التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الخامس عشر

لا تجبر الإنسان ولا تخيّره
يكفيه ما فيه من عقل بيحيّره
اللي النهارده بيطلبه ويشتهيه
هو اللي بكره ح يشتهي يغيّره
(رباعيات صلاح چاهين).

من قال أنها نظرات؟، إنها سهام قاتلة وجهتها ملك ناحية عيسى وتلك التي فتحت باب المكان وكأنها صاحبته بلا وتعبر بتبجح كم تشتاق إلى عيسى بقولها أنه أسعد أيامها لأنها رأته، لم تنتبه رزان لوجودها إلا بعد أن أنهت جملتها، تأملت ملك هيئتها، خصلاتها المموجة التي تركتها حرة، وعيناها التي طغى عليها اللون البني، ترتدي رداء أسود يصل إلى ما بعد ركبتيها بقليل، لائم الحمرة القانية التي وضعتها ولاق مع هيئتها ككل، كانت النظرات في عيون رزان بعد ما قالته مترقبة لردة فعل من تدري جيدا أنها زوجته، توقعت صمتها وخاصة أنها رأتها قبل ذلك. رقيقة، هادئة وقطع هذا التوقع صوت ملك التي سألتها متصنعة الاستغراب: إيه مستنية إيه؟

حثتها بانفعال امتزج باشتعالها: قوليله يلا وحشتني أوي.
ارتسم على شفتي رزان ابتسامة والتفتت لعيسى تخبره: وحشتني أوي.
تركت ملك الفراش ونزلت لتقف في المنتصف بينها وبين عيسى قائلة بغضب: مين دي يا عيسى، و معاها مفتاح هنا ليه؟
كان عنده حق باسم لما قال عليكِ بسكويتة مش لايق عليكِ العصبية خالص، متخافيش يا بسكويتة مش مراته التانية.

ضحكت ملك باستهزاء وهي ترد عليها: لا يا حبيبتي أنا مش بسكويتة، وبالنسبة لموضوع مراته التانية ده أنا مش قلقانة، أصله أكيد مش هيسيب مراته تيجي لحد هنا في نص الليل لوحدها.
جذب عيسى رزان من ذراعها قبل أن ترد واتجه بها نحو الخارج وأغلق الباب على ملك، ما إن وقفا في الخارج حتى سألت رزان بضجر: في إيه؟، واخد وضع الصامت ليه؟
احتدت نظراته وهو يرد عليها: علشان ما امسحش بكرامتك الأرض، أنتِ جاية هنا ليه؟

أدركت أنه لا يمزح فتحدثت تبدي له مدى ضيقها: زهقت من الحبسة اللي أنا فيها، أنا من يوم…
أوقفها بإشارة من يده قائلا: أنا مليش دعوة بكل ده، أنا قولتلك عايز ورق من عند باسم هتجيبيه ولا لا؟، قولتي هجيبه، وبعد ما جبتيه خدتي فلوسك ومشيتي، و إكراما مني خليت بشير يديكي مفتاح الأوضة هنا تقعدي فيها يومين لحد ما تدبري نفسك وتشوفي مكان، وشوفتي المكان وعرفت إنك مأجرة شقة جاية ليه بقى؟

ردت عليه بإنزعاج: جاية علشان مش هفضل طول عمري مستخبية من باسم، أنا زهقت والفلوس اللي ادتهالي خلصت، وعايزة أنزل اشتغل بس اتصرف في موضوع باسم ده بقى وابعده عني.
رفع حاجبه وهو يضحك بسخرية وعلق: رزان أنا مضربتكيش على إيدك، أنتِ جبتي الورق بمزاجك وخدتي تمنه.

ياعم اعتبرها مساعدة، ابعده عني، أنا عايزة أرجع اشتغل تاني، وخايفة يشوفني في أي حتة. أنا سيبت الشقة علشان مبقاش معايا فلوس للإيجار، فلوسي كلها خلصت، فقولت اجي هنا.
تنهد بانزعاج وهو يمسح على وجهه بتعب، ثم أخرج هاتفه وطلب صديقه، أتاه الرد فقال: معلش يا بشير تعالالي دلوقتي، أنا في المعرض.
أنهى المكالمة وألقى على مسامعها ما سيحدث بنبرة تحذيرية: بشير هيجي دلوقتي وهياخدك يحجزلك في أي فندق.

واتفضلي فلوس أهي…
قال هذا وهو يخرج النقود متابعا: مشي بيها نفسك الأسبوع ده لحد ما أشوفلك صرفة في حوار باسم.
اتسعت ضحكتها وهي تقول متغزلة: يا ختي عليك حنين، مش كنت اتجوزتني طالما كده كده هتتجوز.
رفع سبابته محذرا بنبرة جادة: رزان لو متكنتيش وهمدتي أنا اللي هوديكي لباسم بنفسي، تاني حاجة بقى هتدخلي معايا دلوقتي وتعتذري.

شهقة مستنكرة صدرت عنها وهي تقول: نعم، بتاع إيه اعتذر ده وأنا كنت عملتلها إيه، أنا لولا الوقعة السودا اللي وقعتهالي مع باسم مكنتش عتبت هنا.
تجاهل ما تقول وأردف بابتسامة صفراء وكانت نبرته تؤكد أن ما يقوله هو ما سيحدث: لا هتعتذري يا رزان.
هزت رأسها برفض وهي تقول بإصرار: مش هيحصل يا عيسى.

لم يمر سوى بضع دقائق حتى عادا للداخل، كانت ملك تجلس على الفراش تشملهما بنظراتها قبل أن تركز على رزان التي قالت بضحكة واسعة: معلش يا أختي متزعليش، أنا مكنتش أعرف إنكم هنا، أحسن أنا الشقة بتاعتي المجاري كانت ضربت فيها قبل كده وأستاذ بشير اداني مفتاح المكان هنا ونسيه بقى، وهي عملتها تاني معايا فقولت اجي بس لحد ما أشوف صرفة.
صعدت لتجلس جوارها قائلة بنفس طريقتها الممازحة: وسعي كده شوية اقعد جنبك.

طالعتها ملك بانزعاج فأكملت رزان: فكيها بقى، بلاش التكشيرة دي، ده حتى الراجل يطفش منك.
كانت ملك تلقي بسهامها على عيسى الذي استند على الباب عاقدا ذراعيه بابتسامة تبعها قوله: لا مش هطفش متقلقيش.
الله الله الله. أنتِ كاتبة إيه على رقبتك.
كان هذا صوت رزان التي تأملت ما على عنقها بفضول متابعة بابتسامة: أنتِ كاتبة اسمه على رقبتك، لا يطفش إيه بقى، ده أنا كده اللي هطفش.

وصل صديقه حيث سمع صوت سيارته في الخارج فحث رزان بقوله: تعالي ورايا يلا بشير جه.
تبعته بالفعل نحو الخارج وأغلق هو الباب على ملك التي أخذت تضغط على شفتها السفلية بغيظ وهي تردد مقلدة نبرة من كانت هنا قبل ثوان: بلاش التكشيرة الراجل هيطفش منك.
وتابعت وهي تقلدها بامتعاض: وده أسعد يوم في حياتي علشان شوفتك النهاردة.

لم يبق في الخارج كثيرا بل دخل بعد دقائق ومعه مجموعة من الأوراق وضعها على الطاولة وهو يسمع قولها: أنا مش مصدقة اللي اتقال ده كله.
رفع كتفيه وهو يردف متصنعا البراءة: عندك حق هي بتكذب فعلا.
رفعت حاجبيها بدهشة من رده الذي علقت عليه بقولها: طب قولي أنت الصدق بقى.

هتف وهو يجلس على الأريكة: أظن شوفتيها مع باسم مره، هي عملت معاه مشكلة وكانت عايزة مكان تبات فيه وميعرفش يوصلها، ولجأت لبشير فاداها المفتاح هنا…
وبالنسبة لأنه أسعد يوم في حياتها علشان شافتك.
جاوب بضحك ممازحا: يا ستي بتجامل ما تسيبيها.
جذب الأوراق من على الطاولة وتمدد على الأريكة وهو ينظر بها قائلا: كفاية السيرة دي بقى أنا متعكنن خلقة.
أنا مش هتكلم معاك أصلا.

هكذا ردت بغضب وعادت للفراش من جديد، تمددت عليه وتدثرت وهي تتأفف بضجر شديد مما حدث.
تنهد بضيق وعاد لمتابعة الورق من جديد، استغرقت هي في النوم و لم تستيقظ إلا حين سمعت نبرته وهو ينادي برفق: ملك.
فتحت عينيها بصعوبة وهي تتسأل: إيه في إيه؟، النهار طلع؟
ضحك وهو يرد: لا مطلعش احنا قرب الفجر أهو. قومي أنا طلبت أكل.

اعتدلت لتجلس وجذبت الغطاء حولها، وهي تحك كفيها إثر البرودة فابتسم وجلس جوارها قائلا بنبرة صادقة: حقك عليا متزعليش.
طالعته بجانب عينها فضحك وهو يقول: طب علشان خاطري.
رفعت رأسها بكبر تعلن رفضها، فقبل رأسها قائلا بتصنع الضجر: أهو، خلاص بقى علشان الخطوة اللي بعد دي هتاخدي بالدماغ.
ابتسمت فقال غامزا: بتضحكي ها؟
أعطاها الكيس البلاستيكي الخاص بها متابعا: خدي كلي بقى.

وصل إلى أنفها رائحة (الشاورما) الشهية فأخذت منه الكيس الذي حمل السندوتشات، وذهب هو ناحية الكيس الخاص به وقد تركه على الأريكة وبدأ في الأكل وهو ينظر في الورق من جديد، لم يكن معه هذا الورق حين قدما إلى هنا لذلك سألته بفضول وهي تتناول من السندوتش: هو بتاع إيه الورق ده، وجبته امتى؟
رد عليها وهو يتابع ما يقرأه: دي حاجات تبع الشغل، بشير لسه جايبهالي.
بس حاجات ايه دي اللي خليتك سيبت النوم وقاعد مركزلها.

ترك الأوراق وانتبه لها يسرد عليها ما يشغله هذه الأيام: بصي يا ستي هو كل الحكاية إني عايز أكبر الشغل بتاعي، أنا كنت عايز أعمل مصنع بس الموضوع ده هيتكلف كتير، أنا معايا وبشير كمان والحاج هيدخل شريك، بس الموضوع هيحتاج أكتر كمان، وأنا مش عايز أخد الخطوة غير وأنا متأكد إنها مش هتوقعني، علشان ممكن أعمل وابتدي بس الدنيا توسع وأحتاج تمويل أكبر، فأنا بشوف طريقة تانية أوسع بيها شغلي.

ابتلعت ما في فمها وهي توجه سؤالها له: طب هو الطريقة التانية دي مش هتكون مكلفة؟
ضحك وهو يرد على سؤالها: مش هتكون إيه؟، دي هتطلع عين اللي خلفوني سواء تكلفة أو شغل.
ليه هتعمل إيه؟
وضح لها بطريقة سلسة حتى تستطيع فهمه: أنا مثلا عندي دلوقتي المعرض صح؟
هزت رأسها فأكمل هو: المعرض ده بقى ليه مميزات وليه عيوب، فأنا عايز أكبر شغلي بحيث أغطي على العيوب دي، عايز أفتح توكيل.
انكمش حاجبيها وهي تتسأل: طب وإيه الفرق؟

فتح زجاجة مشروبه المفضل وارتشف منها قبل أن يرد على سؤالها بقوله: في فرق طبعا، أنا دلوقتي يعتبر سمسار عند اللي فاتح توكيل، يعني أنا بتجيلي ملك تقولي عايزة عربية تكون كذا، فأنا بروح للي فاتح توكيل كذا دي علشان أجبلها اللي هي عايزاه…
أنا مش فاهمة.
قالت هذا وهي تحاول كتم ضحكاتها فرفع حاجبه قائلا بغيظ: كنت عارف، محدش بيتنح ويبقى فاهم أبدا يا ملك.

ضحكت فبدأ يشرح لها بطريقة مفسرة أكثر: هفهمك، أنا واحد مثلا بصنع عربية (س) حلو كده؟
هزت رأسها فأكمل: العربية دي ببقى عايز أوزعها بقى علشان الناس تشتريها، يعني أنا مثلا عايش في أمريكا، فلو (س) بتاعتي دي ممتازة أكيد هيبقى عليها طلب في بلاد تانية، مش كده؟
اه.

إجابتها وتعابيرها أيدت فهمها فأكمل هو: في بقى واحد تاني عايش في مصر مثلا، شاف إن العربية دي مشهورة وعليها طلب كبير، فأنا خلاص عايز بقى أجيب للناس اللي طالبة دي هعمل ايه…
كانت ابتسامته بارزة على وجهه وهو يتابع الشرح بحماس: هروح للي عمل (س) علشان يديني توكيل إني أبيع (س) دي في مصر بالنيابة عنه، حق امتياز يعني من الراجل صاحب (س) ده.
هتفت بضحكة واسعة: طب ده الموضوع سهل أوي أهو.

انكمش حاجبيه باستنكار ورد على ما تقول باستهزاء: سهل ده لما يبقى صاحب العربية هيدي لأي حيوان معدي في الشارع توكيل، لو الماركة مشهورة وحتى لو لا بس أنا عايزهم يدوني توكيل، لازم خطوات كتير أوي منها إني أقدم الإثباتات المالية اللي تأكدلهم إني هقدر أفتح وأدير توكيل عربيات (س) بتاعتهم.
طب وبعد ما بيقبلوا؟

كان هذا سؤالها الذي توقعه فتابع: لو وافقوا هيبقى ليا حق أستخدم الشعار بتاعهم، وكمان ممكن أشارك في إني أعمل ل (س) دعاية محلية هنا علشان عدد أكبر يعرفها ويجي يشتري وأنا أكسب، و العربيات بقى إما هتجيلي عن طريق الاستيراد أو عن طريق المصنع اللي بيجمعها في مصر لو موجود
هزت رأسها بموافقة ثم أصدرت صوت فرقعة بإصبعيها الوسطى والإبهام وهي تقول: كده أنا فهمت، بس أنت كده هتستفيد إيه؟

هستفيد طبعا ده هينقلني في السوق نقلة تانية، وهيبنيلي اللي أنا محتاجاه علشان أفتح المصنع بس برضو التوكيل هيحتاج مبلغ ضخم خصوصا لو الشركة اللي هاخد منها التوكيل براند كبير، لأن هدفعلها كل سنة مقابل التوكيل ده، ده غير المنافسة بقى علشان أوقات كتير بيكون فيه أكتر من توكيل فكل واحد فيهم بينافسك، بس أنا بفكر يكون في قسم للمستعمل برضو علشان أحاول أعالج شوية الحتة دي وأضمن المكسب.

التقطت من الطبق الصغير الذي حوى المخللات قطعة خيار وهي تقول: إيه ده كله، ده الواحد عايش في قوقعة، أنا لو واحد جه المحل وطلب أربع طلبات بتلغبط وبعك، وأنت قاعد تقول توكيل وامتياز وسوق، طب وإيه الفرق بقى بين التوكيل ده والمعرض بتاعك.
ضحك على قولها وهو يكرر خلفها: أربع طلبات وبتتلغبطي وتعكي، أنا عرفت أنتِ كنتِ متنحة ليه.

ضحكت وبادلها هو أثناء شرحه للفرق: لما أنا يبقى عندي التوكيل هبقى الوسيط الأساسي للشركة، يعني من الشركة عليا علطول، على عكس المعرض بقى أنا بالنسبة للزبون وسيط عند صاحب التوكيل يعني وسيط للوسيط، وفي المعرض أنا مش محكوم بعريية معينة، على عكس التوكيل هبقى تبع براند واحد بس لكن برضو يفضل التوكيل ليه مميزات أكتر بالنسبالي.
أنا فهمت على فكرة.

هز رأسه قائلا بضحكة راضية: شاطرة، وعلى فكرة المعرض ليه مميزات برضو، سواء المعرض أو التوكيل كل واحد فيهم ليه اللي يميزه واللي يعيبه، قال هذا وأشار لها بالأوراق مسترسلا: والورق ده بقى عبارة عن بحث تسويقي وحسابات لحجم السوق وغيره، بس أنا فصلت خلاص ومش هعرف أفهمك، لو عايزة تفهمي ابقي اقرأيه.

انتهى من تناول الطعام وجمع الأكياس ليلقيها في السلة، واتجهت هي إلى المرحاض لغسل يديها قائلة: بس تعرف على قد ما الموضوع صعب بس حساك شغوف بيه.
انتهت وعادت للفراش ورد عليها أثناء وقوفه أمام الصنبور في الممر الجانبي المؤدي إلى المرحاض: اشمعنا يعني؟
بعد سؤاله هذا توجه إلى الفراش، جلس مستندا بظهره جوارها وجاوبت هي بابتسامة: علشان شايفاك متحمس.

ظفرت بنظراته التي ثبتت عليها وهي تتابع بضحكة لم تفارق وجهها: عينيك بتلمع وأنت بتتكلم عن الشغل، وطموحك فيه…
حلو إنك تتعامل مع حاجة بتحبها، علشان حتى لو شغفك نام شوية هيرجع يصحى تاني، أنت أول مرة على فكرة تقول كلام كتير
ابتسم وهو يتأملها فأكملت: بس قولت كلام كتير علشان بتتكلم عن حاجة بتحبها، حاجة عينك وطاقتك بيتكلموا عنها قبل نطقك، العين بتنطق قبل أي حاجة.

صمتت ونظرت له فقال بضحكة: أتمنى تكون عيني بتنطق دلوقتي، وتقولك إنها بتحبك وبتحب برائتك.
اتسعت ضحكتها واحتضنها هو لتستند رأسها على صدره، تنهدت بارتياح، تشعر بدفء يغمرها وزاده نبرته وهو يقول: ياريت الوقت يقف هنا.
ابتسمت بحنان وداخلها لا يتمنى إلا أن تتحقق جملته، داخلها لا يتمنى إلا أن يبقى كل شيء كما هو، أن يتوقف الزمن في هذه اللحظة الدافئة، اللحظة التي لا تُنسى أبدا.

صباح يوم جديد، ولكنه صباح غمرته البرودة وبدت الشمس وكأنها هاجرة له، ذهبت شهد إلى كليتها، استعدادا لحضور محاضرة العاشرة صباحا ولكنها تفاجئت بأحدهم يقول: الدكتور مش جاية.
تأففت وهي تتمتم بضجر: ومبتبعتش على الجروب ليه ولا هو أي عطلة وخلاص.

كان مزاجها سئ فقررت الرحيل وعدم الانتظار أكثر، وفي طريقها للخارج لمحت طاهر يقف بسيارته أمام المبنى، جحظت عيناها بصدمة، تصنعت عدم الملاحظة، ولملمت شتات نفسها سريعا وهي تتحرك للمغادرة، فطل عليها برأسه لتقف مكانها وهو يسألها: على أساس إنك مش شايفاني وكده.
تحدثت برسمية شديدة لم تلق بها مطلقا: خير يا كابتن طاهر، في حاجة تستدعي إنك تجيلي لحد كليتي وتنده عليا؟

رفع حاجبه وعلق على ما تقول باستهزاء: أداء تمثيلي بشلن، أوعي تشتغلي ممثلة هتبقي فاشلة أوي.
طالعته بجانب عينها بكبر فحثها بغيظ: اركبي بس يا شهد الله يباركلك، هقولك كلمتين وانزلي.
تنهدت بانزعاج قبل أن تركب السيارة التي رحل هو بها وأوقفها على أحد الجوانب ثم تحدث بهدوء: سايبة محاضرتك وخارجة ليه؟، المفروض في واحدة شغالة دلوقتي بتاعة الساعة عشرة.

أصابتها الدهشة لمعرفته بالموعد ولكنها تصنعت عدم الاهتمام وهي تقول: مجاليش مزاج أحضر.
وإيه عكر مزاج الهانم.
ردت عليه بابتسامة صفراء: طلتك البهية
جذب باقة من الزهور من الخلف وقدمها لها قائلا بابتسامة لم تستطع عدم النظر إليها أو تخطيها: أنا أسف.

انكمش حاجبيها بحزن وعادت تنظر أمامها من جديد فقال ما جعل الدموع تتلألأ داخل مقلتيها: وحمار كمان وأستاهل اللي بتعمليه، بس بحبك والله العظيم، حاولت أعديكِ معرفتش، أنا حياتي وقفت يومها يا شهد.
مطت شفتيها كالصغار في حركة تلقائية وقد انكمش وجهها وتسارعت دموعها فطالعها بحزن وتابع: مكانش سهل عليا يا شهد والله، أنا كنت خايف على يزيد أوي.
بس مخوفتش تكسرني.

هكذا ردت عليه وأجاب هو مسرعا: أنا اتكسرت ببعدك برضو، ومع أول موقف جه بعدها صدقتك وكدبت الكل.
قصد ما أشيع عنها في البلدة وأضاف بصدق: صدقتك علشان أنا واثق فيكِ، وطول الوقت واثق فيكِ بس ساعة يزيد اتجننت، حطي نفسك مكاني طيب.
سحب منديلا وأعطاه لها لتمسح دموعها وهو يقول بابتسامة: شكلك حلو وأنتِ بتعيطي…

توقفت عن البكاء وطالعته ليكمل وهو يرى مقلتيها وقد امتزجتا بالدموع: بس إحساس وحش أوي إن العياط ده بسببي.
مسحت دموعها وهي تسمعه يقول: أنا مش هضغط عليكِ تاني، أنا بس حبيت أبرر موقفي، كنت عايز أقولك إني مصدقك في كل وقت بس اتلعب بيا.
وأمام صمتها أكمل بما لم يرد قوله أبدا: وطالما اللي أنا عملته يحرمنا من فرصة تانية سوا، أنا مش هخليكِ تشوفيني تاني يا شهد.

وعند هذه الجملة لم يدم صمتها أكثر بل ردت عليه بما جمده: لو قلبي كان بإيدي كنت اديته بالقلم على وشه، علشان عمال يقولي أسامحك، ولا كأنه قلبك أنت مش بتاعي أنا.
ابتسم وتابعت هي بابتسامة من بين دموعها التي كلما مسحتها زادت أكثر: مسامحاك يا طاهر، مسامحاك علشان جملة أنا مصدقك يا شهد اللي قولتهالي في التليفون صلبت ضهري وهو كان محني.
أخذت الورد منه فقال بضحكة واسعة: أنا مش هسمع في حياتي حاجة أحسن من كده.

الورد ذكرها بكل ما ردته له، ذلك اليوم حين أعطت حسن الزهور المجففة وأربطة الشعر ليعطيهم له، وأبقت معها واحدة فقط لم تستطع إعادتها.
قال ما جعل ضحكتها تتسع: لو عملتلك حاجة تاني، ارميني أنا والورد المرة دي في الشارع…
خدي البسي بقى.

كان الخاتم الخاص بها، ما إن وقعت عيناها عليه وتذكرت يوم أن ألقته له على الأرضية، تذكرت شعورها بالقهر لحظتها فانهمرت دموعها وزادت شهقاتها، أدرك هو ما يحدث فقال مسرعا: أهو الخاتم ولا تزعلي نفسك.
ألقاه من السيارة وقد فتح الزجاج المجاور له فشهقت بصدمة قائلة من بين دموعها: آه يا بن المجانين.
نزلت مسرعة وأخذت تبحث عنه على الأرضية حتى وجدته وعادت به سائلة بغضب: أنت بترمي الخاتم ليه؟

رد عليها بنبرة مماثلة مشيرا على عينيها: مش أنتِ أول ما شوفتيه الحنفيات اشتغلت.
ناطحته بقولها الثائر: علشان افتكرت الزفت اللي كان لسانك بينقطه لكن الخاتم ملهوش ذنب.
أنهت قولها بارتدائها له ثم فردت كفها أمامها بنفس حركتها القديمة تتأمل الخاتم الذي برز جماله أكثر مع رسمة الحناء على يديها فأردف بما جعل ضحكتها تسطع: محدش بعدك يلبس حاجة في إيده تاني.
نظرت له وتحدثت تحذره بنبرة حزينة: متعملش فيا كده تاني.

هز رأسه بابتسامة صادقة فسألته: طب ولو عملت؟
رد عليها قائلا بمشاكسة: اقتليني، بس مش ههون عليكِ.
لا هتهون وهقتلك.
قولها هذا جعله يضحك وضحكت هي الأخرى، ثم قال وهو يجذب كيس بلاستيكي ويخرج ما به: بصي أنا جايبلك إيه.
انتبهت له فأخرج زجاجتين من عصير البرتقال مما جعلها تقول بحماس وهي تجذب واحدة: عصير برتقان.
فتحتها وقبل أن تضعها على فمها سألته بتصنع الحذر: أمان دي صح؟

رد عليها بغيظ وهو يفتح زجاجته: ما هو احنا لو ناصحين كده مع الناس برا، مكانش حد غفلنا.
ضحكت على قوله فغمز لها مردفا: بس مش مهم، أنا بسبب عصير البرتقان ده بقيت مع الأنسة المتدنية.
تذكرت ما نعتته به مسبقا فقالت: شكرا يا كابتن سفيه.

أنهت قولها واحتضنت الزهور بحب وضحكتها لا تفارقها وهو ينظر لها وقد سكن أخيرا وهدأت الحرب التي نشبت داخله لحظة فراقهما، قد رضى أخيرا، ولم يأت الرضا إلا حينما عادت من فر قلبه منه للبحث عنها هنا وهناك ولم يهتدي إلا في حضرتها.

خرجت رفيدة لتبتاع بعض الأشياء استعدادا لسفرها إلى كليتها في الغد، كانت عائدة وهي تحمل الأكياس ولكنها شعرت بأنها على وشك فقد توازنها، أعصابها تالفة للغاية، وألم رأسها لا يُحتمل، لا تعلم ماذا يحدث لها هذه الأيام، توقفت مجبرة وتركت الأكياس من يدها لتقع على الأرضية، كانت على مقربة من محل إصلاح السيارات الخاص ب عز الذي ما إن لمحها ورأى حالتها هذه حتى هرول ناحيتها وهو يقول بقلق: مالك يا أستاذة رفيدة؟

كانت تحيط رأسها بيدها فحثها برفق: طب تعالي اقعدي.
جذب لها مقعد مسرعا لتجلس عليه ونادى عاليا على والدته: هاتي يا اما كوباية ليمون.
اعترضت رفيدة وهي تشير بيدها: ملهوش لزوم خلاص يا عز، أنا بس دوخت شوية، هقوم امشي خلاص.
كان متلهفا عليها، يشعر أنها ليست على ما يرام فعرض عليها بلطف: طب أكلمل…
قاطعته هاتفة بابتسامة: لا يا عز شكرا، أنا هروح.

في هذه اللحظة خرجت والدته بكوب العصير قائلة بإصرار: تمشي إيه، والله ما يحصل قبل ما تشربيها.
نظر عز لرفيدة قائلا بمزاح: بصي طالما حلفت خلاص انسي. مش هتفلتي.
ابتسمت برقة وتناولت الكوب منها، لم تستطع إنهائه فاعترضت السيدة بقولها: لا مينفعش أنتِ عايزة عز يبور.
مط شفتيه بغيظ معلقا: عز إيه اللي يبور يا حاجة بس، اسكتي الله يكرمك.

ضحكت رفيدة فابتسم وهي تقول: شكرا يا طنط، شكرا يا عز و إن شاء الله مرة تانية هشرب العصير كله علشان متبورش.
اتسعت ضحكته وقبل أن ترحل تماما حث والدته قائلا: روحي معاها ياما علشان شكلها تعبانة، وصليها وارجعي.
هزت رأسها سريعا وقبل أن تلحق بها نبهها محذرا: أما بلاش تفتحي في عز وسيرة عز، المرة اللي فاتت لقيت الحاج نصران بيقولي أنت بتحب بنتي، مش عايز المرة دي ألاقيها هي نفسها وجميع سكان المكان عارفين.

ألقته بنظرات غاضبة فضحك وتركته لتلحق بها حيث نادتها ووقف هو ينظر في أثرهما ولم يعلم هل كان يتوهم أم لا حين شعر أن رفيدة استدارت خلسة تنظر له قبل أن تعود للنظر أمامها مجددا ولكن كل ما يعلمه الآن أن قلبه يخفق وبشدة.
في نفس التوقيت
كان باسم في منزل صاوي تحديدا في الردهة مع قسمت التي ساعدتها مديرة المنزل في التحرك بمقعدها، سأم من الحوار معها حيث قال بضجر بعد نقاش طويل: ده أنتِ مستفزة.

تركها وذهب ناحية مكتب والدها، كان سيدق الباب ولكنه توقف حين سمعه يقول: يعني لحد دلوقتي بتديها الجرعات في ميعادها مظبوط.
لا يعلم بماذا رد الطرف الأخر عليه ولكنه سمعه يقول: في أعراض بدأت تظهر عليها؟
انكمش حاجبي باسم باستغراب و صاوي يكمل: أنا عايزك تنفذي كل حاجة بالظبط، ولو المطلوب حصل بسرعة هزودك في الفلوس، أنا عايزها تشطب وتجيب أخرها خالص، ولما الإزازة اللي معاكِ تخلص ابعتي مسدج بس وأنا هتصرف.

هز باسم رأسه وقد بدأ يفهم، بدأ يفهم أن شيء ما مريب يحدث وصانعه هو والد قسمت.
ساعات تمر ونمر معها، ولكن بمرورها تضعنا في ما لم نتمن أبدا أن نمر به، لا يدري عيسى ماذا حدث ولكنه الآن واقفا أمام والده، والده الذي سأل: كلمتي ماشية عليك ولا لا؟
لا يدري ما هو مقصد السؤال ولكنه رد بما هو صادق فيه حقا: كلمتك سيف على رقبتي.
هز نصران رأسه ثم قال وهو يطالع ابنه ولا تتزحزح عيناه عنه: يبقى ملكش دعوة بشاكر تاني.

انكمش حاجبيه وحرك رأسه بغير تصديق وهو يسأل باستنكار: يعني إيه مليش دعوة بشاكر تاني؟
يعني خلصت يا بن نصران، وده قول أبوك، ولو ليك قول بعد قوله سمعني.

خرجت كل كلمة حاسمة وكأنها تخبره أن الأمر منتهي لا نقاش فيه، أما هو فلمع في عينيه نظرات التحدي، نظرات الرفض، والغضب، طاقة غضب مهولة بانت في عينيه وبانت أيضا وهو يزيح الحامل المعدني الذي وُضِع على الطاولة بكل ما عليه من أكواب ليسقط على الأرضية ويتناثر الزجاج في الأرجاء، هب نصران واقفا ولم يتغير شيء بتعابير ابنه بلا زادت شراسة وتسارعت أنفاسه وكأنها في سباق عنيف وأقسمت أن تكون الأنفاس الفائزة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *