها بابتسامة أسرتها ولم تفق من شروده بها إلا حين نبهها الصغير فهرولت عائدة إلى أعلى وأكبر ما يشغلها هو.
لا تحلق الطائرة وحدها بل تشعر أن فؤادها يحلق معها وهي تجاور شاكر وقد قالت بحزن: أنا أسفة يا حبيبي.

خلاص يا بيري، بس مينفعش نقطع أجازتنا علشان خاطر بنت عمك اللي هي أصلا مش مكلفة خاطرها ترد عليكِ.
ضغطت على شفتيها بحرج ثم بررت له موقفها مسرعة: شاكر، ندى اختي مش مجرد بنت عمي، وأنا متأكدة إن عندها مشكلة، وبعدين يا حبيبي شرم الشيخ مش بعيدة، نرجع بس القاهرة أشوف في إيه وبعدين نبقى ننزل أجازة تاني في أي وقت.
كانت تقاسيمه منمكشة توحي بغضبه فطلبت بابتسامة: طب اضحك بقى علشان خاطري.

أخيرا ابتسم وهو يخبرها: مبقدرش ازعل منك.
ضحكت بحب وأسندت رأسها على كتفه في نفس اللحظة التي لوى هو فيها شفتيه امتعاضا من الأمر بأكمله ومن وجود تلك التي خدعها قبل لحظات بقوله أنه لا يستطيع خصامها، يريد لو صرح لها كم هو سعيد من أجل عودتهما، يود لو أخبرها بأن أكثر ما أسعده في رحلته معها هو انتهاء هذه الرحلة.

تغط في سبات عميق لم يكن يشغلها خلاله أي شيء، بتعبير أدق سرقها النوم منها ولكن كانت أمها الأقوى حين دخلت تناديها بنبرة عالية: علا، أنتِ يا زفتة يا علا.
فاقت من نومها ورددت بتذمر: استغفر الله العظيم يارب، في إيه يا ستي على الصبح.
قصدك العصر يا روح أمك.
كان هذا رد والدتها المتهكم والذي تابعته بقولها: قومي البسي علشان محسن وأخوكي تحت، شكلك عملتي مصيبة.

انكمش حاجبي علا باستغراب وهي تسألها: أخويا إيه؟، هو مش مسافر؟
هتفت كوثر بغير رضا: رجع علشان المحروسة عايزة ترجع، هي مش معاه تحت، هو لوحده.
زفرت علا بضجر قبل أن تترك فراشها مقررة النزول لمعرفة سبب الاستدعاء، بدلت ملابسها لآخرى تتلائم مع وجود محسن وما إن نزلت حتى هتفت بابتسامة: حمد الله على سلامتك يا أخويا.
ابتسم شاكر وهو يعلق على قولها بسخرية: لا سيبك من سلامتي دلوقتي، خلينا في المفيد.

حول نظراته ناحية محسن وهو يستكمل: هو أنتِ صحيح قولتي لمحسن إنك مش عايزة تكملي؟
ردت بانفعال وهي تطالع محسن بنظرات غاضبة: أنت عارف من الأول يا شاكر إني مش عايزة أكمل.
اقترب منها شقيقها ومسح على خصلاتها برفق هاتفا: وأنا معنديش مشكلة يا حبيبتي إنك مش عايزة تكملي.
ابتلعت ريقها بتوتر من هذا التحول الصادم وسألته بغير تصديق: بجد يا شاكر؟

هز رأسه مؤكدا فلمع الأمل في عينيها في اللحظة ذاتها التي اعترضت والدتها: ايه الكلام ده يا شاكر، دي مياعة بنات وقلة أدب.

في اللحظة ذاتها التي اطمأنت فيها علا تحولت اللمسات الحانية على خصلاتها إلى آخرى جذبت هذه الخصلات حتى كادت تقتلعها فصرخت بعنف وهو يقول ببرود العالم بأكمله: بس عندي مشكلة في إنك قولتيله إنت دلدول شاكر، عندي مشكلة إنك قولتيله إنه مش راجل علشان موقفنيش عن ولا حاجة من الحاجات اللي عملتها.
صاح محسن باعتراض على استخدام شاكر لهذه الطريقة معها: سيبها يا شاكر أنا قولتلك علشان نتكلم بالراحة.

صرخت علا وألقت بكلماتها بغل كبركان انطلق للتو: أكبر دليل إنه دلدول إنه جه حكالك اللي قولتهوله، اسأله بقى ياراجل زق اختك وقعها ازاي في المطعم وفرج عليها الناس.

لم يهتم محسن بما تقول بقدر حرصه في هذه اللحظة على تخليصها من يد شقيقها الذي تمكن منها، وما إن خلصها وابتعدت عدة خطوات حتى أكملت: واه أنت عملت حاجات كتير كان لازملها وقفة، ومحدش فينا وقف، أنت خلتني كنت هبوس إيد ابن نصران علشان يبعد عنك، عيال نصران اللي فرجوا البلد كلها عليك ليلة فرحك.

صاح بشراسة وهو يحاول إبعاد محسن عن طريقه ليصل إليها وهو يسبها فردت عليه وهي تبصق: اتفو عليك يا قليل الأصل، بتشتمني بأبوك، أبوك اللي مات بدالك، و ذليته في آخر أيامه.
جذبتها والدتها هذه المرة وهي تردعها بانفعال: بت أنتِ اخرسي خالص، أنا مش عايزة اسمعلك حس.
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا شيخة
وصل لها شاكر أخيرا واستطاع القبض على مرفقها فصرخت بوجع: سيب حرام عليك…

لم يأبه لتوسلاتها وهو يقول لها: أنا مقولتلكيش روحي اتذلي لحد علشاني، أنتِ اللي سكتك الذل.
بالله عليك يا شاكر خلاص.
كان هذا قول محسن الذي جاهد حتى لا يتطور الأمر أكثر من ذلك في حين أكمل شاكر: شايفالك شوفة مش كده؟، قوليلي بس علشان أبقى عارف.
ردت عليه بعينين يذكراه بفعلته: زي الشوفة اللي شوفتها لنفسك وكلت بعقلها الحلاوة؟

من جديد خصلاتها بين يديه وهو يقول دون أي تأثر بصراخها: علشان خاطر أمك دي لو طلعتي شايفالك شوفة هكون رحيم بيكِ وأقتلك بس.
لجأت لآخر بطاقة، البطاقة التي لم تكن تعلم أنها ستلجأ إليها أبدا: وعلشان خاطرها برضو لو مبعدتش عني يا شاكر هفضحك بس قدام بيريهان وعيلتها كلها.
أخبرها بما تدرك جيدا أنه يستطيع فعله: ساعتها هنسى انك اختي، وقبل ما كلمة واحدة تطلع منك هتكوني في قبرك يا علا.

شهقة مصدومة صدرت عن والدتها وغادر هو إلى غرفة المكتب وكأنه لم يفعل شيء تاركا خلفه شقيقته وقد حملت عيناها عبرات لا تنم إلا عن قهرها.

ذهبت معه، لم ترد تركه وحيدا في موقف كهذا، تطلع إلى المكان الذي اختاره والده لتبقى به شقيقته، منزل قديم يبدو عليه البساطة يطل على المساحات الخضراء، أول ما شعره هنا هو الدفء، ابتسم عيسى على اختيار والده الذي علم بعد لحظات حين قابل عز أن المنزل تابع لوالده حيث قال: أمي بتقولي إن أبويا الله يرحمه مكانش يحب يقعد مع الحاج نصران والرجالة غير هنا، البيت ده أبويا ورثه عن جدي، يمكن قديم وصغير بس القعدة فيه ميتشبعش منها، جوه حلو، وأنا متأكد إنه أحسن إنها هنا.

ابتسم له عيسى ورحب عز بهم قائلا: اتفضل يا عيسى، اتفضلي يا مدام
لا…
كانت ستعترض، لم تعتد على هذا اللقب بعد لدرجة جعلتها تنسى وتعترض ظنا منها أنه أخطأ ولكن عيسى تدارك الموقف مسرعا بقوله: معلش أصل هي الأماكن الجديدة بتوترها، اتفضل يا عز واحنا وراك.
ما إن دخل عز حتى طالعها عيسى بنظرات غاضبة وهو يسألها: هو إيه اللي لا؟
بررت موقفها قائلة بسرعة: اتلغبطت والله العظيم، مش متعودة حد يقولي مدام دي.

ثم تابعت بهجوم: وبعدين متبصليش كده، ما أنت لحقت الموقف.
رد على هذا بقوله: لحقته علشان ميبقاش منظري زفت قدام الراجل وأنتِ بتقوليله لا مش مدام، أختك أنا ولا إيه؟
دفعها أمامه متابعا بضجر: امشي يا ملك الله يكرمك أنا مش ناقص.

دخلا معا وأرشده عز إلى الغرفة التي تقبع بها شقيقته وقد رافقتها والدتها ووقفت والدته في المطبخ الصغير تعد للقادمين الشاي ولكن قبل أن يدق عيسى على باب الغرفة خرجت سهام التي وقفت أمام الباب قائلة: رفيدة يومها كان صعب جدا النهاردة، وما صدقت إنها نامت شوية بعد الدوا، تعالولها وقت تاني.
شعر عز بالحرج، واشتعل عيسى الذي رد عليها بابتسامة: الحاج بيفكرك بكلام امبارح وإنك تروحي دلوقتي علشان يزيد.

جذب كف ملك وفتح باب غرفة شقيقته ودخل وقال قبل أن يغلق الباب في وجه سهام بابتسامة صفراء: ابقي تعاليلها وقت تاني.
بمجرد أن دخل تحول إلى آخر، كست عينيه نظرات حانية وأسرع إلى أقرب مقعد جوار فراش شقيقته وجلس عليه، كانت بالفعل نائمة ولكن بدا على وجهها الانطفاء والذبول، مسح على كفها برفق وقبل باطنه.

كانت ملك تراقب كل تفصيلة تصدر منه، تراقب لهفته على شقيقته، حبه الذي لا يخشى التعبير عنه في أفعاله، بقى معها مدة يراقب نومها قبل أن يقرر الخروج حتى لا يقلقها وقبل أن يرحلا توجه إلى عز بعيدا عن ملك وقال: أنا عارف إن والدتك مش هتقصر يا عز وقاعدة معاها علطول، وكمان الست سهام شوية وهتلاقيها راجعة مع حسن. بس أنا عايزك كل شوية تيجي تبص عليهم، وطلب كمان لما رفيدة تهيبر أوي اتصل بيا وأنا هجيلك علطول وعلشان اتصرف واخلي الحاج ميجيش هنا لأن زي ما أنت عارف هو تعبان.

طمأنه عز بقوله: متقلقش يا عيسى كأنك موجود وأكتر، مش هتوصيني عليها…
بنت الحاج نصران غالية.
ربت عيسى على كتفه وتوجه للخروج برفقة ملك، أراد لو بقى هنا طوال الوقت ولكن والده أمره بالرجوع وهو على يقين أن هناك استجواب خاص باللقاء الذي حدث بينه وبين صاوي.
كان يسير جوار الأراضي الزراعية شاردا ولم ينبهه إلا صوت ملك التي قالت: هو أنا ممكن أقولك حاجة ومتضايقش.
ابتسم وهو يرد عليها: يبقى حاجة تضايق، في إيه؟

يتوجب عليها إخباره حتى يجد الحل لذلك وبعد تردد أخبرته: هو الست اللي أنت كنت قايلها تقعد مع ميرت في القاهرة عشان لو تعبت أو كده.
مجرد ذكر اسم خالته جعل الضيق يتمكن منه، لا يرد على أي مكالمة منها منذ ذلك اليوم الذي سمحت فيه لزوجها بالدخول بعد كل ما حدث.
أكملت ملك وقد لاحظت التغير الذي طرأ على وجهه: هي بتقول عايزة تمشي، هي كلمتك وأنت نايم كتير وأنا اضطريت أرد علشان خوفت يكون في حاجة.

عايزة تمشي ليه هي مش بتاخد حقها؟
أسرعت تنفي عنها هذا وهي تبرر بحرج: لا هو مش حكاية فلوس، بصراحة يعني هي بتقول إن كارم بيتعرضلها.
أغمض عينيه وهو يسبه وانتظرت هي رده على أحر من الجمر فقال: قوليلها تسيبها وتمشي، وباقي حسابها هيوصلها.
ثم تدارك قائلا: ولا أنا هقولها.

أسرعت تعترض على هذا قائلة: يعني إيه تسيبها وتمشي يا عيسى، هو أنت مش قايلي ميرت كتير بتتعب وبتكون محتاجة حد جنبها وأغلب الوقت جوزها مش بيكون موجود.
رد متصنعا أن الأمر لا يخصه: هي اللي اختارت تبقى مع اللي بيتعبها، تستحمل بقى، لكن البنت ملهاش ذنب علشان تستحمل إن الكلب ده يتعرضلها.
بان الرجاء في نبرتها وهي تطلب منه: طب شوف حل تاني بدل تسيبها خالص ده.
خلاص يا ملك أنا هتصرف.

كان هذا قوله الذي جعلها تبتسم باطمئنان فاستدار يسألها: بتضحكي على إيه؟

جاوبته بصراحة بدت في عينيها اللامعتين: لما بشوف حنيتك دي بحس إن أنا متطمنة، حنيتك ولهفتك على اختك خلتني في لحظة غيرت، اتمنيت لو كان عندي حد يبص عليا نفس البصة دي وأنا تعبانة ويبقى ملهوف كده، وبعدين افتكرت إنك بصتهالي قبل كده كتير ففرحت، بس خوفت في يوم تحرمني منها، أو من حنيتك دي، خوفت تيجي لحظة أدور عليها ملقيهاش، بس اللي طمني إني عارفة إنك حد حلو.

سألها باستنكار رافعا حاجبيه: حد حلو؟ إيه حد حلو دي؟
أنتِ آخر كلمتين دول طيرتي بيهم اللي فات كله
لم تنتظر رد كهذا بعد كل ما قالته فطالعته بغيظ واستدارت للجهة الآخرى، ابتسمت خلسة فسألها ضاحكا بمراوغة: بتضحكي ها؟
اتسعت ضحكتها وتحدث هو بتصنع الغرور: أنا عارف فعلا إني حد حلو، وحنين، وأتحب كده و ا…

قاطعته قائلة جملته التي نشرها على حسابه الخاص: إيه ده في إيه، أراك تتحدث وكأن الكواكب تدور من حولك في حين أريد سؤالك: أكمل هو بضحكة أسرتها وقد مال ناحيتها قبل أن تكمل: أنتِ حد مهم يعني على الليلة دي كلها؟
وكزته في كتفه معلقة: يا مغرور.
ما ليا حق أتغر ده أنتِ حافظة ال posts اللي بنزلها.
بررت هذا قائلة بادعاء عدم الاهتمام: مين دي؟، ده بس عجبني فعلق معايا.

أردف بابتسامة: ملهوش لزمة الكلام، عينك اتكلمت وقالت اللي عندها كله.
علقت على قوله بسخرية: خبير عيون حضرتك؟
أستاذ وأنتِ عارفة.
ضحكت وهي تحرك رأسها بمعنى أن لا فائدة ثم أخبرته بحنين: تعرف إن الأوضة الصغيرة اللي رفيدة قاعدة فيها دي، فكرتني بالأوضة بتاعتنا في بيت عمي…

ضحكت بسخرية وهي تخبره: كان مقعدنا في أوضة واحدة، وبالرغم من كده كنت بعتبرها أحسن مكان في البيت ده، أكتر مكان كان فيه ريحتنا كده، كنت بحب شباكها وبقف لما ازعل اتفرج منه على الجنينة…
لمعت الدموع في عينيها وهي تخبره بتأثر: ذكريات سنين كتيرة أوي سيبتها فيها وأنا بهرب، ملحقتش أودعها، ملحقتش حتى اخد حاجتي اللي فيها هدومي وكتبي وصوري، نفسي اللي كانت هناك، ملك القديمة.

ابتسم بعد ما قالته وجذب كفها قائلا: طب تعالي
انكمش حاجبيها باستغراب فوضح هو: حابب أتعرف على ملك القديمة.
هل يقصد الذهاب إلى منزل عمها، اتسعت عيناها على وسعيهما وسريعا ما عبرت عن رفضها قائلة: عيسى لا علشان خاطري، وبعدين دول أكيد رموا كل الحاجات دي، أنا مش عايزة أروح هناك.
هنروح.
كان هذا جوابه الذي اعترضت عليه بإصرار: لا مش هروح.
جاوبها بابتسامة تخبرها أن ما يقوله هو ما سيحدث: لا هنروح يا ملك.

أسرعت في خطواتها مبتعدة عنه وهي تقول: روح لوحدك، أنا مش راحة.
كان إصرارها إصرار محارب ولكن لا تعلم كيف أصبح كفها الآن يحتضن قبضته وهي تقف جواره أمام منزل عمها، لا تعلم كيف استجابت له وتقدمت معه إلى هنا، أخرج مفاتيحه من جيبه ثم فتح الباب وهو يخبرها: أنتِ دلوقتي صاحبة نص البيت ده، مش أوضة.
ردت عليه مصححة: أنت اللي صاحب أنا بيعت ليك على فكرة.
هوس اسكتي.

صمتت وتحركت معه نحو الداخل، استطاعا سماع صوت شجار عالي يأتي من الأعلى وتبينت هي صوت علا ووالدتها، ما طمأنها هو علمها بأن منزل الزوجية الخاص بشاكر في القاهرة، بعيدا تماما عنها، تحركت مع عيسى ترشده إلى غرفتها القديمة والذي قد علق على صوت الشجار بسخرية: الله يعينهم.
وصلا معا أمام الغرفة ولكن كانت مغلقة، مما جعلها تقول: شوفت، يلا نمشي بقى.

لم يستجب لها بل استدعى الخادمة التي ألجمتها صدمة تواجدهم وأحضرت المفتاح دون نقاش خوفا من ردة فعل هذا المتأهب، فتح عيسى الباب ودلفا معا إلى الداخل، ابتسمت وهي تتطلع إلى كل إنش هنا، هرولت ناحية خزانتها وما إن فتحتها حتى بهت وجهها لقد أصبحت فارغة تماما مما جعلها تقول: مش قولتلك أكيد حاجتي مبقتش موجودة.

لم تهتم كثيرا بقدر ما اهتمت تشرح له بفرحة مشيرة على الموقع الذي خصها: أنا كنت بنام هنا، ووقت ما كنت عايزة أركز وأنا بذاكر كان بيبقى هنا، والشباك ده كنت علطول واقفة فيه
ابتسم على حماسها ولكنه لم يدم طويلا حيث قالت: ورغم حاجات كتير أنا بحبها عيشتها هنا لكن مش فاكرة حاجة قد خنقتي وأنا بحاول أمشي من الأوضة دي.
جذبها عيسى قائلا: أوعدك طول ما أنا عايش هحاول أنسيكِ الإحساس الوحش ده.
أنا بحبك أوي.

تصريحها العفوي هذا قادر في كل مرة على جعله أسير لها، وكان رده ألطف ما سمعته حين قال بضحكة أجبرتها على الضحك: وأنا بحب ملك القديمة، وملك الجديدة، وملك بتاعة من سنة، وملك بتاعة أول امبارح، وملك بتاعة النهاردة.
سألته وقد استخدمت طريقته في المراوغة: يعني أخرك النهاردة؟، لا كده أنت عايز نكد بقى، فين بتاعة بعدين؟
يا حبايبي.

نبرة جمدتها وأخفت الضحكة من وجهها، صوت تحفظه عن ظهر قلب، صوت شاكر، توجهت أنظارهما معا نحوه فحث هو عيسى أثناء جلوسه على حافة الفراش: قولها يلا فين بتاعة بعدين؟
ابتسم عيسى وجذب كفها وكأنه يرسم قلب بأصابعه أمام عينيها التي كانت قد تشتت نحو شاكر ولكنها سريعا ما انتبهت له خاصة حين ختم ما يفعل بقوله: بتاعة بعدين في قلبي.

ابتسمت بتوتر فحذرها بنظراته أن تظل ثابتة وخاصة حين سأله شاكر بضحكة: طب مش تقفل الباب عليكم؟..
افرض كنت دخلت وهي قالعة الطرحة ولا حاجة
ثم ظهر في نظرات شاكر بريق أشعل الواقف أمامه وزاد من إشعاله قوله: هو أنا بقول علشان منظركم بس، لكن هي كده كده مش هتفرق معايا، أنا شوفت شعر ملوك كتير.

كانت القاضية فبعد قوله حاولت ملك بكل جهدها ألا يشتبك عيسى معه خاصة وهو يقول: مالك بس اتعصبت كده ليه، أنا أقصد وهي صغيرة يعني ما هي مش مولودة بالطرحة.

تخطى عيسى ملك أخيرا ليصبح أمامه، لكمه في وجهه فاستقام شاكر وقد تحولت نظراته لآخرى قاتمة وهو يرد الضربة له فاشتبكا معا حتى حضرت كوثر التي جعل حضورها عيسى يقول بغضب: أنت بقى يا حيلة أمك المفروض نلبسك نقاب مش طرحة، تدارى فيه بعد ما خليت أمك على تكة وتبوس رجل أبويا علشان نبعد عنك.

انكمش حاجبي شاكر الذي استدار لوالدته طالبا منها أن ترد ولكن مع صمتها صاح بانفعال: حصل الكلام ده يا اما؟، أنتِ روحتي لأبوه وقولتيله كده؟
لم تعرف ماذا تقول وأمام صمتها ابتسم عيسى بشماتة، مسح بكمه الدماء من جانب فمه وجذب ملك ثم همس جوار أذن شاكر: متتعبش نفسك وتشتري، أنا هبعتهولك هدية.
طالعه بعدم فهم فغمز له عيسى مفسرا: النقاب.

خرج برفقة ملك وكأنه لم يفعل شيء، وكأنه لم يلق قنبلة موقوتة للتو بين الابن ووالدته، ما ألقاه نجح في شحن الابن بالغضب جيدا ليكون أول مصاب متوقع بهذا الغضب ليس سوى واحدة، واحدة كانت نظراته كافية لقتلها، ليس سوى والدته.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *