التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل التاسع والعشرون

إذا تبقى لي أمنية واحدة فقط…
فبكل تأكيد لن تكون سوى ملك…
إذا كان العالم سينتهي بعد قليل فلينتهي.
ولكن برفقة ملك، هي ودونها تنتهي كل الأشياء.
تنتهي الحياة.
كانت الصدمة كبيرة، الصدمة من قول لم يتوقع أن تتفوه به أبدا، لكن هذا لم يمنعه من سؤالها: يعني إيه يا شهد مش عايزة تتجوزي؟
هو لعب عيال؟
كانت نبرته منخفضة حتى لا يسمع والده الواقف في الخلف بحثهما على القدوم، وحين نطق نصران مجددا: ما يلا يا بني.

قبل أن تقول شيء، استدار طاهر يستأذن من والده: بابا بعد إذنك، خمس دقايق بس هتكلم مع شهد في حاجة ونرجع.
أبدى والده استغرابه، وكذلك سهام التي همست لحسن: هو في إيه يا حسن؟
لم يكن على علم بما يحدث، وشعرت هادية بالتوتر والقلق من تغير تعابير ابنتها فجأة من الفرح إلى الخوف فمالت على مريم مردفة بتخوف: أختك شكلها بتعمل مصيبة.

حثها طاهر على السير أمامه، كانت لا تتحرك وكأنها تجمدت فتحدث محاولا بكل جهده ألا يبدي انفعاله: شهد امشي لو سمحتي، وبلاش اللي على وشك ده أنا مش هتجوزك غصب عنك.
قصد شحوبها الذي احتل وجهها ما إن اقتربا من خطوة العقد، قوله هذا جعلها تسير معه حتى وصلا إلى ركن بعيد عن الجميع، وقف أمامها متسائلا: ممكن أعرف في إيه؟، طب لما أنتِ مش عايزة.

كان مستنكرا لكل ما يحدث وأكمل بغير تصديق: لما أنتِ مش عايزة مقولتيش ليه من الأول؟، كان ليه كل ده؟
التردد والخوف يتفننا في قتل كل ما هو جميل، طالعته بحزن وعبرت عما بداخلها دون كذب: فجأة خوفت، وأنا على بعد خطوة من المأذون، خوفت من تجربة أنا مش ناسياها، من أبويا اللي حط رقبتنا تحت رجل عمي ومراته
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وأكملت: عمي ومراته اللي قسوا قلبه عليا.

تسابقت الدموع على وجنتيها وهي تخبره: أنا كنت بخاف أثق في الناس لحد ما قابلتك، أنا بتطمنلك وبحبك
كان متأثرا بكل ما تقوله وتسأل بحزن: طب ليه مش عايزة طالما بتطمنيلي؟
علشان خايفة، خايفة يجي يوم و تكسرني، خايفة أي حاجة تحصل تخليك تهد كل حاجة وتهدني معاهم.

أنا مش ناسية يا طاهر اللي حصل ساعة ما سيبنا بعض، مش ناسية الكلام اللي قولته ومخوفني حتى بعد ما رجعنا، انا كل حاجة وحشة افتكرتها دلوقتي و حسيت إن عقلي وقف.
أخبرته بما دفعه لمحاولة للحفاظ على الصبر والهدوء وهو يرد عليها: شهد هو احنا مش اتكلمنا قبل كده في الموضوع ده؟..

يا شهد أنا كبير ومفيش حد هيمشيلي حياتي، أنا اللي همشيها، أنا لو كنت هسمع للي حواليا مكناش وصلنا لهنا، كنت سمعت كلامهم كلهم و اقتنعت إن العلاقة دي هتبوظ لأي سبب، لكن أنا كملت
حثها على النظر إليه وهو يكمل بنبرة بان فيها صدق حبه لها: كملت علشان أنا عايز أكون معاكي، متبوظيش كل حاجة، واديني فرصة، انسي أي حاجة حصلت قبل كده وخليكي متطمنة.

بان تأثير كلماته عليها حين لانت تقاسيمها، و قطع خلوتهما صوت نصران الذي أتى وسألهما بقلق: في حاجة يا طاهر؟
قبل أن يرد ابنه ردت هي بابتسامة: لا يا عمو مفيش حاجة، احنا جايين أهو.
وبالفعل سارت وحثت طاهر على السير قائلة: يلا يا طاهر.
شهد
قالها طاهر منبها إن كانت لم تحسم موقفها بعد ولكنها أكدت أنها على أتم الاستعداد لذلك بقولها بنبرة منخفضة: خلاص يا طاهر، يلا علشان الناس.

رفع حاجبيه باندهاش، وقد تسائل داخل عقله هل حقا الآن تخشى آراء الآخرين، كان متخوفا منها كثيرا، و لم ينته خوفه هذا إلا حين انتهى الشيخ، وأصبحت زوجته رسميا، أطلقت تيسير الزغاريد بفرح، و تعالت الأصوات كل منهم يعبر عن سعادته، أما هي فحين طالعها بحذر كانت ابتسامتها واسعة وبادرت باحتضانه، فضحك واحتضنها هامسا: اه يا بنت المجانين.
ايه قلة الأدب دي، هي مبتتكسفش؟

كان هذا تعليق سهام الذي جعل ابنتها تهمس لها بضيق: ماما على فكرة اتجوزوا.
رفضت سهام تصرف شهد معلقة: حتى لو يا حبيبتي، المفروض هو اللي يقوم يحضنها وهي تبقى مكسوفه، إنما اللي عملته ده بجاحة وعين مكشوفة.
يووه.

قالتها رفيدة بانزعاج وابتعدت عن الزاوية التي تقف فيها والدتها، وقف نصران في نفس مكان ابنته فأتت سهام لتبتسم ولكن وأد هو ابتسامتها بتحذيره لها بعد ما سمعه: باركي لابنك ولعروسته، ووضع علبة مخملية خلسة في كفها مكملا: وتهاديها بدي، و متنكديش على ابنك ولا على البت، علشان ساعتها متشوفيش مني اللي مش هيعجبك.
أنهى حديثه الذي جعل وجهها يبهت، وتوجه ناحية طاهر يحتضنه قائلا بابتسامة: ألف مبروك يا طاهر.

احتضنه طاهر بحب، ثم طالع نصران شهد بابتسامة وهو يخبرها: انسي بقى إن الواد ده يبقى ليه علاقة بيا خالص، لو عملك حاجة تعاليلي بس وأنا هقطعلك رقبته.
ضحكت ثم استدارت تحذر طاهر: فكر بقى تزعلني، هعمل حزب عليك أنا وعمو نوديك في داهية.
طالع طاهر نصران متسائلا بغيظ: بتسلمني ليها يعني من واحنا لسه على البر، امال بعد الفرح ولما تيجي تقعد هنا هتعمل إيه؟
هعلقلك المشنقة لو زعلتها.

كان هذا رد والده الذي قاله ضاحكا، وتركتهما هي وتوجهت ناحية يزيد الذي كان يهرول لها، حملته وهي تسأله بمشاكسة: إيه الشياكة دي كلها؟
رد الصغير على السؤال بحماس لسرد كل شيء يخص ما يرتديه: بابا اللي جبهالي، و تيتا قالتلي إنها كبيرة شوية صغيرين و هتظبطهالي، وعملتهالي، و رفيدة.
قاطعته معلقة بضحك: لا ده أنا، أنا لما حد يقولي حلو اللي أنتِ لابساه ده، بحكيله قصة حياتي كلها.
قطع حديثهما معا قول سهام: مبروك.

كانت قد أتت هادية لتقف جوار ابنتها، فردت شهد وهي تطالع وجه سهام الذي بدا عليه عدم الرضا: الله يبارك فيكي يا طنط.
وكذلك فعلت والدتها قائلة: الله يبارك فيكي.
قدمت سهام العلبة التي أعطاها نصران لها لشهد قائلة: امسكي، دي علشانك.

كانت تقولها باستعلاء، جعل شهد ترفع حاجبها وهي تطالع يد سهام الممدودة بالهدية، تركتها معلقة في الهواء ولم يأخذها إلا الصغير الذي تحمله شهد، غادرت سهام الذي بدا الانزعاج عليها، و قالت هادية لابنتها بنبرة منخفضة حتى لا تصل ليزيد: متعلقيش عليها، ومتديهاش فرصة تستفزك، علشان تعرفي إن كان عندي حق لما قولت نستنى شوية، بس محدش بيسمع الكلام.

رمقتها شهد بحزن فابتسمت هادية قائلة: خلاص متزعليش، ألف مبروك وعقبال الفرح.
اتسعت ضحكة شهد ومالت على وجنة والدتها تقبلها.
بينما في نفس التوقيت كانت ملك واقفة جوار عيسى الذي أخرج قلادة رقيقة تدلى منها وردة صغيرة زادت من رونقها و سألها: حلوة؟
أبدت إعجابها الشديد قائلة: أيوه حلوة أوي كمان.
أعادها لعلبتها وأعطاها لها قائلا بابتسامة: خلاص خدي يلا اديها لاختك، أنا جبتهالك علشان تديهالها بعد كتب الكتاب.

هقول إن أنت اللي جايبها.
هكذا قالت له فرفض ورد عليها: لا طبعا، أنتِ اللي جيباها، ولو قولتي حاجة تاني هديها لرفيدة تقول إن هي اللي جيباها وهي ما هتصدق.
ضحكت وهي تردف: لا خلاص أنا اللي جيباها.
ابتسمت وهي تتابع بامتنان: أنا فعلا كنت عايزة أجبلها هدية، بس انشغلت الأيام اللي فاتت معاهم جامد ونسيت فكنت هتصرف بكرا.
ربت على كتفها قائلا بابتسامة: و لا يهمك، أهي بقت عندك الهدية، روحي اديهالها بقى.

أخذتها بفرح وتوجهت ناحية شقيقتها في حين اتجه هو لصديقه متسائلا بضجر: هو أنت قالب وشك ده ليه؟، في إيه يا عم؟
قبل أن يخبره عن مشكلة في عملهما، أضاء هاتف بشير الذي كان بين يديه باسم علا، فانكمش حاجبي عيسى مرددا باستنكار: علا!
سأله بانفعال وقد بان اشتعاله على وجهه: البت دي بتكلمك ليه؟، دي علا أخت الزفت صح؟
عيسى اسمعني.
قالها بشير فقاطعه صديقه: بلا اسمعك بلا زفت، هو أنا مش قولتلك ابعد عنها؟..

وأنا أقول مالك، و حالك متغير ليه، و اسكندرية اللي مكنتش بتعتبها غير كل فين وفين بقيت كل كام يوم ألاقيك فيها أتاريني نايم على وداني و هي بتاكل عقلك و تستعبطك…
قاطعه بشير بغضب: عيسى كفاية اللي بتقوله ده، أنا محدش بياكل عقلي.
ولا يستعبطني، و أنا حر في حياتي
رفع عيسى حاجبيه متسائلا: بجد؟، و ناوي بقى تعمل الفرح وتحط إيدك في إيد شاكر امتى؟، عرفني بس علشان أبقى على علم هنقاطع بعض امتى.

نفى بشير عن نفسه شيء كهذا وتحدث باعتراض: إيه اللي بتقوله ده، أنا عمري ما هحط ايدي في إيد شاكر يا عيسى، أنا فعلا بكلمها وقابلتها كذا مرة بس ده كله جه بعد صدف كتير جمعتني بيها، هي مش وحشة أوي كده صدقني، هي بس تربيتها كانت غلط.

علق عيسى على حديث صديقه ساخرا: لا و اتحمقت أوي علشان قولت إنها بتستعبطك، أنا مليش دعوة يا بشير، بس أنت لو حطيت إيدك في إيد ال ده هتبقى خسرتني، ولو هو عرف إن أخته على علاقة بيك هيغدر و أظن أنت عارف إن الغدر في طبعه و في طبعها هي كمان بس أنت اللي معمي.

قال عيسى هذا وتركه ورحل فتأفف بشير و هو يمسح على وجهه بتعب، في اللحظة ذاتها كانت مريم قد ابتعدت عن الضوضاء قليلا لترد على صديقتها ولكن قطع خلوتها بنفسها صوت من خلفها: مريم.
استدارت له بنظرات مهاجمة، و نوت الرحيل ولكن حسن اعترض طريقها فحذرته قائلة: ابعد عن سكتي.
رفض حسن هذا وقال باعتذار: مريم أنا أسف.

تسارعت أنفاسها بغضب، وتجمعت الدموع في مقلتيها وهي تسأله بتهكم: أنت أسف؟، أنت واحد كداب وملاوع، بتقولي الصبح إنك بتحبني وآخر النهار كنت بتظبط مع واحدة تانية
هي لم تكن خاطئة في حرف واحد وهو يعلم هذا تمام العلم وهذا أكثر ما يحزنه، يحزنه أنه المتسبب في إنهيارها هذا وأكملت هي بهجوم: لقتني مش زي اللي بتكلمهم، قولت مش مهم أفضل أجري وراها شوية، و أهو تتسلى يومين، أنت واحد حقير…

احتدت نظراته وقبل أن يتحدث سألته هي بضحكة ساخرة امتزجت بدموعها: زعلتك أوي؟، معلش هي الحقيقة كده بتزعل.
أنا صعبان عليا نفسي علشان صدقتك، أنت خسارة فيك حتى الواحد يعاتبك.
ظهر الخزي على وجهه، ليس هناك رد يقوله، هل يخبرها أنها محقة بكل ما قالته حتى هذه لا تفيد وخاصة وهي تخبره باستحقار: أنا هحمد ربنا كل يوم إنه عرفني حقيقتك إيه.

أنهت جملتها ثم بصقت عليه وغادرت كبركان، بركان لم يٌسمح له بالانفجار إلا الآن.
في نفس اللحظة، كانت رفيدة تبحث بعينيها عنه، لم تلمحه حتى الآن فقط والدته فذهبت ناحيتها مرحبة بابتسامة: ازيك يا طنط.
احتضنتها والدة عز قائلا بفرح: أهلا أهلا يا حبيبتي، ألف مبروك وعقبال الليلة الكبيرة إن شاء الله.
ابتسمت رفيدة ثم سألت: هو حضرتك جاية لوحدك؟
هزت رأسها نافية وهي تقول: لا الواد عز راح يجيب حاجة من برا وجاي.

لم تكد تنتهي من جملتها حتى حضر ابنها الذي ما إن وقعت عيناه على الواقفة مع والدته حتى لمعت باشتياق، رحبت رفيدة بابتسامة: ازيك يا عز.
رد عليها وقد أشرق محياه: أنا كويس الحمد لله، أنتِ عاملة إيه؟
حريص في كل كلمة يتفوه بها عكس والدته تماما التي قالت: ده كداب ولا كويس ولا حاجة، من يوم ما مشيتي وهو زعلان…

حذرها ابنها حين وكزها في كتفها وطالعها بغيظ فتداركت سريعا: قصدي كلنا زعلانين يعني، كنا اتعودنا عليكي.
قول والدته أنه حزين من أجل رحيلها أثلج صدرها، فاتسعت ابتسامتها وهي تقول: أنا كمان زعلانة علشان مبقتش أشوفكم كل يوم بس أدينا شوفنا بعض اهو.
كلاهما يبتسم ولكن هو يهرب، إلا أن هذا الهروب لم يمنع كونه في أقصى مراحل سعادته لرؤيتها التي أطربت فؤاده وبشده.

انتهت الليلة، وستلحق بوالدتها وشقيقتها إلى المنزل، لم ينفرد بها طاهر مطلقا إلا الآن، بقا في غرفة الاستقبال سويا بعد أن انصرف الجميع، حتى والدتها التي رحلت بعد أن أخبرها طاهر أنه سيصطحب شهد إلى الخارج، وسيقوم بتوصيلها حتى المنزل، حل الصمت و لم يقطعه إلا صوت طاهر الذي قال: تحبي نخرج نروح فين؟
أنت زعلان صح؟

تسائلت بحزن ولم يخفي مشاعره هو بل هز رأسه بالإيجاب قائلا: اه زعلان يا شهد، زعلت علشان أنا اللي خوفت إنك تهدي كل حاجة، بس بعد اللي قولتيه خلاص، أنا مقدر موقفك، و…
قبل أن يكمل قاطعته قائلة بابتسامة: وأنا وافقت اديك فرصة، و متزعلش مني بس أنا كنت حاسة إني عايزة أسيب كل حاجة وأجري، كنت خايفة أندم.
طمأنها بقوله: أنا مش هقولك أوعدك متندميش، علشان أنتِ عندك عرق طاقق، ومع أول مشكلة هتقوليلي أنا ندمت اهو.

ضحكت عاليا فأكمل هو بغيظ: بس هقولك إني هعمل كل اللي أقدر عليه علشان مخذلكيش، علشان بحبك يا أنسة متدنية.
ضحكت ورفعت يدها تتطلع إلى الخاتم الذي نقلته في اليسار متسائلة: شكله بقى أحلى صح؟

تناول كفها، وضع قبلة رقيقة على باطن كفها، فشعرت وكأن كل شيء سكن من حولها و لا يتبقى سوى دقات قلبها العالية وهي تطالعه بشغف، طالعها ولأول مرة يمسد على خصلاتها ويخبرها بابتسامة: علطول كنت بقولك شعرك وهو مربوط أحلى، علشان كنت بحب شكله وأنتِ رابطاه، بس النهاردة هو عاجبني كده.
كست الحمرة وجنتيها وهي تسمع ما يقول، وتلاقت أعينهما فسألها ضاحكا: إيه ده أنتِ خدودك بتحمر أهو زي اللي بيتكسفوا.

أنا كنت فاكرك هتقعدي عمرك كله متتكسفيش.
ضيقت عينيها وهي تهتف بغيظ: اه يا كابتن سفيه.
ضحك على قولها و غمزت له هي قائلة بابتسامة: بس إيه الشياكة دي؟، خاطف الأضواء و مُلهم نجوم الفن، مفكرتش تشتغل موديل قبل كده؟

علا صوت ضحكاته و تأملت هي عينيه التي تضيق حين يضحك، و فاجأته حين احتضنته وتوسدت صدره، وقالت ما جعله يبتسم: المرة الأولى رميت نفسي عليك علشان كنت عايزة أبوظ جوازة علا ومكنتش بفكر أنا بعمل إيه، وساعتها حماتك ضربتني قلم محترم.
أكمل هو بدلا عنها وهو يمسح على خصلاتها: لا المرة دي متقلقيش، ولا هتبوظي جوازة حد ولا هتضربي، ولو عايزة تفضلي كده للصبح افضلي أنا معاكي.

اتسعت ابتسامتها وتشبثت به أكثر بحب، وشعورها الآن هو الأمان، أما هو فبعد يوم طويل أنهكه أخيرا هو برفقتها وقد صارا معا، وقد ظن أن الأمر مستحيل ولكنه حارب من أجل تحقيق ما ظنه مستحيلا.
كانت نائمة قبل أن تشعر بحركته في الغرفة، فتحت عينيها بصعوبة ونظرت في الساعة جوارها لتجدها التاسعة صباحا فاعتدلت على الفراش ثم طالعت الذي بدا على أتم الاستعداد للخروج متسائلة: أنت هتنزل يا عيسى؟

رأت الإرهاق في عينيه وعلمت من أنفاسه التي يسحبها بهدوء وكأنه لم يسترخ إلا الآن، أنه ربما كان على وشك إحدى نوبات غضبه، لعلها أتت وانتهت بالفعل، أخبرها بهدوء: أنا نازل و يمكن اتأخر، جهزي حاجتك علشان هننزل القاهرة.
كان جالسا على حافة الفراش فتناولت كفه متسائلة بقلق: أنت مش كويس، في إيه؟
ربت على كتفها قائلا بابتسامة أظهرها بصعوبة: متقلقيش.
طب استنى متنزلش، هعملك تفطر الأول.

اعترض على هذا قائلا: أنا هفطر برا مع بشير، كملي نوم أنتِ.
ترك مكانه وتوجه ليغادر ولكنه سريعا ما تذكر شيء فعاد إليها قائلا: اه يا ملك صحيح.
أخرج محفظته من جيبه ثم وضع ما تناوله منها على الطاولة قائلا: خلي دول معاكي، و ملهمش دعوة باللي تعوزيه، لما تحتاجي حاجة اطلبيها.
حاولت الاعتراض قائلة: بس أنا مش عايزة…
فقاطعها مردفا: كدابة، مفيش حد مبيعوزهاش دي.

ضحكت على قوله هذا وهي تحرك رأسها بمعنى ألا فائدة منه في حين حثها هو بابتسامة: احنا متجوزين، مش لسه بنتعرف، أنا مش دايما هبقى واخد بالي إنك محتاجة حاجة، اتعلمي مني بقى، مش عيب تبقي متجوزة حد زيي ومتتعلميش؟
اتعلم إيه؟
كان هذا سؤالها وقد ابتسمت فرد عليها مفسرا: البجاحة، تتعلمي البجاحة.
ثم لوح لها قائلا: يلا سلام.
حثته بنبرة ملهوفة: متتأخرش يا عيسى
استدار يبتسم لها فأكملت عبارتها: هنتغدى سوا ماشي؟

لا طالما فيها غدا خلاص مش هتأخر.

قال هذا بمشاغبة فضحكت وغادر هو إلى وجهة تردد كثيرا قبل الذهاب إليها، ليس تردد فقط بل إنها حرب نفسية نشبت بداخله، صراعات لا تنتهي قرر أن يحاول هزيمتها بالذهاب إلى هناك، وجد نفسه في النهاية بعد سير استمر طويلا بلا هوية، كان رفيقه فيه سيارته في داخل عيادة المعالج النفسي، انتظر حتى سُمِح له بمقابلة نور، ما إن دخل إلى غرفته حتى رأى الابتسامة على وجهه وهو يقول: زيارة غير متوقعة بالمرة.

جلس عيسى على المقعد المقابل لمكتب نور، بقى دقائق صامتا دون أي حديث مما دفع نور ليقول: مرتاح في السكوت؟، لو هو العلاج وحبيت تمارسه في العيادة هنا فده يسعدني، بس في ناس تانين عايزين يسكتوا قصدي محتاجين يقابلوني علشان يلاقوا حل.
أنا عارف إن في IED.

قول نطق به عيسى جعل نور ينصت له تماما، كان الجالس أمامه لا يطالعه، ينظر لنقطة في الفراغ و هو يتحدث عن أشياء بدت عشوائية ولكنها لديه مرتبطة ارتباط كبير: أنا بحب بابا أوي، هو مقصرش معايا أبدا، أنا اللي كنت كتوم لدرجة تخنق، كنت مبرضاش أحكي أي حاجة مزعلاني غير لميرت بس، ميرت أكتر ركن أمان عندي هي الاختيار اللي بختاره في كل مرة وأنا عارف إنه مش هيختارني…

انتقل إلى نقطة آخرى وكأنه يفرغ جزء الصراع المتشابك الدائر داخله: أمي أنا لسه فاكر كل تفاصيلها، فاكر الحاجات اللي كانت بتعملهالي، وإني كنت متعلق بيها ومش بنام مرتاح غير في حضنها، الراحة دي ملقتهاش تاني غير في حضن ملك.

لمعت عيناه عندها ببريق مختلف خاصة وهو يُكِمل: ملك أكتر انسانة مستعدة تدي ومتاخدش شوفتها في حياتي، بخاف عليها أوي، بخاف تضطر فجأة تبقى لوحدها تقع، بيبقى نفسي أصحى الصبح ألاقيها بتقدر تعمل كل حاجة لوحدها ومش محتاجة لحد.
أضاف بعد أن جاهد ليسحب نفسا عميقا: ملك تستاهل أحسن حاجة في كل الحاجات…
لو النجاة في شخص هتبقى ملك.
لو الأرض اتملت بناس مؤذية، هفضل متأكد إن فيه أمل علشان فيها ملك.

العمر بالنسبالي هو وقت هقضيه مع ملك.
وأي لحظة بعيدة عنها بتبقى لحظة ضايعة علشان مفيهاش ملك.
ينتقل بسلاسة من شيء لآخر لأنه يدرك أن كل ما يتفوه به هو حلقة من سلسلة كبيرة: لما فريد اتقتل، حسيت إن حتة مني اتقتلت.
رغم البعد وقلة زياراتي بس فريد كان نسمة هوا بتردلي الروح بعد سنين طويلة مشمتش الهوا فيها.

لما فريد راح أنا بقيت نسخة أسوء من نسخة كانت موجودة قبل كده، بشير هو الوحيد اللي ممكن أقوله سري ومخافش إنه يتكشف، وطاهر هو نصران، طاهر بيخاف عليا بنفس الطريقة اللي أبويا بيخاف عليا بيها، علاقة طاهر ويزيد بتخليني اسأل نفسي هو أنا كنت غلط لما اختارت ابعد؟

لمعت الدموع في مقلتيه وهو يكمل: أنا كنت محتاج حنان زي اللي بيديه طاهر لابنه، وكنت متأكد إن أبويا مش هيبخل عليا بيه بس مقدرتش علشان كنت صغير وخايف، مقدرتش علشان رفيدة و حسن، و طاهر، بخاف على حسن أوي.
شدة بابا منفعتش معاه علشان دلع مدام سهام ليه كان أكبر.
وكأنه يصارع وحوشا وهو ينطق بهذه الأسماء: كارم، سهام، منصور، شاكر…
حسن ورفيدة وطاهر بيحبوها، هي تكسب أنا لا…
ميرفت بتحبه هو يكسب أنا لا…

أمي خلاص راحت هو كسب أنا لا
وفريد راح وأنا خسرته.
عبارات متتالية بدت لنور مبهمة، يبث كل ما لديه وفي الوقت ذاته لا يُفصح عن أي شيء، أنصاف فقط من كل شيء كامل، أدرك نور أن الجالس أمامه لن يقول أكثر من ذلك فقال بنبرة حفزته على الإجابة: اوصفلي شعورك دلوقتي.

ابتلع عيسى ريقه بصعوبة، على الرغم من قسوة المعاناة إلا أن وصف هذه القسوة أصعب ما يكون ولكن عيسى قال: حاسس إن جوايا كتير بيتخانقوا مع بعض وكلهم عايزين يغلبوا، واحد بس فيهم مش عايز يغلب، محتاج بس يعيش بسلام، الواحد ده يبقى أنا.

يبقى العيل الصغير اللي أعرفه، بس العيل ده مبيعرفش يواجه لكن اللي بيتخانقوا جوا وعايزين يغلبوا دول بيعرفوا، علشان كده أي أثر للعيل ده بيختفي إلا مع ناس معينة منهم أبويا و رفيدة.
و بشير، و حسن و طاهر، و ملك.
بس احنا لازم نخلي العيل الصغير ده هو اللي يكسب يا عيسى، علشان اللي عايزين يكسبوا جواه دول طاقة غل بتحركه، شايفة إنها هي اللي لازم تسود، لازم تواجه كل اللي مواجهتوش.

كلمات قالها نور وعلقت في أذن عيسى، علقت ولا يعلم متى انتهت الجلسة ولا كيف، كل ما يتذكره منها فقط يجب أن تواجه، لذلك قرر مواجهة أول شيء أراد مواجهته من فترة، ذهب بنفسه إلى منصور، لم يحسب أي شيء حتى لم يفكر، فقط ذهب، وهو الآن جالس أمامه جوار أرضه الزراعية، نفخ عيسى دخان لفافة تبغه وقال بعد صمت طال: أنا عندي ليك عرض.
أبدى منصور استغرابه وتسائل: عرض إيه ده؟

كان عيسى يتأمل الدخان أمامه وهو يقول ببساطة ما أذهل منصور: هبيعلك أرضي اللي أبويا كتبهالي، أظن ده كنز بالنسبالك، هيرجع يبقالك رجل تاني في البلد اللي كنتوا كبارها وخرجتوا منها بفضيحة وزفة.
أدرك منصور أنه هناك فخ، فقال بانزعاج: وايه لزمته الكلام ده يا بني، لو مزنوق في فلوس قولي وهسلفك من غير ما تبيع، أنا أساعدك لو أبوك مش عايز يساعدك.

يحاول سحبه في صفه فطالعه عيسى بنظرات كاشفة لكل ما يحيكه: بقولك إيه يا حاج منصور، الشغل ده مش عليا.
أنا قدمت عرضي…
وإيه المقابل قصاد عرضك ده.

كان هذا سؤال منصور، برزت ابتسامة جانبية على وجه عيسى وقال بنظرات كانت قاتمة هذه المرة تواجه منصور بتحدي، تُذكره بفعلته وتخبره بأن الجالس أمامه يعلم ما اقترفه، يعلم أنه هو المتسبب الأساسي في قتل والدته، وبان هذا في حديثه الخطير: أنت ذكي، و أكيد عارف إن التمن هيبقى غالي، أنا هحققلك أمنية حياتك في مقابل حاجة واحدة بس.
تصبب منصور عرقا وجاهد أن يثبت وألا يلتفت لأوهام عصفت به: ايه هي؟

بعد قوله سحب كوب المياه ليرتشف منه فنطق عيسى بنفس الابتسامة الماكرة: ترجع أمي.
وهنا سقط الكوب من يد منصور، وبقى تحت نظرات ملك المفاجأة، ملك الأقوال التي دائما وأبدا ما تفرض نفسها بشراسة معلنة أن صاحبها هو.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *