التخطي إلى المحتوى

رواية في حي السيدة للكاتبة هاجر خالد الفصل الثالث عشر

في المسجد، كان يجلس مستندًا على الحائط من خلفه تائهًا في ملكوتٍ آخر، يفكر فيها…
تائهًا بها…

تلك الفتاة كم عَانت في حياتها حتى تصبح عيناها مُنكسرة هكذا، لا زال يتذكر إنهيارها في حضن والدتها أتبعه ذلك بفقدانها لوعيها حين رأت حالة أختها وعلمت بإنتحارها، عائشة التي يتذكرها لم تكن هَكذا، كانت مرحة ومحبّة للحياة، صوت قهقهاتها العالية كَان لا ينقطع أبدًا في منزلهم، عائشة، منقذته الأولى، تذكّر حينما أنقذته من الموت حين فقد عقله وقرر الإنتحار ولكنها جاءت لتعوق دون ذلك ثم نادت على أخيها لينقذه، °°°.

كَان يقف على السور الذي يفصل بينه وبين البحر على الكورنيش ، صوت الهَواء يبعث الرعب في قلبه، أم خُطورة ما يُقبل على فعله؟
حوله أناسٌ كثيرون وأصواتهم عالية للغاية كعادة هذا الوقت هُنا، لم يسمع الضجيج من حوله، فقط استمع لصوت نفسه…

يائسًا من حياته قرر سفيان أن يُنهيها دون أن يُبالي بأي شيء لا بأهله ولا بنفسه، تجاهل الناس الجالسين حوله وقد ظنّوه يقف كمثل أي شخص واقف مثله، لم يكن عندهم علم بنيّته في الإنتحار، لم ينظروا لرجفة يده، لم يروا عينيه الحَمراء من البُكاء، لم يروا تعبه ويأسه، إللي يشوفك يقول إنك هترمي نفسك، صوتًا أنثويًا مخاطبًا له جعله يخرج من شروده للحظات قبل أن يلتفت لها، فتاة قصيرة القامة ترتدي بنطالًا واسعًا أسود اللون وقميصًا أبيض رقيقًا بينما تركت خصلات شعرها القصيرة لتتطاير مع الهواء، وعينيها، آه من عينيها، كانت بَهية، عيناها البُنية المائلة للأسود مثل اللآلئ خطفت روحه، تعرف إن ربنا بيقبل كل الناس وإن مهما كان حجم المشكلة ربنا بيحلها في الآخر بس هو بيختبر صبرنا بس…

لم يَهتم سفيان أبدًا لكلامها هو جاء لمهمة مُحددة وسيفعلها، فتنهدت عائشة ببرود ثم نظرت ناحية أخيها فوجدته يتحدث في الهاتف، بقولك…
قالت عائشة بهدوء فتأفف سفيان ونظر لها بسخط، بتحب البطاطس؟
نظر لها سفيان بتعجب شديد، أهذه الفتاة معتوهه؟

طب البسلة حتى، يبقا الممبار، أصل شكلك بيوحي بكده، رفرف سفيان برموشه بتعحب ثم فتح فمه بصعوبة ليحدثها بثقل، بقولك يا أمورة، روحي إلعبي بعيد، رفعت عائشة شفتيها بقرف ثم أردفت له باشمئزاز، أمورة!، وألعب بعيد!، واللّه أنا غلطانة إني جيت أنقذ أمثالك من الفعلة المهببة دي، والمرادي بقا بسبب إيه يا أمور يا ترى حبيبتك سابتك ولا باباك كان بيسلخ جلدك وإنتَ صغير؟

أطلق سُفيان ضحكة ساخرة خرجت مُتقطعة بألم، لا واللّه مُصيبتي أكبر، أو خيبتي مش عارف، اقتربت عائشة من مكانه ثم قالت له بسخرية، يا بني لو كُل واحد استسلم لخيبته كان زمان الدنيا خراب، إنتَ لو عرفت الوكسة إللي أنا فيها كانت هانت عليك وكستك، نظر لها شرزًا ولم يعقب ثم التفت مرّة أخرى ناويًا تنفيذ ما يريد، بسبسبس…

نادته عائشة بخفة فسبّ سفيان بعنف شديد ونظر لها بغضب، أفندم، مفكراني قطة ولا إيه، قالها سُفيان بغضب فابتسمت عائشة ببلاهة له لينظر لها الآخر بتعجب ولا يعلم لما لا يزال يتحدث معها؟!
عندكوا شامبو…
نبست عائشة بجدية جعلت من الآخر يكاد يفقد عقله، بصي يا اسمك إيه أنا مش فايقلك واللّه، عايزة إيه أخلصي؟
قال سفيان بعنف فابتلعت الاخرى رمقها بخوف من نظرات عيونه الزيتونيه الغاضبة، هذا الوحش.

إنتَ لسة مش عارف أنا بعمل إيه؟، أنا بنفذ وصيّة جدي اللّه يرحمه، نظر لها سفيان بتساؤل، أي جد؟، وأية وصية؟

بت، إنتِ شاربة حاجة ولا إيه، قال سفيان بتعجب فناظرته عائشة بسخرية وقالت في داخلها الأستاذ سكران بيتكلم ، كانت عائشة تعرف بالفعل أنه ليس في حالة طبيعية، بدءًا من ثقل لهجته إلى نظراته المهزوزة وأعينه الحمراء، لأ مش شاربة حاجة بس فطرت فول وإنتَ عارف بقا الفول بيعمل إيه، قالت عائشة باستمتاع خاصًة حينما لمحت ابتسامته الطفيفة التي أخفاها بصعوبة بالغة، ثم نظر لها بهدوء، عمومًا شكرًا على كلامك معايا، فرق في نفسيتي جدًا وهقدر أموت مرتاح، وآه مش تبقي تتكلمي مع حد غريب تاني يا حلوة فاهمة؟

قال سفيان بهدوء فتوسعت أعين عائشة بتعجب، تموت مرتاح؟!، يا بني إنتَ أهبل ولا بتستهبل؟، أنا أساسًا مستنية أخويا يجي يشوف بلوتك دي ويخلصنا، قال أموت مرتاح قال، استنى مش ممكن تموت بكرة، بعده، أصلك كده كده ميت فاصبر على رزقك بدل ما تموت كافر، تحولت نظرات سفيان للبرود الشديد وهو يراها تصرخ فيه هكذا وهو يُقسم بأنه لو كان في حالته الطبيعية لم تكن لتتجرأ عليه هكذا…
مروان…

صرخت عائشة منادية على أخيها حين رأته انتهى من مُكالمته مع خطيبته، فالتفت مروان حول نفسه كي يلمحها وحين فعل توجه ناحيتها ببطء بسبب عدم معرفته ما يحدث معها، تنهد سفيان بسخط تلك الحقيرة ضيّعت عليه فرصة إنتحاره ولكنه لن يستسلم فخطى خُطوة للأمام ثم استعد لكي يواجه المياه، ولكنه فجأة وجد جسد الفتاة الصغير نسبيًا يُمسك بقدمه بقوة وهي تصرخ في أخيها كي يُسرع لهم ومن حولهم نهض الناس جميعًا ولم يُكلفوا أنفسهم بالتدخل وفعل شيء معها، فقط يقفون ويطلقون أدعية بالهداية، ويخبطون كف بالأخرى بقلة حيلة، استنى أنا لسة مش حكيت ليك قصّة طنط صفيّة، ولا حتى قصة، الجحش و، هو إنت اسمك إيه؟

قالت عائشة بصراخ وهي تتمسك بقدمه أكثر ليلعنها سفيان ثم جذب قدمه بقوة ولكنها أبت تركه حتى أتى أخيها ونظر لها بخوف، وحين رأى حالتهم علم ما يحدث فتنهد بهدوء ثم توجّه ناحيتهم وبجذبة واحدة من قميص سُفيان كان يرتمي أرضًا تحت أقدام عائشة ومروان، وااو، مروان إنتَ حقيقي بطلي المُفضل، قالتها عائشة بحماس وهي ترفع كلتا يديها للأعلى كعلامة للنصر، ولكنها أنزلت يدها بخوف وهي ترى نظرات أخيها الغاضبة نحوها، حسنًا هي لم توقع نفسها في مصيبة هذه المرة فلما هو غاضب؟

حاول سفيان أن ينهض ويركض ناحية الماء مرّة أخرى ولكن يبدوا بأن قوته قد استنذفت بسبب تلك الثرثارة وأيضًا بسبب المواد المُخدرة التي يشربها، ومن هنا بدأت القصة، الجميلة أنقذت الوحش من نفسه وهو كان كالإعصار المُدمر لهم.
°°°
خرج سفيان من شروده على صوت عكاز والده يصحبه أدهم، إيه إللي حصل، بطلت عياط؟

قال سفيان بهدوء وهو يُريد أن يريح قلبه الملهوف عليها، لأ، مش سهل برضوا إنك تلاقي أختك خد شايلها وبيقولك حاولت تنتحر، ربنا يكون في عونها البنت دي بجد، قال أدهم بخفة وقد تذكّر نظرات رهف الخائفة والتائهة، لا يعلم ماذا حدث معها، ولكنه يثق بأنه شئ كبير، شيء مخيف جعلها تشق معصمها دون ذرة تردد واحدة، سفيان، إنتَ بتساعدهم ليه؟

قال أمجد بعدما خرج من الصمت الذي اتخذه ليراقب ملامح كلًا منهما، بساعدهم عادي يا حج، ومينفعش سبب تاني في حالتنا دي، ده أنا متهم أول في قتل أخوها، قال سفيان بداية الجملة بهدوء ثم همس لنفسه قائلًا
وهيا شكلها مش فاكراني أصلًا،.

تنهد أمجد بهدوء على ملامح ابنه المُبهمة لو كان سفيان يحمل لتلك الفتاة أية مشاعر هو حقًا سيواجه المستحيل ليحصل عليها، النصيب غلّاب يا بني، الحاجة إللي ربنا كاتبها ليك هتكون ليك حتى لو الدنيا كلها حاربتك، قال أمجد بابتسامة حنونة فنظر له سفيان بألم، ربنا يقدم إللي فيه الخير، ربت أدهم على كتف سفيان و أمجد كان يفكّر في خططهم القادمة لمواجهة الشيطان القادم من ماضي ولده، بينما سُفيان كان تائهًا في حوريته الحزينة، ونصيبه الذي لن يكون له أبدًا…

يسير ببطء شديد وهو يتحامل على نفسه، خطواته ثقيلة جدًا تدل على مدى ألمه، وعينيه آه من عينيه الفارغة، عينيه باردة كبرودة روحه، فارغة للغاية وكأنه قُتل…

وهذا صحيحٌ فعلًا، لقد قُتل حيّا، قُتل للمرة الأولى حينما رأى ما حدث مع أخته حين أختطفت، والمرة الثانية كانت حينما رأى صديق عمره ورفيق الذي أمّنه على بيته جالسًا مع الشيطان الآخر وتحيطه الفتيات ويبدو مخمورًا، أمّا المرّة الثالثة كانت حينما نهض من غيبوبته في هذه الزنزانة، لا يَعلم أين هو، ولا يعلم ماذا حدث في الخارج، لا يعلم كم من الوقت قد مر، أو ماذا حدثَ مع أخوته وعائلته، هل هم بخير؟، أأكملوا حياتهم بعد اختفائه؟

وآه لو تعلم يا مروان ماذا حل بعائلتك، لقد تدمرت عائلتك الصغيرة وجار عليهم الزمن فأصبحوا فُتاتًا، بقايا إنسان أصبحت عائشة، أما رهف صغيرتك الحنونة، تلك التي تزيح عنك تعبك بمجرد ابتسامة صغيرة منها قد يئست من حياتها للمرة التي لا يُعلم عددها، مرحبًا مروان، كيف حالك؟

بنبرتها الإنجليزية الثقيلة تحدثت ماريا ، مُساعدة الشيطان والتي أصبحت تدين له بحياتها منذ فترة ولهذا هي تُساعده الآن، هل وجدتيهم، كيف حالهم؟، أبي، أمي، وأخوتي، أخبريني بالتفصيل، هل هم بخير؟

تحدث مروان ببطئ وهو يستند بظهره على الكرسي الذي جلس عليه ومن نظرة عيناها المُنكسرة وتلك الدموع التي تجمعت بداخلها، هو علم أن الذي سيسمعه لن يسرّه أبدًا، وروحه التي تصرخ بداخله تتوسل إليه ألّا يسمع، تترجاه أن يظلّ هكذا مُغيب عنهم حتى يخرج لنم ويأتي بحقهم منهم واحدًا تلو الآخر، مروان، أنا آسفة، همست ماريا بألم كعادتها حين يسألها هذا السؤال، ولكن مروان لم يعد يتحمل، لم يعد للصبر مجال معها، فصرخ بغضب وهو يضرب الطاولة الموضوعة بينهم وقيود يده منعته من الوصول لها وخنقها بين يديه، ماريا، لقد سئمت، أين عائلتي؟ أرجوكِ أين هم؟

حين صرخ بها بتلك النبرة المنكسرة فاضت دموعها من حزنها عليه، هي تعلم ما حدث مع عائلته منذ أن اختفى مروان إلى أن انقطعت أخبارهم عنها بسبب هروبهم، ولكنها لا تجرؤ على إخباره، لن تستطيع رؤية انكساره، وإلى هنا نهضت ماريا تُريد الهرب من أمامه، ولكنها تصنمت في مكانها حين استمعت لشهقاته المتألمة، مروان الذي منذ أن رأته قبل سنتان ونصف تقريبًا لم يبكي أمام أحد هُنا، يبكي ويشهق بألم كالطفل الصغير الذي تعب من كثرت تحايله على والدته لتعطيه الحلوى التي ستضره، أرجوكِ ماريا، فقط لأطمئن، أنا أعلم بأنكِ تعلمين أخبارهم منذ فترة، أرجوكِ لتهدأ تلك الخفقات المؤلمة بداخلي، قال مروان بيأس وهو يضع وجهه بين كفيه يبكي تعبه وقلة حيلته، يتوسل ربه بداخله بأن يجعل قلب تلك الفتاة يحن عليه وتطمئنه على أسرته، مروان، توقف عن البُكاء لطفًا، حسنًا أنا سأخبرك بكل شيء حدث معهم ولكن قبل هذا سأخبرك بشيء مهم جدًا، قالت ماريا بعدما ركضت لتربت على كتفه بحزن ومروان في حالته الطبيعية سيبعد يديها بعنف لكي لا تلمسه ولكنها أدركت بأنه فقد وعيه بما يحيطه، عائلتي ماريا، أرجوكِ، توسلها مروان للمرة التي لا تعلم عددها فشدّت على كتفيه بقوة، وأخبرته بهمس منخفض لكي تضمن أن لايسمع أحد من الخارج، وهي تعلم بأنه لا يوجد من يتصنت عليهم هُنا، هم يظنون بأنها تتفذ أوامر الزعيم الكبير فيما يخص مروان فلهذا هي لها كل الحق في جعلهم ينفذون أوامرها هي الأخرى، مروان، الليلة في تمام التاسعة، أعلم بأنك لا تملك ساعة أو هكذا ولكن حين تسمع الجرس يدق ثلاث رنّات متتالية فاعلم بأنه حان وقت تنفيذ الخُطة، أنا سأهربك من هنا مروان، نظر لها مروان ببطء وكأنه يحاول أن يترجم كلماتها وحين فعل انفرج فمه ببسمة مُتألمة، أحان الوقت ليتخلص من عذابه، حمحمت ماريا بحزن وأخذت أنفاسها ببطء شديد ليركّز مروان بنظراته بعيدًا عنها، هو يعلم بأنها ستخبره بما جرى لأسرته في غيابه وبالفعل قد بدأت ماريا في إخباره جميع الأشياء التي تعلمها بدءًا من وفاة والده إلى هروب أخوته ووالدته من بطش ابن عمه، رائف،.

جلست هايدي بجانب والدتها وجدّتها ببطء وهي تتنهد بألم حينما تذكرت صرخات عائشة المصدومة برؤيتها لأختها في تلك الحالة، ماما، أنا عارفة إنك مش عارفة إيه إللي بيحصل هنا ولا مين دول بس كل إللي هقدر أقوله ليكِ بإن البنات دول طيبين أوي والدنيا جاية عليهم، فبلتش تكوني إنتِ كمان عليهم يا أمي، قالت هايدي بهدوء وهي تنظر لوالدتها التي كانت تنظر لها بتساؤل وبسخط، وبصراحة هايدي لا تلومها أبدًا، فمنذ أن جاءوا والمصائب تمطر عليهم من جميع الجوانب وكل هذا يدور حولهم، توددت زينبو لسعاد بالحديث لتلطّف قلبها عليهم وقد حدث هذا فملامح سعاد انكمشت بألم عليهم وهي تتذكر ما حدث معهم، أما هايدي فقد تاهت بتلك الرسالة التي أرسلها سليم لها يخبره بنيّته في مقابلتها، وقد أدركت بأن الحديث سيكون عن تلك الصور المُفبركة التي كان يهددها بها شبه الرجل الذي رفضته…

ارتدت هايدي ملابسها على استعجال ومن ثم أخبرت والدتها بأنها ذاهبة للدروس خاصتها، هايدي لم يسبق لها الكذب عليها أبدًا وما فعلته الآن ستظل تسب نفسها عليه دهرًا، وقف سليم مستندًا بظهره على السيارة السوداء خاصته في منطقة نائية بالحي الذي تسكن هايدي به، ينظر حوله بتأفف من تأخرها ليراها قادمة بوجهٍ شاحب من الخوف وهي تتلفت حولها خوفًا من أن يراها أخوتها، نعم، في حاجه حصلت؟

قالت هايدي بتوتر وهي تفرك يدها ببعضها، نظر سليم لها بهدوء قبل أن يمد يده بداخل جيبه مُخرجًا عدة وريقات، الصور ولعت فيها متخافيش، أما دي وصلات أمانة البيه التاني مضاها ولو إتعرض ليكِ تاني هتقدري ترفعي قضية عليه بيها، قال سليم بهدوء فنظرت له هايدي بإمتنان شديد وقبل أن تفتح فمها لتشكره أو تسأله عمّا فعله معه، رأت سليم ينظر وراءها ببرود شديد فإلتفتت لكي ترى ماذا يحدث باستغراب، سفيان؟

قالت هايدي بصدمة وهي ترى أخيها يقف وينظر لها بغضب مُشتعل وعينيه تروي جحيم ما يشعر به، قدامي عالبيت، يلا عربيتي هناك إستني فيها، يلاا.

حدثها سفيان بهدوء جعلها مُدركة لشدّة غضبه منها، وحين فتحت فمها لتتحدث رفع سفيان يده ليوقفها عن الحديث، اششش ولا كلمة، العربية هناك أهيه، أستنيني فيها، أغمضت هايدي عينيها بخوف من ملامحه السوداء، وشحوب وجهها جعل من سليم في حالة من الغضب من هذا الذي يخيفها، سفيان متترجمش الموضوع غلط، أخت.

حاول سليم الحديث معه بهدوء وهو يرى جسد هايدي يبتعد بسرعة وكأنها خائفة أن يلحق بها سفيان، لم يكمل سليم جملته بسبب قبضة سفيان التي ارتطمت في وجهه بضراوة وعدائية شديدة، مالك ومال أختي يابن المسلماني، مالك ومالها، صرخ سفيان به بغضب وهو يجذبه من ياقة قميصه، تنهد سليم بضجر وقد توقع هذا منه، سفيان يتحول إلى ثورٍ هائج عند غضبه ولا يتفاهم مع أحد، أنا مش هحاسبك على الضربة دي، أختك مغلطتش في حاجة، وبعدين إنتَ هتستنى من الغريب يجي يدافع عن أختك قدامك؟

قال سليم بعقلانية وهدوء مما جعل سفيان يتركه بعنف ثم قال له بغضب، متتباجحش معايا، أنا واثق في أختي، بس مش واثق فيك، نظر له سليم بسخرية ثم هندم ملابسه بهدوء وهو يقول له، شكرًا على زوقك، مش عارف أنتَ عملت فيّا إيه بإطرائك الرائع ده، حاول سفيان السيطرة على غضبه ويده كذلك ويبدو بأنه نجح في هذا حيث تركه واقفًا في مكانه يوزع أنظاره بينه وبين هايدي ثم التفت للذهاب إليها قبل أنا يسمع صوته الهادئ، إهدى وإسمع من أختك، هي مغلطتش هي كانت خايفة وخوفها مش خلاها عارفة تعمل إيه، لم يلتفت سفيان له بل توجه ناحية أخته بغضب وجسده العضلي الضخم مشدودًا بسبب كتم هذا الغضب بداخله…

في تلك القهوة التي تتوسط الحي، كان فرغلي يجلس وهو يدخن من تلك الإرجيلة التي تجاور مقعده، نفث الدخان ببطء شديد وكأنه يستشعر حرارته داخل قفصه الصدري، نظر خوله ببطء شديد يتطلع للمارة أمامه بهدوء، بعض السائحين، وبعض النساء يحملن حاجيات منازلهم فصفّر لهم بإعجاب ليناظروه بقرف شديد جعله يضحك لهم بخبث وهو يغمز بعينه، إيه يا باشا، إنتَ مش بتتربى أبدًا، قال أدهم الذي لاحظ الموقف من بدايته فناظره بقرف شديد، ألاه، مين أدهم باشا ابن أمجد بيه، قال فرغلي بسخرية لاذعة فتنهد أدهم بضيق منه وهدده قائلًا، إتعدل يا زفت إنت، بدل ما إنتَ عارف ولا نسيت؟

تحسي فرغلي ندبات وجهه التي لم تختفي بعد بغضب ونبس بنفس النبرة الساخرة، وأنسى إزاي يا جدع، هو أخوك إيده تتنسي برضوا، قهقه أدهم باستمتاع على ملامحه الواجمة ثم ربت على كتفه بمواساة، إنتَ عارف سفيان، وبعدين هي أول مرّة تضربوا بعض، هو تلاقيه لسّه شايل منك حبّة، قال أدهم باستمتاع فزفر فرغلي بتنهيدة غاضبة وقال بهدوء، وهو لولا معزّته عندي كنت وريته إزاي ياخدني على خوانه كده، قهقه أدهم بمرح ونكزه قائلًا، يا عم، وبعدين ما كل إللي في الحي عارف إنك بتحاول تنكش في سفيان علشان يكلمك، تنهد الآخر بضيق وقال بغضب، يا عم ما كل الناس عارفة إني مكنتش بضربها بحق وحقيقي وإني بعمل كده علشان سفيان يتدخل ويكلمني بدل ما هو مخليني أراجوز كده…

إلا بنت ال لقيتها فجأة نزلت فيا ضرب ولا كأني قاتل ليها قتيل، باللّه لولا الصدمة إللي أنا كنت فيها لكنت موتها في ساعتها، ولا مراتي الهبلة نزلت ضرب معاها، وكأنها ما صدقّت، قهقه أدهم على ملامحه الساخطة بمرح ثم قال له، يا عم ما هي علمت على سفيان برضوا ومعملش فيها حاجة، ابتسم فرغلي بسخرية وأردف له، هيا ماشية تعلم عالكل، تلاقيها بتاخدنا بالدور بنت ال ده أنا مستحلفلها وهوريها بس أصبر عليّا، نفى أدهم برأسه بقوة ثم أخبره بتهديد، لا يا أستاذ لحد عندها وفرمل، دي بقت تخص سفيان خلاص وكمان تحت حمايته وإنتَ مش عايز تتقل ميزانك معاه، نظر له فرغلي بغضب طفولي ثم توسعت عينه بإستيعاب، إيه، تخصه من أنهي جهة، أوعى تقول سفيان وقع بجد؟

ابتسم أدهم بتوتر وحك رقبته وهو يلعن لسانه الذي لا يستطيع السيطرة عليه، لأ هو اصلًا واقع من زمان، قال صالح الذي جلس فجأة يقتحم حديثهم ثم أمسك بكوب الشاي البارد الخاص بفرغلي يتجرعه ببطء قبل أن تنكمش ملامحه بقرف للمرارته، أووف، واقع ده كده اللعبة هتحلو أكتر، قال فرغلي باستمتاع ليحذره أدهم بعينيه بقوة، فرغلي، إيّاك تحتك بيها إنت فاهم، رفرف فرغلي برموشه ببراء شديدة ثم قال بهدوء، أنا عملت إيه، صالح إنت تعرف عني كده؟

ابتسم صالح بسخرية عليه قبل أن يقول له، فرغلي عيب، إنتَ أبو كده يا حبيبي، نظر له فرغلي بقرف قبل أن يرى ملامح صالح اللعوبة فقهقه كلاهما بقوة، بس يا زفت منك ليه، فرغلي بجد متقربش منها أبدًا، قال أدهم بقوة، فنظر له فرغلي بجدية وقال له، أدهم، عيب عليك، وبعدين دي في مقام مرات أخويا، تنهد أدهم بقلة حيلة على تلك النظرة الخبيثة التي ارتسمت في عينيه، أنا مش متخيل سفيان وهو بيحب، قال صالح فجأة فنظر له الاثنان باستغراب قبل ان يضحكوا على جملته الغريبة، ليه مش بني آدم زينا، قال فرغلي بسخرية ليلكمه أدهم في كتفه بغيظ، لأ يا زفت مش كده، بس تخيلوه كده وهو بيحب، مش جاي خالص معايا، قال صالح بسخط فسرح أدهم في مخيلته وهو يتخيل سفيان يتغزل بها بنعومة وبجسده الضخم وملامحه الحادة كل هذا جعله لا يستطيع السيطرة على صوت ضحكاته، أنا عرفت أنا هصالح سفيان إزاي، قال فرغلي بحماس وهو يفرك كفه بالأخرى، فنظر له الإثنان بتساؤل وقبل أن يجيبهم سمع صوت صغيره يناديه فنظر له بتعجب، بابا، إلحق ماما، قال الولد بصراخ ففزع فرغلي هو ينهض سائلًا إياه بقلق، مالها أمك، إنطق يا زفت، تنهد الولد بهدوء فجأة ثم كتف يديه الصغيرة أمام صدره، هتطلق منك، يعني كان لازم تعاكس الستات دي، أهي طنط سماح راحت إشتكت ليها، زفرَ فرغلي أنفاسه الخائفة قبل ان تتوسع عينيه بخوف وهو يرى زوجته تهبط على السلالم حاملة بيدها سكينًا صغيرًا وهي تشير له بيدها ليأتي، البقاء لله يا أدهم، صاحبك فرغلي مات، قال صالح باستمتاع وهو ينظر لأدهم فبادله الآخر نفس النبرة المستمتعة وهو يسأله قائلًا، لا حول ولا قوة إلا باللّه، هو مات إزاي؟

أجابه صالح وهو يكتم قهقهاته على النظرات الغاضبة التي يوجهها فرغلي لهم، مراته قتلته…

قال صالح بقهقهة ووجهه إحمرّ من شدة كتمه لقهقاته يبادله أدهم الضحك خاصةً مع ملامح السخط التي ارتسمت على وجه فرغلي، فرغلي، تعالى عايزاك، قالت أميرة زوجته بغضب وهي تنادي عليه، ليردد فرغلي الشهادة ومن ثَم احتضن رفيقيه واخبرهم قبل أن يتوجه ناحية زوجته، خلوا سفيان يسامحني، قولوا ليه ربنا جاب حقك وفرغلي مات متقطع، يلا استعنا على الشقى باللّه، قهقه الاثنان عليه بقوة وهم يروه بجسده الضخم يسير وراء زوجته كالطفل بينما هي تعنفه بحديثها الغاضب، نظر صالح لأدهم بتوتر مفاجئ فناظره الآخر باستغراب، مالك؟

قال أدهم فأخبره صالح بشجاعه مصطنعة، أنا طالب إيد شيما بنت خالتك، ياعم كل القلق، إيه، قال أدهم بتساؤل وصدمة فابتلع صالح ريقه بفزع، إخيرًا نطقت يا حلوف، ده إحنا قولنا البت هتخلل جنبك، قال أدهم بفرح مفاجئ وهو يخرج هاتفه من جيبه بينما يهاتف أحدًا لم يعرف هويته، نظر له صالح بصدمة وقبل أن يسأله أي شيء، ألو، السلام عليكم، إزيك يا خالتي، صالح طالب إيد شيما، آه وربنا، قال أدهم لخالته بسعادة ثم سرعان ما أبعد الهاتف عن أذنه بألم حين تعالت زغاريد الفرح بشكل جعل من صالح يصدم أكثر، ألف مبروك يا صحبي، قال أدهم بمرح واستمتاع جعل من صالح يبتلع ريقه بخوف خاصة مع تلك النظرات الخبيثه في عينيه، أنا حاسس إني ادّبست، قال صالح بخوف فغمزه أدهم بخبث، حاسس، مش متأكد يعني؟

إنزلي…

قال سفيان ببرود وهو يخاطب هايدي التي كانت تبكي بشهقات منخفضة، سفيان باللّه عليك، علشان خاطري إسمع مني وبعدين أحكم، قالت هايدي بتوسل لأخيها الذي يعاملها ببرود شديد، لم يرد عليها سفيان فتعالت شهقاتها أكثر وهي تسأله، طب هل إنتَ عندك شك فيا إني ممكن أخون ثقتكوا فيا، رد عليا باللّه عليك، تنهد سفيان بضيق وجذبها بخفة شديدة محتضنًا إياها، أنا عمري ما شكيت فيكِ لحظة واحدة، بس ده ميمنعش إنك غلطانة!

بادلته هايدي الاحتضان وهي تبكي ثم ابتعدت وهي تحاكيه بنبرة مبحوحة ومتقطعة بسبب بكائها، أنا، عارفة إني غلطت، بس، أنا خوفت واللّه، خوفت عليك إنتَ، وخوفت منك، همست هايدي في نهاية جملته وهي تناظر ملامحه الغاضبة وعينيه التي توسعت بعدم تصديق، خايفة مني؟!، ليه، هل أنا عمري مديت إيدي عليكِ؟

قال سفيان بدهشة لتنفي هايدي برأسها بسرعة وهي ترتمي في حضنه خوفًا من مواجهته، إحكيلي إللي حصل يا هايدي، من أوله لآخره، قال سفيان ببرود لتتنهد هايدي بخفة ثم بدأت في قص ما حدث…

فتحت رهف عينيها بخفة شديدة وهي تتأوه بألم قبل أن تستعيد جميع الأحداث التي حدثت معها، وسرعان ما بدأت بالبكاء بعدم تصديق وهي تراقب الشاش الطبي الذي لُف به معصمها، نهضت رهف ببطء تستند على السرير بخفة شديدة وهي لا تعلم بوجود أختها و التي تراقبها بألم ولا تفتعل أي صوت تاركة إياها تفرغ ما بداخلها، ‏ يارب أنتَ ترى مكاني، وتعلم حالي وضعفي وقلة حيلتي، وأنا أعلم بتقصيري وليس لي سواك. الله أعني واهدني وساعدني. يا رب احمينا منه، يا رب.

قالت رهف بهمس وتضرع، قالت بخجل ولا تعلك كيف أتت لها الجرأة لتدعو اللّه مرّة أخرى بعد فعلتها، مفكرتيش في ربنا وإنتِ بتعمليها تاني، ليه يا رهف رجعتي، مش كنا صدقنا نوباتك دي خفت، قالت عائشة ببكاء وهي تحتضن كفها لتشهق رهف بخوف قبل أن تحتضنها بألم، عائشة، رائف، هيموتني، إحميني منه، قالت رهف ببكاء لتميل عائشة عليها وتحتضنها هي الأخرى حيث أنها كانت جالسة على الكرسي المجاور للسرير وفي الظلام بحيث لا يراها أحد، متقلقيش يا رهف، واللّه العظيم ما هخليه يلمسك تاني، بعدين إنتِ مش عرفتِ إللي حصل. سليم ابن خالتو موجود هنا، كمان هياخدنا نعيش معاه، قالت عائشة بسعادة حين تذكرت عرض سليم عليهم بأن يأتوا للعيش معه حتى يسوي الأمر مع رائف، تنهدت رهف وهي خائفة من إعطاء نفسها أي أمل زائف مجددًا، يا رب، نجينا، همست رهف بتضرع لتشدد عائشة على احتضانها…

في تلك الزنزانة، كان يجلس بترقب وهو ينظر حوله بهدوء، ينتظر تلك العلامة التي ستجعله حرًا كما يأمل، دقة، ودقة، والأخيرة، لقد كانت العلامة التي أخبرته بها ماريا، وقبل أن يستقيم مروان من مكانه استمع لصوت صراخ الرجال والطلقات الكثيرة التي تعالت أصواتها فجأة، هل أنتَ جاهز أيها البطل؟

هكذا سألته ماريا وهي تقتحم الغرفة خاصته والدماء تزين جسدها، أنا دائمًا جاهز سيدتي، قال مروان وهو يقبض على المسدس الذي ألقته ماريا نحوه، وعينيه ترسم شتى أنواع الدمار الذي سيطيح بالجميع، بدءًا برفيقه الخائن.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *