رواية في حي السيدة للكاتبة هاجر خالد الفصل الثاني عشر
هل سبقَ لكَ بأن شعرتَ باليأسِ يتغلغل إلى روحك فيسكنُ بداخلكَ ويقتلع جزوعَ الصبرِ المُتأصلة بك.
كانت عَائشة تسيرُ في الشارع وتنظر حَولها بشرود، نظراتها تائهة، باهتة وحزينة…
حديثها مع سليم جعل منها في حالة يأس شديد، لقد ظنّت حينما رأته بأنه الخلاص، ولكن يبدو بأن الآوان لم يأتِ بعد، تسير بلا هَدف…
تبكي دون صوت…
رائف؛.
الشيطان الذي دمّر حياتهم سيخرجُ اليوم كما أخبرها سليم، سيخرج لأن والده حينما عَلم بما حدث له جُن جُنونه، فسافر خصيصًا من الإسكندرية إلى القاهرة يصحبُه العم مجدي محامي العائلة، كانت تتمنى لو بقى وقتًا أطول في السجن، وقتًا يُؤهلها للهروب مجددًا مع أختها ووالدتها، وعلى ذكر والدتها، لقد أخبرها سليم بأنه لم يكن يأتِ لها بالدواء الخاص بها، ولكن رائف أخبرها بأن هذا الدواء يُرسله سِليم لها وهي كَانت تدفع ثمنه للوسيط الذي يُسلمه لها، آآه أنينٌ خَافت خرج من فَمها حينما اختنقت بشهقاتها المَكتومة، لم تبالي بأنظار الناس مِن حولها، لم تبالي بأي شيء.
عائشة شكّت بأن الدواء هو من دمّرَ حالة والدتها، وإلا كيف لا يحدُث أي تقدم ولو طفيف في حالتها.
وعند شكوكها تلك لم تستطع الصبر فركضت في الشوارع التي تفصل بينها وبين الطريق الذي يؤدي إلى البيت الذي تقبع فيه والدتها، ركضت بِكامل سرعتها حافية القدمين كما كانت منذ البداية، حينما رأت وَجه أختها المشوه بفعل رجال ذلكَ الشيطان لم تتحمل وثارت ثَائرتها، خرجت من المنزل حافية القدمين أوقفَت سيارة لتأخذهم للقسم بعدما ألحّت عليها هايدي قائلة بأن منظرهم هذا لا يجوز أمام الناس، بعدما خَرجت على الطريق الرئيسي أوقفت عائشة سيارة أجرة لِتقلها إلى عُنوان البيت الذي كان بعيدًا نسبيًا عن قسم الشرطة…
في منزل أمجد الدرملي؛.
كان أدهم يقف مصدومًا وهو يرى جَسد رهف يسقط أمام أعينه أرضًا، ولم يفق من صدمته إلّا بعد صراخ أمه وجدته باسمها، فهلع نحوها جزعًا خاصًة حينما رأى الدماء تخرج من معصمها بَعدما شقته لتتخلص من حياتها، انحنى أدهم أرضًا وقام بإمساك ملاءة السرير الموضوع قريبًا منه نسبيًا وجذبها بعنف غير مُبالي بالأغطية التي سقطتت أرضًا، ثم شقّ منها جزءًا بسيطًا وقام بلفه على معصم رهف التي فقدت وعيها وإزرقت شفتيها بطريقة أثارت الرعب في روح والدته التي ركضت نحوها تبكيها بشفقة، هبط أمجد بسرعة لا تتناسب مع عُمره ولكنه كان هلعًا خائفًا فركض على السلم يتبعه أدهم وهو يحمل تلك الفتاة الشبيهه بالموتى في أنظار من يراها، همّت سُعاد أن تتبعهم ولكن صراخ والدة الفتيات أوقفها فتوجهت ناحيتها تتبعها زينبو أيضًا لتطمئن عليها، فهي لا تعلم بطبيعة مرضها التي تجعلها أغلب الوقت إما نائمة أو تصرخ بهستيريا كما تفعل الآن، أستر يا رب…
قالت سُعاد بقلق وهي تتوجه نحوها بأعين دامعة وقلبٌ مُرتجف، فتحت سُعاد باب الغرفة ودلفت للداخل فرأتها جالسة على السرير و تصرخ بصوت مُتألم آلم قلبها عليها وعلى حَالتها وحين ساءت حالتها أكثر وبدأت في جذب خصلات شعرها توجهت نحوها ممسكة يديها لتوقفها عن إيلام نفسها، ثم نظرت لزينبو مخبرة إياها بضرورة الاتصال على سفيان لكي يأتي ليراها فهو طبيب على أي حال، وبالفعل نفّذت زينبو ما طُلب منها وهي تتنهد باستغفار وتتمتم بالدعاء للنجاة من تلك المصائب التي تصيبهم مصيبةً تلو الأخرى…
رنين هاتف سفيان الذي كان يجلس في مكتب صديق أدهم رحيم أخرجه من شروده الغاضب، فنظر له بتأفف ثم تنهد و نظر له بإستغراب خاصًة حينما لمح اسم جدته فقام بالرد عليها على الفور، السلام عليكم، رد سفيان بهدوء ليستمع لصوت جدته المهتز فجعد حاجبيه بقلق وحينما عرف منها ما حدث نهض مسرعًا و ركض تقريبًا ناحية سيارته ثم انطلق نحو منزله غير عابئ بنداء رحيم عليه، لا إله إلاّ اللّه، يا رب سلم يا رب، تمتم سفيان بدعَاء وهو يقبض بيده على المقود حتى إبيضت مفاصله، لا يَعلم ماذا أصاب حياتهم الراكِدة ولا يَعلم ماذا سيفعل معهم، ولكن كل الذي يعلمه أنه لن يتخلى عنهم أبدًا، وهذا سيكون تكفيرًا لذنبه في حق أخيهم…
فهو يظن أن رائف فعل هذا لينتقم منه في صديقه مروان، ولا يَعلم سفيان أن الأشخاص مثل رائف يُحبون فقط أن ينشروا الفَساد في الأرض، يُدمروا كُل
شيء بهدف الاستمتاع، واللُعبة بينه وبين سفيان لازالت في بدايتها…
تنهد أدهم للمرة الألف وهو واقف يستند على الحائط بينما أمجد جلس على الكرسي الموجود وهو يستند على عكازه، أدهم…
قال أمجد بهدوء لينتبه له الآخر ثم اقترب وجلس بجواره، أؤمر يا حج.
قال أدهم بابتسامة فربت أمجد على كتفه بحنان، ميؤمرش عليك ظالم يا دومة، قال أمجد بمشاكسة فقهقه أدهم عليه وهو يضرب كف بالآخر بتعجب، هنعمل إيه مع البنات دي، واحدة حاولت تنتحر والتانية راحت تبلغ عن واحد هي مش قده، وأمهم مش واعية لحد، قال أمجد بتعقل وهو ينظر لأدهم الذي مد شفتيه بتفكير ثم سرعان ما زفر بغضب وهو يتذكر حالة رهف حينما جاء بها، لقد أخبرهم الطبيب أنه كَان يفصل بينها وبين الموت شعره، وأخبرهم أيضًا بضرورة عرضها على مُعالج نفسي بسبب آثار جروح الإنتحار المماثلة على معصمها، مش عارف يا بابا صدقني، بس سُفيان مش ناوي يسبهم، بيقول إنه هيتكفل بيهم، قال أدهم لوالده التلميحات التي كان يرميها سُفيان وَسط حديثه فابتسم أمجد بهدوء؛.
ده سُفيان ابني وكنت مُتأكد إنه هيعمل كِده، بس مش بسبب حاجة واحدة بس صح؟، قال أمجد نهاية حديثه بخبث فنفى أدهم بقوة، لأ يا حج واللّه، إنت عارف سفيان ابنك مش ليه في الحرام، بس ليه في الحَلال يا حبيبي، نبس أمجد بهمس ساخر وهو يَلتفت برأسه للممرض الذي أخبرهم بقرب نفاذ المحلول، بينما أدهم ابتسم وهو يتفكر في كلام أبيه، ويا خوفي من الحَلال ده، حسنًا هو لم يَتغاضى عن توتر نظرات سفيان حينما يُلاقي تلك العائشة، وهو يَعلم أن سفيان يعرفها عزّ المعرفة منذ زمن فالصدفة اللذيذة جعلته يُفتش في حاجيات أخيه القديمة فوجد صورة لها وهي تلعب مع قطها تقريبًا ولكنه لم يُعطي اهتمام للموضوع، مع بدء ظهور مشاعر سفيان على السطح، ومع ماضي سفيان الغير مبشّر بالمرة، ومع تهمته بقتل أخيها، ومع حياة عائشة الغامضة.
هل ستكون الجميلة من نصيب الوحش في النهاية؟
كان عبدالقادر والد رائف يجلس بكل كبرياء في سيارته منتظرًا خروج ابنه من القسم، ويبدو بأنه كان واثقًا جدًا وخرج رائف منها بكل سهولة كما توقع والآن هو ينظر له يسير بجوار المحامي بغرور وبخطوات طويلة واثقة، يَنعكس ضوء الشمس على خصلاته اللامعه وكأنه لم يقضي ليلة كاملة في السجن، رفع رائف أنظار لسليم الذي كان يقف يُناظره بغموض فابتسم له بهدوء وهو يهز رأسه بتحية ليبادله سليم هو الآخر تحيته وهو يُخرج سيجارة من جيبه ويُشعلها ثم نفث دخانها ببرود وهو يرى رائف يركب السيارة ثم انطلق بها ليبتسم سليم بسخرية وإلتفت للدخول إلى القسم، سليم باشا، عنوان الواد إللي إنتَ كنت عايزه أهو، قال الشرطي لسليم بعدما أدى التحية ثم مدّ له بالورقة فأخذها سليم بحماس وهو يُطفئ السيجارة خاصته بالحائط، فتح سليم الورقة ثم توجه للخروج وعلى وجهه ارتسمت أبشع ملامح الرعب، وقد علِم من رآه بأنه ذاهبٌ ليرتكب جريمة ما بحق أحد الأشخاص وقد كان…
أما في سيارة عبد القادر، كان يجلس بجوار ابنه وينظر له بغيظ شديد منه، رائف كان نائمًا وهو يسند رأسه للخلف ويكتف يديه على صدره فإشتد الغضب على والده فرفع يده لينكزه بغضب في صدره، فتح رائف عينيه ببرود شديد ونظر لوالده بهدوء كأنه يخبره ماذا هُناك؟
إنتَ إيه يا أخي؟، أنا مش قولتلك بلاش تروح هناك، ليه كسرت كلامي ورميت نفسك في النار، ده كله علشان مين، إنتَ عارف أنا عملت إيه علشان أخرجك؟
قال عبدالقادر بصراخ ليتنهد رائف بضيق من صوته العالي نسبيًا، وطي صوتك، راسي بتوجعني
قال رائف بنفس النبرة فنظر له والده بسخط شديد وقد بدأ بالندم على إخراجه، هو يُقسم أنه لولا صورته أمام الناس لكان تركه ولكن كيف يكون ابن عبد القادر الهاشمي خلف القضبان، هذا سيهز صورته كسياسي شهير.
لم يهتم رائف بكل ما حدث، هو له هدف ولو على رقبته لن يتخلى عن هدفه، رائف لن يتخلى عن عائشة. فهي هدفه في النهاية، جهزت إللي قلتلك عليه.
قال رائف مخاطبًا مجدي المحامي فهزّ الآخر رأسه بتوتر ثم أخرج من حقيبته عدّة أوراق ستجعل عائشة تأتي له راكضة، كما يأمل،
وصلت عائشة للمنزل ثم بعد دقائق قليلة صعدت الدرج بسرعة ولكنها توقفت فجأة حين استمعت لصراخ والدتها، ما، ماما.
قالت عائشة بصدمة ثم أسرعت غير مُبالية بسقوطها المتكرر، ثم حين وصَلت المنزل دقّت على الباب بسرعة لتفتح لها زينبو الباب معتقدة بأنه سفيان، كويس إنك جيتي يا بنتي…
قالت زينبو بتوتر ثم اطمئن قلبها حين لمحت سفيان وراءها يصعد على الدرج بلهفة هو الآخر، نظر سفيان لها بغيظ ثم تنهد وهو يعلم بأن هذا الوقت غير مناسبًا أبدًا للشجار معها، تلك الفتاة تورطه في الكوارث لا المصائب، لم تبالي عائشة بأي شئ الآن سوى الإطمئنان على والدتها، فلم تهتم حقًا بكلام الجدة ولا نظرات الوحش الغاضبة، ثم سرعان ما ركضت لدخول الغرفة وحين وقعت أنظار والدتها عليها توقف صراخها ونظرت لها بحزن ثم بدأت بالبكاء بضعف، كانت تشكيها قلة حيلتها…
هي كانت تتألم في تلك الدقائق التي تصحو فيها من غيبوبتها، فتدرك الواقع الأليم المحيط بها، فتبدأ بالصراخ رافضة ما يحدث، رافضة لحياتها الجديدة وغير مُتقبلة لها، ارتجفَ فم عائشة ببكاء واقتربت منها بهدوء شديد وفي كل خطوة تتساقط دموعها ولا تكلف نفسها عَناء إخفاءها، لقد كتمت بدَاخلها بما فيه الكفاية، حان الآن وقت الإنهيار، وقد فعلت، عائشة ألقت بنفسها في أحضان والدتها وبدأت بالبكاء، كانت تبكي نفسها، أختها، عائلتها، كانت تبكي حياتها، عائشة الصغيرة لم تبكي، عائشة الصغيرة كتمت بداخلها حتى احترقت روحها، ولكنها الآن لم تتحمل فإنفجرت، كانت إنسانًا في النهاية…
وقد شعرت والدتها بها فضمتها بقوة لحضنها، تعالت أصوات شهقاتها ولا زالت سعاد واقفة تناظرهم بألم، هي لا تعلم من تلكَ الفتاة ولا أختها، سُعاد لم تعلم قصتها ولكنها تجزم بأنها أليمة، خرجت سُعاد حينما أشار لها سفيان بالخروج فتنهدت وتركته واقفًا يتطلع لتلكَ الباكية بألم، وهو يتمنى لو كان ألمها بداخله بدلًا عَنها، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يُدركه، وقد أدرك سفيان هذا جيدًا فأغلق الباب وهو يمسح دموعه التي تساقطت غصبًا عنه شفقةً على تلكَ الفتاة…
في مكانٍ آخر جديد كليًا، كان يجلس مستندًا على الحائط خلفه، في تلكَ الزنزانة الباردة، مقيدًا…
جسده مملوء بالكَدمات…
ونظراته الفارغة من الحياة تبعث الرعب في عيون من ينظر بداخلها، يجلس ببرود غير آبه لجسده الذي كاد أن يتجمد من شدّة البرد، ولكنه لم يهتم، لم يهتم بأي شي حقًا، روحه فارغة، روحه تتألم، هو يستغيث ولكن لا يُوجد له منقذ، لا يوجد منجي، غير اللّه، وهو سيُحارب…
وحده…
سيحاربهم جميعًا.
وسيأتي بحقه منهم واحدًا تلو الآخر، سيد مروان، هُناك زيارة من أجلك،.
التعليقات