التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الرابع والثلاثون

إنك مُسرف في التهذيب، لماذا لا تَقول للحمار بكُلّ صراحة أنهُ حمار؟
فيودور دوستويفسكي
هل بهذه السهولة؟
هل مات المعُذب وبقايا تعذيبه ما زالت عالقة في أرواحنا؟، يذهب هكذا قبل أن نقتص؟
كانت تساؤلات تُدار في رأس عيسى الذي علم أن زوج خالته قُتِل، لم يعد في رأسه شيء سوى الضجيج، سوى صوت بشير الذي قال: واحد لقاه مرمي في الشارع دمه سايح وعلى ما جابه على المستشفى كان خلاص.

كيف حدث هذا، ومن؟، أصبح عقله عاجز عن الحصول على أي إجابة لا يعلم سوى أنه الآن يجلس أمام الضابط بإرهاق شديد، إرهاق يوم كامل لم يذق النوم به وها هو الثاني، استجمع طاقته وهو يقول ما يعرفه بهدوء: آخر مره شوفته كانت امبارح، ساعة الطلاق…
رفع له المحقق ورقة بيضاء وهو يهتف: احنا لقينا معاه ده.

هز عيسى رأسه موافقا ورد: أيوه أنا فعلا مضتله على الشيك ده، الفترة الأخيرة كان ملموم على ناس بتاعة ترابيزة وكاس والموضوع وصل إنه ناس من اللي بيلعب معاهم ليهم فلوس عنده جم هددوا خالتي في بيتها واتهجموا عليها هي والممرضة اللي معاها وهددوها وهربوا، الكلام ده لسه حاصل وحضرتك تقدر تسأل الجيران عليه، وأنا بعد ما ده حصل روحتلها ولما جه طلبنا يطلق بس هو طلب مقابل قصاد الطلاق وتتنازل عن حقوقها فدفعتله اللي هو عايزه.

تعرف حد من اللي كان بيسهر معاهم؟
نفى عيسى معرفته ردا على السؤال ولكن أردف: أعرف مكان كان بيسهر فيه لكن معرفش حد منهم، حتى اللي اتهجموا على بيت ميرت مشوفتش حد منهم.
كان كل شيء هنا يصيبه بالملل لدرجة لا توصف، حضوره إلى هنا وحضور خالته التي لم يود أبدا أن تعرف بموت ذلك اللعين ود لو أخفى هذا عليها لتنسى سيرته للأبد ولكن ليس كل ما يتمناه يُدرك دائما.

شجار استمر حتى الفجر وجدال لم يتوقف إلا حين صرح طاهر بكل سلاسة عن موافقته أن يتم معاقبة شقيقه على يد جابر في منتصف بلدته بعدما اتهمه جابر بالتعرض لزوجته، لكن موافقة طاهر لم تكن هينة هكذا أتى بعدها قوله: بس أنا عايز أشوف الحاج منصور.
يعلم جيدا أنه غير متواجد وأن ابنه ما استطاع أن يفعل هذا إلا بسبب غيابه لذلك هتف جابر بتبجح: ملكش دعوة بالحاج وخليك منك ليا.

ثم اقترب وأراد تخطيه ليطول حسن وهو يتابع: وهات أخوك بقى علشان ي
بتر طاهر عبارته حين دفعه بيده وهتف بابتسامة: مش لما تعرف الأول نتيجة اللي هتعمله، لو أنت هتوافق على النتيجة أنا هسلملك حسن دلوقتي
بقولك إيه بلا نتيجة بلا امتحان وقصر بقى علشان أنا صدعت.
كان هذا قول جابر وقد وقفوا في الردهة ولمح طاهر هذه التي تنزل على الدرج فلوح لها هاتفا بترحيب: أهلا أهلا مدام رزان.

بان التوتر على وجهها وهتف جابر بنبرة عدائية: ملكش دعوة بيها.
رفع طاهر كفيه ببراءة وهو يقول: أكيد أنا مليش دعوة بيها، ولا باللي بتعمله، أنا واحد أشغاله مش مخلياه حتى لاحق ياخد نفسه، بس للأسف الناس هنا مش كده، الناس ما بتصدق تلاقي فضيحة علشان تبقى لبانة في بوقهم ويألفوا عليها مية فيلم ومسلسل.

بدأ جابر يدرك مقصده وتيقن تماما من ظنه حين استكمل طاهر: وعلى الرغم من إن دي مش أخلاقنا ولا تربيتنا بس أنت اللي طلبت.
هتف بقوله الحاسم لينهي الأمر: لو عملت اللي أنت عايزه، ساعة بالظبط وهتبقى البلد كلها ملهاش سيرة غير ابن كبير بلدهم اللي اتجوز واحدة أنا وأنت وهي عارفين كانت شغالة فين وإيه
وأهو نعرف البلد كلها بقى طالما أنت عايزها فضايح.

تبع قوله هذا دخول منصور الذي رأى أن ابنه في طريقه للاشتباك مع طاهر فهتف بنبرة عالية: إيه اللي بيحصل هنا.

لم يستغرق الأمر الكثير، كان طاهر يضع احتمال شبه مؤكد أن وجود منصور سيقلب الموازيين، ما يفعله ابنه الآن سيفتح عداوة جاهد منصور ليغلقها، وكل مؤمراته لفتحها في الوقت المناسب تكون مدروسة جيدا ليخرج بنتيجة يصبح فيها الفائز ولكن فعلة ابنه الآن ستجعله يخسر وخاصة مع تهديد طاهر الأخير، الذي بعد أن سرد كل شيء على منصور وناطح ابنه في الحديث حذرهم للمرة الثانية: أنا قولت اللي عندي، وكل واحد يعمل اللي على كيفه.

خد أخوك وامشي يا طاهر.
كان قول منصور حاسما وناهيا لكل شيء حتى أمام صياح ابنه المعترض، ابتسم طاهر بشماتة وتحصل منهم على هاتف شقيقه ثم جذبه وتوجه ليخرج بنظرات متشفية لجابر ومتوعدة للواقفة جانبه وما إن خرج تماما حتى هتف منصور بغضب: عايز تفضحني، عايز البلد كلها تعرف إن ابن كبيرهم متجوز رقاصة وبنت…
وقبل أن يكمل سبته قاطعته رزان هاتفة بغير رضا: الله، طب وليه الغلط ده يا حاج؟
غور البت دي من قدامي.

قالها لابنه بقسوة جعلته يأمرها بالصعود لأعلى ثم توجه جابر ناحية والده قائلا بتبجح: مش دي أحسن من اللي لبستني فيها وختمتنا احنا الاتنين على قفانا وسرقتك ومعرفتش تتكلم نص كلمة مع البهوات قرايبها.
جذبه منصور من تلابيبه مصرحا باشمئزز بدا على وجهه: هتفضل طول عمرك غبي ومش نافع وتربيتك زبالة.
ما هو أنت اللي مربيني.

قالها جابر بغلظة ورد عليه والده بنفسها وهو يقول: اه صح أنا اللي ربيت عيل خايب، معرفش يحافظ على مراته ولا يستغل أي حاجة من اللي حطيتها تحت رجليه، شوف شاكر كده من ساعة ما ناسب العيلة دي وهو طالع في العالي وحاطط ايده في الكبيرة والصغيرة، أنت معرفتش تحكم البت وتخليها تحت طوعك علشان مش راجل.

فلت جابر منه وصاح بهياج: مش عايز أبقى أي حاجة تعجبك، أنا مش عايز أبقى حد، مش عايز أبقى منصور تاني، ولا عيل من عيال نصران، ولا شاكر، أنا أحسن منكم كلكم، ملكش دعوة بيا بقى.

دفعه منصور وهو يرد على حديثه بتهكم: مليش دعوة بيك دي لما تبقى موزون، لما تبقى واحد نافع ويُعتمد عليك، مش رايح تجبلي مصايب مع نصران وولاده على حاجة احنا مش عاملين حسابها، ما تعلمتش مني حاجة خالص كده؟، ده أنا يوم ما حبيت أفتح النار دي عملت وقيعة بينه وبين مهدي علشان العيلتين يخلصوا على بعض ونعرف نحط رجل عندهم من غير ما نبقى ظهرنا في الصورة خالص، لكن أنا غبي ومتخلف، لسه نفسك مكسورة علشان فرج الناس عليك في نص البلد.

بان الغيظ والغل في عيون جابر بينما أكمل والده يقذفه بكلماته: ما أنت تستاهل، رايح تجري ورا بنت هادية وعينك زاغت على البت زي الأهبل، ما لو كانت عاجباك كنت روحت اتقدمتلها أول ما سابها وكنت هجوزهالك لكن حبيت تكيد ابن نصران وتفضحها علشان تقهره أكتر وأنت بتجبرها تتجوزك علشان الفضيحة، مفكر الدنيا هتجيلك تحت رجلك من غير ما تشغل دماغك دي ولو شوية.

ضحك جابر ضحكات بدت لوالده مثيرة للاستفزاز ولكنها في حقيقتها نبعت عن قهر شديد داخل صاحبها وهو يسأل: خلصت خلاص يا حاج منصور؟، خلصت وصلة المقارنات والذم فيا وفي قد إيه أنا غبي ومليقش أبقى ابن معاليك، خلصت وصلة مسح تعبي ومجهودي وسفي التراب علشان شغلك يكبر وإني بعمل كل حاجة علشان أراضيك ومبترضاش؟، أنا هعمل اللي أنا عايزة ومش هسمع كلام حد.

ثم هتف بنبرة جهورية مشيرا ناحية الأعلى: والبت اللي مش عاجباك فوق دي مراتي وهتفضل مراتي حتى لو أنت مش راضي
ذُهِل والده من نبرة التحدي الواضحة هذه خاصة وأن آخر كلمات ابنه كانت: واللي على كيفك اعمله.
ثم تركه ورحل متجها إلى الأعلى وقد أُخمدت ثورته المشتعلة بصعوبة شديدة.

علي حافة الجنون مما حدث، يخفي بداخله الكثير وحتى الآن لم ينطق بكلمة واحدة، و ما أثار استغرابه أكثر بعد عودتهم لمنزل خالته هو سكونها التام وكأن من توفى هذا ليس الذي كانت تحارب دائما وأبدا للبقاء معه.
داهم التعب ملك فسقطت رأسها على الأريكة، أيقظها برفق فانتفضت بذعر مبالغ وهي تهتف: في إيه؟
مسح على رأسها مطمئنا: مفيش حاجة، متخافيش، ادخلي نامي جوا.

قبل أن تقول أي شيء طالبها بهدوء: سيبك من أي حاجة دلوقتي، ادخلي نامي وأنا داخل لميرت.
طالعته بشفقة، تعلم أن داخله ثورة الآن، رأته وهو يدخل لخالته، كان صامتة شاردة في اللاشيء، وأمام هذا هتف هو: قولي أي حاجة.
نظرت له بهدوء فكرر أمام صمتها: اسأليني أنا اللي عملت فيه كده ولا لا؟

وللمرة الثانية لا يوجد رد مما جعله يقول بسخرية مريرة: عموما متخافيش، مش أنا اللي عملتها، لكن لو عايزة تنزلي تبلغي إنك بتتهمي ابن أختك في المرحوم اللي كان مهنيكي. فبراحتك.
قال كلمته الأخيرة وترك لها الغرفة تماما، بل المنزل بأكمله ولم تلحقه ملك التي لمحته من الشرفة وهو يغادر، لم يكن يعلم إلى أين، ظل يدور هنا وهناك حتى رضخ في النهاية للرد على هاتفه وكان المتصل نور.

لم يقل شيء بل هتف نور: كان المفروض في ميعاد بيننا، وبما إنك مجتش أنا كلمت الحاج وعرفت إنك في القاهرة، أنا كمان في القاهرة، تحب نتقابل
شعر بأن هذا الحل سقط له من السماء للتو لذلك قال بدون تردد وكانت كلماته مختصرة توحي بحالته السيئة: أنت فين
هبعتلك location الشقة اللي قاعد فيها.

جملة واحدة فتحت الطريق أمامه، لذلك وبعد تشتت كبير وصل إلى هناك، انتظر في الخارج قليلا قبل أن يدخل له، دخل وجلس على مقعده بصمت تام في إحدى الغرف بينما هتف نور الجالس على مقعد مقابل له: فوتت ميعادنا وكلمتك قبل كده مردتش، عموما مش هنتكلم في أي حاجة فاتت المهم إنك موجود دلوقتي
طالعه عيسى فحثه على الحديث قائلا بتشجيع: اتكلم، جيت ليه يا عيسى؟

تسارعت أنفاس عيسى وكأن حتى كلماته تحاربه ولكن تغلب على حربها وأرغمها على الخروج متحدثا: أوقات بعمل حاجات وأنا متعصب ولما بفوق من العصبية دي بندم على اللي عملته، وأوقات تانية مبندمش، أنا مندمتش ولا مرة عملت فيها حاجة مع كارم وأنا متعصب، هو كان يستاهل أكتر بكتير، النهاردة أنا حاسس بإحساس وحش، إحساس العجز، طالع نور بعينين داهمتهما الحمرة وأكمل: إحساس إنه مات من غير ما اخد حقي منه، كارم ده مكانش بيرحم، أذاني وأنا عيل وكنت بستحمله علشان ميرت، من اللي بيعمله بقيت واحد تاني عصبي ومتوتر طول الوقت، لحد النهاردة فاكر أول مره رديت عليه بطريقة خوفته، فاكر لما زعقلي وقبل ما يكمل لقاني بكسر كل حاجة حوالينا وبوقفه مكانه عاجز، فاكر لما كبرت وسيبتهم وروحت عيشت لوحدي أيام الجامعة، وساعتها حنفية فلوس الحاج نصران اتقفلت عليه وبقى عمال يقنع ميرت تقولي أرجع، فاكر لما حطيته في دماغي وبعتت اللي يدور وراه وعرفت إنه بيمشي شغله كله بالشمال وساعتها فضحته وخليته خسر اللي وراه واللي قدامه.

هتف بوجع حقيقي: ورغم كل حاجة كنت دايما حاسس إنه قادر يضايقني، قادر علشان ميرت اللي متمسكة بيه وده خلاه يبقى ضامن إنه كسبني علشان هو عارف هي عندي إيه، مش عارف أصدق إنه مات، حاسس إني محتاج أنسى وأرتاح، محتاج أسيب كل حاجة وأجري.

تنهد نور بهدوء قبل أن يتحدث ونظراته تشمل الجالس أمامه دارسا كل تعبير يظهر على وجهه: ليه شايف إن موته معناه إنك مخدتش حقك؟، مش جايز ده حصل علشان تنساه بلاش تنساه علشان على الأقل تبدأ تدريجيا تتعافى من وجوده.

انتبه له عيسى ولكن كانت أفكاره تنال الجزء الأكبر من انتباهه فجذب نور اهتمامه أكثر بقوله: أخد الحق مش عيب أبدا، لكن تمكين طاقة الكره مننا هو ده أول طريق الغلط، أنا قولتلك قبل كده أنت بيحركك طاقة جواك، طاقة عايزة تحرق كل حاجة، حتى الجزء اللي بيظهر منك مع اللي بتحبهم عايزة تحرقه وتتمكن هي وبس، أنا عايزك تسترخي تماما وتفكر بطرق إيجابية أكتر علشان نحاول نحجم كم المشاعر السلبية اللي الطاقة دي بتولده عندك، دلوقتي كارم مات أنت أول تفكير جه في دماغك إنك مخدتش حقك، صح؟

هز عيسى رأسه بتأكيد فتناول نور أحد الأقلام وجذب ورقة بيضاء قائلا: ليه متفرغش كل حاجة قدام عينك وتشوف أنهي أولى باختياره
بدا الاستغراب على وجه عيسى فوضح نور وهو يرسم دائرة يضع بداخلها وفاة كارم ثم فرع منها عدة أسهم مردفا: وفاة كارم نتج عنها إنك بقيت حر
كتب هذا عند السهم الأول واتجه للثاني وكتب: فرص رؤيتك ليه أصبحت معدومة وبالتالي حياتك هتبقى أهدى.

وعند الثالث دون: المقارنة الدايمة اللي كنت بتشوف إن أخت والدتك بتحطك فيها معاه هتختفي تماما.

ثم طالع عيسى وأضاف بابتسامة: حريتك اللي نتجت عن وفاته هتديك مساحة أكبر إنك تفك قيود كتير كانت تعباك ومحجماك، هتديك مساحة تطلعه برا حساباتك خالص مؤقتا وتفضى لحاجات تانية واخدة أجزاء من حياتك وبعدين مين قال إنك مخدتش حقك؟، أنت نفسك قولت قبل كده إنك من ساعة ما بقيت قادر ترد عليه وتاخد حقك منه بقيت كابوسه، وبقى بيعملك حساب وخصوصا إن صباعه كان تحت ضرسك، أنت قولت إنك بوظت شغله اللي كان ممشيه بالغلط ليه مش شايف ده انتقام؟، واحد أهم حاجة عنده المادة وأنت خسرته المادة ليه ما اعتبرتش ده تخليص حق؟، قولت إنه بقى محتاجلك وكذا موقف ذكرتهم كلها بتدل على حاجة واحدة إنك حقك رجعلك بكذا طريقة في كذا موقف بكذا طريقة حتى لو أنت شايف إنه مرجعش بنفس القدر اللي اتأذيت بيه ولكن احنا دلوقتي بقينا قدام أمر واقع هو مات يبقى نبص للجوانب الإيجابية.

ثم وجه نظر عيسى ناحية الورقة قائلا بابتسامة: روحك اتحررت من حاجة كانت خنقاها ودي أهم حاجة يا عيسى.
شعر باسترخاء الجالس أمامه فقال وهو يدون شيء ما على ورقة: فكر في كلامنا وأنا متأكد إنك ذكي وهتحسبها صح وتعرف إنك طلعت كسبان.
ثم قدم له الورقة مضيفا: الحبوب دي هتساعدك تسترخي وتكون أهدى، هقولك على الأوقات اللي تاخدها فيها وهطلب منك كام حاجة كمان، لكن المهم قبل أي حاجة من دي إني عايز أشوفك تاني.

تناول عيسى منه الورقة وهز رأسه موافقا ثم توجه ناحية الباب ليغادر وهو لا يُشغل تفكيره سوى الحديث الذي دار في هذه الغرفة.
هو أنت متخلف ولا إيه بالظبط؟
قالها طاهر لشقيقه أثناء عودتهما للمنزل وكان رد حسن منفعل: يعني كنت اعمل إيه يا طاهر؟، أنا كنت هعرف منين إنها اتجوزت جابر وإنهم ناصبينلي فخ، واحدة عمالة تقولي محتاجة مساعدتك ضروري وتعالالي وفجأة موبايلها اتقفل، مجاش في بالي خالص إنها لعبة منهم.

صاح طاهر بضجر: أنا لولا عز كلمني كان زمان جابر عاملك فرجة، يا أخي اكبر بقى قرفتنا، انزل يا حسن روح لوحدك أنا عندي مشوار
ومع جملته الأخيرة طالعه شقيقه بضيق فانفعل طاهر مكررا: انزل يلا.

بالفعل استجاب ونزل من السيارة بغضب ثم دفع الباب خلفه بعنف، سار طاهر في الطريق بلا هوية، ما حدث أثار ضيقه وعكر يومه، لوهلة أتى على رأسه حديثه الحاد مع شهد حين فُتِح حوار حول عملها بعد إنهاء الدراسة وهجومها الزائد لرأيه.
مر من أمام المحل الخاص بهم فلمحها تجلس على السور المجاور له تعبث في هاتفها بملامح منزعجة، نزل من سيارته واتجه ناحيتها ولم ترفع هي رأسها عن الهاتف بل قالت: خلصان.

ظنته أحد الزبائن فسأل باستغراب: هو إيه ده اللي خلصان؟، أنتِ بتطفشي الناس؟
رفعت وجهها سريعا فأخبرها متوعدا: والله هقول للست هادية وهي تتصرف معاكي.
عادت تنظر في هاتفها من جديد فتأفف بانزعاج وجذب مقعد ليجلس عليه سائلا: يعني هتفضلي قالبه وشك كده كتير؟

رفعت وجهها وهزت رأسها قائلة بعتاب: أيوه يا طاهر علشان كلامك ضايقني، أنت فجأة حسستني إنك بتلغي كل حاجة وبتعتبرني صغيرة هحتاج حد يحط عينه عليا طول الوقت، ولازم اسمع الكلام وألغي بقى كل اللي خططتله ونفسي فيه.
أنا قولتلك تلغيه؟
سألها بضيق فردت: كلامك كان معناه كده يا طاهر.

وضح لها بهدوء شارحا ما لديه: لا يا شهد أنا قولتلك اقتراح، ولما يبقى في حاجة مضايقانا احنا الاتنين ممكن نفكرلها في حل يرضي كل الأطراف.
استقام واقفا وأعطاها ابتسامة وهو يمسح على خصلاتها قائلا: أنا مش عايز ألغيكي يا شهد أنا بس بخاف عليكي…
ثم تصنع أنه قد نسى شيء وتذكره للتو فقال: أنتِ صحيح كان في مسابقة تبع الكلية.

بترت عبارته وقالت بحزن: أيوه كان في، كل واحد كان هيعمل شغل وأفضل ناس كانوا هياخدوهم في برنامج ثقافي هيتعمل في أسوان، ثم توقفت فجأة سائلة: بس أنت عرفت منين؟
ضحك وهو يرد على سؤالها: مش مهم عرفت منين، المهم إني اشتركتلك.
شهقت بصدمة وأسرعت تهتف بغير تصديق: إزاي؟، أنا روحت اشترك واتقالي في الاتحاد إنه لازم نبقى Team ومينفعش حد لوحده.

هز رأسه قائلا بغيظ: اه ما انا عرفت واتخانقتي معاهم، وبالمناسبة هما طلعوا اشتكوكي للعميدة وهي كلمتني وأنا طلبت منها تشتركي واسمك اتحط خلاص.
علت الضحكة وجهها وقفزت من على السور قائلة: احلف
ضحك على فعلتها والتقطت هي كفيه قائلة بابتسامة واسعة: أنت جدع، وأنا بحبك أوي
رفع حاجبه قائلا بعتاب: ما كنت من شوية مش جدع وبلغيكي.

اتسعت ضحكتها وهي تراضيه قائلة: لا أنت دلوقتي بقيت ابن ناس ومتربي وكل الصفات الحلوة فيك، أنت متعرفش المسابقة دي كانت فارقة معايا ازاي
تنهدت وهي تقول بمشاعر صادقة: بجد شكرا.
ابتسم وهو يقول: لا يا ستي لا شكرا ولا حاجة، بس المهم قوليلي أنتِ اتخانقتي مع العيال ليه؟
ردت بغيظ حين تذكرت: أنا فعلا اتخانقت معاهم علشان مكانش فيه حد أعمل معاه تيم والعيال اللي داخلين نصهم مينفعش أصلا بس هي كوسة.

لو تقصري لسانك ده شوية الدنيا هتبقى مية فل.
ضحكت وهي تخبره بغنج: على قلبك زي العسل
قطعا حديثهما مكالمة هاتفية أتت لها، تكرر الاتصال أكثر من مرة فردت ولكن تجمدت حين سمعت: أنا علا يا شهد
جملة واحدة كانت قادرة على قلب مزاجها رأسا على عقب ولم يخف عنه أنها تحولت للنقيض كليا.

أخيرا وصل حيث منزل خالته، لمح والده يجلس في سيارته فهرول ناحيته، تيقن من أنه علم بأمر وفاة كارم ونزل نصران من السيارة قائلا: لولا بشير كان زماني نايم في البلد ولا دريان.
مسح على خصلات ابنه مرددا بحنان: اطلع نام، وأنا هروح أبات مع بشير هو بيجيب حاجة وجاي، والصبح هاجي اعزي خالتك.

كان في عيون عيسى سؤال عن سبب مجيئه إلى هنا إذا كان سيذهب مع بشير وأتاه الرد قبل أن يسأل: جيت علشان أشوفك، جيت علشان عارف إنك هتبقى محتاجني، ولا مش عايزني يا واد؟
قال جملته الأخيرة بمزاح فابتسم ابنه قائلا: وأنا أقدر ده أنت الحاج نصران.

وكأن هذه اللحظات مع والده شحنته بالطاقة، محت الكثير من المشاعر البغيضة التي سيطرت عليه، صعد إلى الأعلى، وألقى نظرة سريعة على خالته التي غفت أخيرا وقد شاركتها ملك في الغرفة، تمدد على الأريكة وأغمض عينيه متحررا من كل شيء فقط استرخى وهذا هو تحديدا ما أراد الحصول عليه الآن.

استيقظ في الصباح على دقات الباب وقد خمن حضور الممرضة فأدخلها بهدوء وتوجه للبحث عن ملك، وجدها في المطبخ تصنع الشاي واستدارت هي له سائلة: تحب أعملك؟
تعالي ننزل نفطر تحت.
قالها وهو يمسد على عنقه بتعب فسألته: بس ميرت
رد عليها قائلا: ميرت نايمة لسه والممرضة جت، البسي وتعالي ننزل يلا.
كانت بالفعل بحاجة إلى هذا، التقاط أنفاسها في الهواء النقي بعيدا عن الحزن الذي خيم على المنزل منذ أمس.

ارتدت ملابس مناسبة سريعا ونزلا معا، وصلا إلى المكان الذي اعتاد هو أن يرتاده برفقة صديقه دائما، وسحب لها مقعد على إحدى الطاولات التي اختارها ليجلسا عليها بينما في نفس التوقيت قلقت رزان أثناء نومها فقامت وغادرت غرفتها نزلت إلى الأسفل، وأثناء مرورها لمحت غرفة المكتب وبابها الذي واربه منصور، كان ضوء الغرفة مفتوح فتحركت بحذر ناحيتها ونظرت خلسة من الفتحة الصغيرة، كان منصور متوقفا أمام الاطار الذي جمع صورته وابنه وزوجته وقد وُضِع على الحائط، لم تر هي الصورة ولكن سمعته يقول بنبرة ظن أنه لا يسمعها سواه: شكلي كده كنت غلطان، كنت غلطان لما سمعت كلامك وجبت عيل مش من صلبي عملته ابني.

وضعت رزان يدها على فمها بصدمة وهرولت بعيدا حين رأته يبتعد عن الصورة بينما في ذلك المقهى سأل عيسى الجالسة أمامه: ميرت قالت أي حاجة امبارح بعد ما شيت؟
هزت رأسها نافية وقطع حديثهما قول أحدهم لعيسى: حضرتك راكن غلط، معلش تعالى ثواني.
استأذنها وبالفعل ذهب معه وبقت هي وحيدة تعبث بهاتفها، أحضر لهم النادل القهوة، وأثناء انتظاره شعرت بيد أتت من الخلف ولمست وجنتها سريعا ثم نبرة تمقتها قال صاحبها: وحشتيني.

كان هو، كابوسها الأبدي شاكر، خلل يده في خصلاته وتخطاها سائرا ببرود ناحية طاولة آخرى وكأنه لم يفعل شيء بينما لم تستطع هي التحمل، نادته وحاربت خوفها: شاكر.

لم تصدق أذناه أنها نطقت اسمه، استدار لها وقبل أن تتفرسها عيناه كانت تسكب القهوة عليه، نجحت وببراعة في إشعال غضبه ولكن قبل أن يفعل أي شيء، حضر من توسطهما وطالعه بنظرات متوعدة رد عليها شاكر: ولما اجيب الأمن دلوقتي يطلعكوا برا انتوا الاتنين؟، ينفع كده يا ملك دي أخلاق؟
انتبه الجميع لهم، فقال عيسى لها: اخرجي استنيني في العربية.

بالفعل استجابت له أما هو فعاد إلى محدثه قائلا باستهزاء: اتجوزت بنت وزير، وبقيت من نسايب ذوي السلطة وأبوها مش سايب فرصة تضيع من غير ما يكبرك وينضفك بس مش عارف أقول إيه هي النضافة لو كانت باللبس يمكن كان ينفع معاك، بس طول ما هي بالنفوس عمرها ما هتنفع معاك يا شاكر.

كان سيتحرك راحلا ولكن توقف يقول بعد أن تذكر شيء: بمناسبة الأخلاق اللي كنت لسه بتكلم ملك عنها صحيح، الكونتيسة دي سيجور شافت إن العالم انعدم فيه الأخلاق، والإنسانية فقررت تعمل كتاب برشحهولك
بهت وجه شاكر حين تابع عيسى: اسمه خواطر حمار
ثم ابتسم عيسى وأشار عليه قائلا: حينما يحدثنا عن الأخلاق حمار، مع كامل اعتذاري للحمار.

نجح في إفساد يومه حقا وتحرك ليغادر وكأنه لم يفعل شيء ولكن شاكر لم يسكت بل قال من الخلف: الكونتيسة بتاعتك دي لو كانت عرفت إن واحد زيك هيقرأ كتبها كان هيبقى أكرملها تعتزل والله.
وكأن عيسى لم يسمع شيء بل استدار يقول بابتسامة: و متنساش تبقى ترشح لبيري كتاب هيساعدها أوي في التعافي لما تعرف حقيقتك، اسمه
تصنع أنه نسى ثم قال سريعا: اه افتكرت، اسمه ظننته رجلا!، سلام يا ظننته.

أردف بها وخرج تماما من المكان كانت ملك تنتظره أمام السيارة، تشعر بالظفر والفخر بما فعلت، لحظة واحدة أعطتها لذة شعور أنها لا تخشى شاكر أنها أقوى من خوفها، فتح لها عيسى ذراعيه وهو يتجه ناحيتها فهرولت ناحيته بضحكة واسعة وهي تقول بفرح وتحتضنه: أنا بقيت أعرف أخد رد فعل معاه، بقيت أقدر أتغلب على خوفي منه.
نطقت ببهجة حقيقية: أنا مبسوطة أوي يا عيسى.

رفع وجهها وهو يقول ضاحكا بسعادة أب ذهب ابنه للمدرسة بمفرده لليوم الأول: وأنا فرحان بيكي أوي يا ملك.
عادا لسيارته في نفس التوقيت الذي أتاه فيه اتصالا عرف منه أن هناك من تم القبض عليهم بتهمة قتل زوج خالته.
الحمار لا يمكن بحال ان يكون غبيا، هو صبور بطبعه. وقد يبدو الصبر غباء أحيانا، و جبنا أحيانا أخرى.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *