رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السادس عشر
قد آن الأوان
ليختار فؤادي ما رفضه منذ زمان
بروحي فديت كل ذي روح
يكفي إلى هنا فداء
مُتمنيا أن تبقى ذكراي
عطر لروحك مهما طال الزمان
ذابل، جريح أهجرك ومنايا أن تبقي.
بأمان حتى الممات.
وإذا سألتي لما اخترت الفراق فستجدي جوابي في أول حرف من أول كل كلمة في ثماني جمل علوية نزفها لكِ قلب فان.
بعض المواقف نظن أننا لن نكن بداخلها أبدا ولكن الحقيقة أنها قريبة منا جدا، قريبة لدرجة لا نتخليها.
لم يكن ليتوقع أن يقف الآن أمام والده، والده الذي سأل: كلمتي ماشية عليك ولا لا؟
لا يدري ما هو مقصد السؤال ولكنه رد بما هو صادق فيه حقا: كلمتك سيف على رقبتي.
هز نصران رأسه ثم قال وهو يطالع ابنه ولا تتزحزح عيناه عنه: يبقى ملكش دعوة بشاكر تاني.
انكمش حاجبيه وحرك رأسه بغير تصديق وهو يسأل باستنكار: يعني إيه مليش دعوة بشاكر تاني؟
يعني خلصت يا بن نصران، وده قول أبوك، ولو ليك قول بعد قوله سمعني.
خرجت كل كلمة حاسمة وكأنها تخبره أن الأمر منتهي لا نقاش فيه، أما هو فلمع في عينيه نظرات التحدي، نظرات الرفض، والغضب، طاقة غضب مهولة بانت في عينيه وبانت أيضا وهو يزيح الحامل المعدني الذي وُضِع على الطاولة بكل ما عليه من أكواب ليسقط على الأرضية ويتناثر الزجاج في الأرجاء، هب نصران واقفا ولم يتغير شيء بتعابير ابنه بلا زادت شراسة وتسارعت أنفاسه وكأنها في سباق عنيف وأقسمت أن تكون الأنفاس الفائزة، هل عاد من القاهرة إلى الاسكندرية ليشهد هذا الحوار الذي ظن أنه لن يدور أبدا!
وكأن عقله عاد إجباريا بالزمن إلى ما حدث قبل هذا، حين كان في القاهرة وتحديدا في مأواه الصغير المجاور لمعرض سيارته، المأوى الذي احتضنه هو و ملك بعد أن رفضت خالته طرد زوجها، كان نائما بتعب شديد خاصة بعد قرائته لأوراق العمل التي أحضرها صديقه له، ولكنه استيقظ حين شعر أنه وحده على الفراش.
فتح عينيه بصعوبة وأدرك من الشرفة الجانبية بأنه الصباح من جديد، بحث بعينيه عنها فوجدها تجلس على الأريكة وتمعن التركيز في هاتفها فسأل بنبرة ناعسة: بتعملي ايه يا ملك؟
لم ترد، ولم تنتبه من الأساس إلا حين كرر بكسل وهو يمسح على عنقه: ملك.
ها.
أسرعت تقولها بصدمة وقد فزعها النداء ولكنها سريعا ما أدركت أنه عيسى وقد استيقظ فقالت بتأنيب: حرام عليك خضتني.
علق على جملتها باستهزاء: خضيتك ايه! أنتِ اللي دماغك مش فيكِ.
ترك الفراش وتوجه ناحيتها يسألها قبل دلوفه للمرحاض: بتعملي ايه بقى؟
لم تكن بحاجة للإجابة فلقد وقعت عيناه على مقطع فيديو تشاهده ووضحت هي أكثر بجوابها: بتفرج عادي.
قال بدهشة ضاحكا وهو يشير على المقطع: سكيت!
أكمل سائلا بفضول: بتعرفي تلعبي سكيت؟
ضحكت وهي ترد عليه قائلة بحرج: أنا كل اللي اعرفه عنه إنه اسمه تزلج أساسا. وإن اللي هما لابسينها في الفيديو دي جزمة بعجل.
وضع كفه على وجهه وهو يضحك وجلس على المقعد المقابل لها متابعا فرفعت حاجبها بغيظ مما جعله يقول وأثر ضحكاته على وجهه: على فكرة أنتِ صح مش غلط، هو اسمه تزلج بس اللي أنتِ بتتفرجي على فيديوهاته ده بيكون على الأسفلت، و الجزمة اللي بعجل دي اسمها
skate shoes.
هذا الحذاء الرياضي والمزود بالعجلات من أجل ممارسة رياضة التزلج، ترى في هذه المقاطع شباب وفتيات يرتدون مثل هذا الحذاء ويهرولون به على الطريق، بل ويقفزون أرضا، تشعر بالحماس والرغبة في التجربة وهي تراهم ينطلقون به هكذا بحرية و انسيابية يمينا ويسارا وللخلف والأمام، وكأنهم طيور تحلق في السماء، وبدأ هو في إنعاش شوقها للتجربة أكثر بسؤاله: لعبتي subway قبل كده؟
هزت رأسها مسرعة فتابع حديثه قائلا: بيبقى فيه ساعات لوح تزلج subway بيمشي بيه
هتفت بحماس لمع في عينيها وكانت ضحكتها واسعة: اه عارفاه بحبه أوي، ده ممكن بدل الجزمة؟
جاوب على سؤالها بقوله: أيوه طبعا، ده سكيت بورد في كتير بيستخدموه، وهي رياضة ممتعة جدا.
أنت كنت بتلعب قبل كده؟
بادرت بالسؤال، فصمت قليلا يشعر أنه لا يريد أن يصرح لها كيف تعرف على اللعبة، هو على يقين أن تصريحه سيبث الضيق في نفسها لذلك هرب من السؤال بقوله وهو يتوجه إلى المرحاض: اه كنت نزلت مع صاحبي مره، بس مكملتش كتير.
عادت للمتابعة من جديد واتسعت ضحكتها من فرط حماسها، راقبها أثناء سيره في الممر؛ لذلك كان أول ما فعل بمجرد خروجه من المرحاض هو خروجه من المكان وهو يقول: دقيقة وراجع.
هاتف صديقه الذي رد عليه بقوله: أنا في المعرض فوق، فاطلع نشوف الشغل بدل جو الحبيبة والاتصالات ده.
مط عيسى شفتيه بغيظ وهو يرد عليه بضجر: ده أنت عيل غتت، أنا اتقفلت خلاص، البس الشغل لوحدك بقى.
لا خلاص الله يكرمك، أنا عيل صغير، قولي أنت عايز ايه بقى؟
هكذا تراجع بشير ضاحكا فرد عليه صديقه: عايزك تجبلي Skate Shoes بس تكون مناسبة لحد لسه هيبدأ يعني.
هتف بشير بدهشة وقد انكمش حاجبيه: سكيت ايه يا عيسى؟، احنا مش قفلنا الحوار ده من ساعة ما سيبت ندى.
علق عيسى بانفعال: هو محدش هيلعب سكيت غير ندى وبنت عمها يا بشير؟
سأله برفق: طب اهدى وقولي عايزها علشان مين؟
عايزها لملك.
جملة من كلمتين ولكنها نبعت من فؤاده، الحماس في عينيها أجبره على الخضوع، يريد أن يفاجأها ليرى هذه اللمعة داخل مقلتيها، ليرى الابتسامة التي تنجح في أسره، تنجح دائما و أبدا لأنها فقط منها.
تغيير الأماكن بالنسبة لشخص يحتاج عدة مرات ليحفظ الطريق هو أمر صعب للغاية، كذلك كان الحال عند مريم التي وصلتها رسالة على تطبيق المحادثات بأن المحاضرة اليوم في قاعة أخرى غير هذه التي اعتادت الحضور فيها، صعدت حتى وصلت إلى الطابق الخامس ثم توجهت إلى قاعة فيه وسألت من الخارج فتاة وجدتها أمامها: لو سمحتي هي دي فرقة أولى؟
هزت الفتاة رأسها نافية فاعتذرت مريم وخرجت، توجهت بعد ذلك لقاعة مجاورة وسألت الواقفين أمامها: هو ده المدرج اللي فرقة أولى هتاخد فيه محاضرة دكتور سناء؟
أرشدها طالب بأدب: لا فرقة أولى تحت في الدور التالت، أنتِ هنا في الخامس.
شكرته وتحركت لتنزل إلى الطابق الثالث وهي تمتم بانزعاج: علشان يبقوا يغيروا مكان الزفت المدرج، خليني عمالة اطلع وانزل.
حاولت الاتصال بإحدى زميلاتها هنا لترشدها ولكن لا رد، وصلت إلى الطابق وتحركت ناحية أول قاعة قابلتها، ظنت أنها هي ولكن اكتشفت أنها على خطأ حين رأت دكتورة المادة فهتفت باعتذار: أنا أسفه.
استني اقفي.
انكمش حاجبيها حين سمعت السيدة تقول هذا، هل هذه هي القاعة؟، لذلك توقفت وسألت بابتسامة مرتبكة: هي دي فرقة أولى؟
سألتها الدكتورة بضحك: هو أنتِ أول مرة تحضري؟
همست مريم بخوف: يانهار أبيض هو اللي عملته في حسن هيطلع عليا ولا إيه.
ثم سريعا ما بررت موقفها قائلة: لا والله أنا بحضر، بس هما بعتوا رسالة على الجروب إن دكتور سناء هتدينا في مدرج تاني النهارده، مش هو ده؟
ده مدرج فرقة تانية، فرقة اولى في الرابع صباح الفل.
رسمت مريم ضحكة بصعوبة على وجهها بعد ما قالته الدكتورة ثم خرجت وانتفخت أوداجها وقد تمكن الغيظ والغضب منها وهي تصعد إلى أعلى مجددا حيث الطابق الرابع، توجهت ناحية القاعة الأولى فوجدت مجموعة من الشباب فسألت أحدهم: لو سمحت هو ده مدرج فرقة أولى؟
هز رأسه نافيا ولكن من بصحبته كانوا غيره حيث بدأوا في مضايقتها وبدأ أحدهم في التصفير قائلا: استني بس خدي هقولك.
انتبه حسن لما يحدث حيث كان يجلس في الخلف أيضا وما إن رأى ما يحدث حتى انتفض وهتف في الشاب بغضب: في ايه يا حبيبي، أنت اتهبلت ولا إيه؟
رد عليه بنفس نبرته الغاضبة: وأنت مالك بيا يا حسن، هي كانت من بقية أهلك.
كان سيضربه ولكن منع حدوث ذلك الجالس في وسطهم ولكنه لم يستطع منع قول حسن المنفعل: اه يا روح أمك من بقية أهلي.
كانت قد خرجت مسرعة، ولكنها وقفت في الخارج تتابع الشجار المشتعل بخوف، وفي الداخل كان زميلهم يحثهم على التوقف قائلا بتحذير: بس أنت وهو الدكتور هياخد باله.
بالفعل انتبه لهم الدكتور والذي سأل غاضبا: في ايه بيحصل ورا.
كانت نبرته حازمة جعلت الجميع ينتبه ويلتفت للخلف.
قال واحد من الجالسين في الخلف: مفيش حاجة يا دكتور، دي بنت بس كانت بتسأل على مكان المدرج.
لم يصدقه أبدا، لذلك رأى أن العقاب الملائم للجميع هو قوله: اعتبروا المحاضرة خلصت.
وانصرف تاركا القاعة بأكملها قبل أن يستفسر منه أي أحد عن شيء، بمجرد خروجه قفز حسن من مكانه متوجها للخارج حتى يلحق بها حيث كانت تغادر من أمام القاعة بعد أن اطمئنت أنه لم يفعل أي حماقة، كانت مروة تتابع كل شيء باشتعال وقد جلست هي وصديقتها في الصفوف الخلفية، وقال الشاب الذي تشاجر حسن معه بضيق: ولا تلاقيها قريبته ولا حاجة، هو بس حب ياخد اللقطة ويبان الواد الشهم.
رد عليه صديقه بغضب: لا يا رامي أنت غلطان، البنت شكلها محترمة وسألتني السؤال وكانت ماشية، أنت اللي قومت وغلست عليها، ولو مكانش حسن اتكلم أنا اللي كنت هتكلم.
طب بس يا حبيبي أنت كمان، ولا أقولك قوم اجري وراها زيه.
كان هذا رده المنزعج، فلم يهتم به صديقه بل تركه وغادر القاعة كليا أيضا، أما في الخارج ظل حسن ينادي عليها وهو يهرول خلفها حتى توقفت أخيرا فقال من بين أنفاسه المتسارعة من فرط الهرولة: في إيه يا مريم؟، ولما أنتِ عايزة حاجة مبتتصليش ليه؟
اعتذرت بنبرة حزينة وقد بان الضيق على وجهها: أنا أسفه يا حسن، أنا شكلي عملتلك مشكلة، أنا بس كنت عايزة أعرف مكان المدرج، الدكتورة قالت النهاردة إن المحاضرة في المدرج اللي في الخامس، طلعت الخامس قالوا لا في التالت، نزلت التالت قالوا فرقة أولى في الرابع، طلعت الرابع وجيت عندكوا بقى.
طيب اهدي طيب
هكذا حثها على الهدوء واستكمل يسألها: هي الدكتورة اسمها ايه؟
ردت عليه باسمها: سناء عبد المقصود.
ضحك وهو يقول: طب اتحلت خلاص، هي ساعات بتدي في الخامس فعلا بس في المدرج الأخير، تعالي نشوفهالك.
لا خلاص بقى هي مش هترضى تدخلني، أنا اتأخرت.
عبرت عن ضيقها بقولها هذا فحثها على اتباعه قائلا بابتسامة: تعالي بس وأنا هدخلك.
صعدت خلفه إلى الطابق العلوي، وصل إلى القاعة التي قصدها وسأل رجل واقف في الخارج: بقولك، هي دكتور سناء هي اللي شغالة جوا؟
هز الرجل رأسه بتأكيد، وأكمل: أيوه، بس هي لسه متصلة واعتذرت عن المحاضرة.
شكره حسن ثم استدار لها قائلا: شوفتي قدمك سعد ازاي؟
أعطته ضحكة واسعة وهي تقول بامتنان: بعيدا عن إنها لففتنا ومجتش، شكرا يا حسن.
ابتسم وهو يقول: لا أنتِ تيجي اعزمك على قهوة، وأعرفك على الكلية اللي قربنا نخلص ترم فيها ولسه بتتوهي.
احتدت نظراتها وهي تقول رافضة: لا شكرا مش عايزة، عن إذنك.
أسرع يقف أمامها وهو يطلب بلين: متبقيش رخمة بقى، تعالي معايا هشتريلك القهوة من تحت واقعدي اشربيها وامشي.
أنا هنزل اجيب لنفسي وملكش دعوة يا حسن بيا.
قالت هذا بنبرة محذرة وسارت متجهة إلى الأسفل فلحق بها وهو يقول بتذمر: بقى كده، يعني ناقص اشتغلك دادة وفي الأخر ملكش دعوة بيا يا حسن؟، يا شيخة منك لله.
كانت قد وصلت إلى أسفل وأثناء توجهها إلى بائع القهوة سمعت قوله فاستدارت تطالعه بغضب، كان الزحام شديد وقال هو ضاحكا بتشفي: اشتري بقى.
رفعت رأسها بكبر وهي تقول: اه هشتري.
ثم نظرت لهذا الحشد بغيظ فضحك وأبعدها قائلا: وسعي يا فالحة.
الله يا حسن، بجد الله، هما نقلوا مدرج فرقة أولى هنا، في الكافيتريا…
إنه زميله الذي تشاجر معه في الأعلى، احتدت تقاسيم حسن واستدار له سائلا بغضب: أنت عايز نتعارك يعني يا رامي، لو مزاجك جايبك لكده قولي.
حثته مريم الواقفة جواره حيث همست له: حسن خلاص سيبك منه.
وجه رامي الحديث لها وهو يضحك باستهزاء: طب ما كنتِ قولتي إنك جاية تندهيله، بدل شغل.
ثم قلد نبرتها مكملا: فين مدرج فرقة أولى ده.
أنت واحد مش محترم، وأنا مش هرد عليك.
لم تكد تكمل ردها حتى وجدت حسن يبعدها قائلا: اه اطلعي أنتِ على فوق بقى، وأنا وهو هنرد على بعض.
مسكه رامي من ملابسه هاتفا بسخرية: لا والله، طب فرجني كده.
ثم لكمه في وجهه فصرخت مريم و انتبه لهم الواقفون، اشتعلت عين حسن، عروقه البارزة تكفي لوصف غضبه، ووجهه المكفهر أنذر أن القادم شر، حيث لكم رامي في وجهه هو الأخر وأتبع ذلك بأخرى في معدته ليرد له ضربته بالضعف فاشتبكا الاثنان وهرول أحدهم يستدعي الأمن، ولم يهمها هي إلا شخص واحد فقط، صرخت بخوف ولم يكن يعنيها أي أحد إلا هو.
لم تتوقع أبدا مجيئها، لكن المفاجأة طمأنت روحها، مفاجأة حضور بيريهان إلى هنا، حيث تجلس في غرفة ندى جوارها على الفراش وتمسح على خصلاتها بلطف هامسة: ندى اصحي.
ما إن فتحت عينيها ورأتها حتى اعتدلت سريعا على الفراش، كان الحزن في عينيها واضحا وهذا أكد لبيريهان حدوث ما هو سئ حيث هتفت: مبترديش عليا ليه يا ندى؟
سألتها ندى وقد تجمعت الدموع في مقلتيها: أنتِ سايبة بيتك وجاية تقعدي معايا؟، أنتِ لسه عروسة.
وضحت لها بيريهان بابتسامة: أنا وشاكر رايحين شرم الشيخ يومين، بس قولتله لازم اجيلك الأول.
يعني هو معاكِ تحت؟
هزت بيريهان رأسها بالنفي وتابعت: راح البيت بتاعهم يبص على شوية حاجات.
هو اللي اقترح عليا حكاية السفر، امبارح كمان مكانش ألطف حاجة، خرجنا أنا وهو نتغدى برا، ولما رجعنا لقيت عيسى عندنا، الهانم اللي متجوزها فهمته إن شاكر اتهجم عليها، وشاكر أصلا كان معايا، أنا مش عارفة هي عايزة ايه، مش هترتاح غير لما تحصل كارثة تاني بسببها.
بمجرد ذكر سيرتها امتعضت ندى وأكملت حديث ابنة عمها: دي بت سوسة، كنت بتكلم مع عيسى قدام بيتها، كنت هطلب منه يساعدني، أول ما لمحتنا فتحت الباب وشدته على المدخل جوا، وقفلت الباب في وشي.
اعترضت بيريهان وبدا هذا في سؤالها: و أنتِ تتكلمي مع عيسى يساعدك ليه؟
هتفت بقلة حيلة وقد هزمتها دموعها: علشان تعبت يا بيريهان، تعبت خلاص…
تعرفي المصيبة الجديدة اللي عملها جابر؟
سردت عليها قصة شهد من أول شيء حتى تم ضرب زوجها في منتصف البلدة وأضافت بانهيار: أنا لحد النهاردة ما واجهتوش ولا أعرفله طريق.
من يومها وأنا مشفتهوش، زي كل مره بيعمل فيها حاجة، باباه بياخده يقعده في المضيفة يومين لحد ما الموضوع يتنسي، وكأنهم اشتروني وبالرخيص كمان.
أبعدت خصلاتها عن عينيها وأكملت بوجع: أنا بقيت بكرهه، لو مخلصتش منه هقتله، وهو كمان بيكرهني ومش عايزني.
سألت بيريهان بغضب من زوج ابنة عمها: طب هو ليه مش عايز يطلق؟
علشان يذلني، علشان أبوه اللي عايز الجوازة دي تفضل مستمرة مهما كان التمن، علشان يفضل نسيب أخو معالي الوزير…
جذبت كوب المياه وهي تضيف: ومش مهم أنا بقى، تتحرق ندى، تتحرق علشان أبوها مضى على نفسه شيكات مش هيقدر يسددها واخواته مش هيسددوها.
بالفعل تحدثت بيريهان مع والدها في الأمر.
و صدمها بردة فعله، يمكنه المساعدة بمبلغ صغير ولكن ليس معه سيولة تغطي كامل المبلغ هذا ما أخبرت به ندى ولكن الحقيقة أنه قال أن الأمر ليس من شأنه، هو غير مسؤول عن تصرفات شقيقه، يجب أن يتحمل نتيجة أفعاله بنفسه.
وبالتأكيد لن تختلف ردة فعل عمها الأخر والد ميار كثيرا عن والدها.
تنهدت بيريهان بتعب ثم قالت: طب أنا هحاول أتكلم مع بابا تاني، بس هو عيسى كان هيساعدك ازاي؟
جاوبت وهي تمسح عبراتها: يطلقني منه بأي طريقة، أنا مجاش في بالي أي حاجة ساعتها غير إني عايزة حد يخلصني.
سمعت صوت الخادمة من الخارج تقول: الحاج منصور جه يا ست ندى ومعاه أستاذ جابر
طريقة أتت إلى ذهنها، أدركت أنه لا خلاص إلا بها، رحلت ميار إلى منزلها، وسترحل بيريهان ولن يبقى سواها لذلك قررت وستساعدها ابنة عمها، فقالت تحثها: بيريهان ممكن تنزلي أي صيدلية تجيبيلي ده؟
دونت لها اسمه في مذكرة هاتفها، فانكمش حاجبي بيريهان وهي تسألها: ايه ده؟، أنتِ هتعملي إيه؟
أنا معايا باسورد الخزنة، عايزة بس البيت فاضي، أنا مش عايزة مساعدة من عمي، أنا عايزاها منك أنتِ.
لمع الإصرار في عينيها وبثته إلى ابنة عمها قائلة: علشان خاطري، ومتقلقيش ده بيتصرف من غير روشتة.
اعترضت بيريهان وهزت رأسها نافية وهي تقول: لا، طب أعرف الأول.
فُتِح الباب فطالعت ندى من فعلها لتجده زوجها فهتفت بانفعال: نورت؟، كويس والله، كنت لسه بحكي لبيري عمو ضربك ازاي في وسط أهل البلد، و بحكيلها ضربك ليه، ضربه علشان مش عايز ينضف يا بيريهان.
بس يا ندى.
هكذا حثتها بيريهان وطلب هو بهدوء شديد مثله بصعوبة: معلش يا بيري سيبينا لوحدنا شوية.
هزت رأسها موافقة وهي تقول كلمات ذات مغزى: حاضر أنا هنزل اشتري حاجات علشان السفر وهرجع ليكِ…
طلبت برجاء قبل أن تخرج: علشان خاطري متتخانقوش.
بعدها غادرت تماما وأغلق هو الباب، طالعته ندى بغل قابله هو بغضب وهو يسألها: كنتِ بتقولي إيه بقى؟
تركت الفراش وتحركت بتقف أمامه سائلة بحدة: ايه الكلام وجعك؟، هو أنا كدابة؟، يعني أنت مش وسخ وحياتك كلها علاقات شمال؟
صفعة مميتة نزلت على وجهها جعلتها تصرخ وجذبها بعدها من خصلاتها فصاحت بنبرة أعلى: جاي تعمل راجل عليا أنا، اللي يشوفك هنا ميشوفكش وأنت بتتهان في وسط الناس كلها، ميشوفش أبوك اللي ضربك علشان البت متقلعش اللي في رجلها وتنزل بيه عليك.
عرفت كل شيء، العاملات بالمنزل لا يتحدثن في شيء إلا فيما حدث يومها، غضبها دفعها لقول ما قالته أشعلت غضبه ودفعته لقول: اه يا حيلة أبوكي، أبويا ضربني، ويكسر رقبتي كمان.
أبويا اللي أنتِ عايشة ومبرطعة في خيره وخير ابنه، أبويا اللي تدعيله وتبوسي رجله كل يوم علشان هو اللي سلف أبوكِ قبل ما يفلس ويشحت.
ترك خصلاتها فسقطت ولكنها سريعا ما استندت على المقعد الخشبي جوارها واستقامت واقفة وهي تقول: لأخر مره بقولك طلقني، طلقني وأنا هبريك من كل حاجة…
وأنا قولت لا، لما تتربي الأول.
ردت على قوله صارخة: محدش زبالة وعايز يتربى غيرك.
دفعها فسقطت على الأرضية وجذبها من خصلاتها من جديد هاتفا بتوعد: أنا علشان خاطر بنت عمك بس اللي جيالك، و أبويا اللي قالي أطلع أراضيكِ مش هرنك العلقة بتاعة كل مره، لكن وحياة اللي خلفوكي ليكِ روقة.
ثم بصق في وجهها قائلا: اتفو.
يتفنن في إهانتها، ما إن خرج من الغرفة حتى وضعت كفيها على وجهها وعلا صوت نحيبها، وقررت أن خلاصها يجب أن يكون اليوم، يجب أن يكون مهما كان الثمن.
كانت معه في السيارة، لم تدر إلى أين ولكنها لاحظت الحقيبة التي وضعها في الخلف، ابتسمت ملك وهي تطالع ما ترتديه، بدلت ملابسها إلى أخرى من حقيبتها، ارتدت ذلك الرداء الذي ربط لها رباطه القماشي ذات مرة، فاقت من شرودها حين أوقف سيارته فسألته: فولي بقى احنا فين؟، عمالة أسألك من الصبح وتقول خليها مفاجأة.
ده مكان بيلعبوا فيه سكيت.
نزل من السيارة بعد أن قال هذا ضاحكا فأسرعت تنزل خلفه وهي تسأله: عيسى أنت بتهزر؟
كان رده على السؤال بأن جذب الحقيبة التي وضعها في المقعد الخلفي قائلا بابتسامة: ودول ليكِ
فتحت الحقيبة بعينين متلهفتين فارتسمت ضحكة على وجهها وهي تطالع ما في الحقيبة بغير تصديق، إنه حذاء خاص برياضة التزلج لونه أسود، وعلق هو على هذا: كنت ممكن أختار لون تاني، بس الأسود شيك.
سألته مسرعة بنفس ضحكتها: أنت جبته امتى؟، احنا لسه كنا بنتكلم من شوية؟
ابتسم وهو يقول: المهم إنك تكوني مبسوطة يا ملك.
بس أنا مش بعرف ألعب، ولا حتى هعرف أمشي بيه.
حثها على الدخول إلى المكان قائلا بتحفيز: يلا وأنا هعلمك.
كانت في قمة سعادتها، ما إن دخلت رأت الكثيرين ممن يرتدون هذا الحذاء ويمارسون هذه الرياضة التي أثارت حماسها بكل براعة، وهنا من يتعلم أيضا مثلها…
كانت تخشى التجربة بشدة، لذلك تراجعت قائلة: عيسى بلاش، أنا مش هعرف.
منعها عن هذا وهو يوجهها لارتداء الحذاء قائلا: يلا يا ملك، جربي مش هتخسري.
هي تريد التجربة حقا، ارتدته بناءا على تعليماته واستندت عليه خائفة، وكأنها تجمدت في الأرض تخشى الحركة أو التنفس حتى فضحك على هيئتها وقال: لا بصي متقفيش كده، الوقفة المتخشبة دي متنفعش، عارفة الوضعية اللي بتاخديها لما تكوني هتجري؟
هزت رأسها ومالت قليلا وأكمل هو إرشاده: طبعا أنتِ مش هتروحي لا يمين ولا شمال، ولا حتى هترجعي لورا، أنتِ هتمشي بيه لقدام بس لحد ما تعرفي تمشي بيه.
كان يرتدى واحدا وواقيات لركبتيه والرسغين ارتدت مثلهم، بدأ في التحرك أمامها وهو يقول: اتفرجي كده.
مال للأمام قليلا ودفع بقدم وتزحلق بالأخرى، وتحرك وهي تضحك ثم توقف منبها: بصي الوقفة الصح بتكون كده، تقفي وتخلي رجليكي بعرض الكتفين، متبقيش واقفة زي القلم الرصاص كده…
ضحكت وهي تقول بغيظ: يا عيسى يلا نمشي، أنا مش هعرف ألعب، ألعب وأنا هتفرج عليك، يإما قولي طريقة سهلة للبتاع ده.
عارفة البطة؟
ردت على سؤاله بقولها: إيه؟
وضعت يدها على فمها تكتم ضحكاتها وهو يتابع: البطة اللي بتتعمل في الموسم على حلة محشي دي.
هزت رأسها بابتسامة وهي تقول: اه عارفاها.
رد عليها غامزا: خلاص امشي زيها بقى.
سألته بعدم فهم: لا مش فاهمة، ازاي؟
أخبرها مفسرا: أنتِ تقفي كده الأول زي ما قولتلك، رجليكي بعرض الكتفين، بعدين بقى كأن الكعبين من ورا مضمومين أو في اتجاه واحد يعني، وصوابع رجلك بتشاور ناحية برا، وتمشي بقى زي البطة بالظبط.
وبدأ في التطبيق على نفسه متابعا: رجلك اليمين تطلع لقدام، وبعدين الشمال وبالراحة خالص، يمين الأول وبعدين شمال، الكعبين تحت مستوى جسمك بالظبط، لأن جسمك كله هيكون متركز عليهم وعلى وقفتك.
شعرت أنها طريقة تستطيع تطبيقها نوعا ما، فسألته: طب ولو عايزة اوقفه وابطل مشي بيه، يبقى ازاي؟
اليمين فيها فرامل عند الصوابع كده، بترفعي الصوابع شوية وبتضغطي عليها ضغطة جامدة بتقفي، بصي كده.
وبدأ في تنفيذها أمامها فقررت خوض التجربة قائلة: طب يلا هجرب بس خليك جنبي.
وقفت به كما علمها ولكن قبل أن تخطو خطوة واحدة سقطت، مطت شفتيها بضجر وهي تقول بنبرة حزينة: قولتلك بلاش أنا مش هعرف، مش كل الحاجات اللي نفسنا فيها لازم نعملها.
ساعدها على القيام قائلا بنظرات حادة وكأنه أب يوبخ ابنته: صح بس ده لما يبقى مش في إيدك إنك تعمليها، لكن أنتِ في إيدك، يلا يا ملك تاني.
طالعته بتردد وجربت للمرة ثانية، وقفت بنفس الوضعية التي علمها لها، القدمين بعرض الكتفين، كان يقف جوارها، ومالت للأمام قليلا وأتت لتحرك قدمها اليمين للأمام فسقطت من جديد مما جعلها تقول بضجر: يوه بقى
ساعدها على القيام من جديد قائلا بتوبيخ: أنا قولت تطلعي لقدام بالراحة، مش طالعة تجري واحنا لسه بنوقفك بيه بالعافية، يلا جربي تاني.
هتفت بضجر: أنا دي اخر مره هجربها.
مفيش حاجة اسمها أخر مرة.
تنهدت بغيظ، وهي من جديد تحاول الوقوف بالطريقة التي علمها لها وحركت القدم اليمين للأمام بحذر وقبل أن تحرك اليسار للأمام سقطت ثانيا.
هذه المرة كانت حزينة حقا وهو يساعدها على الوقوف، حزينة وبان هذا في نبرتها وهي تقول: أنا قولتلك إني مش هعرف.
ابتسم وهو يهز رأسه نافيا وهو يقول: لا هتعرفي، المرة الأولى أنتِ وقعتي علشان معرفتيش تقفي صح، وفي المرة التانية لما وقفتي صح حركتي رجلك لقدام بسرعة فوقعتي، وفي التالتة عملتي حاجتين صح، وقفتي كويس وحركتي رجلك اليمين بالراحة بس خوفتي وانتي هتحركي الشمال فوقعتي، وأي حد بيتعلم لازم يقع يا ملك والشاطر اللي بيكمل للآخر.
حفزها حديثه فابتسمت وحثها هو بعينيه قبل فمه: يلا تاني.
أخذت نفس عميق ووقفت من جديد، أخذت الوضعية الصحيحة للوقوف، وقدمت ببطء قدمها اليمنى للأمام ثم وبخوف أقل من المرة السابقة أتبعتها باليسار، اتسعت ضحكتها، كانت منحنية قليلا وتسير للأمام ومن جديد قدمت اليمنى للأمام وأتبعتها باليسرى، شعرت بالسعادة الشديدة وصرخت كطفلة نجحت في السير المرة الأولى في حياتها: يا عيسى أنا بمشي بيه.
انتبه كثيرون لها من فرط حماسها و ضحكتها، ولمعت عيناه بفرح من تقدمها، صنعت هي خطوة أخرى حين قدمت اليمين وأتبعتها باليسار وقد تلاشى الخوف تدريجيا فتابعت بسعادة شديدة للواقف في الخلف يرى تقدمها: أنا مبقتش خايفة أوي زي الأول، أنا مرتاحة أكتر.
صوتها يشع بهجة، وبالتأكيد عيناها أيضا تكون هكذا الأن، نجحت في الارتكاز بجسدها على كعبيها ونجحت في السير به، أتت لتتوقف كما علمها بالضغط على الأصابع في القدم اليمين وكان هو على يقين من أنها تحتاج إلى أكثر من مرة حتى تستطيع التوقف بشكل صحيح فهرول ناحيتها حيث سقطت أثناء محاولتها للتوقف، فجلس جوارها قائلا بضحك: دي بقى المرة الجاية تعمليها صح.
هتفت من بين ضحكاتها: أنا مبسوطة أوي إني عرفت أمشي بيه، أنا كنت متخيلة إني مش هعرف.
النظرة التي لمحها في عينيها صباحا، لمحها الآن ثانيا، فرحتها بنجاح وانتصار حققته، فرحتها بإشباع رغبتها في التجربة.
ساعدها على خلعه ثم وقفت بعد ذلك وقالت بابتسامة وهي تطالعه: شكرا.
رفع حاجبه الأيسر فضحكت قائلة: لا بلاش حضن هنا، بس أنا فعلا مبسوطة أوي، وبحب كل مرة بتقف فيها جنبي علشان أكون أحسن، علشان أتخطى حاجات صعبة، أنا بحب…
قطع قولها صوت أحدهم من الخلف، كان منفعلا للغاية
وسريعا ما ميزت أنه صوت باسم حيث كان يقول: أنت هتفضل حيوان كده طول عمرك، يعني لسه بتكلمها.
رد عيسى على قول الواقف أمامه بانفعال شديد: هي مين دي اللي لسه بكلمها، أنت اتهبلت…
لم يكد ينتهى من الجملة حتى تجرأ باسم وسحب يد ملك الواقفة خلف عيسى صائحا: تعالي أقولك بيكلم مين.
نجح بامتياز في إشعال فتيل غضب عيسى، إشعاله لدرجة جعلته يبعد ملك عن الطريق ويسدد له ركلة في معدته ولم يسكت عنها هو بل قام ناويا أن تبدأ بينهما حرب شرسة.
حرب قرر باسم إنهائها بإلقاء قنبلة حيث صاح وقد أتى أحدهم يقف في منتصفهم ليمنعم عن بعضهما: هتفضل كده علطول، بتلعب على الأطراف كلها…
خسارة فيكِ يا ملك اللي هيحصل فيكِ
كان سيطوله ولكن حال بينهم الواقف وقال باسم: جايبك هنا علشان كان بيلعب اللعبة دي مع ندى، علشان تبقي تصدقي لما أقولك بيعمل مع كل واحدة نفس الحاجة وفي الأخر هتتسابي زيها.
وكأن دلو ماء بارد سقط على رأسها، لا يعلم عيسى ماذا حدث، وكيف وصل إلى مكانه ولم يهتم في التفكير بأي شيء سوى في كلماته الأخيرة التي جمدت ملك، رحل باسم وقد اطمئن أن فعلته لها أثر كبير، وشعر ولو قليلا بأنه شفى غليله.
غادر الجميع ولم يبق سواهما، كان سيبرر لها ولكنها كانت الأسرع وهي تسأل بعينين رغبت بشدة في أن يُكذب ما قيل: أنت كنت بتلعب اللعبة دي مع ندى ولا مع صاحبك زي ما قولتلي؟
لا يعلم لماذا، ولكن وكأنه شخص أخر هو من يجيب، رد على سؤالها بجملة واحدة: مع ندى.
سقط الحذاء الذي أمسكته بإحكام وكأنه كنز ثمين من كفيها، عيناها نطقت بهجة وحماس قبل قليل ولكن الآن لا يُرى فيهما سوى الحزن، والخيبة وعبرات تهدد بالنزول وهي تقول: طب أنا عايزة ارجع اسكندرية دلوقتي.
طالعت الحذاء بعينيها الدامعتين وأكملت بألم: وشوف حد تديله ده علشان أنا مش هلعب اللعبة دي تاني، كان إنجاز ندمت عليه…
حرك رأسه رافضا ما يحدث وتمكن البكاء منها فقالت وقد انكمش حاجبيها: شكرا إنك كنت سبب في إني أعمل الإنجاز ده. وشكرا إنك أنت برضو اللي خلتني ندمت عليه يا عيسى.
انتهت وتحركت وحدها ناحية الخارج لتركب السيارة وبقى هو في مكانه يطالعها وضرب على وجهه بضجر شديد وقد أفسد ما حدث لحظاته التي لا تُنسى معها.
كل هذا حدث قبل أن يعود بها إلى الاسكندرية، وتقرر هي المبيت عند والدتها، ويذهب هو ليجد والده يطلب الاجتماع به ليخبره أن يبتعد عن شاكر بعد هذه اللحظة.
كان رده هو إسقاط الحامل المعدني على الأرضية بعنف، تناثر زجاج الأكواب هنا وهناك، وكأنه لم يفعل شيء بل استكمل مواجها والده بعينين مشتعلتين بالغضب: ايه اللي بيتقال ده؟، عايزني أبعد عنه ليه؟
كان رد والده ثابتا ولم يؤثر عليه أي شيء: علشان ده اللي المفروض يحصل، من بعد الليلة اللي طلعتوا عليه فيها أنت وأخواتك.
هز رأسه رافضا أن يكون هذا الحديث صادرا عن والده، أصابته حالة من الهياج وقد توصل لسبب دفع والده لقول هذا: هي أمه قالتلك هقولك اللي قتل مراتك وتبعد ابنك عنه؟، صرخ وهو يقول: بتعمل كده ليه؟
رد عليه والده ولم تكن نبرته منفعلة حتى لا يزيد من هياجه أكثر: ما هو لو القريب اللي عارف قالي، مكانش الغريب جه ساومني، مكانش جه قالي أنا هقولك اللي أقرب الناس ليك عاشوا عمر مخبيينه عليك، أنا ادتها كلمة، وحق ابني أنا كنت هاخده بطريقتي من أول يوم وأنت اللي قولتلي لا الموت ليه رحمة، فسكتت وسيبتك، واديك قلبت ليلة فرحه سواد على دماغه، لحد هنا وخلاص.
هز عيسى رأسه رافضا بشدة وهو يقول: أنا مليش دعوة بالكلمة اللي أنت ادتها لأمه.
حذره والده بسبابته ونظرات حاسمة: وأنت مش هتعوز حق اللي راح أكتر مني، أنا أكتر واحد حق فريد يهمه، حق ابني، لتكون فاكر إن اللي مات ده أخوك بس ونسيت إنه ابني.
انهار تماما، انهار ونزلت دموعه وهو يصرخ بل ويسير على الزجاج المتناثر على الأرضية أيضا: مش هو اللي مات، مش فريد اللي مات لا.
نبرته التي تحمل وجع العالم بأسره استطاعت مضاعفة ألم نصران خاصة وهو يسمع ابنه يهتف بانهيار: أنا اللي موتت، هو الميت الحقيقي اللي ارتاح ولا اللي عايش؟، رد عليا مين فينا اللي ميت؟
صرخ بجملته هذه وقبل أن يتابع أبعده والده عن الزجاج، جذبه من ذراعه فسأل وهو يضحك ساخرا بألم: خايف عليا من الإزاز؟، متخافش؟، اللي هيعمله في رجلي مش قد اللي اتعمل فيا لما أمي ماتت، مش قد اللي اتعمل فيا لما مقدرتش أتكلم، مش قد اللي أنت عايز تعمله فيا دلوقتي.
صاح وهو يشير على فؤاده: اللي الإزاز هيعمله فيا مش قد ده اللي بيتوجع في اليوم ألف مرة وبيفكر هو كده خاين لفريد علشان بقى مع ملك ولا لا؟، لقيت فيها اللي ملقتهوش في ولا حد ومقدرتش ابعد، لقيت إيد بتقولي في كل مرة أنا معاك حتى لو بعدتها، اللي بيتعمل فيا كل يوم وأنا شايف أحلامها اللي بنتها مع فريد أنا بسرقها أصعب بكتير من اللي الإزاز هيعمله.
نزلت دموع والده وسأله عيسى الواقف أمامه: وفي الاخر بتقولي ابعد عن شاكر، ده أنا لو فاضلي ساعة واحدة بس على الموت هقتله، علشان هبقى متأكد إني مش هعيش تاني علشان أضايقه…
كانت جمله التالية تقطر وجعا: يا ريت أنا اللي موتت وفريد عاش، أنا كنت محتاج ارتاح، هو عاش طول عمره في حضنك و جنبك، أنا مقدرتش أعيش في حضنك و جنبك، هو معرفش أمه ماتت ازاي، أنا عرفت وسمعت، هو مترباش عند.
كارم، خلع سترته ليبان الحرق أسفل عنقه ويصرح للمره الأولى وهو يشير عليه: أنا اتربيت عنده، حاول والده أن يجعله يتوقف ولكنه تابع: هو عاش وسط اخواته، عاش وسط حسن ورفيدة وطاهر، وأنا عيشت بعيد، حتى خالتي جه وقت وسيبتها، عيشت لوحدي مع كلب وحتى الكلب ده سابني و مات، وروحت اشتريت غيره ومقدرتش اربيه فاديته لبشير علشان ميسبنيش ويموت تاني، أشياء يصرح بها للمرة الأولى، ومضات فقط من حياته وأمام نظرات والده الموجوعة عليه هتف: فريد كان هيعيش ويكمل حياته مع اللي حبها، هو يستاهلها وهي تستاهله، هو مكانش عنده جنب محدش يعرف عنه حاجة، أنا اللي كنت هرتاح لو موتت، أنا اللي بقيت نار من اللي جرالي، فبقى حتى الكوي بالنار مبيأثرش فيا.
وعلى حين غرة أخرج السلاح الأبيض الذي حُفِر عليه اسم شقيقه، فتحه قائلا بنظرات متحدية لا تعرف الرجوع: وعلشان كده أنا هريحك خالص، مش أنت ادتها كلمة إني هبعد عن ابنها؟
طالعه نصران بذهول: لا يا عيسى
لم يهتز عيسى وهو يكمل بلا تردد: أنا همشي كلمتك، بس أنا هبعد عن الدنيا كلها.
و بنظرات تنطق بالوجع قرر أن تكون هذه أخر لحظاته، و كعادته ملك المفاجأة يجب أن تكون أخر لحظاته لا تُنسى أبدا، حتى في اختياره للموت، اختار أن يكون على يده هو، اختار ألا يحرق النار إلا نفسها.
التعليقات