رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي والثلاثون
-حتى ولو جف حبر قلمي فلم يجف حُب قلبي، لن أعلن ظمأي لرؤياك لأن وجودك كان بالعمر مُجرد سراب، ولكن ذلك لا يمنع إعلان إلى أي درجة خذلتني.
لأنك كُنت سبيلي الوحيد للنجاة.
كُنت أذهب إليك كلما أردتُ العزلة، واتحدّث إليك عندما أود الصمت، و أحبك عندما لا أطيق الآخرين. كُنت قمري المُستنير في ظُلمة أعوامي. والآن بتُ أنا والنجوم نبحث عنك.
ماذا فعلت ب ضي العُمر يا ليل؟
نهال مصطفى.
مصيبتي العظمى بالحياة أنني واجهتها بقلب سليم ووجه واحد، بينما الجميع يمتلك وجوه كثيرة ومتلونة.
حل المساء وما زالت عالية تنتظر قدومه على مراجل من نار، كل ما بها يغلي كفقاقيع الماء، لم تُفارق المرآة وهي تتفقد زينتها، محو تفاصيلها الحزينة، تأليف مائة سيناريو لإظهار قبولها له كزوجًا حقيقيًا، رمت الفرشاة من يدها متأففة: -أيه الجنان ده يا عالية! فوقي لنفسك، أنت أغلى من كده. لالا مستحيل الهبل ده يتم، أنا لازم أغير هدومي بسرعة، زمانه على وصول.
كادت أن تحطم جدران مخططها ولكنها تراجعت إثر كل الأحاسيس المتدفقة بقلبها، تقلصات الاعتراض توسطت بطنها وهي تتذكر رحيق أول قُبلة من ذلك الشخص الذي كانت تخشاه، عطر الأمان المُعلق بظله، معه يخشى الخوف أن يقترب منها، ارتمت نظراتها الى ذلك الفراش الذي شهد على قبلة طويلة لاذعة فضت بقلبها حيرة من المشاعر، تناولت هاتفها وكلمته مرة ثانية، رد عليها وهو يقود سيارته: -اتفضلي يا عالية.
ظهر الضياع بصوتها حتى استجمعت نفسها قائلة: -أنا كُنت عايزة اتكلم معاك في حاجة مهمة، وأنت قلت جاي ومجتش و.
-أسف يا عالية، بس في مشكلة في فرع اسكندرية ولازم أحلها بنفسي، واضطريت اطلع على هناك، أنا حاليا في الطريق.
أصدرت إيماءة خافتة: -تمام، هتتأخر، قصدي هتقعد كام يوم.؟
-يوم أو اتنين بالكتير، المهم أنتِ خلى بالك من نفسك، وانا هحاول أرجع على طول.
لقد تعوّدت على دفن جراحها العميقة، والسير لكل شيء بخطواتٍ ثابتة وكأن لا شيء يهتز بداخلها، ما عدا تلك المرة ؛ باتت محاطة بالتشتت والضياع أكثر من أي وقت آخر وباتت تفتش الأركان على ظله حتى ولو كلفها الأمر عذرية روحها التائهة. فاقت من شرودها على صوت ندائه، ف تمتمت: -أنا كويسة.
ثم انتفضت من مكانها قائلة بقلقٍ: -الباب بيخبط.
-طيب شوفي مين قبل ما تفتحي، وأنا معاكِ على التليفون.
ارتدت إسدال الصلاة بسرعة وهو يتابعها عبر الهاتف، اقتربت من الباب ونظرت من العين السحرية ثم همست له عندما ابتعدت بخطوات عن الباب: -واحدة ست، بس أول مرة أشوفها.
-خلاص متفتحيش.
ترددت عالية وهي تقترب نحو الباب: -يمكن غلطانة في الشقة أو حاجة، أنا هفتح أشوفها خليك معايا كده.
فتحت عالية الباب ثم ارتسمت ابتسامة مجاملة: -اتفضلي!
سيدك في منتصف الثلاثين من العُمر، ترتدي بدلة أنيقة وشعرها كستنائي يغطى نصف وجهها، أزاحت خصلة وراء أذنها وقالت بشكٍ: -مش دي شقة الباشمهندس مراد!
تفقدتها عالية من رأسها للكاحل بعيون فاحصة وهي ترد بضيق: -آه هي. أنتِ مين بقا!
-أنا المهندسة ريناد شكري، صديقته المُقربة وشريكته في مشروع التجمع الجديد. أنتِ مين!
تبدأ عذابات المرء عند أول دقة حُب للأشياء التي يملكها، أحست عالية بالاختناق المجهول ولكنها رسمت ابتسامة زائفة وقالت بنبرة حازمة: -أنا المهندسة عالية، مراته.
لم تتغير ابتسامة ريناد بل اتسعت أكثر وقالت بلطفٍ: -أيه مش هتقوليلي اتفضلي!
فتحت الباب أكثر وأشارت بكفها: -لا ازاي اتفضلي طبعا، ده حتى مراد معايا على التليفون تحبي تكلميه!
-أحب جدًا.
قالت ريناد جملتها وهي تتقدم بدقات كعب حذائها داخل الشقة، وضعت عالية الهاتف على آذانها وسألته: -أنتَ تعرف المهندسة ريناد شُكري؟
رحب مُراد مجرد سماعه للاسم وتحمس وقال بلهفة: -طبعًا أعرفها، دخليها بسرعة يا عالية وأدهاني اسلم عليها.
تبدلت ملامح عالية بامتعاض ثم مدت لها الهاتف وقالت بفتور: -كلمي.
-شفت أنا أجدع منك أزاي! أيه يا هندسة كده غبت وقُلت عدولي!
ثم أطلقت ضحكة مرتفعة وهي تجلس على أقرب أريكة: -أنا هشتكيك لمراتك، تشوف حل بقى. متقلقش باين عليها حد لطيف وهناخد على بعض بسرعة…
تلك المرة لم تستطع عالية وصف حالتها ولكنه شعور أشبه بالجنون، أنتهت ريناد مكالمتها الودية مع مراد ثم ألتفتت إلى عالية وقالت:
-مُراد حكالك عني!
رسمت ضحكة مزيفة وقالت متعمدة: -خالص، قصدي لا، يعني محصلش وقالي أن عنده صحاب بنات وحلوين كده زيك.
تبسمت ريناد ثم قالت: -ده طبع مراد، كلامه قُليل، وفي مكانه لا بيزود ولا بينقص.
وضعت عالية ساق فوق الأخرى وهي تخفي لهب الغيرة وراء وجهها المتمدد و
-لا ده أنتِ تحكي لي بالتفصيل بقى…
انتهى يوم مُهلك بالنسبة للجميع، مع حلول الساعة الحادي عشر، عاد عاصي إلى القصر بعد ما لبى كل متطلبات بناته على الرحب والسعة، لم ينكر تلك الأحاسيس المتولدة من فطرته الأبوية نحو صغاره، خوفه الشديد عليهم، مُراقبتهم بعيونه التي لم تغفل، بالعالم النقي الذي انتقل إليه، عالم مُحاطة بالفراشات والضحكات ورائحة الورد وكل ما هو نقى. اكتشافه لهوية حياة الجديدة، تلك الصغيرة الكبيرة المُعاندة معه، صاحبة الجمال الساحر والروح الخفيفة، صف أمام باب القصر حتى أسرع إليه الحارس ليفتح الباب وما أن هبط من سيارته تابعته حياة ثم الفتيات. شرع الحارس في حمل الحقائب من السيارة وفي تلك اللحظة نادت تاليا على أبيها:.
-بابي.
توقف ثم دار إليها صامتًا حتى اقتربت منه ووقفت أمامه، أشارت له بكفها الطفولي كي يتدلى لمستواها وما أن لبى طلبها فوجئ بعناق قوي منها، تعلقت الصغيرة بعنقه ودفنت وجهها بكتفه وهي تخبره بحنو: -أنا بحبگ أوي، النهاردة كان أحلى يوم، أبقى أخرج معانا على طول.
للمرة الأولى يضم ابنته إلى صدره فتحولت كل صخور الجليد ب قلبه إلى سيول تروي كل أطراف جسده، انضمت داليا إليهم بكفوفها الصغيرة ولكن سرعان ما سد فراغ الجهة الأخرى من صدره بضمها وتقبيلها وهي تعلن بمرح: -وأنا كمان بحبك يا بابي.
أنه لعمل بطولي أن تقوم باستعادة الحياة للمرء بعد أن ضل بين ثناياها، أن تحسسه بقيمة ما لديه من نعمٍ حتى لا يتوه في خرائط النقم. أغرورقت عيني حياة ببريق الفرحة وهي تشاهد تلك العاطفة الجميلة التي غابت عنهم، حمل عاصي بناته ودخل القصر، اتبعت حياة خُطاه بارتياح حتى وقف بالقُرب من الجالسين حيث فوجئ بوجود خالته تقترب منه بفرح: -جوز بنتي وأبو حفيدي اللي جاي، ألف ألف مبروك يا عاصي يتربى في عزك يا حبيبي.
أنزل البنات برفق ف انطلقن نحو حياة وتشبثن بكفوفها، راقبت عبلة الموقف بحقد وبغض حتى أكملت خِطة أختها: -بكرة ينور ولي العهد اللي هينسيك الدنيا كلها، ما أنت في الأخر مالكش غير مراتك وابنك.
كادت حياة أن تنصرف برفقة الفتيات ولكن أوقفها صوت عاصي الحاد: -أنا مراتي واقفة ورايا مع بناتي. غير كده بلاش نسبق الأحداث.
انزعجت جيهان من تلك النبرة التي يتحدث بها ولكن الغاية دومًا ما تبرر كل شيء، اقتربت منه وربتت على كتفه:
-وماله يا حبيبي، محدش أنكر ده، وبردو هدير مراتك واللي في بطنها ابنك، على فكرة هي مستنياك فوق عشان لو في حسابات ما بينكم تصفوها والميه ترجع لمجاريها.
هنا عزمت حياة على الرحيل من تلقيحاتهم السخيفة، اقترب عاصي من عبلة وقال بحدة: -أنا سايبك تعملي كل اللي عايزاه، بس مش هيحصل غير اللي عايزو وبس.
ألتوى ثغر عبلة بسخرية وهي تضرب كف على الأخر وتصيح: -وخف دلع شوية للست هانم، عشان شوية ومحدش هيعرف يكلمها.
-ممكن تشيليها من دماغك خالص! لأن اللي هيزعلها كأنه زعلني بالظبط.
ثم ألقى نظرة ساخطة على خالته وأكمل: -وكمان محدش هيقعد في بيتي غصب عني، بس مسألة وقت.
تلك الجملة الأخيرة التي أخرجها عاصي مُغلفة بشرار عينيه التي كانت جميعها من نصيب جيهان التي اهتزت من مكانها، ولى ظهره منصرفًا إلى غُرفته بخطوات ثابتة ولكن ذلك لا ينفى بركانه الثائر بجوفه، مالت جيهان على أختها هامسة:
-ابنك مش ناوي يعديها على خير يا عبلة، والبت اللي معاه دي لازم نخلص منها قبل أي خطوة.
أجابتها عبلة بشرود في ضباب شرها: -هو اللي ابتدى الحرب دي، نعدي بس الحفلة وكل واحد هياخد اللي يستحقه…
قد يحدث وأن ترفض كلَّ الكؤوس الممدودة إليك، وتبقى وفيًا لعطشك العنيد، وصل عاصي إلى غرفته التي خبط بابها بقوة أسقطت فرشاة الرأس من يد حياة ، حتى هبت زعابيب غضبه قائلًا: -أنتِ بأي حق تكسري كلامي! أنتِ فاكرة نفسك مين عشان تتصرفي من دماغك.
كادت أن تتحدث ولكن ثورته العارمة كانت أحر من أن تقف أمامها حتمًا ستحترق، تلك التنهيدة التي اندلعت من صدرها أوشكت أن تخنقها، اقترب منها ونهرها:
-يعني أيه أقولك لا على حاجة وترجعي تعمليها!
-عشان مش شرط تبقى دايمًا أنت اللي صح، وأنا معملتش جريمة لده كله ك…
ضرب الخزانة بقبضة يده بانفعال هزها وصرخ بوجهها: -وهو في جريمة أكبر من أنك متنفذيش كلامي!
ساد الصمت للحظات تعلق غضبه بوميض عينيها الثلجية حتى تحولت عواصف لنسيم ورفع حاجبه متسائلًا: -هااه. ردي!
رغم هدوئها أمامه إلا أن داخلها يفيض حيرة حول هوية ذلك الرجل متقلب المزاج، غاصت في محاولة فك شفرته للتعامل معه ولكن كل مرة كانت تنتهي بالفشل، قطمت شفتها السفلية بتوتر:
-تمام، وأنا جاهزة لأي عقاب، ما دام ده هيرضي غرورك يعني.
ما زال محتفظًا بمعالم وجهه المنكمشة رغم ليونة كل دواخله وقال بنفس بنبرته الجافية: -أسبوع كامل ممنوع تنزلي من الأوضة ولا تشوفي البنات. والأكل هيوصل لحد عندك.
أعلنت تعابير وجهها الاعتراض على حكمه: -بس أنت كده مش بتعاقبني لوحدي! البنات أيه ذنبهم، أنت عارف هما اتعلقوا بيا أد أيه. وبعدين أنا ممكن اتجنن لو فضلت محبوسة هنا أسبوع بحاله.
ثم هبت من مكانها ووقفت أمامه بعد ما ارتدت درع العِناد: -وبعدين أنا عملت أيه لكل ده! خرجنا وانبسطنا حتى أنت كنت مبسوط، ودي كانت أول مرة أشوفك فيها شخص عادي زينا.
رسى فكرة فوق شط جملتها الأخيرة: -أومال الأول كُنتِ شيفاني أيه؟
-ده مش موضوعنا…
قالت ردها الأخير بعد إيماءة طويلة كأنها تبحث عن جوابٍ لا يزيد الأمر سوءًا، تراجعت خطوة للوراء وكأن بعينيها مغناطيسًا جذبه إليها خطوتين وهو يقول: -في حل تاني، وأنتِ اللي هتختاري عقابك بنفسك.
-حل أيه؟
أشار بطرف عينيه إلى مرقده الفخم، اتبعت نظرته لوهلة ثم عادت إليه بتشتت: -مش فاهمة. يعني أيه!
لانت نبرة صوته وارتاحت ملامحه الغاضبة وهو يحاورها بهمسٍ: -يا أما تنامي على سريري لمدة أسبوع.
أردفت بجزل طفولي: -وأنتَ هتنام على الكنبة!
تبسم بمكر: -وده ينفع بردو!
-أومال.؟
-هتنامي جمبي، أو متشوفيش البنات لمدة أسبوع. فكري لحد ما أخد شاور، هسيبك تختاري عقابك بنفسك، وده أوبشن مش بديه لأي حد!
انصرف من أمامها عندما انتهى من قول جُملته، تناول ملابسه ثم اتجه نحو المرحاض وهو يدندن بلحنٍ ما لأحد الأغاني، أخذت تقطم في أظافرها بغيظٍ حتى قالت بتوعد: -مش أنا اللي يتلوي دراعها يا عاصي بيه.
وقفت عالية على أعتاب الشقة تودع ريناد التي جلست معها قرابة الساعتين قدرت بهما أن تكسب القليل من ثقتها، لوحت لها عالية متقبلة الأمر بعد ما قربت من شخصية ريناد وعملت أنها سيدة لطيفة وأن العلاقة بينها وبين مراد لاتتعدى حدود الصداقة:
-هستنى اتصالك.
تبسمت ريناد وهي تفتح باب المصعد وأردفت بخفة روح: -أحنا خلاص بقينا صحاب، وكل يوم هتلاقيني عندك.
بادلتها بابتسامة تدل على الرحب والسعة: -تنوري، باي باي.
قفلت عالية الباب بعد مغادرتها ثم أخذت نفسًا طويلًا: -البنت لطيفة أهي، روقي يا عالية روقي وبلاش دماغك دي تسوحك.
في الأسفل؛ صعدت ريناد سيارتها وهي تجري مكالمتها التليفونية مع مراد الذي كان ينتظر اتصالها على نار، رد بلهفة: -أيوه يا دكتور.
ارتاحت ريناد بداخل سيارتها وهي تخبره: -أنا اتكلمت معاها ودردشنا كده، متقلقش معرفتش حاجة واتعمدت مجبش سيرتك خالص، بس عالية جواها تشتت وتوهان فظيع يا مراد، وبجد كويس إنك فكرت في الطب النفسي لانها محتاجة ده أوي…
تنهد مراد بارتياح وهو يستنشق هواء بحر اسكندرية ثم قال: -طيب لازمها أودية أو علاجات؟
-لالا، عالية في المرحلة دي محتاجة بس تحس أنها محبوبة، في حد مهتم بيها، ثقتها في نفسها ترجع، وبعدين أنا أخدت بالي من حاجة.
خطى مراد خطوتين أمام البحر وقال باهتمام: -حاجة أيه.
-على حسب كلامك ؛ أن علاقتكم بعيدة، مش زوج وزوجة، بس لما روحت لها لقيت عكس كده خالص.
مراد بتعجب: -مش فاهم. قصدك أيه يا دكتور!
فكرت ريناد للحظات ثم قالت: -مش هنسبق الأحداث، بعدين هفهمك المهم أنت خليك بعيد اليومين دول، عايزة أتاكد من مشاعرها ناحيتك الأول عشان أقولك قرب أو أبعد.
شكرها مراد بامتنان وعلى وقتها وتقبلها لمساعدته بهذه الطريقة، لانها صاحبة الفضل عليه في تجاوزه فترة مهمة في حياته فنشأت بينه وبين طبيبته النفسية علاقة طيبة بالإضافة إلا أنه ساهم في إنشاء مقر عيادتها العلاجية بأقل تكلفة فأرادت أن ترد له الجِميل، قفل مراد معها ثم زفر غاز حيرتها للبحر وقال:
-أهم حاجة عندي تبقى كويسة يا عالية، حتى ولو مقررة منكملش!
ثم وضع كفه على قلبه إثر تلك النغزة المفاجأة وتنهد بتشتتٍ: -أنت حبيتها ولا أيه!
خرج عاصي من المرحاض بعد ما أنهى حمامه وحلق ذقنه القصير، وما أن خرج فوجئ ببناته يركضن إليه، رفع عينيه بتخابث وقال بفتور: -مش المفروض ده وقت نوم!
هزت تاليا رأسها وقالت: -بابي ممكن نذاكر معاكم.
رفع حاجبه ممتعضًا: -تذاكرو أيه ياحبيبتي؟
تقدمت داليا ببراءة: -مش حضرتك قلت أنطي حياة بتذاكر لك! أحنا كمان عايزين نذاكر معاكم!
ربت على كتفها بغلٍ وهو يتوعد لحياة بنظراته الحارقة: -مش نفس المنهج يا عسل.
-يعني أيه يا بابي!
ركضت حياة إليهم وتعمدت تحاشي نظراته الشرسة: -مش مهم، أحنا هنام دلوقتي، والصبح نذاكر سوا.
هلل الفتيات بفرحة وهن يركضن نحو الفراش، بينما عنه اصطاد فريسته من معصمها وشدها إليه متسائلًا بغيظ: -مين جاب العيال دي هنا!
لم تظهر ملامح خوفها بل كانت تطالعه بانتصار: -ما قولولك جايين يذاكروا!
ثم تنهدت بارتياح وأكملت: -أنا عارفة أني معاقبة ومحرومة من نومة الكنبة، عشان كده أنا هنام على السرير وأنت نام على الكنبة.
ما أن أنهت جملتها فرت من يده هاربة كالفأر الخائف من قطه المتوحش واختبأت بالحمام ظنًا منها بأن ذلك سينجيها من براثينه الطائلة، هز رأسه بعِناد: -لا عجبتني لعبة القُط والفار دي، بس على مين!
-أنتَ ممكن تروح، وأنا هنام هنا!
تلك الجملة التي أردفتها شمس لتميم بعد قضاء يومًا مهلكًا بالمشفى، أعترضت ملامحه قبل لسانه وهو يقول: -سيبك مني دلوقتي، هي عاملة أيه!
جلست شمس بجواره على أحد المقاعد بممر المشفى وقالت: -لسه تعبانة وفي الرعاية، قالوا الصبح هتنزل أوضتها، بس الممرضات طمنوني وقالولي أنها بخير وده كله إجراء روتيني.
ربت على ركبتها بحنو: -يبقى اطمني قلقك ده مفيش منه فايدة! تحبي نروح ونيجي الصبح.
تلهفت برفض قاطع: -لأ، مش هقدر اسيبها لوحدها.
ثم ألقت نظرة إلى كريم: -خلي كريم يروح، باين عليه التعب هو ملهوش ذنب.
أطرق بنبرة أحن من الحرير: -كريم لو تعبان كان روح، متفكريش في أي حاجة أنتِ بس.
هزت رأسها بخفوت ثم فزعت كالملدوغة: -تميم بس أدويتك وو.
-أهدي يا شمس، السواق راح وجاب لي الدوا، أنتِ اللي مصممة تقلقش نفسك. يلا قومي نروح الأوضة عشان ترتاحي وتعرفي تقفي مع نوران بكرة.
لبت طلبه باستسلام بعد ما مسحت وجنتيها من إثر الدموع واصطحبته إلى الغرفة التي حجزها كريم، أقترب الأخير منهم وقال: -تميم أنا هنزل أنام في العربية تحت لو احتجت أي حاجة كلمني.
تدخلت شمس بامتنان: -تقدر تروح، كفاية تعبك معانا.
حدجها بلوم ثم قال لتميم بمزاح: -أنت مفهم مراتك أننا ما نعرفش في الأصول ولا أيه!
تبسم تميم كي يخفف من الضغط النفسي عليها وقال: -قلت لك يا شمس أن كريم راجل وأدها، هي بس اللي مش عايزة تريح دماغها يا عم.
هناك أمر لا تستطيع أن تجتازه بسهولة، هناك شعور لا يجديه التغاضي عنه، هناك عتاب طويل في صدرك كتمانه صعب و إفصاحه إهانة، هناك أشياء لا تبدو بتلك البساطة، شعور إني أمتلك عشرين يومًا من العُمر، هو نفسه شعور طفل حديث الولادة فتح عيناه فلم يجد سوى عيني أمه، يتعايش معها ويصنع الذاكريات والأيام دون التفتيش عن ذاته بالماضي، ماذا يفعل المرء عندما يُولد من رحم البحر على يدي صياد ماهر مثله!
أخذت تمسح وجهها عدة مرات كي تفتت ذلك الجبل المنيع بين ذاكرتها والماضي، تفقدت ملامحها في المرآة وهي ترجع بالذاكرة عن أحداث اليوم الذي ولد بداخلها روح جديدة أحبت ذلك القدر الذي جمعها به، اقتحامه لخصوصيتها أثناء قياسها للفستان، تفقدت خيوط يدها التي لم يتركها طوال اليوم، رجلها التي خدعتها وكادت أن تهوى أرضًا ولكن جاءت يده إليها كطوق نجاة. تبسمت عندما تذكرت تلك الصغيرة التي أصرت أن تلتقط لهم صورة معًا. وهي تخاطب أباها أن يقترب أكثر! استغلاله للفرص التي كانت تجمعهما معًا، لأول مرة خفق قلبها وتمنت ألا يتحرك عقرب الأيام عن رائحة عطره. زفرت باعتراض:.
-أنتِ اتعلقتي بيه ولا أيه! ده مجرد يوم كان بيمثل فيه قدام بناته، ورجع تاني الشخص اللي معاه مفتاح سجنك، بطلي هبل واركني قلبك ده على جمب ده شخص ما يعرفش الحُب.
سحبت المنشفة وجففت وجهها من أثار قطرات المياه طردت جميع الأفكار الشيطانية بزفيرها القوي وقالت لنفسها: -أنا تمام، أنا تمام، أجمدي كده.
خرجت بعد وقت طويل قضته بالداخل مرتدية (بيجامة) من الستان باللون الأخضر، تسمرت في منتصف الغرفة عندما وجدت الفتيات يسبحن في أعماق نومهم، وتدلت أنظارها نحو المرتبة التي تتوسط الغرفة وهو يقترب منها قائلًا: -أنا قلت نسيب البنات على راحتهم وننام هنا!
زمت شفتيها بامتعاض: -هنا فين! على الأرض!
-مش أريح من نومة الكنبة!
ثم مال على آذانها هامسا: -متحاوليش تشغلي دماغك عليا، لأن اللي في دماغي هو لازم يتنفذ!
ثم تبسم بانتصار وأشار بعينه نحو المرتبة: -قولتِ أيه!
هزت رأسها بتقبل: -موافقة.
تقبلها للأمر لم يكن للهزيمة، ولا لأنها فقدت قُدرتها على المقاومة، ولكنها وقفت في ساحة المعركة تتساءل ؛ عما أقاتل يا ترى؟
سبقها عاصي ومدد جسده فوق المرتبة بعد ما تحرر من الروب الذي يرتديه، لم يُخيفها الأمر مطلقا بل سبق وعهدها أنه لا يقوم بفعلٍ لا تريده وهنا رُج قلبها من مكانه حد الإنخلاع حتى تمسك به كي يهدأ، وأخذت تتساءل لِمَ هذا الصخب! إعتراض أم عتاب؟ ولت رأسها إليه فوجدته يتفحص هاتفه، أكملت طي شعرها ثم خطت تجاهه بخطوات بطيئة حتى رقدت بجواره مستسلمة.
ترك الهاتف من يده ثم امتد ذراعه كي يغلق النور الخافت، مدد كل منهما على ظهره وعيونهم تحملق في السقف بصمت لا يقطعه إلا صوت تنهيداتها العالية، ولت رأسها نحوه متعمدة خلق حديث جديد معه ولكنها لا تعرف السبب وراء ذلك: -مرسي لأنك مبوظتش اليوم، وشاركت في فرحة البنات.
ما زالت عيناه مُعلقة بالسقف، فأردف بهدوء: -أنا النهاردة رجعت عاصي اللي بدور عليه من خمس سنين، تعرفي إني أول مرة أحضن فيها البنات كانت النهاردة!
تقبلت جملته بدون أي معالم للدهشة بل سألته: -طيب ليه! على فكرة أنتَ اللي محتاج الحضن ده أكتر منهم.
-معاكِ حق.
ثم صمت طويلًا حتى فتح أبواب قلبه على مصرعيه: -الموضوع ابتدى لما كُنت شاب مدلع بزيادة كل البنات بتجري وراه وهو مش بيحب يزعلهم، لحد ما قابلت مها، كانت ابن مدير أعمال شهاب دويدار، البنت كانت دماغها ذرية، صاحبة فضل كبير أوي في مجد دويدار، عشت معاها أحلى عشر سنين، لحد ما جيه الوقت وقالت لي أنها عايزة تخلف.
تقلبت حياة في نومتها بخفة وهي تولي وجهها إليه، أكمل عاصي حديثه: -طبعًا فرحت، دي أحسن ست ممكن تبقى أم لولادي، وكانت الكارثة لما روحنا للدكتورة وقالت لها أن موضوع الحمل خطر على حياتها، وتشيل الفكرة دي من دماغها خالص.
أردفت حياة باهتمام: -وبعدين!
-اتفقنا أننا نقفل الموضوع، وننساه، بعد اربع شهور جات تقولي أنها حامل، وخبت عليا عشان مش أجبرها تنزل الطفل، بعد مجادلات كتير اقنعتني وسافرنا بره وتابعت مع أكبر دكاترة، ونزلنا مصر وكنا متفقين هنرجع ترلد هناك، لكن ارادة ربنا ولدت في آخر السابع، ومكنش في وقت للسفر. لأول مرة أعرف يعني أيه شعور العجز، بتسيب أيدي عشان تروح للموت…
صمت عاصي لدقيقتين حتى تفوهت حياة بفضول شديد: -وبعدين!
تنهد بارتياح ثم أتبع: -عشت أصعب كام ساعة لحد ما الدكتور خرج وقال لي مبروك المدام والبنات كلهم بخير، وقتها زي اللي كان في سابع أرض وفجأة وصل لسابع سما، كنت ماشي في المستشفى زي المجنون، كنت اوزع فلوس على الممرضات ملهاش عدد، فضلت في حضني لحد بالليل، غبت عنها بس أروح اشوف البنات رجعت عشان أفرحها قالولي المدام حصل لها نزيف ومعرفناش نسيطر عليه، شد حيلك.
مهما قيل من المواساة لم يعد كافيًا ووافيا عن لحظة فقط أغلى شخص بالحياة، توقف لسانه عن سرد الآلم وتوقف لسانها عن الخوض في تفاصيل أكثر، صمت استمر طويلًا حتى ظنت أن النوم خدر أوجاعه. أخذت تتأمله بفوضى المشاعر وهي تشد الغطاء فوق صدره العارٍ فألتقت أعينهم لدقيقة وقف بها الزمن، بررت موقفها:
-افتكرت انك نمت!
ثم عادت لمكانها وهي تتحسس قلبها الذي يخفق بشدة ولكن انفلت زمام لسانها بسؤال آخر: -طيب كل ده مش مبرر تنسى في بناتك! وتقضي كل ليلة في حضن واحدة تانية! اللي بيحب حد مش بيعرف يشوف غيره!
-كنت بنتقم منها في كل واحدة، مها مشيت بمزاجها، كان في ايدها تفضل وكنت هبقى مبسوط.
فكرت قبل أن تتفوه بردٍ يغير من رأيه: -أنا ست زيها، وكلنا فينا غريزة الأمومة، مها فكرت بواقعية، رضيت بنصيبها بس قررت أنها تسيب لك هدية حلوة، المفروض تحافظ عليها مش تهملها!
هز رأسه متفقًا معها: -مشكلة مها الواقعية، كانت واقعية بحتة، كل حاجة عندها محسوبة بالورقة والقلم.
ثم انقلب للجهة المُطلة إليها وقال بغزل صريح: -عكسك تمامًا، أنت ست جاية من الخيال، تعرفي!
بللت حلقها الذي جف خاصة عندما تغلغلت أصابع يده الكبيرة بفرغات كفها الرقيق: -أول ما بصيت في عيونك، شوفت البحر والسما والنجوم، شوفت عالم اتمنيت إني أعيش فيه.
ولت رأسها نحوه وسألته بفضول أنثوي: -بس حُبك لمها يدل أنك شخص واقعي وبتميل للست الواقعية.
-والست الخيالية الواقع بيجي قدامها ويخضع لها.
لا تعمل ما سبب القشعريرة التي دبت في جسدها بمجرد سماعها لتلك الجملة التي اختتمها بضمة قوية على كفها، فسألته بشفاه منتفضة: -يعني أيه!
-يعني تصبحي على خير.
تعمد أن يغلق بوابات الحديث معها لأنه بمجرد ما غرق بضياء عيونها تناسى نفسه وعالمه الذي ينتمى إليه، والعهد الذي قعطه على نفسه، تاهت في ملامحه التي اتخذت وضع النوم وقالت بخفوت: -وأنت من أهله.
تسللت جيهان إلى غُرفة ابنتها التي تحترق بالداخل، وما أن قفلت بابها قالت: -أهو ده اللي أنتِ فالحة فيه!
انفجرت هدير بوجهها: -يعني أنتِ مش شايفة عمايله يا مامي! ده حتى مكلفش خاطره يجي يسأل عليا انا وابنه وجري ورا الهانم.
شوحت جيهان بيدها: -وكمان ما شوفتيش الشيء والشوايات اللي جايبهملها، ولا الماركات! دي سيدة اتهدت من شيل الشنط.
زفرت هدير بغضب: -يعني أنتِ جايه تفرسيني أكتر منا هطق.
جلست جيهان بجوارها وقالت بخبث: -لا، ومش جاية أندب حظي جمبك، بس اللي هيجنني ليه البنات بيناموا معاهم فوق!
التفتت هدير إليها بدهشة: -نعم! ازاي؟
-طبعًا وانتي دريانة بحاجة! أنا حاسة كده انهم متخانقين وبيمثلوا، أو في لعبة وأحنا لازم نفهما، أصل بالعقل لو روحه فيها زي ما باين لنا، البنات بيعملوا أيه في اوضتهم فوق!
ثنت هدير ركبتها التي استندت بمرفقها عليها وقالت بحيرة: -غريبة! ومن أمتى عاصي مهتم ببناته كده!
-الموضوع ده وراه لغز وانا لازم اعرفه، المهم دلوقتي فتحي ودانك عشان الحفلة دي يا هتكوني أنتِ الكل في الكُل، ياما هتفضلي تندبي حظك كده على.
هدير بجهلٍ: -تقصدي أيه! مش فاهمة.
-قصدي أن البت دي كفاياها أوي كده، ونهايتها قربت، تعالى أقولك تعملي أيه بالظبط.
التعليقات