رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني والثلاثون
أعلم أن الرسائل التي بيننا لن تعود وأن الأغاني التي أدَمْنا سماعها ستصمُت، أن المساء لن يأتي بك مرة أُخرى، وأن غيابك إن كُنت حاضر قد تَعمق إلى غِياب الشعور، أعلم أن اللهفة في قلبك قد ماتت والمواعيد التي بيننا أُغتيلت، وأن كُل المُسميات العاطفية لم تعُد تليق.
ولكن كيف يقتنع القلب بهراء واقعنا؟
صباحًا
بات قلبه لا يهتم بكون الأشياء عادية أو مُميزة، بقدر اهتمامه بكونها حقيقية، حقيقية فقط يستطيع المرء لمسها دون
أن ترتجف يداه قلقًا من تلاشيها، اقترب تميم من الأريكة التي غفت فوقها شمس وظل يتأملها بأعين حائرة، أيهما ستتبع يا ترى، دقات القلب أم مخاوف العقل!
كانت ملامحها هادئة كهدوء شروق شمس الشتاء، قرص مستدير خافت الضياء، يغارلها سُحب خصلات شعرها المُبعثرة، أخذ يتسائل في نفسه ما الدافع كي اتبع خُطاكي مهما استحالت! ما بملامحك كي تُغير خريطة أعوامي! لِمَ تلك السعادة التي كست قلبي بقُربك! لماذا افتعلت من الانتقام حجة كى أبرر لعنادي وجودك!
أطلق زفير حيرته بخفوت ثم تسائل: -يا ترى أيه اللغز اللي بينك وبين عاصي يا شمس! حاسس إنك مُفتاح لصندوق أسرار عاصي. بس مصيري هعرفه!
ثم تمنى في نفسه: -يا رب تطلعي بعيد عن كل شكوكي، والمرة الوحيدة اللي اتحرك فيها قلبي ما يكذبش!
صوت طرق خافت على الباب قطع حبال فكره مما جعله يربت على ذراعها برفقٍ كي تنهض، ما أن فتحت جفونها وجدته يقول: -أسف صحيتك، بس ده كريم جايب الفطار، وشعرك مش متغطى.
شرعت تلملم في شعرها المبعثر بسرعة ثم غطته بحجابها وفي تلك اللحظة التي أنهت فيها، سمح تميم له بالدخول، تقدم إليهم حاملًا حقائب الطعام وقال بفرحة: -نوران خرجت من الرعاية، ونزلوها أوضة تانية، أفطري بقا عشان نروح نشوفها.
تلهفت شمس لرؤية أختها: -أنا هروح اطمن عليها.
وقف كريم أمامها بمزاحٍ: -يا ستي أهدي! أنتِ محدش يعرف يتكلم معاكي كلمتين! عموما هي لسه نايمة، ساعة كده وقالوا هتبدأ تفوق.
مسك تميم كفها وقال: -شمس استريحي ممكن! زي ما قالك كريم كُلي الأول وهنروح نشوفها كُلنا. يالا أقعدي.
تفتحت عيون عاصي في تمام الساعة التاسعة على بستان يضم أندر الزهور، رائحتها تفوح بالمكان مما سرب وميض البهجة لصدره، تحرشت أنامله بأطراف شعرها الذي ينتشر على الوسادة وأصاب برغبة عارمة للمسها، ملامحها النائمة من فرط رقتها تنضح نورًا، أخذ يتفحص تفاصيلها للحد الذي أقر فيه بأن كل النساء التي مرت عليه كانت جحيمًا مقارنة بجنتك!
تحركت غرائزه الأدامية كي يقطف زهور بستان ولكن تراجعت يده في أخر لحظة وهو يلعن ذلك الحظ في سره: -أنا أيه اللي عملته في نفسي ده!
غادر خائفًا من مواجهة عيونها في تلك اللحظة بالأخص ثم وثب قائما بحرص كي لا يزعجها وتمتم لنفسه: -أنا كده بعاقب مين فينا؟
ما وصل إلى المرحاض حتى واجه ملامحها بالمرآة وقال بصوت خفيض: -البنت دي وجودها خطر، وأنا لازم أشوف حل، بس دي أي حل ينفع معاها! قدام عيونها بتحول ببقى واحد أنا بكتشفه من أول وجديد معاها.
أحست حياة بفراغ المكان بجوارها وما أن فتحت جفونها تأكدت، برزت بحيرة عينيها وهي تتذاكر تفاصيل أمس، ومن أين حلت بها الجراءة كي توافق على الخلود بجواره، ضمت الوسادة إلى صدرها الخافق بشدة وقالت بلوم: -الاستهبال اللي أنا فيه ده ما ينفعش، حاسة إني مش عارفة أسيطر على قلبي، وده في حد ذاته مصيبة!
لم تجد فائدة من الاستلقاء، فنهضت متأففة: -أنا لازم اتجنبه، ويبقى كلامي معاه بحدود، لأن حالي ده ماينفعش.
ألقت نظرة للوراء كي تشاهد بناته، ف تبسمت برتياح وقالت: -أنتوا الحل لحد ما أسيب البيت ده وأمشي، أنتوا اللي هتحموني من قلبي ومن أبوكم اللي مش ناوي يجيبها لبر.
خرج عاصي من الحمام، فوجدها جالسة وتضم ركبتيها إلى صدرها وشعرها يغطي ظهرها بالكامل، حدق بتلك اللوحة الفنية التي وقعت عيناه عليها وقال بصوت خفيض: -صباح الخير.
تبسمت بهدوء وردت: -صباح الخير.
شرع في ارتداء بدلته السوداء وقميصه الأسود تحت أنظارها الفاحصة التي لم تغمض للحظة وهي تراقب أدق تفاصيله، ما أن لف حزامه الجلدي نظر إليها: -نمتي كويس!
-أمبارح كان صعب بصراحة، نمت محستش بحاجة.
تفقد هيئته بالمرآة ثم قال: -ارتاحي النهاردة.
قفزت من مكانها ثم اقتربت منه وقالت بصوتٍ منخفض: -أنا فكرت في موضوع الشغل معاك وكده، ولقيت أنها فرصة كويسة.
لوهلة تبخرت جميع قراراتها، وتعمدت فتح موضوعًا من أول فكرة قفزت برأسها، من أين ستتجنبه ومن أين قررت أن تشتغل معه! تعمد تصدير الوجه الخشب وقال بحزم: -عظيم! قرار سليم.
تحمست أكثر: -بجد، طيب أمتى.
ارتدى ساعته المعدنية وقال: -لما تخلصي السبع أيام عقاب.
-أنتَ مصدق نفسك ولا أيه!
هرب اللفظ من بين شفتيه بدون وعي مما جعله يرفع حاجبه مندهشا: -نعم!
حاولت تبرر موقفها فزادت من الأمر سوءًا: -مش أنتَ بردو نفس الشخص اللي كان بالليل!
لعب على أوتار قلقها: -هو حصل أيه بالليل، عشان أنا مش فاكر حاجة؟
-هاه. لا محصلش، أنا هروح أغسل وشي.
من كثرة اضطرابها هربت من أمامه كي لا تهذي بالمزيد من العبث، التوى شدقه بابتسامة خفيفة ختمها بزفير قوي:
-واضح أنها مش ناوية تجيبها لبر.
في الطابق السفلي
تجلس عبلة برفقة سوزان يرتشفان قهوتهم الصباحية، ف أردفت سوزان بسخطٍ:.
-يعني حتة بنت زي دي عبلة هانم المحلاوي مش عارفة تخلص منها!
زفرت عبلة باختناق: -بيحبها يا ستي، وواضح أنها مالية دماغه!
-طيب وأنتِ ناوية تعملي أيه!
هزت عبلة ساقها بتوتر: -هصبر لحد ما يزهق منها، ولو مزهقش يبقى هو اللي حفر قبرها بأيديه.
فكرت سوزان للحظة ثم قالت بتفاخر: -واللي يخلصك منها من غير نقطة دم واحدة!
تلهفت عبلة لجملتها: -بجد عندك حل! قولي لي أزاي!
تبسم ثغر الحية وهي تقول: -يوم حفلة عيد ميلادك هناكل التورته على روح المرحومة.
تشتت تفكير عبلة: -بردو مش فاهمة، أنت بتفكري في أيه!
-هقولك، وعدي الجمايل.
تقف حياة أمام رُكن القهوة تصنع فنجانين بناء على طلبه، أحضرت كأسه وجلست بجواره ترتشف قهوتها تراقب انغماسه في العمل وتفحص الملفات حتى فتح رسالة آندور ، نادى عليها بتلقائية: -حياه!
-ليه مصمم تناديني بالاسم ده، حتى بعد ما عرفت إني رسيل.
تناول فنجانه لكي يكتسب وقتًا أطول ليُفكر في إجابه مناسبة لسؤالها الذي لم يخطر بباله من قبل، وبعدما أنهى فنجانه قال بثباتٍ: -عشان أنا عرفتك و أنتِ حياة، مش رسيل.
-هتفرق يعني!
مط شفتيه بشكٍ بعد ما قفز الرد برأس رُبما رسيل لما تجذبني إليها كما فعلت حياة ، هنا طرقت سيدة الباب بخفة حتى أذن إليها بالدخول، ألقت التحية ثم وضعت مائدة الإفطار وقالت: -سوزان هانم تحت مع ست عبلة، وعايزة تسلم على معاليك.
هز رأسه: -شوية ونازل يا سيدة.
تأهبت للذهاب ولكنه أوقفها متسائلًا: -تميم صحى!
-سي تميم من امبارح في المستشفى، أخت الدكتورة شمس تعبت فجاة، ومن امبارح مفيش لا حس ولا خبر.
انتفض عاصي من مكانه وهو يتأكد مما سمعه: -تعبت ازاى يا سيدة! ايه اللي حصل.
تعجبت سيدة وحياة لفزعه الغامض الذي أخفاه بسرعة وهو يفرغه بقبضة يده القوية التي برزت عروق، ارتبكت سيدة وهي تقول بثرثرة: -علمي علمك يا بيه، بس سي كريم معاهم هناك وهو الاخر مظهرش، ده يا حبة عيني شال البنت الصغيرة على قلبه وطار بيها على المستشفى، وأهو ربنا يقف معاهم ويجيب العواقب سليمة.
كظم غضبه وقال بضجر: -طيب امشي انت يا سيدة.
نهضت حياة من مكانها ووقفت أمامه بدهشة: -مالك اتخضيت كده! ان شاء الله حاجة بسيطة وهتبقى كويسة.
يسهب ب الكلمات ليغطي فجوة في أسراره، هز رأسه متقبلًا الأمر خاصة بعد مواساتها ثم تعمد إخفاء الأمر عنها وطلب منها: -البسي عشان تنزلي معايا تحت!
-ليه.
-من غير ليه.
بشكل ما، ظلت ملامح الصخب على وجهه. تجاوزت حياة الموقف وهزت رأسها بالموافقة ثم فتشت بأحد الحقائب واخرجت فستانًا بسيطًا باللون الأبيض وتحركت ناحية الحمام امتثالا لأوامره الغامضة، جلس عاصي على الأريكة يضرب كف على الأخر حتى فاض به الحال وهاتف كريم على الفور الذي طمئنه وأخبره أن الجميع بخير، بعدها عاد إلى رشده وهدوئه وألقى نظرة سريعة على ساعة يده، نهضت تاليا في ذلك الوقت بتكاسل وما أن وقعت عينيها على أبيها تبسمت بإشراقة، فارقت فراشها وركضت إليه بلهفة مرتميه بحضنه بعد ما قالت له: -Good morning papi.
كان الأمر أشبه بضماد لجميع جروحه وترميم روحه التي لا تدرك معنى السكن طويلًا، وظل يبحث عنه في جميع النساء ولكن لا يعلم أن بين ذراعي تلك الصغيرة حياة قلبه، حملها لتجلس على ساقه وهو يداعب خصلات شعرها حتى سألته: -حضرتك هتروح الشغل في الويك آند!
-للأسف بابي معندوش ويك آند.
وضعت سبابتها على شدقها مفكرة حتى قالت بفضول: -بابي، أقولك سر.
ألتفت إليها باهتمام: -طبعا قولي.
تمتمت بنبرتها الطفولية وكلماتها المتقطعة والناقصة: -أنطي حياة قالت لنا أن حضرتك مش هتعرف تنام من غيرنا، عشان بنوحشك، وكمان هتودينا الملاهي تاني لو وافقنا ننام معاكم.
ثم عدت الصغيرة على كفيها وأشارت له برقم سبعة: -7 days
رفع حاجبه بتخابث: -7 days!
ثم غمغم بمكر: -أنطي حياة هتشوف مني 7 دايز مش هتنساهم في حياتها.
فجهر بصوته: -تيجي نفطر سوا.
أومأت رأسها بالإيجاب حيث شرعت في تناول وجبة الإفطار معه بسعادة وهي تتعمد صنع بعض اللقيمات وتضعها بحب في فمه، خرجت حياة آنذاك رافعة شعرها على هيئة ذيل حصان، وفستانها الذي يجعلها كفراشة بيضاء، قَبل عاصي ابنته ثم حملها برفق كي يجلسها على الأريكة بجواره: -بابي مضطر يمشي بقى، افطري كويس.
أومأت الصغيرة رأسها بالموافقة، وثب قائمًا بعد ما أخذ هاتفه ومفاتيحه وأمسك بيدها بغتة وسحبها خلفه، عارضته بصوت حذرٍ: -أيه المعاملة دي! موديني فين طيب!
-هتفهمي دلوقتِ.
نزل الثنائي إلى الطابق السفلي، حيث تعمد عاصي أن يُظهر حياة أمام سوزان كي يتخلص من ألاعيب تلك المرأة، وصل إلى مجلسهم برفقة حياة وقال باتزان: -منورة يا سوزان هانم.
نهضت سوزان بلهفة عندما رأته، واقتربت منه بخُطى متمايل وهي تتفقد تلك الفراشة التي تقف بمحاذاته وقالت بسخط: -مش صغيرة عليك دي يا باشا؟
ضم حياة من خصرها إليه ونظر إلى سوزان بخبث: -بالعكس، دي على مقاس قلبي بالظبوط!
اشتعلت النيران بصدر سوزان العاشقة له والتي لم تكف عن ركضها الدائم خلفه، بصعوبة رسمت ابتسامة مزيفة على وجهها، فهمت حياة الملعوب والرسالة التي أراد عاصي أن يوصلها لتلك المرأة الغامضة صاحبة النظرات الخبيثة، تمتمت سوزان بحقد: -خلينا نشوفك، بلاش الغيبة دي.
اكتفى بهز رأسه دون الهمس ببنت شفة، بل تعمد ضم حياة إلى صدره مع دفن وجهه بجدار عنقها طابعًا قُبلة حنونة ثم همس لها مداعبًا: -فاكرة بتاعت النادي! أهو دي مكان دي.
تركها في غياهب الدهشة من فعله المفاجئ الذي دب نوع غامض من الأحاسيس بجسدها، بلعت ريقها حتى برزت عروق عنقها وهي تحت تأثير مُخدر ما فعله، فكيف يمكن للإنسان أن يهرب من بركان مشتعل في صدره، تحمحم عاصي بفظاظة ثم مسح على رأسها وقال بحنو:.
-ممكن تخلي بالك من نفسگ، وأنا مش هتأخر عليكِ.
تاهت في خيوط تلك النبرة الحنونة الزائفة، والنظرات المصطنعة التي تسربت ل صميم فؤادها، فما يمكن أن يفعله بقلبها هذا الإحساس إن كان صادقًا؟ فما هو مذاقه يا ترى، اكتفت حياة بهزر رأسها بهدوء فاقدة النطق في حضرته، تدخلت عبلة بينهم عندما لاحظت غضب سوزان: -جرى أيه يا عاصي، الحاجات دي فوق مش هنا.
لأول مرة تراه يضحك بصوت مسموع وقال: -الحاجات دي ملهاش لا مكان ولا زمان يا عبلة هانم، عمومًا هسيبكم أنا تقضوا وقتكم، بعد أذنكم.
بعد أن اشعل النيران بصدر سوزان، انصرف وترك حياة بمفردها في مهب ريح لعبة لا تدرك عنها شيئًا، ما أن رحل من المكان وجهت أنظارها إلى تلك البنادق القناصة التي صوبت من أعينهم نحوها، انتفض جسدها وقالت بارتباك: -أنا همشي، البنات. قصدي هروح اطمن عليهم.
فرت حياة من شر نظراتهم وما أن أكلت خطاوي السُلم ركضًا انفجرت سوزان بوجه عبلة: -شايفة عمايله! ده لو قاصد يفرسني ما هيعمل كده، عبلة البنت دي لو ممشتش من هنا أنا اللي هزعل ابنك وهزعله بزيادة، بقا أنا يرفضني مرتين وفي الأخر يختار العيلة الملونة دي!
-روقي دمك وكله هيتحل، تيجي نروح النادي نغير جو!
لقد حل وقت الظهيرة وعادت نوران إلى وعيها وباتت بصحة أفضل، تجلس شمس بجوارها وتضمها إلى صدرها وهي تكرر اسئلتها بلهفة:
-حاسة بحاجة، في حاجة وجعاكي طيب!
أردفت نوران بخفوت: -أنا كويسة يا شمس، متقلقيش.
تدخل تميم في حوارهم مُتسائلًا: -ايه اللي حصل يا نوران، اكلتي أيه عمل فيكي كده!
حدقت النظر بكريم ثم قالت بجفاء: -مش عارفة، أنا بعد ما فطرت محستش بنفسي من الوجع.
-مين جاب لك الفطار!
ظهرت على كريم معالم التوتر وبعد ما ارسلت له نظرات الاتهام قالت: -واحدة من الشغالين.
تدخلت شمس مبررة: -عشان لما احذرك من أكل اللانشون وأنتِ مصممة تاكلي منه، أدي النتيجة.
تميم بحكمة: -خلاص يا شمس، مش وقته الكلام ده، المهم أنها بخير.
لم يتحمل كريم نظرات الاتهام القاسية من أعين نوران، تحجج للهروب منها قائلًا: -أنا هروح أشوف الدكتور المفروض تخرج أمتى.
في النادي
تجلس سوزان بجانب عبلة يكملان الحديث نحو طهي وجبة الشر الدسمة التي أعدوا تفاصيلها بحكمة، وفي تلك اللحظة ضاءت شاشة هاتفها باتصال خاص بالعمل، أطرقت مستأذنة: -سوري يا عبلة، هنكمل كلامنا على التليفون، في اجتماع مهم كنت نسيته، أووف الله يسامح البيه ابنك مخلاش فيا عقل.
تبسمت عبلة بتفاخر: -متزعليش نفسك، زي ما قولت لك مسألة وقت.
-أهم حاجة يا عبلة، تخلصي من الحمل بتاع بنت أختك، عشان الجولة كلها تتلعب لحسابي بس.
هزت عبلة رأسها: -متقلقيش، كله هيتحل وهيمشي زي ما اتفقنا.
-بالحق، هي عالية أخبارها أيه، البنت دي بتوحشني دايما معرفش ليه!
رُج كوب العصير من يدها إثر حالة الارتباك التي أصابتها وقالت بشكٍ: -اشمعنا عالية!
-عادي يا عبلة مالك اتوترتي كده ليه!
-هااه لا أبدا، قصدي أقولك أنها مستقرة مع جوزها ومبسوطة جدًا.
-لازم أشوفها في عيد الميلاد، بحب اتكلم معاها أوي.
-آكيد. آكيد يا حبيبتي. يلا أنتِ عشان ما تتأخريش على الاجتماع بتاعك.
لملمت سوزان أشيائها ثم ارتدت نظارتها الشمسية وانصرفت، تنهدت عبلة بضجر: -مالك يا عبلة! أهدي كده محصلش حاجة لكل ده.
قطع حبل تفكير صوت رجولي يقف أمام الطاولة التي تجلس عليها مما حجز عنها أشعة الشمس وقال بثقة: -مكنتش أعرف إني هتعب كده لحد ما أوصل لك!
طالعته عبلة بغرابة: -نعم! أنت تعرفني؟
شد المقعد وجلس مقابلها وهو يخلع نظارته الشمسية عرف نفسه: -فريد المصري، حوت البحر الأحمر.
مساءً
مرت ساعات اليوم على قلب عالية ببطء شديد وملل حتى باتت تتنقل من الشرفة للغرفة تبحث عن شيء لا تجرؤ أن تعترف عنه لنفسها، تعمد مُراد ألا يُهاتفها طول اليوم كي تتخذ قرارها الصائب بدون أي ضغط أو تأثير خارجي منه، في الوقت التي كانت تنتظر اتصاله على أحر من الجمر، عند سماعها صوت رنين الهاتف اندفعت إليه كمجنونة، حتى ردت بلهفة: -مُراد!
ساد الصمت للحظة حتى أتاها صوت ريناد قائلة: -هو مراد لسه مرجعش من اسكندرية!
شبهت على نبرة الصوت حتى قالت بشك: -المهندسة ريناد!
ضحكت ريناد بهدوء ثم قالت: -عشان أنا بس اللي أخدت نمرتك امبارح، وأنت لا، قلت أكلمك تسجيلها.
-تمام، هسجلها حالًا.
تعمدت ريناد أن تحاورها في تفاصيل علاقتها بمراد حتى قالت: -أنتِ ليه مسافرتيش مع مراد!
ترددت عالية في الجواب حتى قالت بتوجس: -عادي سفريته جات فجأة وو.
تحمست ريناد في اقتراحها خاصة بعد ما سمعت لهفتها عليه في أول المكالمة وقالت: -طيب ما تروحي له، وتعملي له مفاجأة حلوة وغيري جو في اسكندرية!
-نعم! أروح له. لا ماينفعش.
كان رد عالية اندفاعي وبدون تفكير، ف استغلت ذلك ريناد وقالت بلؤمٍ: -ماينفعش ليه يا عالية؟
-أصل، يعني علاقتنا لسه في البداية ومش متظبطة وو، هو آكيد هيخلص شغله ويرجع، بس اللي مزعلني أنه مفكرش حتى يطمن عليا! معقولة مشغول للدرجة دي.
كانت كلماتها ترتجف قبل أن تخرج، كل كلمة تائهة وعشوائية، كانت تفصل بين كل جملة والأخرى بلحظات صمت تقطم فيها أظافرها، تفهمت ريناد بحكم خبرتها تلك الحالة التي وصلت إليها عالية، والضياع والتشتت المبطن بنبرتها، كتبت ريناد عدة ملاحظات أمامها ثم أردفت: -فكري، على الأقل تشمي هوا البحر، وتغيري جو.
-ليه يا أنطي، ال snake بيخسرنا الجيم!
تجلس حياة بصحبة الفتيات فوق الفراش وهن يلعبن لعبة السُلم والثعبان، فأردفت داليا جُملتها الأخيرة عندما حُكم عليها بالهبوط لمستوى أقل، فكرت حياة في سؤالها قبل أن تُجيب ثم قالت: -علشان زي ما السُلم بيكسبنا، لازم يبقى في حاجة بتحاربنا طول الوقت، لأن هي دي الحياة! مش في اللعب وبس.
-بس هو شكله جميل، وألوانه حلوة. ليه يبقى evil!
مسحت حياة على جدائل شعرها وقالت: -وده يعلمنا إننا ما نحكمش على الشخص من مظهره، يعني مش عشان الثعبان لون جميل يبقى لازم يكون كويس!
تبادل الفتيات النظرات لبعضهن البعض، حتى تفوهت تاليا ببراءة: -يعني أيه!
امتدت نظرات حياة إليه، هو الذي تعمد أن يفارق غرفة مكتبه ويحتج بإتمام عمله بغرفة نومه، يجلس على الأريكة ورغم تكدس مهامه إلا أنه يتبع الحوار الدائر بينهم بعناية، تحمحمت حياة بخفوت ثم وضحت جملتها بصيغة أسهل:
-يعني منحكمش على حد غير لما نعاشره، ونفهمه، ماينفعش نقول ده كويس وده شرير من شكله.
ثم أسهبت في الحديث عنه متناسية نفسها عندما تذكرت عطر قُبلته الصباحية المفاجأة وقالت بشرود: -ممكن شخص نشوفه نتخض ونتخدع في الوش اللي مصدره طول الوقت، بس لما نقرب من الشخص ده هنعرف أد أيه هو حنين وجواه طاقة حُب هو نفسه مش عارفها.
-زي بابي كده!
ببراءة طفلة تفوهت تاليا بتلك الجملة الصغيرة التي تردى صداها بصدر حياة، ففاقت من شرودها وقالت باضطراب: -هاه! ومال بابي بينا، أحنا بندردش بنات سوا، على فكرة الوقت اتأخر جامد، وأنتوا لازم تناموا.
لملمت حياة اللعبة بعجل وغطتهن برفق ثم طبعت قبلة رقيقة فوق رؤوسهن وقالت بهمس: -good night.
بمجرد ما أنهت مهمتها تلاقت أعينهم للحظات أربكتها، فهرولت نحو المرحاض كي تتوارى من عينيه الفاصحة، قفل عاصي جهاز الحاسوب ثم خرج من الغُرفة ليُجري مكالمة هاتفية، ف عندما خرجت حياة من الحمام وجدت الغرفة خالية من طيف وجوده المُربك، تنفست بارتياح ثم نزعت روبها القصير مكتفية ب التوب ذى حمالات رفيعة وبنطال واسع من الستان، تحركت نحو الأريكة لتنام ولكنها تذكرت عقابها، فتراجعت وفرشت تلك المرتبة بالأرض مرة أخرى ومددت فوقها.
كأنها وصلت للنقطة التي لا تُريد بها أي شيء ألا الهدوء، أسهبت التفكير به، وبشخصه الحنون الذي رأته ليلة أمس، وهو نفسه ذلك الشخص صاحب تلك النبرة الجافة والوجه الصلد، وضعت كفها على قلبها وتنفست بعمق متسائلة: -لماذا يزاولني طيفك لهذا الحد!
ولكن فجأة دق ناقوس التغير بفكرها لينذر قلبها ب أنَّ هذا الأمر يجب أن يتوقف لأنه لا يليق به، قفلت جفونها لحسم تلك المعركة الدائرة داخلها وتركت نفسها للنوم ظنًا منها بأنه سلاح نصرها لتقتل هذه الأفكار.
مرت قرابة الساعة حتى عاد عاصي إلى غُرفته، شيء ما بقلبه جذبه كي يتأكد من دفء صغاره مع طبع قبلة حنونة على كف داليا الصغير، وقبلة رقيقة مثلها على جبهة تاليا، ثم تقدم نحو تلك الحورية النائمة بارتياح تتوسط المرتبة، تصلب مكانه وهو يتأمل تفاصيلها حتى جلس على الطرف يتأمل كل إنش بها فشل الغطاء أن يُخفيه.
قيل أحد الحكماء من قبل.
– الحبيبُ الأول ليس أول شخصٍ تُعطيه قلبكَ ولكنه أول شخصٍ لا تستطيعُ أن تستردَّ قلبكَ منه. الحبيبُ الأول ليس أول شخصٍ يصلُ إليكَ، ولكنه الشخص الذي لا يسبقه أحدٌ في قلبكَ
وإن وصلَ الآخرون قبله.
تحرش ذلك الحوت المطبوع على كتفها بقلبه، فأغراه كي يتحسسه، ويتحسس حرارة جسدها مقارنة بتلك الثورة المشتعلة بجوفه، أخذت أنامله تتنقل بحُرية حتى وصل إلى أنفاسها رائحة عطره ف تحركت جفونها دون أي حركة أخرى بجسدها الذي استسلم إليه كُليا، قفلت جفونها مرة أخرى كي تعيش معه ذلك الحُلم اللطيف، سرحت أنامله إلى جدائل شعرها وهو يهمس باسمها: -حياه،!
تململت في فراشها بدلال قطة شقية مفتعلة وضع النوم وأصدرت إيماءة خافتة، مما جعله ينادي باسمها مرة أخرى فلبت النداء هذه المرة وفتحت جفونها على نجوم عينيه اللمعة بنور اللهفة وقالت بنبرة مبطنة بالنوم: -نعم!
توقف على الحديث ولكن لم تكف يده عن مداعبة خصلات شعرها حتى تدلت تدريجياً الى رسمتها التي تصيبه بلعنة الغيرة والإغراء فمال أكثر نحوها حتى عاد لرُشده قائلًا: -اتغطي كويس.
ثم تحمحم بصوت عالٍ وتحرك لينام في مكانه المعتاد بجوارها، ما ارتكبه في حق مشاعرها جريمة لا تُغفر كن أن عود كبريت مشتعل في حقل بترولها المضطرب وفجأة أخمده بثلج الندم كي لا يحترق بحقلها أكثر، أما عنه قرر ألا يساوم بكرامته من أجل مشاعره التي رُفضت لأكثر من مرة، قرر أن يفقد شيئًا من قلبه أهون من بعثرة كبريائه لأجل لحظات لا يعرف عما ستنتهي!
ساد الصمت بينهم طويلًا حتى استعادة نفسها وسيطرت على قلبها المائل لقُربه دومًا وقالت بنبرة خفيضة: -كُنت قاعد كده ليه!
-عادي، كُنت بطمن على الحوت، أشوفه لو عطشان ولا حاجة!
نظرت له فجأة محاولة استيعاب كلماته مقارنة بهذه الجدية التي يتحدث بها: -شايفني عيلة صغيرة بتكلمها بالطريقة دي!
-أي طريقة بس؟ أنا عملت أي لكُل ده!
تنهدت بنفاذ صبر من اسلوبه الثلجي: -خلينا متفقين أنا نايمة هنا بس كنوع من العقاب اللي فرضته عليا، مش عشان حضرتك تستغل ده!
تقلب على جنبه حتى بات مُقابلًا لوجهها وقال: -وأنا استغليت عملت أيه بس!
-شوف نفسك بقا عملت أيه الصُبح ودلوقتِ!
رفع حاجبه بتخابث: -معنى كده إنك كنتِ صاحية! وعارفة عملت أيه؟
توترت واحمرت وجنتها وردت بقلق: -لا كنت نايمه وصحيت يعني، أنت صحيتني؟
هز رأسه بعدم تصديق ثم غير مجرى الحوار بينهم وقال بهمسٍ: -المهم، جهزتي هتلبسي أيه للحفله!
-حفلة أيه؟ ومين قالك إني هنزل الحفلة دي من أصلو؟
-لازم تنزل، عشان ناوي أقدمك للناس كلها على أنك مراتي.
تأرجحت عيونها بتوتر: -بس أنا مش مراتك. أنت عارف أن الموضوع ده كله مؤقت وهينتهي!
وضع كفه على وجنتها بحنو: -مفيش حاجة هتنتهي غير بإذني.
-نعم! بس ده مش اتفاقنا؟ أنت ناوي على أيه!
تسللت أصابعه إلى خصلات شعرها وقال بهيام: -كل خير.
-يعني أيه؟ لا فهمني.
أصدر إيماءة خافتة ثم قال بمزاح: -متزعليش أوي كده، لو أنتِ مش موافقة أهي هدير موجودة.
دفعت يده بعيدًا عنها وقالت بغضب لا تعلم سببه: -تمام، لو سمحت متقربش مني تاني، ويا ريت تحاول تنهي العبث ده في أسرع وقت.
هز رأسه متفهمًا: -معاكِ حق، العبث ده لازم ينتهي في أسرع وقت.
راقبت ملامحه بتوجس حتى سألته بتردد: -أنتَ ليه اتصرفت معايا كده قدام الست دي، هي عايزة منك أيه!
في تلك اللحظة أضاءت شاشة هاتفة برسالة نصية وما أن فتحها وقرأ ما بها تبدلت ملامحه: -عاصي بيه، لقيوا قاسم صفوان مقتول في مركب في البحر ولسه التحريات مكملة!
التعليقات