التخطي إلى المحتوى

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل السابع

ابطأ من سرعته حين وصلنا لأرى أنه اقترب كثيرا من المنزل ذو العلو الضخم في تصميمه، ولكنني خمنت أنه كان من طابقين إضافة إلى سطحه، كان تخميني استنادا إلى النوافذ ذات التصميم الحديث العاكس للضوء والتي تلمع بشدة دلالة على نظافتها الشديدة، عندما أوقف السيارة أخيرا وجدت اننا وقفنا أمام دوار كبير يتوسطه تمثال والماء ينسكب بغزارة على علو بسيط وبعده مباشرة درج المنزل الذي لمحت أشخاصا يقفون أعلاه!

بصراحة دب القلق والتوتر في قلبي والتصقت بالكرسي، بل كدت أخترقه! بينما نزل جيمي بمرح وحماس واتجه نحو الدرج، عندما ركزت أكثر رأيت أن الواقفون كانوا طاقم خدم مكون من امرأتين ورجل ويحدقون إلى السيارة بترقب.
حملت إحداهن جيمي الذي قفز نحوها، كانت كبيرة وبدت في نهاية عقدها الخامس تقريبا، نحيفة الجسد تقف بشموخ، ولكنني لم أتمكن من رؤية تفاصيل وجهها بسبب المسافة.

انتفضت عندما قال كريس بهدوء: ما الذي تنتظرينه؟ أن أنزلك بنفسي؟!
طرفت بعيناي بعدم استيعاب: هاه!
ارتفع حاجبه الأيسر فقلت بهدوء شديد محدقة إليه بثبات: لقد خُدعت بتصرفاتك، ظننت أن أربعة ملايين كانت ورطة حقيقة بالنسبة لك. اتضح انها مجرد عملات لا قيمة لها يا كريس. لقد قمت باستغلال تمزق الأوراق لتقنعني فقط.
لم يكن هذا ما أقنعك. أتيت بمشيئتك الخاصة يا شارلوت.

أضاف بإستهزاء: أراهنك بأغلى ما أملك بأن ما قادك للذهاب معي لم يكن سوى الفضول وحماية كبريائك بكل الطرق.
لن أنكر هذا. ولكنني لن أسامحك أيضا طالما حييت على مواصلة خداعي بحيلة تلو الأخرى.
لماذا تعتقدين ان شعورك نحوي يهمني كثيراً؟ تسامحينني؟ ما الذي من المفترض ان يهمني في الأمر؟ كيف سأستمع لو كنت راضية بهذه الأحداث؟
آه نعم. صحيح، نسيت أن هدفك النبيل هو تعذيبي.

ابتسم بصمت ولم يعلق فهمست وانا أنزل بحدة: تأكد بأنك ستندم على قرارك بجلبي إلى هنا.
سمعته يقول قبل أن أغلق الباب: كوني على طبيعتك ولا تشعري أي شخص بأي شيء، الجميع يعتقد أنني سأجلب زوجتي العزيزة.

لم أعلق وإنما اغلقت الباب بقوة لأستفزه إلا أن ذلك لم يحرك منه شعرة، بل ترك السيارة تعمل ونزل كذلك لألاحظ أحد الخدم قادم من خلف المنزل واتجه للسيارة، لم أتعب نفسي في التفكير إذ كان واضحا انه سيأخذ السيارة إلى مكانها المخصص.
وقفت أنتظر ان يصل كريس إلى مكاني وحينها همس وهو ينظر إلى من يقفون في الأعلى: أرجو ان تحسني التظاهر.
لا تلقِ بالأوامر على وإلا أفسدتُ كل شيء حالاً.

قلتها وتقدمته فتبعني لنصعد الدرج وحين وصلت إليهم ابتسمت بهدوء وأنا أتمعن النظر بهم لأعرف كيف ينبغي على ان أتخذ الخطوة التالية، كان جيمي واقفا بجانب تلك المرأة الكبيرة ذات الملامح الحادة، كانت خطوط الشيب قد اتضحت بجانب عينيها ولكن لها عينان داكنتان مفعمتان بالحيوية، وثغرها الذي اعتلته ابتسامة رسمية جداً، كما أنها تحدق إلى بتركيز شديد مما دفعني لأحاول جاهدة إخفاء توتري.

مدت يدها لتقول: مرحبا بك آنسة شارلوت. أنا مدبرة المنزل هنا.
أسرعت أقول بتدارك: أنتِ السيدة أولين إذاً، تحدث جيمي عنك ومدحك كثيراً.
أخبرني كريس عنك كذلك، في الواقع فاجأنا كثيراً عندما أعلن أنه سيأتي برفقة زوجته. حدث كل شيء فجأة!
تدخل كريس وقد احاطني بذراعه وابتسم بلطف: الجميع هنا سيحسن معاملتك والاعتناء بك ولا سيما السيدة أولين، لو احتجت أي شيء فاعلميها وحسب.

بادلته الإبتسامة اتظاهر باللطف وأجاريه: بكل تأكيد.
أشارت أولين نحو تلك الشابة التي ترتدي ملابس الخدم وقالت: إنها آنا. أفضل الخادمات هنا وستكون دائما إلى جانبك لو احتجت أي شيء لذا لا تترددي.
تقدمت المدعوة آنا التي كانت تبدو في بداية العشرينات من عمرها، إنها فتاة يافعة وجميلة ذات شعر قصير حالك السواد وعينان تناقضان هذا اللون ببريقهما الأزرق اللامع.

استوعبت امر يدها التي تمدها إلى فأسرعت أصافحها مبتسمة: مرحبا آنا.
اهلا بك آنسة شارلوت. أرجو أن تقضي وقتا ممتعاً وأيام سعيدة في منزلك الجديد.
قالتها بلطف مع وقفة انتصاب رسمية فأومأت برأسي بلطف: شكرا لك.

حينها نظرت بدوري إلى الرجل الواقف على يمينها والذي تقدم فوراً بإتجاهي، كان رجلا يبدو في أواخر الخمسينات من عمره، لديه ملامح تبعث الراحة والسكينة في النفس بتلقائية، متوسط القامة ذو بشرة تميل إلى الإسمرار، وقف أمامي ليقول كريس: إنه السيد مايكل. يعمل سائقا هنا منذ زمن بعيد جداً، لن يقصر معك في حالة رغبتك في الذهاب إلى أي مكان.

مع أنه قال تلك الجملة إلا أنني أدركت في معناها العميق أنه لن يسمح لي ولو بمعرفة ما يعنيه الخروج أو الإستمتاع و قضاء وقت ممتع!
هذا ما استقبلته من نظرته وهو يبتسم لي أمامهم بذلك اللطف المزيف والذي أثار اشمئزازي، إلا انني حافظت على ثباتي ورباطة جأشي وقلت: أهلا سيد مايكل. تشرفت بمعرفتك.
ابتسم مميلا برأسه: اعلميني إن إكنت بحاجة لأي شيء يا ابنتي.

بعدها اشارت لي السيدة أولين بالدخول ولكنني وقفت عندما قال جيمي بحماس: أبي. هل يمكنني زيارة شارلي؟
تمتم كريس بهدوء: لا داع لذلك. سأخبر والديه بأن يصحباه إلى هنا.
زم جيمي شفتيه وهمس: لماذا لا يمكنني الذهاب إلى منزلهم!
لأنني قلت بأنه من سيأتي.
قالها منهيا حديثه وقد ابعد ذراعه عني: سيدة أولين، آنا. سأترك الباقي لكما، وأنت يا جيمي لا تجرؤ على التهور أو التفكير بأي شيء يناقض ما أقوله لك.

انهى جملته تلك وهو يفتح الباب ليدخل: سأسبقكم. لدي عمل على إنهاؤه.
ارتد الباب ليُغلق، فنظر جيمي إلى السيدة أولين حين تأكد من أن كريس قد ابتعد وقال برجاء هامس: لماذا شارلي هو من يأتي دائماً! أريد الذهاب إلى منزله ولو لمرة!
أجابت أولين متنهدة: هذا ما قاله والدك فما عساي أفعل يا جيمي!
ولكنه يستمع إليك دائما لماذا لا تقنعيه!

هيا يا عزيزي أسرع وقم بتجهيز الألعاب كالعادة. إنه قلق بشأنك ولا يريدك أن تغيب عن أعيننا لذا احرص على الاستمتاع بوقتك ولا تفكر كثيراً.
امتعض بشدة ثم نظر إلى لثوان قبل ان يبتسم: أمي. سوف أكون بانتظار شارلي في غرفتي. أخبرني أبي بأنك ستكونين مشغولة اليوم ولكن عليك ان تعديني باللعب معي غداً!
حدقت إليه لثوان استنكر كلمته (غدا) هذا يعني أنني بالفعل سأقضي الثلاثة اشهر هنا.
أعلم بانني أيدت الأمر ولكن.

وكأن ما قاله وجه لي لطمة قوية، وجعلني أدرك أنني قد أكون تهورت للحظة في حديثي السابق مع كريس بالموافقة على المجيء إلى هنا!
تجاهلت أفكاري بصعوبة واملت برأسي: بكل تأكيد يا جيمي، أعدك.
أسرع يدخل مبتسما بحماس فقالت أولين بشيء من الحزم بملامحها الحادة: آنا، أخبري الآنسة شارلوت بالتفاصيل التي ستحتاجها.

ثم وجهت نظرها نحوي: سأذهب لأشرف على بعض الأمور ثم أعود إليك يا ابنتي، ستكون آنا برفقتك مؤقتا حتى انهي ما بيدي.
بكل تأكيد سيدة أولين، ولكن لا داع لتتعبي نفسك لا بأس.
ابتسمت لي بهدوء واستأذنت لتدخل، غادر السيد مايكل كذلك فبقيت مع آنا وحدنا.
التفت إليها بحيرة فأسرعت تقول برسمية: اتبعيني من فضلك آنسة شارلوت.

فتحت الباب الذي كان بلون بني بدرجة داكنة تزينه نقوش بلون ذهبي فاتح ولامع، الباب فقط جعلني أحدق إلى نقوشه بتمعن أخفي اعجابي ورغبتي في لمسه لتحسس بروز هذه الزخارف.

تبعتها لأجد الردهة أمامي فوراً، كانت ردهة ضخمة ذات أرضية من البلاط الأبيض السكري تنعكس عليه انارة السقف التي كانت تصدر من الثريا الضخمة في المنتصف، في المقابل مباشرة رأيت درج ينعطف في نهايته إلى اليمين والشمال، وعلى يميني لمحت باب يشبه باب الدخول إلى حد ما، لمحت عدة طاولات أنيقة وُضعت عليها المزهريات المنوعة في الردهة، تلك المزهريات كانت داكنة لتكسر اللون الأبيض للأرضية، فإما مزهرية سوداء او ذات لون مختلف داكن، الشيء المشترك الوحيد ان كل منها كانت أجمل وأروع من الأخرى!

اشارت آنا بيدها نحو الباب الذي على يميني وقالت: إنها غرفة الجلوس، هي أكبر بكثير من تلك التي في الأعلى، غالبا ما يجتمع الجميع هنا.
أملت برأسي بفهم فاستدارت ليساري فنظرت حيث تشير، كان الباب الموجود في جهة اليسار قبل الدرج، تحركت فتبعتها لتفتح بدورها الباب.
دخلت لأتأمل المكان لتسرع قائلة بلطف وهي تحدق إلى ثم علقت بصوت خافت ممازحة: لا داع لأشرح أي نوع من الغرف هذه آنسة شارلوت.

ضحكت بخفوت: من الواضح انها غرفة الطعام.
تأملتها بشرود وإعجاب رغما عني، فجدران هذه الغرفة كان أحدها حائط زجاجي بالكامل يطل على الحديقة التي كنت أقف أمامها للتو!
أبهرني النظر للمكان كثيرا وتقدمت لأدخل أكثر، الطاولة في المنتصف كانت طويلة، ستة مقاعد على اليسار وعلى اليمين، ومقعدان على رأس الطاولة في الجهتين.

وُضع عليها الكثير من أدوات الطعام من أطباق لامعة انعكست عليها أشعة الشمس، وملاعق وما شابه يلفها قطعة منديل مثلثة الشكل رُتبت بعناية فائقة.
لم يكن في الغرفة شيء أساسي سوى هذه الطاولة التي اعتلتها ثريا تتدلى من السقف فوقها مباشرة ذات طابع قديم جميل! تصميمها لم يكن كالتي رأيتها في الردهة بل مميز ومختلف تماما.

وبالطبع لم تخلو الغرفة من وجود مدفأة كبيرة مقابل الطاولة وُضعت فوقها لوحات فنية مختلفة ولكن بألوان متناسقة، وكذلك رتوش لابد منها كالمزهريات أو رفوف لكتب معدودة بتصميم قديم أيضاً.
ابتسمت بشرود حتى قالت آنا: دائما ما يتناول الجميع طعام الفطور هنا عند السابعة.
ارتفع حاجباي بحيرة وأملت برأسي.
عادة ما اتناول فطوري عند الثامنة والنصف وما شابه. السابعة وقت مبكر جداً!

تساءلت بإهتمام: إن كان الفطور مبكراُ هكذا. فمتى يحين وقت العشاء ومتى موعد النوم؟
العشاء عند السابعة مساءً كذلك، أما موعد النوم فلكل من أفراد العائلة وقته الخاص، على سبيل المثال جيمي الوحيد الذي ينام مبكرا عند التاسعة وهو أمر لابد منه بأمر من السيد كريستوبال، بينما ينام السيد ستيف في أوقات متأخرة.
أضافت ضاحكة بخفوت: نلقبه بالسيد الخفاش لسهراته المتأخرة.

ابتسمتُ لها بإهتمام متمتمة: بدأت أشعر بالفضول للقائه.
أومأت ثم تداركتْ مسترسلة في الموضوع نفسه: والديه أيضا لا ينامان قبل العاشرة. وبالنسبة لطاقم الخدم فموعد نوم الجميع عند الحادية عشر.
هكذا إذاً.
ثم اعتراني ذلك الفضول لأتساءل: ماذا عن كريس؟

السيد كريس. حسنا في الواقع لا أعلم فهو يعود من العمل ليرتاح قليلا بالجلوس مع السيد جوش او السيدة كلوديا أو الآنسة تيا، وبعدها يعاود إكمال العمل في مكتبه في الاعلى لوقت متأخر من الليل.
من هي تيا!
ارتفع حاجبيها بإستغراب فاستقبلت استنكارها هذا بابتسامة سريعة: أقصد. ماذا عن الذهاب إلى مكان آخر؟
قلتها أحثها على الخروج، يا الهي لا يجب ان تشك في أي شيء.

سؤالي عن تلك المدعوة تيا كان غريبا بالنسبة لها وسيكون كذلك بالنسبة لأي شخص، فأنا الآن في نظرهم زوجة كريس المحبوبة ولا يجدر بالزوج العاشق ان يخفي أمرا سخيفا كهذا عن زوجته! لو كان هناك ما أريد السؤال بشأنه فسوف أقوم بسؤاله هو وحسب. يكفي أنني سألتها عن موعد نومه وهذا في رأيي سؤال غبي أحمق بالنسبة لصفتي زوجته الآن.

خرجنا من غرفة الجلوس ولاحظت أنها لم تشر إلى الأبواب الأخرى فخمنت أنه أمر غير ضروري، صعدنا الدرج الذي يتفرع للجهتين، كانت قد اتجهت لليمين قائلة: هذا الجناح لا يوجد به سوى ثلاثة غرف للنوم فارغة للضيوف، باقي الغرف في الجناح إحداها غرفة جلوس، والأخرى مكتبة السيد ماكس للكتب وللقراءة، وغرفة كذلك لألعاب جيمي الإضافية.
من يكون السيد ماكس! سمعت بهذا الإسم مسبقاً. ولكن متى؟

حاولت تذكر ذلك جاهدة حتى قررت استخدام حيلة المراوغة لئلا أثير الشك متسائلة: السيد ماكس هنا؟
تغيرت ملامحها ولم يخفى بريق الإستياء من عينيها الزرقاوان وهي تهمس: لا. السيد ماكس ليس هنا.
ارتفع حاجباي بحيرة: ولكنني كنت متشوقة للقائه بعد حديث كريس عنه!
طرفت بعينها سرعة وبدت متفاجئة وهي تسأل بعدم استيعاب: ماذا؟ هل أنت جادة آنسة شارلوت؟!

أضافت باستغراب شديد محدثة نفسها: أتكون علاقته بوالده قد تحسنت في الأيام السابقة!
إنه والد كريس!
حسنا لقد ارتكبت خطأ فادحاً! اتضح أن علاقته بوالده سيئة ولكنني قلت عكس ذلك! صحيح. لقد ذكرت كلوديا اسمه حين التقيت بها وهي تحث كريس على زيارته في المشفى!
أسرعت أبتسم: الأيام كفيلة بتغيير الأشخاص يا آنا، ألا يزال السيد ماكس في المشفى؟

تنهدت بعمق: ظننت لوهلة أن السيد كريستوبال قد حسن من علاقته بالسيد ماكس، ولكن عدم اخباره لك بحالته دليل على أن الأوضاع لا تزال سيئة.

أكملت بإستياء: آنسة شارلوت، زواج السيد كريس منك فجأة قد يكون غريبا ولكننا مسرورين بأنه قد قرر الزواج أخيراً! وطالما أنه أخبرك عن والده فأنا واثقة بأنه يحبك كثيراً. لم يكن ليتحدث مع أي شخص عن أموره الشخصية أبداً! الجميع يعلم بأنه كتوم جدا ويرفض الحديث عن مشاكله الخاصة، ولكن. أرجوك آنسة شارلوت اعملي جاهدة لإعادة المياه إلى مجاريها بين السيد ووالده!

ادهشني كثيرا رجاؤها ذلك وجعلتني أسقط في الحيرة والتشتت!
لم يكن على أن أثرثر بالهراء لأرضي فضولي! ما الذي على فعله الآن! ليس وكأنني أنوي التدخل في مشاكل كريس فهي لا تهمني أساساً.
ولكنني في النهاية أومأت برأسي بلطف: لا داع لكل هذا القلق. كل شيء سيكون بخير.

نظرت من حولها بحذر ثم اقتربت مني أكثر لتهمس: السيد ماكس رجل طيب ولطيف جداً آنسة شارلوت، سماعك عنه من بعيد لا يكفي! لو قابلته شخصيا فستحبينه أكثر وأكثر. المشكلة فقط أن.
ترددت كثيرا فقلت أحثها: كلي أذان صاغية!

عاودت تنظر من حولها ثم همست: المشكلة فقط ان الشجار الأخير بينه وبين السيد كريس قد أطاحه في الفراش منذ شهر وأيام معدودة. اعتدنا على ان يبقى في المشفى أيام قليلة ثم يخرج. ولكن. طالت فترة بقائه هناك وهذا يقلقنا! ربما لو أقنعتِ السيد كريس بزيارته والتفاهم معه ستتحسن صحته كثيراً.
و ربما لو أمضيت الوقت في مساعدتها على التعرف على المنزل لكان أفضل يا آنا.

قيلت بصوت جاد فاستدرنا بسرعة لنجد كريس في نهاية هذا الممر على بعد مسافة صغيرة منا.
كان يضع يديه في جيبه ينظر إلى آنا بهدوء، توترت بدورها وأسرعت تقول: عذرا سيد كريس. أعلم بأنني ثرثرت كثيراً.
اذهبي أنتِ وسأكمل الباقي.
و. ولكنني.
لا بأس.
قالها بهدوء وتقدم نحوي فبدت آنا مرتبكة وترددت كثيراً، تدخلت بلطف: شكرا جزيلا لك يا آنا لقد ساعدتني بحق، سيريني كريس بقية الغرف لذا لا تجهدي نفسك أكثر.

نظرت إلينا بترددها ذلك ثم أومأت: أرجو المعذرة.
وصل إلى ليضع يده على كتفي وقال: مهلا.
وقفت آنا والتفتت: ما الأمر سيد كريس؟
سيحضر جوش وعمتي خلال أسبوع تقريبا. أخبري الجميع بذلك ليقوموا بتجهيز الغرف.
حسناً.
عاودت تستدير لتكمل طريقها فنظرت ليده التي يضعها على كتفي وابتعدت عنه لتتلاشى ابتسامتي تماما.

تبادلنا النظرات المشمئزة للحظة، أخرج يده الأخرى من جيبه وقال بنظرة تعالي أغضبتني: تتمادين في اليوم الأول فقط. أعلم جيدا بأن آنا لن تثرثر بأي شيء لو لم يتم إستدراجها بالحديث. لست ذلك الأحمق الذي تظنينه.
قبل ان تحلق بأفكارك بعيدا دعني أخبرك فقط بأن السؤال كان بدافع الفضول فقط لا الإهتمام وما شابه. استئت لإنزعاجها وهذا كل شيء. ليس وكأنني أبالي بك وبأمورك يا كريس.
إنني أحذرك يا شارلوت.

همس بتلك الجملة وهو يقترب مني أكثر بحزم وأعقب: لا تجلبي الشبهات إلى علاقتنا، الجميع يعتقد أنني متيم بك! سيعتقد أي شخص ذلك حين أفاجئه بزواجي هذا، كما عليك ان تتوقفي تماما عن التدخل في خصوصياتي لذا ت.
قلت لك مسبقا لا تلق بالأوامر علي!

أردفت بحدة: تذكر أنني هنا لسبب واحد. انا في انتظار اعتذارك لي بعد انقضاء هذه الثلاثة أشهر. اعتذارك سيشمل عائلتي وسيشمل إعادة فرصتي التي خسرتها من المشفى. هل فهمت؟ أنا أتوق لرؤيتك بمظهر الذليل الذي سيشعر بالحرج من أفعاله راغبا في العودة بالزمن. لذا كف عن التسلط ولا تلقي بأوامرك وتزعجني في كل حين، هذا لا يطاق.

يبدو ان نبرتي تلك قد استفزته إذ اقترب مني فتراجعت للوراء حتى منعني الحائط فاستندت عليه، وقف أمامي مباشرة ليرفع ذقني بيده بقوة فتأوهت بغضب: ماذا؟!
إذاً دعيني أذكرك أن هذا الإعتذار سيكون نتيجة عدم رؤية دموعك. غير مسموح لك بالغش أو كسر قواعد اللعبة أيتها الصغيرة اللعوبة.
هاه!
هل نعتني باللعوبة للتو؟ ما الذي يعنيه هذا!

أرى عشرات الأسئلة في عيناك. هل استنكرت الأمر؟ حسنا دعيني أوضح. إنها صفة ورثتها من ستيفاني يا شارلوت.
م. مجددا! ألا زلت تتحدث عن أمي بالسوء! قلت لك توقف عن هذا وإلا.
حين قلتها كنت قد رفعت يدي بغية دفعه ولكنه أمسك بيدي كذلك وهمس بكره: هل دربتك ستيفاني جيداً؟ هل هذه هي ثمار التدريب الشاق؟ تجيدين التظاهر بالبراءة مثلها تماما، تجيدين إغراق الطرف الآخر في عينيك بسهولة.
ما الذي تتفوه به أيها المريض!
كريس؟!

قيلت بنبرة محتارة، علمت فورا انه صوت السيدة أولين ولم تفتني ردة فعل كريس حين رمقها بطرف عينه وأسرع يقرب وجهه مني ليهمس في أذني: نحن الآن عاشقان. أسرعي.
همست بدهشة وعدم فهم: أ. أسرع بماذا!
ولكنني انتفضت بإرتباك وغضبت بشدة عندما اسند وجنته على وجنتي لثوان ثم قبل وجنتي مبتسماً بلطف، تظاهر أنه استوعب وجودها ليرتفع حاجبيه: سيدة أولين!
ابتعد عني بينما أطرقت برأسي استنكر ضربات قلبي المتسارعة!

أعتقد بأنها. تدل على الغضب، أو على الرغبة في تهشيم وجهه حالاً.
ما الذي يظن نفسه فاعل! هل يجب ان يقترب مني كثيرا لأجل إنجاح هذه المسرحية الهزلية!
انتشلني من أفكاري المنفعلة صوته: حسنا إذا سأترك الأمر لك.

قالها ثم اتبع جملته بنظرة نحوي وهو يبتسم لي بلطف ولين لن يتمكن افضل ممثلوا هوليود من اتقانه: عزيزتي شارلوت لم يبقى لك سوى الجناح الآخر، لا داع لتري الغرف الأخرى في الأسفل اليوم، يوجد قسم آخر لم تقم آنا بأخذك إليه. قد أقوم بأخذك بنفسي لاحقا.

ثم تحرك ليغادر ببساطة، ولكنني رأيته وقبل ان يخرج من الجناح يرمقني بنظرة لم يكن الغرض منها سوى الإستفزاز بل واخرج لسانه بطريقة عابثة لم يكن حتى جيمي الطفل ذو الخمس سنوات ليفعلها!
رصيت على أسناني بإنزعاج شديد ولو لم تكن أولين واقفة لركضت وركلته بأقوى ما لدي، أجفلت عندما قالت السيدة أولين بهدوء: هيا.

مع أن نبرتها تلك كانت هادئة جدا إلا أن التمعن والتركيز الموجه نحوي لم يفتني، بل أربكني قليلا لأتبعها بصمت.
كنا قد خرجنا من هذا الجناح لنذهب إلى الجناح الأخر على الجهة اليمنى من الدرج، بينما كنت أتبعها اكتفيت بالتحديق بالمكان من حولي حتى أشارت إلى أحد الأبواب المغلقة على يميني: هذا مكتب عمل كريس، هو في الأساس لماكس ولكن كريس من يقوم بالعمل فيه الآن. مؤقتا.

قالت كلمتها الأخيرة وقد الحقتها بتنهيدة عميقة جداً!
أسرعت في خطاي أكثر لأحاول استراق نظرة نحوها، لأجدها لا تزال هادئة تماماً.
هذه المرأة.
يمكنني أن أجزم أنها بارعة جداً في كتمان مشاعرها، فتلك النبرة كانت أشبه بالضعف والإستياء على عكس ملامحها الثابتة!
وجدت نفسي أتساءل بحيرة: منذ متى تعملين هنا سيدة أولين؟

أجابتني وهي تنظر إلى من فوق كتفها: منذ زمن بعيد جداً. قبل ولادة زوجك بكثير. تزامن وجودي هنا مع بداية التحاق ماكس إلى الجامعة فزواجه من الراحلة باتريشيا وحتى ولادة كريس. وكما ترين الآن فكريس صغير الأمس بات شابا يافعا ولديه ابن في الخامسة.
أكملت مبتسمة بشرود: يا الهي. مرت السنوات بسرعة البرق!
هذا يعني أن علاقتك بالسيد ماكس قوية وعميقة جدا سيدة أولين.

لا زلت أحاول اكتشاف المزيد دون شعور! ما الذي أفعله بحق الإله؟
لا يجب ان اتدخل أو أتساءل بأي شيء يدور حول كريس أو بمحيطه!
أتى جوابها سريعا: ماكس وأنا نتعامل كصديقين مقربان، على كل حال هو رجل لطيف جداً ولن يواجه أي شخص مشكلة في تكوين علاقة صداقة معه. ببساطة انه عفوي ومن السهل مصادقته.
أملت برأسي بإندماج: هكذا إذاً!
السيد ماكس يبدو شخص طيب بسبب ما أسمعه من مدح متواصل منهم!

لماذا إذاً علاقته بذلك الاناني سيئة؟ هذا ما كنت أفكر به حتى وقفت وقالت: هذه غرفة جيمي.
ثم أشارت لغرفة مقابلة: وهذه غرفة إضافية.
ثم أكملت السير بخطوات صغيرة مشيرة إلى غرفة أبعد قليلا: وتلك غرفة كريس. سيقوم الخدم بجلب حقيبتك إلى هناك. وهذه الأخرى هي غرفة كلوديا وزوجها جوش. وتلك التي مقابلها لستيف.
حين قالت ذلك زميت شفتاي أخفي توتري.
أنا وكريس.
في غرفة واحدة!

هذا كثير جدا. لا يجب ان يصل الأمر إلى هذا الحد.
علي أن أخبره بأنني لن أقبل النوم في الغرفة ذاتها معه! نحن نتظاهر فحسب.
دخلت السيدة أولين إلى الغرفة فمشيت أنا أيضا لأدخل ببطء.
جال نظري في المكان بإعجاب محدقة إلى الغرفة التي اكتسحتها أشعة الشمس من كل مكان!
سقف الغرفة الدائري ينتصفه فتحة زجاجية ضمن التصميم جعلتني أقف أرفع رأسي أنظر إليها بشرود وإندماج!

ثم استنتجت انها ذات تصميم قابل للإغلاق في أي وقت، وهذا ما أكدته أولين التي قالت بهدوء: كريس يحب الجلوس في المكان الذي يتشبع بأشعة الشمس. ولكنه يغلقها عندما يضطر لأخذ قيلولة ما بعد الظهيرة.
أملت برأسي بفهم وأخفضت رأسي أنظر للغرفة التي أثاثها قد طغى عليه اللون الأبيض والرمادي مع البني بالدرجة الفاتحة ليعطي امتزاج الوان لطيف وفي الوقت آنه بدى رسميا نوعا ما.

السرير كان كبيرا في عرضه وطوله، فوقه بعض اللوحات مربعة الشكل التي وضعت مع بعضهما بشكل مناسب، وعلى جانبيه منضدتان، إحداهما فوقها مصباح الإنارة الليلية مع بعض المجلات، والأخرى فوقها ساعة منبه بطراز مميز قديم بلون أسود داكن وبجانبها كتيب صغير من الجلد اللامع ومنبه آخر اصغر حجما!
حينها تساءلت متظاهرة بالحيرة أكتم سخريتي: هل هناك شخص يشتري ساعة منبه في هذا الزمن الآن؟ ألا يفترض أن للهاتف دور فعال؟

تنهدت متكتفة: نعم. كريس فقط.
أضافت ساخرة بهدوئها الذي اعتدته: منبه الهاتف وحده لا يكفيه، نومه ثقيل جدا ومن الضروري سماع صوتين في وقت واحد لتكون الضجة كفيلة بإيقاظه. وأحيانا أذهب إليه بنفسي عندما لا أراه في غرفة الطعام صباحا.
فهمت! نوم جيمي الثقيل لم يكن من فراغ! مسكين أنتَ يا جيمي. لم يكن من المفترض أن ترث منه أي شيء ولكنك مظلوم حتى بشأن ملامح وجهك اللطيفة.

نفيت برأسى بأسى وإزدراء دون شعور حتى استوعبت ان أولين قد القت على نظرة متمعنة فأيقنت فورا انها استنكرت اسئلتي المتواصلة.
بالطبع سيكون الأمر غريبا فأنا لا زلت أتصرف بحماقة وأسأل ما لا يجب ان تسأل عنه الزوجة المحبة.

زميت شفتي بصمت وانا أنظر لمقعدا الجلوس أمام الطاولة الدائرية ذات القدم الرفيعة، كانت مطلة أمام الشرفة ذات الباب الزجاجي والذي غطته الستائر لنصف مساحته فقط لأستطيع ان المح اللون الأخضر الذي يكسو غطاء أرض المنزل. والتي لم تكن سوى الحديقة التي أبهرتني قبل قليل بضخامتها وتنوع ثمارها وشكل اشجارها.
أشارت أولين إلى يميني: هناك غرفة الملابس والحمام.

ما أشارت إليه كان قسم آخر من الغرفة، وكأنه غرفة جانبية إضافية ولكن دون باب.
اتجهت إلى هناك ورأيت خزانة ملابس ضخمة بحجم الحائط ومقابلها باب الحمام.
لم أكلف نفسي بالدخول أكثر وإنما ابتسمت متسائلة: هل يمكنني الذهاب إلى جيمي؟
أمالت برأسها: بالطبع. سيكون الآن مندمجا في إخراج الألعاب لأجل شارلي.
بعدها خرجت من الغرفة برفقتها وذهبت لأقف أمام باب غرفته، وقبل أن أطرقه قالت: شارلوت.

نظرت إليها بحيرة: نعم سيدة أولين؟
أطرقت براسها لثوان ثم رمقتني بنظرة مترددة قليلا، لحظات حتى همست: أنا أعرف كريس جيداً. أفهمه وأفهم طباعه، هو في مكانة الإبن الذي لم أُرزق به، لذا اسمحي لي أن أسألكِ سؤالاً، أخبريني يا ابنتي ما الذي ي.
سيدة أولين الخادمة الجديدة جرحت يدها في المطبخ.

قالتها إحدى الخادمات التي اتت تهرع إليها بعد ان صعدت الدرج بخطى واسعة وهي تلهث، عقدت أولين حاجبيها وقالت وقد تحركت فورا: أنا قادمة حالاً. عذرا يا شارلوت.
حدقت إليهما وهما تسرعان نحو الدرج.
لو لم تأت هذه الخادمة. ولو لم تقاطعها فلم أكن لأضمن قدرتي على التظاهر، فمن يعلم ما الذي أرادت سؤالي عنه! هذه المرأة تبدو يقظة وذكية.
أنا لا زلت لا أعلم كيف على التصرف حتى! أنا مشتتة جداً.

نظرت إلى مقبض الباب بشيء من الضيق.
هل حقا سأدخل وابتسم أمام جيمي ببساطة؟ ألن أكون مجرد منافقة تتظاهر بكل هذا اللطف؟
كل ما يحدث الآن مجرد مسرحية هزلية أبطالها أنا وكريس. ما الذي على فعله؟ كيف من المفترض أن أتصرف مع جيمي الآن؟
إنه طفل لطيف وبريء. ولهذا أخشى أن أؤذيه بطريقة أو بأخرى!
وجدت نفسي أتراجع للوراء بيأس وقد اخفضت يدي إلى جانبي وانسحبت.
نظرت من حولي وإذا بي امشي بإتجاه الجناح الآخر.

لا أدري إن كان مسموح لي التجول في الغرف ولكن.
استرقت نظرة في المكان ولم أجد أحدا فأسرعت لتلك الغرفة التي قالت آنا مسبقا بأنها مكتب السيد ماكس.
فتحت الباب ببطء ودخلت لأجد الغرفة مظلمة تماماً!
أدخلت يدي لأمدها نحو الحائط أتحسسه باحثة عن مقبس الإضاءة.

لم أجده فبحثت في الجهة الأخرى حتى وجدته أخيرا وأنرت الغرفة. كانت مكتبة للكتب تضم رفوف كثير أنيقة تحوي مجلدات ضخمة، وخزانة كتب بحجم الحائط امتدت عبر الغرفة بأكملها!
اتسعت عيناي أحدق إلى الكم الهائل ثم إلى الأرائك الموجودة في المنتصف، التصميم في هذه الغرفة دافئ جدا، مريح للقراءة ويساعد على الإسترخاء.

يوجد شرفة أيضا ولكن الستار يغطيها، لم أكلف نفسي بالإكتشاف أكثر حتى وقعت عيناي على أحد الأرفف الذي لم يكن يحوي كتباً.
بل صوراً صغيرة كثيرة!
تقدمت إلى الرف الذي كان أعلى من قامتي بقليل، امتدت يدي لأخذ إحداها لأنظر إليها.
كانت الصورة ذات ألوان باهتة بعض الشيء دلالة على قدمها لإمرة فائقة الجمال.

جمال ملامحها قد حبس أنفاسي وأنا أتأمل عينيها اللتان كانتا بلون عسلي ذو درجة فاتحة وشعر طويل مموج كلون عينيها، بشرتها كانت بيضاء والنظر إليها كفيل بجعلي أدرك مدى نعومتها بل واتخيل صوت هذه المرأة الذي أراهن على أنه صوت بغاية الجمال أيضاً!
ولكن. لم يكن هذا ما لفت نظري.
هي لا تبتسم. عيناها كذلك لا تبتسم. لماذا انتابني شعور غريب للحظة؟ نعم يوجد هاجس غير مفهوم ينتابني ويلفحني من كل جهة!

طرفت بعيني ولم أشعر بالوقت وانا لا أزال أنظر إليها، الصورة قديمة ولكن جودتها ممتازة! من تكون يا تُرى!؟
وضعت الصورة مكانها لألتقط أخرى، لأجد المرأة نفسها تحمل طفلاً صغيرا بملائته البيضاء وبجانبها رجل طويل القامة ذو شعر أسود وعينان بنيتان تميلان للون البندقي، إنه شديد الوسامة! لديه هالة مميزة وابتسامة جميلة! بإختصار هو جذاب ولديه مظهر ملفت!
ولكن هذه المرأة لا تبتسم أيضاً! اليس هذا غريب؟

اعدتها لمكانها لأخذ أخرى وحينها عقدت حاجباي متمتمة بحيرة: هل هذا جيمي؟
ولكنني أدركت فورا بأن الإجابة (لا)، فالصورة لا تبدو جديدة!
علمت مباشرة أنه كريس! يا الهي التشابه بينه وبين جيمي كبير جداً! ظننته هو.
بصراحة يبدو مظهره لطيف بالرغم من انه بدى مجبرا على اتخاذ هذه الصورة وهو يلوى شفته بعناد واضح، خمنت أنه كان في السادسة فقط، اخذت صورة أخرى لأجد المرأة ذاتها ولكن هذه المرة مع كريس!

كانت الصورة الوحيدة التي تبتسم فيها! لديها ابتسامة مشرقة جداً. ولكن كريس لم يكن كذلك بل يقف بجانبها ولم ينظر مباشرة إلى آلة التصوير.
إنها والدته، لا شك في ذلك. لديهما العينان ذاتها. ولكن من يكون ذلك الرجل؟ هل يكون والده يا تُرى؟
تنهدت بعمق مستسلمة لخيالي وأفكاري بإستنتاج الأحداث كما يشاء عقلي، تركت ما في يدي ونظرت للمكان نظرة أخيرة. اتجهت لأخرج من المكتبة ولكنني وقفت فوراً حين سمعت صوت كريس يقترب.

يتحدث على الهاتف؟
آه، لقد تم إفساد الاوراق تماما وسنحتاج لإعادة صياغتها مجددا. تعلمين أن ذلك سيأخذ وقتا طويلا
قالها بصوت متذمر ولا أدري لماذا ولكنني أغلقت الإنارة والباب وركضت لأقف خلف الستارة!
أنا حقا لا اعرف ما الذي دفعني للإختباء! لماذا أتصرف كاللصوص؟

كنت أعاتب نفسي عندما فتح الباب ودخل وهو لا يزال يتحدث على الهاتف، فتح الإضاءة وقال: يمكنني تأجيل الإجتماع معهم ولكنني لن أكون قادرا على إنهاء الأوراق وحدي. إنها أكثر من خمسة وعشرون ورقة تحوي كل المعلومات التي سيكونون بحاجة لقراءتها.
وقفت أنصت ولا أدري إلى متى سأقف هكذا! في الواقع لم يكن ما يقوله يهمني ولكنني ازحت الستار قليلا لأسترق نظرة فوجدته يقف أمام المكتبة باحثا بعينه عن كتاب ما أو شيء ما.

لا بأس، سأنتظرك على الغداء، لنتناوله معاً في منزلي وسنناقش الموضوع في وقت لاحق ونرى من أين علينا البدء من جديد.
ثم أغلق الهاتف وزفر وهو يبحث عن شيء ما.
ظل يحدق إلى الكتب حتى اتجه إلى رف يحوي ملفات مختلفة ألوانها والتقط أحدها الذي كان أحمراً مليئا بالأوراق.
ثوان ثم لمحت عيناه اللتان وقعتا على رف الصور. تقدم إليه وظل واقفا أمامه حتى همس ببرود: نحن من ندفع ثمن أخطائكم.

عقدت حاجباي واغلقت فتحة الستار إلى مكانها ليصبح مكاني مظلما مجدداً.
من يقصد بنحن؟ بل من يعني بأخطائكم؟ من هم!
سمعت خطاه ثم صوت المقبس فالباب.
خرجت من مكاني أمشي في الظلام ثم فتحت الباب وتأكدت من خلو الممر وبعدها اتجهت مباشرة إلى الغرفة.
عندما عدت وجدت حقيبتي على السرير، أحضرتها إحدى الخادمات بلا شك.
وحينها فكرت بإستنكار بأن الملابس التي أحضرتها لن تكون كافية أبداً! على إحضار باقي ملابسي.

تجاهلت أمر ملابسي والحديقة وأخذت أشاهد التلفاز وحدي في غرفة الجلوس العلوية.
أشعر بالملل، بالوحدة وبالإنزعاج.
بل وشعور الوحشة قد استحوذ علي، لا أدري كيف أصف ما أمر به. ولكنني أعلم جيدا بأنني أحتضر من الضجر.
حان وقت الغداء.
كنت حينها في غرفة النوم، دخلت آنا وقالت بلطف: آنسة شارلوت الغداء سيكون جاهز خلال لحظات. أرجو أن تنضمي إلى السيد كريس وضيفته في الأسفل.

اعتدلت في جلستي على السرير ونظرت إليها بهدوء: شكرا يا آنا ولكنني لست جائعة. ولست في مزاج جيد لأقابل احداً.
احتارت كثيرا لإجابتي ولكنها لم تجادلني وإنما أومأت: أمرك.
وخرجت.
لا رغبة لدي في تناول طعام الغداء مع كريس. لا زلت أشعر بالإنزعاج الشديد مما يحدث.
أحضرني إلى هنا وتجاهلني تماماً وهو يجلس طوال الوقت في مكتبه الخاص بالعمل، وجيمي قد خرج للحديقة ليقابل صديقه!

أنا لا أستطيع ان انكر شعوري بأنني الدخيلة الغريبة هنا! ومن الطبيعي ان اشعر بهذا وليس بيدي حيلة.
خمس دقائق أو أكثر ليُطرق الباب مجددا وتدخل آنا قائلة بتوتر: آنسة شارلوت. السيد كريس يطلب منك النزول لتناول الغداء.
نظرت إليها نافية: أخبريه بأنه لا شهية لدي.
ولكنها ظلت واقفة بتردد: أعتقد بأنه من الأفضل أن تنزلي آنسة شارلوت. ماذا لو انزعج أو.
لا داعي للقلق. سأخبره بنفسي لو أصر على ذلك.

أطرقت برأسها قليلا ثم خرجت فتنهدت بعمق واستلقيت على بطني أغمض عيناي.
يريد مني تناول الغداء ومقابلة ضيفته. وكأنني أهتم!
بل وكأنه يهتم بتناولي للطعام حتى. لا بد وأنه يخطط لأمر ما. لست حمقاء حتى لا ألتمس الخبث والمكر في تصرفات هذا النذل!
أشعر بأنني لو تجادلت معه في أي شيء فسأفقد أعصابي بسهولة. لا سيما وأنه كذب بشأن أمور كثيرة.

ما هذا المنزل الضخم الذي يملكه! ما هي وظيفته؟ ما هو منصبه! ما علاقة والداي به تحديداً!
هذا ما كنت أفكر به حين فُتح الباب فقلت دون ان اتحرك بإنزعاج: من فضلك يا آنا، أنا لست جائعة ولا أريد أن.
ما الذي قالته الخادمة لك تحديداً؟
قيلت بصوت حازم عال فانتفضت واعتدلت لأجده يقف امام الباب محدقا إلى بعين ضيقة!

تجاهلته مشيحه بوجهي واستلقيت مجددا ولكن تغير نبرته وهو يعاود سؤاله مرة أخرى مما جعلني أجيب رغما عني لأتفادى تفاقم الأمر: وما الذي تعتقد بأنها قالت؟ أخبرتني ان الغداء جاهز وكنت واضحة جدا حين قلت بأنني لست جائعة. ماذا؟ ستجبرني على تناول الطعام؟ ستفتح فمي وتحشوه إكراها؟
رص على شفتيه وأشار إلى بحزم: لا أنصحك بالتحدث إلى بطريقتك هذه.
رمقته بإنزعاج: وفر نصائحك لنفسك. أياً يكن. لا اريد النزول! لست جائعة.

لم أسألك إن كانت جائعة أو لا!
ولكنني.
أسرعي. لن أنتظر أكثر! خمسة ثوان فقط يا شارلوت وإلا ستندمين.
أردف محذرا بجمود: مازال الوقت مبكرا على بدء هذه الحرب، لا أنصحك بإستفزازي وأنت جاهلة للعواقب يا عزيزتي.
ازدردت ريقي أمنع نفسي من لكمه أو الصراخ في وجهه.

إنه نذل لئيم وأعلم جيدا ما قد يقوم به. إن كان قادرا على إجبار المشفى الخاص برفضي وقادرا على تمزيق ورقتي بدم بارد فلا أدري ما قد يفعله أيضا! لا بأس، سوف أوفر طاقتي. لأنني عازمة على الإنتقام وتلقينه درساً.
وقفت بغيض قد أخفيته وحل مكانه البرود والإتزان لأتبعه فسبقني بخطى غير مكترثة، وكم تمنيت لو أركل رأسه بهذا السياج!

همست دون شعور: سأمنحك فرصة الغرور كما تشاء قبل ان تعتذر لي ولعائلتي جاثيا على ركبتيك.
تفاجأت به يضحك بخفوت ووقف في منتصف الدرج فأدركت أن عقلي قد ترجم رغباتي على لساني دون أن أدرك فوقفت بحذر.
التفت نحوي: مضحكة جداً.
استرسل بإستهزاء: من هذا الذي سيعتذر؟ اتكونين قد قمت بتصديق هذا الخيال حقاً؟ رجاءً كوني أكثر واقعية.
هذا ما يقوله الواثق عادة حتى يسقط في مستنقع خسارته.

لا يدهشني أنك سليطة اللسان! ولكن. يدهشني أنك ردا جاهزا لكل شيء!
لم يصبح لساني سليطا إلا لإستعلائك في الحديث وحسب.
أكملت ساخرة وانا أنزل: وللأسف هو مجرد إستعلاء من فراغ.
ما ان انهيت جملتي حتى تفاجأت به يمسك بذراعي بغضب: لقد قلت لك للتو أن الحرب بيننا لم تبدأ بعد. ولكن لا تعتقدي بأنني أمانع الخوض فيها! لو واصلت ازعاجي بكلماتك وردودك فلن أضمن حينها ردة فعلي.

حدقت إلى وجهه مباشرة وحاولت إبعاد يده عن ذراعي هامسة: لا تكن مغرورا بوضع القواعد كما يحلو لك يا كريس.
تواصلين التحدث عن كوني مغرورا ولكن في الحقيقة لديك ما هو أسوأ بكثير! أعرفك جيدا يا شارلوت وأعلم أنك فتاة ذات كبرياء رفيع. هل أزعجتك نبرتي الآمرة بالنزول إلى هذه الدرجة؟
همس بجملته الاخيرة بخبث وهو يضحك وقد ارتخت يده من على ذراعي فقلت بملل ظاهري: هل انهيت ما لديك؟ بدأت اشعر بالجوع فجأة.

قلتها امرر يدي على معدتي فتلاشت ضحكته وظل ينظر إلى حتى قال معتدلا في وقفته: أعتقد بأنني سأستمتع كثيرا برؤيتك محطمة مذلولة في وقت لاحق. لا تعتقدي ان تصرفاتك تغضبني حقاً، بطريقة ما هي تشعرني بأن سماع بكاؤك ليلا سيكون أروع مما أتخيل.
اتسعت عيناي بغضب ليكمل مقربا وجهه ليهمس في أذني: أنتِ في الحقيقة ضعيفة جداً. أرق بكثير مما تتخيلين. من السهل كسرك.

ثم فرقع إصبعه مصدرا صوتا وهمس: هذه فقط كفيلة بتحطيمك. لهذه الدرجة أراك هشة.

فتحت فاهي لأجيب بحزم ولكنه سبقني القول وهو ينزل: ذكريني لاحقاً بإرسال صورة عاطفية وحميمة لنا نحن الإثنان إلى والديك. أراهن على انهما سيشعران بالسرور. لا سيما وإن كانت صورة لقبلة عشاق أو عناق دافئ. أو ربما برفقة جيمي أيضاً، ماذا لو كذبت وقلت بأنه طفلنا ذو الخمسة سنوات؟ حسنا هذا كثير. لو عدنا بالزمن فستكونين مجرد قاصر عمرها ستة عشر عاما فقط وسأكون حينها ذو الثانية والعشرون. إنها جريمة سيحاسبني عليها القانون!

هذا الحقير!
نظرت إليه وهو ينزل واسترق نحوي نظرة وهو يبتسم بعبث ودخل غرفة الطعام.
إنه. يستغل أمر والداي! سيندم حتماً!
رصيت على أسناني بقوة أحاول جاهدة قمع غضبي الشديد.
في كل مرة أقوم بإستفزازه ينتهي الأمر بي غاضبة! مما خُلق هذا الكائن بحق الإله؟!
ألا يشعر؟ لماذا لم يصرخ! الم يغضب؟ بدى واضحا ان كلماتي ازعجته ولكنه سريع في تمالك نفسه!

نزلت الدرج مصدرة صوتا عاليا بخفاي، لأعبر عن انزعاجي ولو قليلا. ولكنني قبل ان أدخل إلى غرفة الطعام وقفت أهدئ نفسي وأرخي أعصابي.
لا بأس، كل ما على فعله الآن هو التظاهر بأنني الزوجة المحبة وحسب.
إنه أصعب دور قد أقوم به! لو تم اخذي مع كريس لنقوم بتمثيل فيلم كعشاق فسأضمن خسارتي ومنحي لقب أسوأ ممثلة في التاريخ.
لذا كل ما سأحاول فعله الآن جاهدة هو اختصار الوقت، لن أطيل في البقاء!

دخلت وقد طرقت الباب، لألمح شابة صهباء ذات شعر قصير يجتاز كتفيها بقليل فقط تجلس على الكرسي المجاور لكريس الذي يجلس مقابله جيمي، اقتربتُ بخطى واثقة وشعرت بتركيزها الشديد نحوي، وحين بت أقرب إليها لفت انتباهي لون عينيها التركوازيتين.
لوهلة شعرت بالإندماج مع لون عينيها الفاتح واللامع الملفت إلى ان تفاجأت بتلك النظرة فيهما.

هل أتخيل أم ان هذه المرأة تحتقرني وتتمعن النظر إلى و تقيمني من رأسي إلى أخمص قدماي!
استغربت الأمر كثيرا حتى وصلت إليها وابتسمت بهدوء: مرحبا أنا شارلوت.
قلتها أمد يدي لأصافحها فادهشني ما حدث.
نظرت إلى يدي لمهية قبل ان تعاود النظر إلى وتكتفت بدلا من مصافحتي متمتمة بصوتها الناعم: أهلا.
تسمرت في مكاني ولن أنكر شعوري بالإحراج في هذه اللحظة، نظرت لكريس بصمت فوجدته قد بدى مستمتعا بإحراجي.

لم يكن هذا ما أغضبني. لقد كان هناك خادمة تضع الطعام! هل كان عليها إحراجي أمامها؟
شعرت بالغيض الشديد وابتعدت عنها لإتجه نحو جيمي وأجلس بجانبه مقابلها.
حاولت جاهدة ألا أنظر إلى كريس أو تلك الصهباء الوقحة. إنها حتى لم تعرفني بنفسها أو تصافحني!
هذا يثير انزعاجي. كثيرا!

ابتسم لي جيمي فبادلته الابتسامة بصمت، حتى قال كريس ببرود يسند مرفقيه على الطاولة: تيا، إنها زوجتي شارلوت، شارلوت إنها تيا زميلتي في العمل.
حاولت جاهدة أن ابتسم لها بالرغم من نفوري منها ولكنني تفاجأت هذه المرة بها تشيح بوجهها بعيدا! وهمست لكريس بكلمات لم أستطع سماعها.
شعرت بالذل والإهانة ورمقتها بكره شديد، ثم سرعان ما همست لجيمي بنفاذ صبر: هل تراها كثيرا يا جيمي؟

نظر إلى مبتسما: نعم. اراها دائما. تشتري لي الكثير من الالعاب وتاخذني الى نزهات احيانا.
لمعت عيناي الخضراوان باستغراب ثم قلت: هكذا اذا.
حسنا يبدو انني الوحيدة المكروهة في عينيها، فجيمي يحبها!
ظلت تلك الصهباء المدعوة تيا تتهامس مع كريس بأمور لم أستطع سماعها، ولاحظت اقترابها الشديد منه! لم تكن بينهما مسافة كافية، بل أن كتفها ملاصق لكتفه!

ارتفع حاجباي لما أشاهده أمامي وعاودت أهمس لجيمي: هل تأت هنا كثيرا؟ هل هي مقربة من والدك؟
أومأ برأسه: الآنسة تيا تأتي هنا كثيراً وغالبا ما تتناول معنا طعام الغداء والعشاء. جدي أيضا يجلس برفقتها كثيراً.
إنه يقصد السيد ماكس، هكذا إذاً. علاقتها بهم قوية.
ولكن. ما صلتها بكريس تحديداً! مجرد زميلة؟ هل هذا كل شيء حقا!

حاولت تجاهل الأمر بعصوبة بالغة وعدم التفكير أكثر، فتحدثت مع جيمي بينما نأكل عن أمور كثيرة كان إحداها كلامه الكثير عن ستيف!
هذا الستيف يبدو شخص محبوب لدى جيمي وحتى آنا التي ذكرته وهي تمازحني! بدأت أشعر بالفضول الشديد لرؤيته.
أنهى جيمي طعامه ولكنني واصلت الحديث معه وبالنسبة لي فأنا لم أمس الطعام حتى الآن وأقسمت ألا أتناول ولو قضمه، حينها راودني الفضول لأنظر لكريس فوجدته يبتسم مع تيا ببساطة.

رمقني بنظرة سريعة ثم تجاهلني بلا اكتراث، لا أدري ما قالته له حتى ضحكا الإثنان ثم حدقت إلى من بين ضحكاتها ورفعت شفتها بإزدراء ووضعت يدها على كتف كريس.
عليهما أن يحترما وجودي على الأقل! لا. بل عليها أن تراعي وجود طفل بيننا! نعم فهي وقحة وهو بليد!
قام جيمي ليقول على عُجَالة: أبي لقد شبعت.
امال كريس برأسه: حسنا، اذهب إلى السيدة أولين وستجدها في الحديقة.

خرج جيمي ينظر إلى بمطلب واضح، لقد اراد مني أن أتبعه!
وقفت قائلة: انتظرني يا جيمي، سأتبعك أنا أيضا.
ولكن صوت تلك المرأة استوقفني وهي تتساءل ببرود: إنه لقاؤنا الأول فقط. ألا تريدين أن نجلس معاً أكثر. أنت حتى لم تتناولي طعام الإفطار معي!

كان جيمي قد خرج ولكنني التفت نحوها وقلت بشيء من الحزم: ولكنك لم تبدي لي أن لقائك بي قد أسعدك للتو. أنت حتى لم تتحدثي معي بكلمة واحدة. يمكنك ان تكملي حديثك وتستمعي بوقتك. وبالنسبة للطعام فلقد فقدت شهيتي تماما لسبب ما. عذرا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *