التخطي إلى المحتوى

رُحماءٌ بينهم

                             “كمثلِ الأُترُجَّةِ”.

]]الفصل الثالث عشر]]

••••••• 

هرولت “نبيلة” بلهفة إلى غرفة الاستقبال بعد أن أعلمتها المُدبرة بقدوم ابنتيها منذ دقائق قليلة، وما أن دخلت الغرفة حتى بحثت بعينيها عن “شروق” واندفعت إليها بفرحة عارمة تحثها على الارتماء بين ذراعيها المفتوحين كي يطول العناق وتخمد اللهفة واللوعة، ارتمت “شروق” بين ذراعيها تبكي بصوت خافتٍ ودموع تسقط بقدرٍ محدودٍ، وهنا تكلمت “نبيلة” بسعادة:

-حمد لله على سلامتك يا قلبي، وحشاني!!

شروق بصوت خفيضٍ تقول:

-وإنتِ وحشاني كمان يا ماما وعُمر وبابا، أمال هم فين؟!.

ابتعدت “نبيلة” قليلًا ولا تزال تقبض على ذراعي ابنتها بفرحة ولكنها تنحنحت قبل أن تقول بهدوءٍ:

-عُمر في النادي مع حسان وبابا بيلبس ونازل حالًا.

أومأت “شروق” تفهم عليها، قامت “نبيلة” بالجلوس على الأريكة وسحبت ابنتها معها ثم تابعت بصوت قلق ومُتلهف لسماع المزيد عن أخبارها:

-إنتِ كويسة يا شروق؟! وليه وشك مخطوف كدا!!

شروق بابتسامة فاترة:

-أنا كويسة جدًا يا ماما، بس تعبت من المشوار مش أكتر.

ابتلعت “نبيلة” إجابتها على مضض ودون اقتناع ثم استدارت تنظر إلى زوج ابنتها، باغتته بابتسامة ودودة قبل أن تقول بهدوءٍ:

-إزيك يا عِمران!!

عُمران بابتسامة مثيلة:

-بخير يا أمي طول ما إنتوا بخير.

في تلك اللحظة، تكلمت “سكون” تقول بحماس شديدٍ:

-المهم يعني في أكل ولا هنقضيها سلامات!!

نبيلة تنهض فورًا وتقول بحسم:

-طبعًا فيه.. هستعجلهم علشان يجهزوا الغدا.

انتظرت “سكون” حتى غادرت والدتها ثم تنفست الصعداء قبل أن تتكلم إليهما بهمسٍ:

-دقيقة كمان والسلامات كانت هتتحول لاستجواب رسمي نظمي.

عِمران يسأل متوجسًا:

-تفتكروا هتبطل تسأل ولا هي كدا لسه بتسخن؟

ظهرت ابتسامة عريضة على شفتي “شروق” فيما تابعت الأخيرة بضحكة خافتة تعزز ما يشغل تفكيره:

-بتسخن يا برنس، بعد الغدا الجلسة هتبدأ.

عِمران بضحكة خافتة:

-بس إنتِ المحامي اللي هيترافع عني ولا ناوية تنسحبي!

سكون ترفع ذراعها أمامه ثم تقول بمزاح في محاولة لإظهار قوتها في البقاء بجانبه:

-في ضهرك يا وَحش.

دخلت “نبيلة” الغرفة من جديد ثم تدبرت ابتسامة خفيفة وقالت:

-ثواني والأكل يكون جاهز.

أسرعت بالجلوس بجوار ابنتها مرة أخرى، توترت “شروق” في الحال ما أن بدأت الأم تتفرس ملامح الابنة في عدم ارتياح فيما تنحنحت “سكون” بتوتر وقالت:

-شوفتي يا أمي بنتك وجنانها!!

زوت “شروق” ما بين عينيها دهشةً وكذلك ركز “عِمران” نظراته إليها في حيرة من أمره فيما انتبهت “نبيلة” بها بلهفة وهي تود سماع كُل شيءٍ أبكى ابنتها وجعل الأخرى تذهب إليها في الحال، شرعت “سكون” تُقهقه عاليًا قبل أن تتابع حديثها وما هي إلا ثواني من الدهشة والحيرة حتى قالت بثبات:

-بنتك بهدلت الجماعة هناك وعيطت علشان عملت اختبار حمل وطلع سلبي، يرضيكِ توديني على ملا وشي علشان التفاهات دي؟!

اتسعت عيناها وراحت تقول بدهشة:

-هو دا السبب اللي كانت بتعيط علشانه؟!

سكون تتابع ضحكتها المُصطنعة فتقول:

-تخيلي!!

في تلك اللحظة، تدبرت “شروق” ضحكة مثيلة ثم قالت بتوترٍ:

-أصل الأعراض كلها كانت عندي ولمَّا عملت الاختبار انصدمت وبصراحة كان نفسي أشوفكم بردو.

راح عِمران يهز رأسه فبدا مؤيدًا لحديث الاثنتين فيما تابعت “نبيلة” بحب وهي تجذب ابنتها إلى صدرها:

-قلب أمك، ولا تزعلي نفسك خالص بكرا البيت يتملي عليكم.

عِمران يتخيل عبارتها فيقول بلهفة:

-بإذن الله.

في هذه اللحظة، دخلت المُدبرة إلى الغرفة ثم قالت بصوت هاديء:

-الغدا جاهز يا نبيلة هانم!

أخبرتها ثم غادرت فورًا فيما زوت “شروق” ما بين عينيها وهي تقول بتساؤل مهتمٍ:

-أمال فين طنط سُهير!!

نبيلة تجيبها بثبات:

-علام طلب من بابا إنه يسيب القصر وأخدوا باقي حسابهم ومشيوا.

انفكت عقدة حاجبيها وقالت في حالة من الدهشة:

-ليه كدا؟! دا القصر من غيره ولا حاجة!!

نبيلة تتابع بثبات:

-بالعكس، القصر مش بيقف على حد، بكرا يلاقوا رزقهم في مكان تاني.

التفتت “شروق” إلى شقيقتها والتي عاجلت بمط شفتيها تخبرها بأن لا علم لها بالأمر، حثتهم “نبيلة” على الذهاب إلى طاولة الطعام قبل أن يبرد وهم من عُشاق الطعام الحار والساخن، التف الأربعة حول مائدة الطعام ينتظرون قدوم سيد البيت الذي يأمرهم بالشروع في تناول اطباقهم، مرَّت اللحظات حتى ظهر “عثمان” أمامهم بوجه مُتجهم قاسٍ، تحرك إلى الطاولة فيما لم تقدر “شروق” أن تسيطر على شعور الاشتياق الذي يتملكها تجاهه، فهرولت إليه ثم ارتمت بين ذراعيه تقول بنبرة توشك أن تبكي فيها:

-بابا، واحشني أوي!.

قام “عثمان” بالربت على ظهرها ورغمًا عن قسوته التي انتصرت عليها مشاعر الأبوة فبدأ يلين وظهر ذلك في نبرته حينما أجابها قائلًا:

-طمنيني عنك يا شروق!!

شروق وهي تتشبث به أكثر:

-بقيت كويسة لمَّا شوفتك.

ظهرت على شفتيه ابتسامة حقيقية فراح يبعدها قليلًا ثم يطبع قُبلة هادئة على جبينها ثم استدار بنظراته إلى زوج ابنته الذي وقف احترامًا له وهنا تكلم “عِمران” بصوت هادئ:

-اتمنى تكون بخير يا عمي!!

أمد يده لمُصافحة “عثمان” فاستجاب له على مضض وهو يقول بابتسامة خفيفة:

-أنا بخير طول ما بنتي بخير وبكون العكس لو شعرة من بنتي اتلمست بسوء.

عِمران وهو يومىء برأسه مُتفهمًا ثم يرد:

-في عيني يا عثمان بيه.

أشار له “عثمان” أن يجلس في مكانه ثم جلس وفعلت “شروق”، طلب منهم أن يتناولون وجباتهم في هذه اللحظة، فيما تكلم مرة أخرى متوجهًا بالحديث إلى “سكون” فقال بنبرة ثابتة:

-عربيتك هتوصل بالليل يا سكون والشركة هتبعت السواق الصبح.

تهللت أسارير وجهها وراحت تقول بنبرة حماسية ممتنة:

-إنتَ أحلى بابا عثمان في العالم، ربنا يخليك ليا.

عثمان بابتسامة خفيفة:

-مينفعش الغالية تطلب حاجة وتتأخر عليها.

سكون بسعادة غامرة ترد:

-شكرًا حبيبي.

•••••••••• 

كان القصرُ ذا مساحة شاسعة وقد عُج بالناس اللذين جاءوا لتعزية أهل البيت في فقيدهم، اجتمع موظفي الشركة دون نقصان في قصر عائلة (حمدي زهران) فرغم شدته إلا أنه كان محبوبًا بين الجميع يمتلك قدرًا كبيرًا من الاحترام والتقدير بينهم حتى أنه كان مُقدرًا للظروف المادية والحياتية لهم؛ فكان لا يضع داخل شركته شروطًا تعسفيةً من شأنها الاقتصاص من رواتب الموظفين لأسباب تافهة ولكنه أيضًا يُقدرُ من يُقدرَ أوامره ولا يعتد عليها، كان عزاء السيدات في ردهة القصر بينما بقى الرجال في الحديقة، قررت “وَميض” الذهاب مع صديقتها التي تعرفت عليها توًا داخل الشركة والتي تدعى (دينا) وكذلك صديقها (ثامر) الذي أسدى لها بعض النصائح للاستمرار في العمل داخل هذه الشركة التي تُقدس الانضباط، جلست “وَميض” بجوار صديقتها وقد امتلأت الردهة بالعديد من السيدات التي يجلسن بين باكية ومصدومة وثابتة، شرعت مُدبرة القصر في تقديم القهوة للجالسات فيما لاحظت “وَميض” انهيار إحدى السيدات التي يحاوطها بعض الفتيات يحاولن نصحها بالصبر والسلوان، استدارت بعينيها إلى صديقتها ثم استفسرت بفضول:

-أكيد دي مراته؟!

أومأت “دينا” تؤيد تخمينها ثم استطردت بصوت هامسٍ:

-دي الزوجة الأولى لحمدي بيه وأم أولاده.

عقدت حاجبيها وهي تستنتج وجود زوجة أخرى له حسب ما قالت صديقتها فيما أكملت الأخيرة ردًا على ما يجول في خاطرها:

-حمدي بيه متجوز تلاتة، دي الأولى والتانية ماتت ومخلفتش منه والتالتة اللي هناك دي وبردو مخلفتش منه وبيقولوا إنها مبتخلفش أصلًا.

استدارت بعينيها إلى السيدة الجالسة في نهاية الأريكة وتضع قدمًا فوق الأخرى وتتميز بخصلاتها الشقراء وملامحها الدقيقة فتبدو على قدرٍ كبيرٍ من الجمال ونفس القدر من الثبات والتحمل فلم تسقط لها عَبرة منذ أن دخلت إلى الردهة، تكلمت “وَميض” تقول بإعجاب كبيرٍ:

-بس باين عليها أسد يلا في أيه!!!

كتمت “دينا” ضحكة أوشكت أن تنجرف من بين شفتيها ثم قالت بصوت خفيضٍ منزعج:

-يا بنتي إحنا في عزا، اهمدي.

استجمعت نفسها في الحال ورسمت الملامح الحزينة مرة أخرى ثم أكملت بهدوءٍ:

-اسمها مدام نجلا، الزوجة المُقربة لحمدي بيه ووقت سفرياته ومؤتمراته هي اللي بتدير الشركة مكانه ومعرفها على أسرار شغله كلها ومين أعدائه في الساحة ومين المناصرين له ومن المرجح أن هي اللي هتمسك الشركة بعده.

ضمت “وَميض” شفتيها ثم همست بإعجاب أكبر:

-واو.. أنا بحب النوع دا من الستات.

أضافت “دينا” عبارة أخرى:

-وهي اللي بتعين الموظفين الجُدد اللي إنتِ كُنتِ واحدة منهم.

أردفت “وَميض” بدهشة:

-وحمدي بيه الله يرحمه!!

دينا وهي تومىء برأسها سلبًا:

-حمدي بيه مالوش علاقة بالإجراءات التافهة دي، هو يركز مع صفقة جديدة أو مؤتمر لتطوير شركته أو تفنيش عقود مع شركا جُدد هيرفعوا من إنتاجية الشركة وهكذا.

وَميض بابتسامة ماكرة:

-ما شاء الله، دا باين إنك مذاكرة!

دينا بابتسامة متوارية:

-لا دا أنا أعجبك أوي.

سرحت “وَميض” قليلًا حينما قفزت صورته أمامها فقررت أن تستغل فرصة وجود دينا بقربها وانفلات الخبايا من جعبتها بسهولة شديدة، ظهرت ابتسامة ماكرة على ثغر “وَميض” قبل أن تسأل باهتمام خفي غلفه من الخارج نظرة خالية من الاهتمام:

-أمال أستاذ تليد السروجي إزاي شريكه؟!!

دينا بهمس خافتٍ:

-لا دي حكاية طويلة أوي.

وَميض بابتسامة بلهاء تحثها على المتابعة:

-إحنا ورانا حاجة، أدينا قاعدين ننم على الناس لحد ما تمشي.

دينا باستسلام تقول بغيظٍ قبل أن تجيبها:

-طب اقفلي بؤك اللي بيضحك في الأوقات والأماكن الغلط دي!!

أسرعت “وَميض” بوضع راحتها تخفي فمها فيما أكملت “دينا” بانسجام:

-حمدي بيه يبقى صديق الشيخ سليمان أبو الشيخ تليد ولمَّا عثمان السروجي نصب على أخوه في ورثه وأخد منه المزرعة اللي هي من حق الشيخ سليمان، فراح الشيخ سليمان مأسس مزرعة جديدة من تعبه ووقتها حمدي بيه قرر يستورد كُل منتجات المزرعة للشركة عندنا وبعد ما حمدي بيه شارك الشيخ سليمان الشركة وقفت على رجلها وحققت شهرة واتساع كبير أوي وبعد ما كانت مركز تاني بعد شركة السروجي، أصبحت مركز أول ومن هنا بدأت عداوة عثمان لأخوه وحمدي بيه.

وَميض بإعجاب كبيرٍ:

-دا إنتِ لُقطة وكِنز.

لمعت عيناها بانتصار وظفرٍ وهي تحصل على مصدرٍ أخبارها داخل الجريدة دون مجهود ٍ بينما لا تعلم “دينا” أن الصديقة الجديدة هي صحفية مشاكسة تستمتع بالحكايات دون أن تنوه عن وظيفتها الأساسية ثم تصطاد في الماء العكر.

تنحنحت “وَميض” بهدوءٍ قبل أن تستفسر عن رؤية فتاة تبكي بحُرقة وتبدو أجنبية الجنسية، فسألت بفضول:

-ومين البنت الأجنبية اللي هناك دي؟!

دينا بابتسامة خفيفة تغطيها براحتها:

-دي أيلين بنت حمدي بيه من مراته الأولى، أنا نسيت أقول لك إن مراته الأولى روسية!

أومأت بتفهم، همَّت أن تتكلم إلا أن الأخيرة قاطعتها بخبر جديدٍ أحدث تذبذب في دواخلها:

-نسيت أقول لك صحيح، أن حمدي بيه قبل ما يموت عرض أكتر من مرة على الشيخ تليد إنه يتجوز بنته أيلين والشيخ تليد كان بيأجل الكلام في الموضوع دا بس أعتقد من بعد موته ممكن ينفذ رغبته خاصةً أنها لا تُقاوم بصراحة.

طفقت “وَميض” تمعن النظر في الفتاة ولا تعلم ما الذي أصابها من شعور بالغيظٍ والضيقٍ وما هي إلا ثواني حتى أشاحت عنها وهي تقول باستنكارٍ:

-دا عادي عند أي راجل مصري أصل المُنتج المحلي ببعضهم.

دينا وهي تكتم صوت ضحكة خافتة هربت من بين شفتيها:

-ما البنت مصرية عادي!!

وَميض وهي ترمقها ثم تهمس بغيظٍ:

-بس فيها عرق روسي على أبوه.

سكتت هنيهة ثم أردفت بحسم:

-بس كفاية بقى كلام على الناس، بس نبقى نكمل!.

دينا بتأييد:

-أنا عندي نفس الرأي بردو.

مرَّت نصف ساعة تقريبًا ومن بعد ذلك قرر الاثنان أن ذهبا قبل أن يتحول حديثهما إلى فضائح كارثية فقد تحكمتا في كل ضحكة تخرج منهما أكثر من مرة ولا أظنهما تستطيعان أن تخرجا من هذه اللحظة دون خسائر؛ لذا قررتا أن تخرجان في الحال، سارت “وَميض” إلى السيدة الجالسة بجوار مجموعة فتيات ثم صافحتها وهي تقول بصوت هاديء:

-البقاء لله.

أجابتها بهمسٍ باكٍ:

-ونعم بالله.

سارت كذلك نحو السيدة الأخرى وبادرت بمصافحتها تكرر تعزيتها فيما اكتفت الأخيرة بأن أومأت برأسها دون أن تتكلم، فعلت “دينا” ما قامت به صديقتها ثم غادرتا على الفور.

تجاوزتا بوابة القصر الداخلية مرورًا بالحديقة ثم البوابة الرئيسية وفي هذه اللحظة تكلمت “دينا” تقول بإنهاكٍ:

-أخيرًا هرجع البيت بدري يوم وأنتم زي الناس الطبيعية!!.

وَميض ترد عليها بتهكمٍ:

-فعلًا، مصائب قوم عند قوم فوائد.

رفعت “دينا” أحد حاجبيها ثم قالت بنبرة سعيدة:

-بذمتك مش فرحانة إنك هترجعي بيتك بدري وتنامي فترة أطول!!

تمتمت بصوت خافتٍ بالكاد يُسمع:

-دا لما يكون عندي بيت!.

زوت “دينا” حاجبيها ثم تساءلت عما قالت حينما أوجدت صعوبة في سماعه فيما أجابتها الأخيرة بابتسامة هادئة:

-أنا بقى يا ستي خارجة مع زميلي وزمانه جاي في الطريق علشان ياخدني بعربيته.

باغتتها “دينا” بغمزة ثم قالت:

-أيوة بقى على الناس الرايقة، انجوي يا بيبي.

ابتسمت “وَميض” لها بهدوءٍ ثم ودعتها الأخيرة وغادرت فيما انتظرت خارج القصر حتى يأتي “وِسَام” بسيارته ثم يذهبان لتناول الطعام وبعد ذلك تتوجه إلى بيته للمبيت حتى تبحث عن مكان آخر تستأجره.. وقفت في انتظاره قرابة الربع ساعة إلى أن جاء فركبت السيارة وانطلقت معه فورًا، رفع ذلك الشاب سماعة هاتفه وما أن سمع صوت الأخير حتى قال بثبات:

-آسنة وَميض خرجت من العزا وبعدها ركبت العربية ومشيت مع صاحبها.

جاشت مراجله وراح يضغط  على أسنانه غيظًا قبل أن يهدر بصوت هادئ راسخٍ:

-وإنتَ بقى واقف عندك بتعمل أيه؟! وممشيتش وراهم ليه يا فندم؟!!

شعر أن الصوت يأتي من خارج سماعة الهاتف فنظر على جنبه الأيسر ليجد “تليد” يطل عليه من نافذة السيارة بوجه عابس ينفجر الغضب من لونه القاتم، ابتلع ريقه على مضض ثم تابع بحسم:

-أوامرك.

في هذه اللحظة، انطلق على الفور يتتبع خطواتهما، كان “تليد” يجلس داخل قصر (حمدي زهران) منذ ساعتين متواصلتين لإتمام العزاء والبقاء بجوار أسرته التي تخلو من رجل واحد فقط أنجب حمدي ثلاثة فتيات بالإضافة إلى وجود زوجتين ووجد في ذلك عيبًا أن يترك السيدات يترأسن عزاء زوجهن فقرر بحكم شراكته والصداقة التي جمعتهما أن يقف على رأس العزاء ويأخذه بدلًا عنهن، حتى وجدها تخرج من القصر فقرر أن يتتبعها حتى بوابة القصر قبل أن تنطلق مع ذاك ويبقى الرجل المكلف بتقفية أثرها واقفًا في مكانه.

تنهد تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ قبل أن يتحرك أمام بوابة القصر بمشاعر مُتأججة وبالغة الاشتعال، تحرك نحو سيارته ثم ركلها بقوة قبل أن يهمس بنبرة تعبق بحرارة عميقة:

-حسابك معايا زاد أوي يا أُترُج!.. طفح الكيل وفاض.

تنشق الهواء داخله بعُمق في محاولة للسيطرة على انفعالاته قبل أن ينظر يُمنة ويسرى ثم يجري اتصالًا عاجلًا قبل أن يتوجه إلى الداخل مرة أخرى حتى ينتهي العزاء ويصطحب والده إلى البيت مرة أخرى.

••••••••• 

-بقول لك أختك موجودة في القصر من بدري وعايزة تشوفك يا عُمر!!

جاءه صوتها تقول بغضب خفيف وعتاب، تنحنح “عُمر” بخشونة قبل أن يتابع بصوت حاسم:

-حاضر يا أمي، ما إنتِ عارفة إني عندي تدريب علشان النهائي بتاعي بس مسافة السكة وهتلاقيني عندك.

اغلق بعد أن كررت على مسامعه ضرورة المجيء بسرعة دون تلكؤ منه بينما كان يفعل هذا قصدًا فبالرغم من اشتياقه لشقيقته إلا أنه لم يكن مُستعدًا لمواجهة صديق طفولته وصباه ولا يعرف هل يلومه على تفريق شقيقته وعائلته أم يحتضنه شوقًا لأيامهما الشقية معًا وثالثهما “غسان”، وأكثر ما يزعجه أن “عِمران” قبل أن يصارحه برغبته في الزواج من “شروق” كان قد أخبره أنه سوف يُلبي جميع طلبات والده إلا أنه وقت الاتفاق أصر على المكوث في بلدته مع والدته وصنع حاجزًا بين الأب وابنته وهذا ما يُغضب عمر ويجعله غير راضٍ عما فعله صديقه.

تنهد “عُمر” باستسلام وهو يرمي الكرة بعيدًا ثم يقول بحسم:

-لازم أمشي دلوقتي وإلا مش هسلم من مكالمات بيلا.

غسان بابتسامة خفيفة:

-أخيرًا يا جدع، دا إنتَ راسك ناشف.

سكت لبُرهة قبل أن يقول بلهجة ذات مغزى:

-بالذمة لمتنا إحنا التلاتة مش وحشاك؟!.. عِمران أخونا الكبير اللي عمره ما لقانا في ضيقة وإدانا ضهره يا عُمر! بلاش تكون دي النهاية لصداقة حلوة.

أومأ “عُمر” مُقدرًا لهذه الكلمات قبل أن يقول بلهجة هادئة:

-ولا نهاية ولا حاجة، الحوار كله سوء تفاهم.

غسان بابتسامة عريضة يستفسر:

-يعني هنروح القصر وكل حاجة ترجع لمجاريها؟!

عُمر وهي يزفر مُتأففًا:

-يا جدع بطل زن واخلص!

قام “غسان” بدفع الكرسي أمامه مُتحمسًا لمقابلة صديقهما الذي تزوج وانشغل في حياته بعيدًا عن أجواء الصداقة التي كانت تجمع بينهم كُل يوم قبل أن يزف عريس ويكون عليه تفضيل زوجته وبيته على هذه السهرات الشقية والمرحلة ولكنه اليوم ينوي تجديد العهد بينهم.

••••••

سمع الجميع صوت بوق سيارة يرتفع رويدًا خارج القصر، انفرجت شفتيها بسعادة غامرة وهي تتوقع وصول سيارتها الجديدة، تهللت أسارير وجهها وهي تهرول خارج القصر إلى الحديقة لتجد سيارة حمراء اللون تقف أمامها وقد زُينت بزينة جميلة من الشرائط اللامعة، أخذت تصرخ بحماس شديدٍ فيما تجمع كل من بالبيت خارج القصر أيضًا لتهرع “سكون” إلى السيارة ثم تتحسس هيكلها بفرحة عارمة خاصةً أن والدها لم ينسَ أن يختار اللون الذي تحبه جمَّـًا، اِغرورقت عيناها بالدموع فيما ربتت “شروق” على كتفه وهي تقول بسعادة مثيلة:

-ألف مليون مبروك يا روحي، تتهني بيها.

أسرعت باحتضان شقيقتها بقوة ثم انتقلت بنظراتها إلى والدها الذي يقف في نافذة مكتبه يتابع غدوها السعيد في أرجاء الحديقة وانتشار بهجتها في الأنحاء، يحبها “عثمان” بصفة خاصة ليس لأنها الابنة المُطيعة فحسب بل لأنها صاحبة كيان حديدي ولا يجرؤ أحدُ على زعزعة تصالحها المتين مع نفسها أو إذلال روحها السامية في أنفة أو حتى تقييد حريتها؛ يعشق فيها الاستقلالية وتمنى لو تقتبس “شروق” منها بعض الخِصال التي تمحو الضعف وقلة الحيلة من جذورها الساذجة!!.. لا يظنه يفرق بين ثلاثتهم بل “سكون” تُجاهد في المحافظة على المرتبة الأولى داخل قلبه دومًا لأنها تمتلك جُل خصاله وإن لم تكُن كلها؛ فهي النُسخة الصغيرة منه وهذا لا يعني أنه لا يعشق أولاده؛ ولكنه يكره الضعف في واحدة والاستسلام في الآخر!.. أما غير ذلك فلا يجرؤ أحد أن تراوده نفسه على المساس بهم؛ فقد عانى الكثير حتى أنعم الله عليه بالثلاثة.

أسرعت بإرسال قبلة طائرة له وهي تضحك ملء شدقيها قبل أن يمنحها موظف الشركة مِفتاح السيارة ثم يقول بلهجة حازمة:

-المفتاح يا فندم وبإذن الله السواق هيكون في انتظارك من بكرا.

أجابتهُ “سكون” بابتسامة هادئة:

-تمام.. شكرًا.

غادر الموظف في الحال فيما قررت “سكون” تجريب السيارة رغم أنها لا تفقه الكثير عن القيادة، فاستدارت إلى شقيقتها ثم قالت بحماس:

-تعالى اقعدي جنبي وأنا بجرب أسوقها.

تدخل “عِمران” مُضيفًا باعتراض قاطعٍ وهو يندفع ثم يقبض على ذراع زوجته ويقول ممازحًا:

-لا آسف يا فندم، جربي مع نفسك أنا مش مستغني عن مراتي الحقيقة.

أطلقت “سكون” قهقهة عالية قبل أن تقرر أن تفعل ذلك بنفسها وقبل أن تركب السيارة وجدت أنها تقول بصوت قلق:

-أنا بقول بلاش الخطوة دي واستني السواق بكرا وخلي اليوم يعدي على خير بدون خسائر!!

تنحنحت “سكون” بحرج ثم تابعت بعد أن أغلقت باب السيارة مرة أخرى وانصرفت عن هذه الفكرة:

-أنا بقول كدا بردو، وشكرًا على تقليلكم من قدراتي العظيمة.

في تلك اللحظة، سمعوا صوته يهتف باسمها عاليًا:

-شروق!

رفعت عينيها نحو ثم وجدته يشير لها أن تصعد إليه، أومأت في الحال ثم قررت التوجه إلى غرفة مكتبه، طرقت طرقة خفيفة على الباب فوجدته يقول بهدوءٍ:

-ادخلي.

انصاعت لكلامه، أطلت برأسها أولًا ثم تقدمت منه فورًا وهي تقول بنبرة هادئة ووجه بشوش:

-خير يا بابا!!

بادلها اِبتسامة خفيفة قبل أن يلتقط شيئًا ما من الدرج  ثم يضعه على سطح المكتب أمامه، زوت ما بين عينيها وهي لا تُدرك ما يحدث قطعًا، نظر قليلًا إلى العلبة ثم تحول إليها وراح يقول بصوت ثابت:

-دا حقك.

تابعت “شروق” بخفوتٍ غير واعية لما يرمي إليه:

-حقي في أيه؟!

وهنا، قام بفتح العلبة التي توقعت منذ رؤيتها أنها علية مجوهرات ولكنها لم تتوقع مُطلقًا أن الذي يقبع داخلها بهذه القيمة الثمينة جدًا، فتحت فمها مشدوهةً فيما رد عليها بحزم:

-أختك اختارت عربية وزيّ ما جبت لها فلازم أجيب لك؛ دا عُقد ألماز يساوي نفس تمن العربية، عايزة تحتفظي بيه مفيش مشكلة أو تبيعيه وتشتري بتمنه بيت هنا جنبي بردو مفيش مشكلة.

أومأت “شروق” برأسها سلبًا فورًا ثم تابعت برفض:

-بس أنا يا بابا مش عايزة زي ما جبت لأختي، أنا مبسوطة كدا ومستحيل هبص لها في هداياها منك وإحنا فعلًا قررنا نعيش في القاهرة بس حقيقي أنا مش محتاجة كُل دا!!

عثمان وهو يتكلم بثبات:

-إنتِ مش محتاجة لأني مش هقبل أشوفك محتاجة وطول ما أنا عايش إنتِ هتفضلي بنت عِز وحقك عليا إني مفرقش بينكم، خدي العقد يا شروق!.

ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة قبل أن تقول بخوف من رد فعل زوجها الذي سيغضب حتمًا:

-بس …

أوقفها قائلًا بصوت حازم؛ فهو يقرأ صغيرته جيدًا دون أن تبوح:

-مش عاوز نقاش ولو على عِمران فأنا ليا كلام معاه.

•••••••••• 

-بابا؟!

نظرت إليه بدهشة قبل أن يجذبها من ذراعها ثم يقول بلهجة حادة:

-يلا قدامي!!

تعجبت من تصرفه الهمجي والعدواني وكأنها لم تفعل خطأ حينما قررت المكوث في بيت رجلٍ أعزبٍ مُبررة أنه صديقها ولولا اتصال “تليد” ما كان ليعرف ما فعلته ابنته المجنونة، ابتلعت ريقها على مضض قبل أن تقول بهدوءٍ وهي تستدير بنظراتها وتتبادل مع “وِسَام” نظرات تساؤلية:

-لحظة يا بابا، هجيب شنطتي!!

أفلت “علام” ذراعها فأسرعت بالتقاط حقيبتها ثم عادت إليه مرة أخرى، تجنب “علام” الحديث مع “وِسَام” رغم علاقة الاثنين الجيدة فعلام قَبل بهذه الصداقة لما يتسم به الأخير من اخلاق عالية حتى أنه يتميز بتفكير ناضج عكس ابنته ورأى أن “وِسَام” ربما يتحكم في تصرفات ابنته الهوجاء المتسرعة ويمنعها من التصرف بحماقة قد تضر بحياتها؛ فقبل هذه الصداقة على مضض حتى تقبلها بشكل كاملٍ حينما وجد في الأخير ما يسره ولكنه لم يتوقع أن هذه الصداقة قد تتطور إلى الجلوس معًا في بيت واحدٍ وكأنهما يعيشان بأحد البيوت الأوروبية!!.. سحبها “علام” من ذراعها ثم توجهان خارج العقار فتكلمت “وَميض” بتوترٍ:

-بابا؟! مالك في أيه؟!.

لم يرد عليها وسار قابضًا على ذراعها دون أن ينبس ببنت شفة مما أزعج شخصيتها المُكابرة فأردفت مرة أخرى باختناق:

-بابا أنا بكلمك؟!

في تلك اللحظة، توقف “علام” في مكانه ثم استدار حتى أصبحت أمامه مُباشرة وراح يصيح بصوت مُتهكمٍ:

-إنتِ مش شايفة إنك عملتي حاجة غلط تضايقني؟!!

وَميض بنبرة مخنوقة:

-اتخانقت مع عثمان السروجي وقررت أسيب البيت وأمشي علشان أنا لا جارية ولا خدامة عند حد ومش هسمح إن حد يعايرني بأهلي وإننا عبيد عنده، أه وغلطت كمان علشان سيبت أمي ومشيت لأنها كانت عايزة تجبرني اتضرب وأسكت علشان لقمة العيش ويتداس على كرامتي بمداس الباشا وأقول سمعًا وطاعةً، هو دا يا بابا اللي إنتَ جاي تغلطني فيه!!

علام وهو يجيبها بصوت أجشٍ حادٍ:

-لا عاش ولا كان اللي يدوس على كرامتك أو يهينها طول ما أنا عايش، أما غلطك إنك مُسلمة وتباتي مع شاب أعزب في بيته وتتعاملي على إن الموضوع عادي باعتبار إنه صاحبك، تفتكري إني من الأول كنت غلط لمَّا محبتش أخنقك وقبلت بالصداقة دي!!

ابتلعت “وَميض” غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تتابع بنبرة مُتلعثمة:

-أنا مكنتش لاقية حل غير دا وكنت ناوية بكرا الصبح هأجر شقة وصدقني أنا مبيتش عنده قبل كدا وحتى لما فكرت أعمل كدا إنتَ جيت أهو وأخدتني!

قرر “علام” متابعة سيره بوجه عابس ثم قال برد مُقتضب:

-ولو مكنتش عرفت وجيت!.

نكست رأسها خجلًا قبل أن تقول بخفوت:

-حقك عليا يا بابا، بس أنا خلاص مش قادرة أستحمل أي حاجة بتحصل لي ولا حتى موقفك إنتَ وماما السلبي!

تدبر ابتسامة ساخرة ظهرت على جانبي شفتيه قبل أن يقول بحُزن تعمق داخله:

-إحنا سيبنا الشغل في القصر وبدور على شقة علشان قدامنا أسبوع ونسيب الشقة اللي قاعدين فيها.

اتسعت عيناها وهي تقول بسعادة غامرة:

-دا بجد يا بابا!!

علام مُتابعًا بحزمٍ:

-أما الخبر التاني؛ فهو إن في شاب ابن حلال اتقدم لك وأنا وافقت!.

كأنما أحلت بها قارعة ما، توقفت فجأة عن السير ثم صاحت بصوت مصدومٍ:

-نعم!!، أيه الكلام دا؟ وافقت بدون ما تاخد رأيي؟!.

علام بلهجة حازمة:

-كُنت باخد رأيك في كُل خطوة بعملها في حياتي قبل ما تكسري ثقتي فيكِ وتجبريني أنتهج مبدأ عمره ما كان بتاعي!

اِغرورقت عيناها بالدموع قبل أن تقول باختناقٍ:

-إنتَ أكيد بتهزر مش كدا؟!

علام بثبات:

-بهزر علشان عاوز أطمن عليكِ في بيت جوزك!

انهمرت الدموع بغزارة على وِجنتيها فأسرعت تتشبث بذراعه تستجديه أن يتراجع عمَّا يقول على وعدٍ بألا تخذله مرة أخرى، إلا أنه فاجأها وهو يقول بحسم قاطعٍ:

-مفيش وقت للكلام دا، لأن العريس مستني في البيت.

جحظت عيناها في حالة صدمة جعلتها تتوقف عن الكلام فيما أسرع “علام” بإيقاف سيارة أُجرة ثم أمرها بالركوب وفعل هو وانطلقت السيارة إلى البيت حيث ينتظرهما العريس المُنتظَــــر!!

••••••••• 

تهللت أسارير وجهها حينما أبلغها “علام” بقدوم شاب لخُطبة ابنتها ولم تهدأ نارها إلا عندما أخبرها أنه ميسور الحال؛ فبدأت في ترتيب الشقة وصُنع أصناف مُختلفة من الحلوى والعصائر الطازجة ثم ارتدت وتجهزت وهي تقلق بشأن زوجها وابنتها اللذين لما يأتيا بعد!!.. وأثناء شرودها في الأمر وجدت باب الشقة يُفتح ثم رأت “وَميض” تهرول إلى غرفتها باكيةً فيما يتحرك “علام” نحو الأريكة بوجه مُمتعض حزين، تحركت “سُهير” نحوه ثم تساءلت بقلق:

-مالها وَميض؟!

علام بثبات يشوبه بعض التهكم:

-زعلانة شوية أصلها هتتخطب من غير ما يتاخد برأيها!

تنهدت “سهير” باسترخاء ثم تابعت بحماس:

-أكيد لما ييجي وتشوفه هترتاح له، أنا هروح أحايلها وأخليها تجهز.

أومأ “علام” بثبات فيما توجهت الأخيرة إلى غرفة ابنتها التي تلحفت غطاء الفراش وراحت تبكي بانهيار كبيرٍ حتى ارتفعت شهقاتها المتقطعة، أسرعت “سهير” بالجلوس إلى طرف الفراش ثم تابعت بهدوءٍ:

-الموضوع مش مستاهل كُل العياط دا يا وَميض!!

صرخت من أسفل فراشها وهي تقول بحدة:

-إنتِ السبب في كُل اللي بيحصل معايا، إنتِ أكتر واحدة بتحاولي تطول الوقت تزرعي فيا تقبل واقعي المُقرف وإني أقبل إهانتي واتكتم، مش مصدقة إن بابا يعمل فيا كدا؟!.

في تلك اللحظة، سمعت صوت جرس الباب يدق فأخذتها رعشةً قوية أرجفت أطرافها وراحت تبكي بصوت مبحوحٍ وأنفاس مُلتهبة من القهر والألم، قررت “سهير” أن تمتنع عن الرد على ما تقول فلا يوجد ما يُقال بعد قرار نفذ من فم زوجها العنيد، قام “علام” باستقبالهما بحفاوة كبيرة فيما قررت الأخيرة أن تذهب إلى المطبخ وتأتي لهم بأموال العصير حتى تستطيع رؤية عريس ابنتها!

-نورتنا يا شيخ سليمان!

أردف “علام” بتقدير شديد فيما شكره الشيخ وقال بود:

-ربنا ينور طريقك وقلبك يا علام.

علام وهو يؤمن على دعوته بوجه حزين:

-أمين.

تنحنح “تليد” بخشونة قبل أن يقول بلهجة حازمة:

-ندخل في الموضوع يا أستاذ علام!!

وقبل أن يرد الأخير على حديثه وجدوا “سهير” تتقدم منهم بوجه عابس يغلفه الصدمة وهي تحمل صينية بين كفيها وهنا أردف “علام” بصوت أجشٍ:

-حطي الصينية هنا.

أسرعت بوضع الصينية وهي ترمق “تليد” بنظرات عدوانية فيما يبادلها أخرى صارمة ومُتحدية؛ ولكنها لم تصمت عما رأته فصاحت تقول بانفعال حادٍ:

-إنتَ بتعمل أيه هنا؟!!!!!

انتصب “علام” واقفًا بانفعال ثم سار إليها وراح يقبض بقوة على ذراعها ثم يسحبها أمامه إلى الداخل ثم يقول بلهجة صارمة تعبق بحرارة عميقة بينما عيناه تقدحان بالشرر:

-أنا هقول لك بيعمل أيه هنا، جاي ياخد حقه اللي اتاخد منه علشان نرضي غريزة أم جشعة عمرها ما هتكون أم بجد، فأنا فقدت الأمل في إصلاحك وقررت أرجع له الأمانة اللي سابها عندنا واللي م قادرين نحافظ عليها.

صاحت “سهير” تقول بانفعال:

-محدش هياخد مني بنتي يا علام!!.

رمقها بنظرة قوية قبل أن يضغط على وجهها بين أصابعه ثم يقول بصرامة:

-وَميض هتتجوز الشيخ تليد في أسرع وقت، وإنتِ ملكيش رأي في الجوازة دي ولو عايزة تفضلي أمها قدامها فياريت صوتك ميطلعش وإلا هعرفها بالحقيقة كاملة.

افلت وجهها بانفعال ثم صاح بصوت جهوري حانقٍ:

-ادخلي هاتي بنتك!!!

هرولت “سهير” من أمامه على الفور ثم ذهبت إلى غرفة “وَميض” بعقل قد تعطل عن العمل من وقع الصدمة التي داهمته، ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة قبل أن تتحدث إلى ابنتها بصوت مخنوقٍ:

-اخرجي لأبوكِ حالًا يا وَميض قبل ما تحصل مشكلة!.

ازاحت الغطاء عن جسدها قبل أن تشيح بوجهها عنها ثم تتجاوزها إلى خارج الغرفة، اندفعت فورًا إلى الصالة وما أن وصلت هناك، همَّت أن تتكلم باحتجاج على ما يفعله بها والدها؛ ولكن الصدمة ألجمت لسانها حينما تقابلت نظراتها وراح يحدق فيها بتحدٍ وانتصار مما جعلها تقول بصوت مبحوحٍ من شدة البكاء والارتباك:

-إنتَ!!!

تكلم “علام” بلهجة حازمة يحثها فيها على التقدم والجلوس بجواره، أخذت أنفاسها تتسارع بلا هوادة وللمرة الأولى التي تشعر فيها بالعجز أمام موقف أو شخص ما، حاولت أن تستوعب ما يدور من حولها فتسأل نفسها باستنكار هل تتجوز تليد السروجي؟! فهي لا تتفق مع شخصه مثقال ذرة؟!، جلست بجوار والدها فيما ظلت تحدق فيها طويلًا تحاول أن تستجمع شتات أمرها، تتساءل متى أحبها حتى يتقدم لخطبتها؟! وهل في يوم وليلة تُصبح فردًا أساسيًا في هذه العائلة العريقة بعد أن كانت مُجرد خادمة لهم؟! وكيف تقبل أن تكون على ذمة رجل لا تعرف الكثير عنه ولا يجمعهما مقدار أنملة من تفاهم؟!.. استيقظت على صوت “تليد” وهو يقول بثبات:

-على سنة الله ورسوله، بطلب إيد الآنسة أُترُج!!!

رمقتهُ بعينين مُتسعتين ثم أردفت بصوت مُتهدجٍ من كثرة البكاء:

-بس أنا مش موافقة، مش بالعافية!!

انتقلت ببصرها إلى الشيخ “سليمان” ثم تابعت ببكاء مريرٍ:

-اتكلم يا شيخ سليمان علشان خاطري، قول لبابا إن مينفعش الجواز بالغصب!!

أراد “سليمان” أن يربت على قلبها فقد أبلغه ابنه بكُل ما تفعل من طيش وطلب “علام” منه أن يتخذها عروسًا لابنه الذي يتوق للأمر بقلبٍ مستعرٍ من شدة الشوق، كان “سليمان” يتخذ موقفًا ضد ابنه وعلام إلى أن علم بأمر صديقها وكذلك ثقته التامة بحرص ابنه على إصلاحها وصونها ومراعاة الله فيها فرى أن سعادتها ترتبط بزواجها من أكثر الأشخاص حُبًا لها؛ فمن تعذب في جوف الليل يبكي الله بقلب مكلومٍ من الفراق ورغبة اللقاء؛ لا يمكنه سوى أن يكون خير زوج مِعطاء.

-الخيرة فيما اختاره الله لكِ يا ابنتي، أوعدك إنه يكون خير زوج ورفيق لكِ.

توجهت بنظراتها إليه وراح تحدق داخل عينيه باستجداء فأسرع بإنزال نظراته عنها ثم قال بثبات:

-أنا معنديش مُصطلح اسمه خطوبة يا أستاذ علام، إحنا هنعقد القران وبراحتها لحد ما تكون جاهزة للزواج!.

علام دون تفكير يرد:

-وأنا موافق.

حدقت في والدها بصمت ثم أطرقت برأسها أرضًا لتسقط العَبرات بغزارة من عينيها ويخفق صدرها بقوة من شدة الاختناق، قام “تليد” بالنظر إليها خِلسة مُستغلًا تركيز عينيها بالأرض ثم تحدث في نفسه بقلب مسرورٍ يتيقن في الله بأن بكاءها يوم خطبته لها سيكون أكثر الأشياء التي تندم عليها إذ أنه سيحول حياتها إلى حياة تمنتها في صحوها ونومها؛ فيقول أما بعد:

«سوف تبرق روحها وترعد غيرةً عليَّ وتُمطر بهجةً في قربي منها وتسقط الثلوج على قلبها مادام قلبي يخفق بالحياة بين ضلعيَّ؛ أما بعد فلا ألم يلحق بحَرمي التي هي كرامتي».

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *