رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثامن والثلاثون
لو كففت عن الثرثرة لمدة دقيقة واحدة.
لن يفقد العالم أي شيء. به من السفهاء ما يكفي، ولن يكترث إن نقصوا واحد.
وكأنها المرة الأولى، كأنها لم تستيقظ بعد وما زالت في غفوتها وهذا ليس إلا كابوس ينغص غفوتها، مشاهد سريعة مرت في رأسها طوال طريق الرجوع و دموعها ترافقها، نامت أثناء عودتهم من القاهرة لتستيقظ تجد أنها في الاسكندرية تحديدا عند الجسر الذي اعتادا أن يجلسا ويتنعما بهدوءه، ولكنها لم تتنعم بأي هدوء بل استيقظت على مواجهة شرسة معه وقد اكتشف أمر عبوة الأقراص التي تحملها في حقيبتها، حاولت التبرير حاولت فعل كل شيء ولكن ردوده أوحت بالكثير وكان آخرها: روحي يا ملك.
طالعته وهو يذهب للجلوس بمفرده متطلعا لمياه البحر أمامه أما عنها فغادرت ودموع الحسرة في عينيها، أخرجت هاتفها وهي تستكمل طريقها وقد أوشكت على الوصول لمنزل والدتها الذي لا يبعد عن المكان الذي كانا فيه، قامت بالاتصال وسريعا ما أتاها الرد، صوت والد زوجها الحنون يسألها: في حاجة يا ملك؟، انتوا رجعتوا من القاهرة ولا فين، أنا قايل لعيسى يرجع النهاردة.
خرجت منها شهقة مكتومة أتلفت أعصاب نصران تماما مما جعله يسأل بلهفة: مالك يا بنتي، عيسى كويس؟
طمأنته سريعا من بين عبراتها: عمو عيسى شاف علبة الحبوب اللي أنت كنت قايلي أحطله منها في شنطتي، أنا والله محطتلوش منها حاجة
دافعت عن نفسها ونحيبها يزداد: والله يا عمو ما حطتله، هو عرفها لأنه بيروح عند دكتور نور زي ما أنت عارف، وتقريبا اداله نفس العلبة فهو أول ما شافها عرفها.
أشفق نصران على حالتها هذه كثيرا، كان الخطأ خطأه من البداية وليس هي، سألها طالبا منها الهدوء: اهدي بس وقوليلي قولتوا إيه؟
أنا مقولتش حاجة، قولتله إن دي دكتور نور قال إنها هتساعده وأنا كنت خدتها علشان عايزة أساعده لكن محطتش منها ليه.
أغمضت عينيها بألم وهي تستكمل: بس هو لقى العلبة ناقص منها وقولتله إنها كانت مرة اللي حاولت أعمل ده ورجعت عنه بس عيسى مفهمش كل ده، أنا عارفة من الأول يا عمو إن الطريقة دي معاه غلط، بس أنا معملتش حاجة والله.
قالت جملتها الأخيرة بقهر شديد، وأضافت: لو كنت أعرف إنه بياخد من الدوا ده، كنت رميت العلبة بس أنا كنت ناسياها أصلا، وهو مجابليش سيرة عن إنه بياخد حاجة.
ندمها وكأنها ارتكبت جرم عظيم وصل له، فحاول إكسابها بعض الهدوء بقوله: طب أنتِ فين يا حبيبتي؟
احنا هنا في البلد، كنا خلاص اصلا راجعين بس حصل الموقف ده عند الجسر، وقالي روحي ومرضيش يتكلم تاني، قعد لوحده.
مسحت دموعها وهي تتابع: أنا هروح بيت ماما يا عمو، أنا مش هقدر ارجع، ومش هقدر اتكلم معاه تاني النهارده.
نصحها طالبا منها أن تترك الأمر ليحله هو: طالما قالك روحي، ارجعي على هنا يا ملك، علشان ميشيلكيش الغلط والدنيا تكبر، وأنا بالليل لو عايزة هوديكي عند أمك، بس يجيلي و أتكلم معاه.
هتفت بإصرار وقد أخذت قرارها: لا يا عمو مش هرجع، أنا خلاص وصلت عند ماما، ولما تتكلم معاه لو سمحت متقوليش تعالي، عيسى أنا مش هقدر أتكلم معاه تاني النهارده.
قالتها بتعب وقد تجمعت العبرات في عينيها من جديد وبدا صوتها مختنقا لذلك لم يصر عليها، وصلت لدى والدتها، كان في الأسفل في المحل وتقف معها إحداهن، لم تلق السلام حتى، كانت هيئتها واضحة فتركت والدتها من تشتري واستوقفت ابنتها تسألها بقلق: ملك في إيه؟
خرجت مريم من الداخل والتي ما إن رأت شقيقتها كذلك حتى هتفت: هو عيسى مزعلك؟
صعدت هي إلى الأعلى مسرعة، ولم ينتبهن لتلك الواقفة والتي ما إن عادت إليها هادية لتنهي طلبها سريعا وتصعد لابنتها وجدتها تسأل بفضول: هي زعلانة مع جوزها ولا إيه؟
أتى رد هادية جافا لتمنع الاسترسال في الحديث: لا هي وجوزها كويسين، هي بس جاية من طريق سفر فتعبانة شوية.
ربنا يهديلها الأحوال.
قالتها السيدة بهدوء، ثم رحلت بعد أن ابتاعت ما أرادت مما مكن هادية من اللحاق بابنتها بينما في نفس التوقيت كانت علا غارقة في النوم، ولكن تنغص أحداث الأيام السابقة عليها نومها وكأنها تصارعها لتظفر بها وتقضي عليها تماما، بداية من شقيقها الذي فقدت خصلاتها على يده، ثم تصريحها أمام زوجته بأنه يحب ملك، ثم هربها، الخطوة التي أتت بعد فرارها لم تكن سهلة أبدا، وجدت نفسها في النهاية تلجأ لبشير، تهاتفه من أحد الهواتف في الشارع، وما إن رد عليها حتى هتفت بلوعة وبان في صوتها حالتها: بشير أنا علا، ممكن لو سمحت اقابلك.
كان قد حسم قراره بالابتعاد عنها تماما ولكن نبرتها هذه ضربت بقرارته عرض الحائط لتخبره أن صاحبتها فازت، حثها على الهدوء طالبا منها معرفة موقعها فأخبرته: أنا في القاهرة، بكلمك من تليفون في الشارع…
أخبرته بمكانها تحديدا ثم قالت بنبرة منخفضة وهي تنظر حولها بدموع: اتأكد بس وأنت جاي أن محدش ماشي وراك…
أنا مش عايزة شاكر يعرف طريقي.
قالت جملتها الأخيرة بقهر، وكان الانتظار قاتلا حتى أتى هو، شك ألف مرة قبل مجيئه أنه ربما فخ استخدمها شقيقها لينصبه له، ولكنه لم يستطع أمام قهرها الذي وصله عبر الهاتف إلا أن يذهب بكامل إرادته وحرصه أيضا، وما طمأنه هو أنها أخبرته بانتظارها له في إحدى المقاهي الشبابية، دلف إلى المكان، ووقعت عيناه عليها لكنه لم يعرفها في أول الأمر، كانت ذابلة تماما، وجهها شاحب، وأثر العبرات مرسوما على وجهها، هذه ليست خصلاتها التي اعتاد أن يراها بها، لونها مختلف وأيضا أقصر من خاصتها، في النهاية تبدو وكأنها ليست هي ولكن لهفتها حين رأته أكدت أنها هي، ذهب عند طاولتها وجلس على المقعد المقابل لها سائلا بقلق: مالك؟، ويعني إيه مش عايزة شاكر يعرف طريقك؟
ابتلعت ريقها بذعر وهي تسأله: اتأكدت إن مكانش في حد وراك؟
هز رأسه فأخذت نفسا عميقا واستدعى هو النادل، طلب لها ليمون عله ينفع في تهدئة أعصابها التالفة وحين رحل النادل سألته بعينين بدا فيهما الخوف من الخذلان: ليه مقولتليش إنك كنت عايز تتجوز بيريهان؟..
أنت فعلا عملت في شاكر اللي عملتوه ليلة فرحه علشانها؟
علق على أقوالها هذه بتهكم واضح: الكلام ده حفظهولك شاكر مش كده؟..
عموما أنا فعلا عرضت على بيريهان نرتبط.
لم يكن مخادعا يوما ما وحين رأى الخوف في عينيها تابع ليقضي عليه: بس معلمتش على أخوكي ليلة فرحه علشانها، اللي حصله ليلتها ده جزء من حق فريد، فرجة أهل البلد عليه وهو مرمي كده كان رد بسيط أوي على حق أخويا، وأظن إني عرفتك قبل كده إني بعتبر فريد ده أكتر من أخويا كمان.
ما إن أحضر النادل الطلبات، شربت وكأنها عانت من الظمأ دهرا، حتى ارتعاشة يدها هذه جديدة على بشير جعلته يتوقف عن الاسترسال في الحديث ولكنها حسته بعينيها على الإكمال فقال: مقولتلكيش علشان اليوم اللي كنت هقولك فيه جه شاكر وخدك ومشي، ومكنتش هقولك لأني كنت مقرر إنك لو وافقتي تبقي معايا يبقى تنسي شاكر وأنتِ ساعتها رفضتي، فبقيتي زيك زيها، أي حد بتربطه أي صلة بيه برا حياتي وعدو مش صديق.
انهارت حين ذكر هذا اليوم الذي أتى شقيقها وأخذها فيه، علا نحيبها لدرجة جعلت بعض المتواجدين ينتبهوا فأسرع بشير يحاول إخماد ثورتها هذه والتي أستطاع بصعوبة تجميع الكلمات اللي تقولها من بينها: يعني أنت مكنتش واخدني كوبري علشان تدخل حياتها وتدمرها.
الناس بتبص علينا، اهدي بدل ما يقولوا إني مقعدك معايا بالغصب.
بالفعل بدأت في محاولة استرداد الهدوء تدريجيا ورد هو على سؤالها قائلا: بيريهان من يوم ما اتجوزت شاكر وهي مبقتش تعنيلي أي شيء، كان مجرد إعجاب مش أكتر وعرضت عليها اخد خطوة وهي ساعتها قالت إن في حد في حياتها فبعدت، أنا لما اتكلمت معاكي يا علا مخدعتكيش، قولتلك أنا في حاجة من ناحيتك لكن مش هقدر اكمل في الطريق ده علشان أخوكي اللي أنتِ اختارتيه.
هتفت بقهر مرارته في حلقها كالعلقم: أنت شايف إني اختارته، وهو لما شك لحظة واحدة بس إني اختارتك خد مني شعري.
لم يفهم مقصدها في البداية، حتى أخبرته بألم أن ما على رأسها هي خصلات مستعارة، سلب شقيقها منها خصلاتها الغالية بطريقة بشعة.
استطاعت رؤية ثورة الجالس أمامها في عينيه، سمعته وهو يسب شقيقها ويسأل بغضب: أمك فين، الناس اللي شغالين فين، سبتيه يعمل فيكي كده ليه؟
قفل علينا الباب بالمفتاح، شاف إنه بالطريقة دي بيربيني، ولما أمي دخلت قالتله…
ابتلعت ريقها بحسرة ثم هتفت: قالتله حرام عليك البت هتبور.
تذكرت قول والدتها الذي نجح في إصابتها بتعاسة مضاعفة، لانت نبرة بشير وهو يسألها بحزن: مكلمتنيش ليه؟
رفعت كتفيها تخبره بأنها لم تكن تملك أمرها وهي تخبره بحزن: هددني، وخوفت أكلمك يأذيك، شاكر راهن على خوفي اني هسكت وأنا كنت هفضل ساكتة بعد ما هددني بيك وقالي إن محدش عايز مصلحتي غيره، بس مقدرتش.
قصت عليه حين أخبرت زوجته بأنه كان يحب ملك ثم هرولت تفر من المنزل وقد طلبت سيارة أجرة مسبقا انتظرتها على الطريق وبالطبع ما جعلها تفلت هو انشغال شقيقها بتوضيح الأمر لزوجته.
أنا بس خايفة، شاكر مش هيسكت وزمانه قالب الدنيا عليا وبيدور، وأكيد هيدور وراك.
قالتها بخيبة تبعتها باعتذار: أنا أسفة، بس أنا ملقتش حد غيرك ألجأله يا بشير…
أنا عايزة مكان أقعد فيه يومين أرتاح وأفكر هعمل إيه.
يبدو عليها حقا كم هي بحاجة إلى الراحة، كان قد أخذ قراره بمساندتها، حتى ولو تحمل أعباء محاربة شقيقها، التجربة التي قصتها عليه أحزنته، وحسرتها في الحديث عن خصلاتها مزقته لذلك هتف بلين: اطمني يا علا، في عمارة هي قديمة شوية، بس المنطقة هناك شاكر مش هيفكر فيها، ابن عمي كان مأجر شقة هناك وسافر من بتاع أسبوعين، إن شاء الله متكونش اتأجرت لسه وهأجرهالك.
طمأنها بقوله هذا، دعت الله أن يستطيع بالفعل استأجارها لها، وحين وصلا ووجدها اضطر للكذب على صاحب العقار ذلك الرجل الكبير الذي كان على معرفة سابقة به في المرات التي زار فيها ابن عمه: دي هدى بنت خالتي يا حاج محمد، عايزين نأجرلها الشقة بقى اللي كان عماد قاعد فيها، أنا سمعت إنها لسه فاضية.
كان الرجل ودودا ووافق على الإيجار المؤقت ومعضلة أنها بمفردها هذه سعى بشير جاهدا لكي يحلها وبالفعل نجح.
بقت في هذا المنزل بمفردها، كان كئيبا، وأثاثه شبه بالي، ولكن يكفي أن هنا لن يستطيع شقيقها العثور عليها، علمت أن الكهرباء تنقطع كثيرا عن المنطقة هنا، كل شيء يجعلها تشعر بالريبة ولكنها مضطرة للتعامل، وما طمأنها هو وعد بشير بأنه سيأتي إليها يوميا، كذلك ابتاع لها شريحة لتحدثه عن طريقها، وقضت أمس هنا على هذا الحال، استيقظت بتعب، طالعت المكان حولها بهدوء، وحزن ثم استقامت لتتوجه ناحية المرحاض ولكنها سمعت دقات على بابها، انكمش جسدها بذعر أصبح كل شيء يخيفها، ولكن توقف الدق، فنظرت من هذه الفتحة الدائرية الصغيرة المتواجدة بالباب، لتجد أحدهم يترنح يمينا ويسار، ويهذي وكأنه جن، تارة يدق على بابها، وتارة على الباب المقابل فعلمت أنه ليس في وعيه ورجحت أنه سكير، أصابها الرعب حقا ثم شاهدته وهو يصعد إلى الطابق العلوي فعلمت أنه بالتأكيد أحد السكان، تسارعت أنفاسها بتوتر وبالإضافة إلى هذا انقطعت الكهرباء فجأة مما جعلها تبكي بضجر وتهاتف من أتى بها إلى هنا وما إن رد حتى هتفت: أيوا يا بشير، تعالى خدني من هنا، أنا مش هعرف اقعد هنا، أنا خايفة ومش هعرف اقعد هنا.
قالت جملتها الأخيرة وقد فقدت كل قدرتها على التحمل، يكفي ذعرها من شاكر لن تستطيع تحمل ذعر مضاعف حتى ولو كان هذا المكان الأفضل بعيدا عن شاكر ولكنها لن تبقى به.
كانت بيريهان في غرفتها هنا في منزل زوجها بالاسكندرية، سأمت من محاولة تهدئة والدة زوجها التي لا تكف عن العويل مطالبة شاكر بإيجاد ابنتها بأسرع وقت، ما أدهش بيريهان حقا هو أنها تريد أن يعثر على ابنتها خوفا من الفضيحة كما تقول، مما جعل بيريهان تتسائل في نفسها: أليس خوفا على ابنتك!
لا تبالي كثيرا بأفعال والدة زوجها، تقدر الاختلاف كون هذه السيدة ترعرعت في إحدى القرى ولأهل القرية هنا صفاتهم الخاصة ولكن هذه المرة لم تستطع عدم الاندهاش.
انفردت بنفسها في غرفتها، وحدثت ا
بنة عمها التي ردت سريعا باشتياق: وحشتيني يا بيري، طب اسألي عليا يا ندلة.
ابتسمت بسعادة لسماع صوتها وقالت: أنتِ كمان واحشاني أوي، أنا محتاجالك يا ندى.
في حاجات كتير حصلت عايزة احكيها.
استمعت لها ندى بإنصات وبدأت بيريهان في سرد ما حدث، من تصريح علا، ورد زوجها وعقب كل هذا نطقت ندى بذهول: مكنتش اتخيل إن بشير بالبشاعة دي، هو عايز منك إيه، يستغل بنت ملهاش ذنب علشان يقدر يدخل حياتك، كان عايز يثبت إيه أصلا بالخطوة دي.
تحدثت بيريهان بانفعال وضيق جلي: أنا نفسي فعلا أخلص من كل ده، أنا عايزة أعيش حياة هادية مع شاكر يا ندى، بعيد عن المشاكل اللي عيسى بيعملهالنا واللي أي حد من طرف عيسى والست ملك بيتسببوا فيها، أنا بفكر إن سفر الأجازة اللي احنا طالعينه، أخليه إقامة دايمة برا، بعيد عن أي مشاكل، بس لازم شاكر يلاقي علا الأول.
قالت جملتها الأخيرة بخيبة أمل، وتذكرت ندى فجأة حديث والدها الذي نصحها أن تنبه ابنة عمها أن تضع عيناها على زوجها جيدا، ترددت ندى في نصحها بمثل ذلك ولكن حسمت أمرها قائلة: بقولك إيه يا بيري زيادة للأمان برضو خلي عينك من وقت للتاني على شاكر.
إيه اللي بتقوليه ده؟
هتفت بها بيريهان باستنكار لتبرر ندى عبارتها سريعا قائلة برفق: بيري أنا عايزة مصلحتك، وأظن تجربتي خير مثال، أنا لما غفلت عن جابر عمل كل اللي ميتعملش من ورا ضهري. و
منعتها بيريهان من الاسترسال هاتفة بدفاع: أنا وشاكر بنحب بعض يا ندى، وأنا واثقة فيه، أنا لو راقبته يبقى بضيع الثقة دي.
صححت ندى مفهومها وهي ترشدها من جديد: حبيبتي مش تراقبيه أكيد احنا مش في قسم، بس ركزي معاه، خلي المشاركة بينكم تزيد، أكيد في خصوصية طبعا، بس مش بزيادة، متسلميش أوي يا بيري.
أنهت ندى حديثها وهي على يقين من أن ابنة عمها لم تقتنع بحرف منه بل ربما ترجح الآن أنها تقول هذا الحديث من منطلق زيجتها الفاشلة لذلك لم تطل أكثر وأنهت الحديث معها بينما بيريهان كان يدور في رأسها ألف سؤال.
أتى ولم يجدها، أدرك ذهابها عند والدتها فاشتعل غضبه وحين نزل ليذهب إليها سمع صوت والده الذي استوقفه: تعالى عايزك.
بعدين يا بابا.
قالها ولم يتوقف ولكن عبارة نصران جعلته يتوقف بالإجبار: أخوك ناس طلعوا عليه في الطريق وكان في المستشفى.
استدار وقد كسا القلق وجهه وهو يسأل بخوف حقيقي: أخويا مين؟
تحدث نصران بهدوء: طاهر.
نجح في جعله يدخل معه إلى غرفة المكتب، جلس.
عيسى متأهبا لسماع حديث والده الذي طمأنه على طاهر بقوله: هو بخير الحمد لله.
ثم أخبره عن الجرح في عنقه، وذراعه وأكمل: قريب يفك الغرز دي ان شاء الله.
طب أنا عايز أشوفه.
قالها عيسى وقد استقام واقفا فمنعه جواب والده: نايم دلوقتي، خلينا فيك أنت، مراتك فين؟
بدا الضيق جليا على وجه عيسى واستغرق ثوان ليرد: عند أمها.
تساءل نصران وكأنه لا يعرف شيء: غريبة يعني، بس أنا لما كلمتها الصبح قالت إنكم راجعين على هنا.
تلاعب والده واضح بالنسبة له لذلك قال عيسى بابتسامة متهكمة: لحقت تشتكي.
تشتكي من إيه؟
ماطله نصران بقوله هذا مما جعل ابنه يقول بسخرية: والله أنت أدرى.
ردعه نصران عن طريقته هذه بقوله: اتكلم كويس واتعدل.
انفعل وترك مقعده ليستقيم واقفا يواجهه وهو يضيف: عملت إيه ملك للعمايل دي؟
تجهم عيسى وأضاف نصران بما لم تصرح به ملك: أنا اللي قولتلها تديك من الحبوب دي، وهي قالت لا، ولما قالت لا أنا غصبتها، فخدتهم بس طنشت، وعلشان ألحيت عليها في السؤال حاولت تحطلك مرة وبعدها مرضيتش وقالتلي إنها مش هتعرف تعمل كده.
انفعاله كان الضعفين وهو يتحدث بغضب: وتقولها ليه تعمل كده، تعملوا كده من ورايا ليه؟..
ده اللي هيخليني كويس بقى؟، روحت للدكتور وعملت اللي انتوا عايزينه، مطلوب مني أعمل إيه لما اكتشف إنها بتحطلي الزفت دي من ورايا، وبكل بساطة تقولي أنا محطتلكش منها، امال معاها في شنطتها ليه بتعالج بيها قلة النوم وأنا معرفش.
قال جملته الأخيرة وقد تحكمت ثورته منه، كور يده، وضرب بقبضته على الحائط عدة مرات ولم يرد نصران قول أي شيء لامتصاص نوبة غضبه هذا في حين أكمل ابنه: معنى إنها معاه، إنها كانت ممكن في أي وقت تحطلي منها، إنها سيباها لحد ما تقدر، رغم إنكم عارفين إني مبحبش لوي الدراع.
أخرج علبته الخاصة مضيفا بابتسامة ساخرة: العلبة معايا وخدت منها بمزاجي، واستحملت أثارها علشان أريحكم، استحملت إني همدان، وحاسس طول اليوم كأن حد مكتفني ومش عايز أعمل حاجة غير إني أنام، اسألها كده لما كنا في القاهرة، أنا مكنتش بكمل ساعة في الشغل وبنزل اترمي ومعرفش بصحى امتى، طاقتي خلصانه وتعبان بس قولت علشان ابقى بريحكم، علشان زي ما بتقولوا عايزين تشوفوني أحسن.
ضرب على صدره وقد بان في عينيه عدم رضاه على فعلتهم: لكن لما هي تحطهالي، و يحصلي كده ومبقاش عارف أنا كده ليه، كان ده هيبقى حل؟، أنا مبحبش حد يستغفلني، وهي مكانتش المفروض تسمع كلامك.
قاطعه نصران سائلا بهدوء: ما هي سمعت كلامك قبل كده، وفضلت معاك لما أنا قولتلها تمشي، مع إنك كنت مزعلها، مفيش حاجة بتيجي بالساهل، وصدقني كل حاجة بتتعمل هتفضل ملهاش لزمة عارف ليه؟
طالعه عيسى وفي عينيه السؤال الذي جاوب عليه نصران: علشان طول ما انت بتعمل الحاجة علشان شايف انها هتريحنا مش علشان أنت عايز تعملها أنا عارف إنه مفيش حاجة هتفلح.
ربت نصران على كتف ابنه مسترسلا: مش عايز تروح للدكتور براحتك، بس هسألك سؤال النوبة جتلك كام مرة من بعد مرواحك لنور؟
لم يرد ابنه، يعلم عيسى أن الرد ليس في صالحه لذلك التزم الصمت، في حين تابع نصران: ولا أنت بتبقى مبسوط وأنت عمال تكسر وترزع وتضرب بكلامك أي حد قصادك، علشان تفوق بعد كده وتقول معلش مكنتش أقصد، لو عايز تبطل تروح لنور براحتك، بس مترجعش تزعل لما نعمل احنا كمان اللي على راحتنا، أسفين يا سي عيسى إننا لوينا دراعك زي ما بتقول.
أنهى نصران حديثه بجملته الساخرة.
وغادر المكتب صافعا الباب خلفه، وقف عيسى مكانه عدة دقائق ثم تحرك مغادرا هو الآخر، منزل والدتها هو وجهته، وصل إلى هناك بسرعة وحين دق الباب سمع مريم من الداخل تقول:
حاضر جاية.
وما إن فتحت الباب ورأته بحالته هذه حتى ابتسمت بتوتر قائلة: ازيك يا عيسى.
الله يسلمك يا مريم، ملك هنا؟
سؤال يعلم جوابه جيدا، وبالفعل أكدت مريم هذا بقولها: اه جت من شوية.
سمعت ملك صوته من غرفتها، حثتها والدتها على ألا تخرج حتى لا يتأزم الوضع وستحدثه هي، ولكنها لم تستجب، مسحت عبراتها بعنف وخرجت لتواجهه قائلة بوجه جامد:
نعم.
أنتِ قولتيلي إنك جاية هنا؟
حاول ألا ينفعل وهو يسألها ولكن أتى ردها هي منذرا بتلف أعصابها: أنت ادتني فرصة أقولك؟، قولتلي روحي وادتني ضهرك مش فارقة بقى اروح فين.
تنهد بضجر، وهو يمسح على وجهه ثم قال أثناء جهاده ليلتزم الهدوء: ادخلي البسي ويلا علشان هنمشي.
هزت رأسها نافية وهي تقول بإصرار: لا.
طالع هو والدتها الصامتة لتقول أي شيء ولكن ما قالته لم يعجبه: سيبها يومين تريح أعصابها يا عيسى.
تناول مرفقها وهو يحثها على الذهاب لغرفتها واستبدال ملابسها لترحل معه وأردف:
يلا يا ملك خلصي.
مش همشي يا عيسى، أنا هقعد هنا شوية.
لم يتحمل أكثر من ذلك فلقد أثارت رغبته في الشجار فهتف: شوية اللي هما يبقوا قد إيه؟
طالعته بعينيها وقد كان كل منهما يحمل فيهما من العتاب ما يكاد يفتك بالآخر، ثم قالت وهي تنفض ذراعه عنها:
يبقوا قد ما يبقوا.
قالتها وتركته متجهة إلى غرفتها، وكما فعل هو حين أعطاها ظهره قبل ساعات أغلقت هي الباب في وجهه بلا تردد.
توتر الأجواء هذا جعل مريم تقول محاولة تلطيف الأوضاع: معلش، لما تهدوا أنتم الاتنين ابقوا اتكلموا.
جاهد لكي لا يتفوه بشيء يندم عليه، هز رأسه موافقا على قرارها وقال بهدوء مبطن بالخذلان لم يناسب إطلاقا عاصفته اللحظة التي أتى بها:
براحتها.
قالها ورحل تاركا المنزل بأكمله في حين كانت تقف هي في الداخل تستمع لما يقول، ثم هرولت ناحية الشرفة تنظر من فتحاتها الضيقة والدموع في مقلتيها، تتابعه وهو يرحل وحيدا شاردا وكأن خيبات العالم بأسره تجمعت على عاتقيه الآن.
شيء أربك كل شيء، اعتراف عز بحبه لرفيدة، جعلها تفر، وكأنه ناقوس خطر أربك قلبها وسلبه، لم تشعر بنفسها إلا وهي تهرول من أمامه، لم تلحق بشهد لتقوم بتهدئتها كما طلب منها طاهر بعد شجارها مع فريدة التي أتت لزيارته، بل هرولت تحتمي بغرفتها تغرق في التفكير، قطع تفكيرها دخول حسن، لم يدق الباب كعادته مما جعلها تهتف بضجر:
مش تخبط.
كانت ملامحه باهتة، بدا على وجهه مشاعر مختلطة، تمدد على الأريكة المتواجدة بغرفتها، وحل الصمت مما جعلها تسأل:
في إيه يا حسن؟
مسح على خصلاته ثم مط شفتيه قائلا بصدق: معرفش
أثار دهشتها وزاد من حيرتها حين استرسل: هو لو حد أنتِ بتحبيه بس عملتي غلطة كبيرة في حقه، كبيرة أوي، وهو قرر ميسامحش، و شايفاه خلاص هيضيع من إيدك هتعملي إيه؟
هعتذرله.
قالتها ببساطة جعلته يهتف بغيظ: جبتي التايهة يعني، نفرض اعتذرنا ومقبلش.
طالعته بحيرة ثم اقترحت حل جديد عله ينفع: هحاول أصلح الغلط اللي أنا عملته.
رد عليها قائلا بحزن: الطرف التاني مش قابل أي حاجة منك.
ابتسمت وهي تخبره: يبقى معناه إن أذايا ليه كان كبير، فلازم أبعد وأسيبه يتعافى مني.
حتى لو هيضيع منك، ومش هيبقى في احتمال إن يكون ليكم أي فرص تانية؟
هزت رأسها بإيجاب ترد على سؤاله بقولها: اعتقد ده اللي لازم يحصل.
تنهد وفضل الصمت، وكلمات والده تتردد في أذنه، كان الخطأ خطأه، فواجب تحمل تبعاته حتى ولو كانت النهاية خسارة، ولكنه لا يطيق الخسارة أبدا.
وبسبب هذا هتف فجأة وقد دب الحماس فيه من جديد: رفيدة هطلب منك خدمة.
تصنعت النوم فهزها هاتفا بغيظ: قومي يا اختي، هتشتغليني كنتي لسه عاملة فيها فيلسوفة دلوقتي.
تصدق أنا غلطانة إني بديك عصارة خبرتي الحياتية، و لعلمك بقى أنا أي حاجة هتطلبوها مني تتطلب إني أقوم من على السرير مش تعملها.
ضحك وهو يهز رأسه نافيا وتبع ذلك بقوله الغامض: لا أنتِ هتكلمي مريم، هتقوليلها إيه رأيك نخرج سوا، أنا زهقانة ومش لاقية حد أخرج معاه، وهتروحيلها على البيت وبعد ما تمشوا شوية هتعملي نفسك نسيتي أي حاجة وهتصري عليها تيجي معاكي على هنا تجيبيها، وتقومي مدخلهالي المرسم واخلعي أنتِ بقى وأنا هجيب اللي يكمل.
جحظت عيناها وطالعت شقيقها بغير تصديق لما يطلبه منها، انتظر ردها على أحر من الجمر ولكنها تأهبت لتصيح عاليا منادية والدها تخبره بمخططات ابنه:
يا بابا.
فكمم فمها سريعا وهو يقول بنزق: طب أنا هخليكي silent خالص بقى لا بابا ولا ماما.
قوله هذا جعلها تطالعه بعنف بينما هو بإصرار وكأنه يخبرها بأنها ستنفذ طلبه و بإرادتها تماما.
كان طاهر نائما وقد أتاه النوم بصعوبة تسبب فيه حالة الإعياء التي أصابته، قرر أن يذهب إلى شهد بعد أن يستيقظ، ولكن قطع نومه صوت هاتفه، فتح عيناه بصعوبة وهو يتأوه من جرح ذراعه، وجد أنهم عدة رسائل، وما زال يأتي المزيد، انكمش حاجبيه باستغراب، وحاول التدقيق في الهاتف و ما إن قرأ الحديث حتى علم أن المرسل فريدة.
كتبت له: طاهر أنا أسفه جدا لو مجيتي دي عملت مشاكل، أنا فعلا كنت عايزة اعتذر عن أي حاجة، ولو كنت أعرف إن وجودي هيسبب ده مكنتش جيت، بعتذر مرة تانية وأتمنى تسامحني على أي حاجة قبل كده، وألف سلامة عليك.
الله يسلمك.
أتى رده جافا، كتبه لها لينهي أي حوار قد يدور بينهما، وتأفف هاتفا بضجر:
مش وقتك خالص أنتِ كمان.
حاول الاتصال من جديد بشهد ولكن منذ رحيلها من هنا بتلك الثورة العارمة وهي لا تجيب مما جعله يعلق بانزعاج:
مش هنخلص بقى من شغل العيال ده.
وجدها نشطة على إحدى تطبيقات التواصل الاجتماعي التي فتحها انستجرام، حدثت حالتها بصورة جديدة، ما إن لمحها حتى اشتعل غضبا وأرسل لها:
ايه الصورة اللي زي الزفت اللي أنتِ حطاها دي؟
فأتى ردها مختصرا: عجباني.
فأرسل تسجيل صوتي بدا فيه ضيقه: شهد أنا تعبان ومش فايق للمناهدة دي، الصورة دي أنتِ حطاها علشان تغيظيني، شيلي الصورة وردي على التليفون.
ردت ببرود: لا.
أرسل رسالة صوتية من جديد، وبدا فيها صوته منهكا لدرجة دفعتها للقلق:
شيلي يا شهد الصورة علشان خاطري.
استجابت له هذه المرة وأزالتها لتضع آخرى لم يعلق هو عليها هذه المرة، ولكن أرسل:
ردي على الموبايل بقى.
في نفس التوقيت كان عيسى في المطبخ وقد عاد بعد رفضها القدوم، داهمه دوار لا يوصف، فحاوط جبهته بكفه بألم وتوقف دقيقتين، دلفت سهام وجدته يقف هكذا، فأسرعت ناحيته هاتفة بلهفة:
مالك أنت كويس؟
مفيش حاجة.
قالها وهو يحاول استعادة اتزانه، أخرج زجاجة مياه من البراد أمام نظراتها القلقة، وقبل أن يخرج مدت كفها له بشيء ما قائلة:
لو عندك صداع ده مسكن كويس ممكن تاخده، وهعملك حاجة تشربها، واطلع نا…
بتر عبارتها قائلا: مش عايز.
ارتفع كفها يلمس جبهته، شعرت بأنه تشوبها السخونة فأردفت بقلق: أنت شكلك داخل على سخونية كمان، ده كده دور برد.
أنا…
وقبل أن تسترسل هتف بتهكم: أنا عيسى لتكوني ناسية.
هزت رأسها تقول بحزن: أنا عارفة إنك عيسى.
يبقى لازم تعرفي إن دور الأم الحنينة ده كان دورك مع فريد، مش معايا أنا، ملكيش دعوة بيا وخليكي في حالك.
قال جملته الأخيرة وتركها ورحل تنظر في أثره بعينين دامعتين، خرج ولا يعلم إلى أين ظل يتجول في أنحاء القرية بدارجته البخارية حتى بعد منتصف الليل، ووجد نفسه في النهاية يقف أمام منزل هادية.
ركن دراجته واستند عليها، بينما كانت هي في الحين نفسه مستيقظة، لم يصادقها النوم بعد ما حدث، سمعت صوت دراجة بخارية في الأسفل ولكنه كان مستحيل بالنسبة لها أن يكون هو، نظرت من الفتحات الضيقة في شرفتها واتسعت عيناها حين وجدته، إنه هو يقف في الأسفل مستندا على دراجته ويطالع الشرفة وكأنه كاشفا لها، وكأنه يعلم أنها تطلع إليه خلسة.
ظلت تتابعه في انتظار أي فعل، ولكنه لم يفعل شيء، سوى أن ركن دراجته جوار الحائط، وجلس عليها، هل سيظل جالسا هكذا، سؤال دار في ذهنها جعلها تجذب حجابها وتتوجه نحو الأسفل، ضغطت على مقبس الضوء المتواجد في المدخل الذي حل الظلام به بسبب التوقيت، وفتحت البوابة المطلة على الشارع ووقفت جوارها، توقيت انعدم فيه المارة إلا هما
تصنع أنه يعبث بهاتفه غير مهتما بها، فسألت بانزعاج: في إيه يا عيسى؟
إيه؟
قالها وقد تصنع أنه لا يهتم، فردت بغيظ: قاعد كده بقالك شوية، قولت أنزل اسألك خير في إيه؟
رفع وجهه عن الهاتف يقول: هو أنا قاعد على دماغك؟، أنتِ مالك ما اقعد في الحتة اللي تعجبني.
دافعت بضجر: الحتة دي تبقى تحت بيتنا.
وصحح هو لها بابتسامة: الحتة دي تبقى الشارع وأنا حر اقعد فيه.
كورت كفها بغيظ، ردوده هذه ربما تقتلها ذات مرة، تنهدت بتعب وهي تكرر السؤال هذه المرة بنبرة رقيقة حملت في طياتها العتاب:.
هتفضل قاعد كده للصبح يعني؟
لو هتروحي معايا، هقوم دلوقتي.
أتى رده مباغتا، وحاوطتها نظراته فهزت هي رأسها نافية تصارحه: مش هروح معاك، وأنت هتقوم تمشي وتروح تنام.
لم ترد أن تكشفها عبراتها ولكنها خانتها حين ظهرت في مقلتيها وجعلتها تهتف:
أنا تعبانة يا عيسى سيبني لو سمحت وبلاش نتكلم ولا نتحاسب على أي حاجة دلوقتي.
كانت نبرتها مؤثرة، توحي بحزنها العميق الذي لم يقل حزنه عنه أبدا، تراجع الشال الذي وضعته بفوضاوية على رأسها للخلف، فأتت لتعدله هي وتعدل خصلاتها من أسفله ولكن وجدت يتناول جديلتها التي لم تفلح في صنعها أبدا سائلا:
حد يعمل في شعره كده، ده منظر يرضي ربنا؟
طالعته بذهول عن أي شيء يتحدث، من المفترض أن يكون حديثه جاد الآن حول وضعهما، أزمتهما ولكن كان له رأي آخر، تحدثت ملك بهدوء:.
لما ماما تصحى هتعملهالي، أنا هنام فعملتها أي كلام.
دفعها نحو الداخل قائلا: اطلعي هاتي المشط.
وأتت لتعترض على أفعاله هذه فدفعها من جديد هاتفا: يلا أنتِ لسه هترغي، جربي تسكتي دقيقة كده وشوفي نتيجة السكوت ده.
خضعت لتجربته أمام اصراره بالفعل صعدت إلى الأعلى وأحضرت المشط، دلف هو إلى المدخل وأغلق البوابة، وأزالت هي حجابها، وحين أتت لتفك عقدة خصلاتها، أبعد يدها برفق، فك عقدتهم وهو يذم فيما فعلته بقوله:.
أنتِ متحطيش مشط في دماغك تاني علشان تعملي الضفيرة دي.
تأففت بغيظ ووكزها هو معلقا: بتنفخي كمان، ده الإنسان ده جبار.
منعت ابتسامة بصعوبة من الظهور، واستكمل هو فك التشابك الذي صنعته، انتهى من ذلك وبدأ في تمشيط خصلاتها برفق، وقف على جانبها الأيمن بعد أن جمع شعرها في هذه الناحية، وشرع في صنع الجديلة لها قائلا بابتسامة وهو يمدح في نفسه:
فنان.
أتت لتتحدث فحذرها بإشارة من يده: اسكتي، احنا متفقين هتفضلي ساكتة ونشوف النتيجة.
صمتت مجبرة، وما إن انتهى حتى طالع صنعه بعينين لامعتين بالإعجاب، وقال لها:
بصي الفرق كده.
نظرت للجديلة واستكمل هو أثناء مسحه على خصلاتها: لو كففت عن الثرثرة لمدة دقيقة واحدة.
كانت نظراته آسرة، غرقت فيها وكأنها سحبتها لعالم آخر وأسكرتها فلم تعد تعي ما يقال، وكانت حالته هكذا غارق في تفاصيلها ولكنه أكمل بنبرة ظنت معها أن ما سيقال بالتأكيد مدح في حسنها الذي لا يكف عن إغراقها به، بالتأكيد سيخبرها أنها لو كفت عن الثرثرة ستكون الأجمل وإن تحدثت ستظل كذلك أيضا، ابتلع ريقه وقال وهو ساهما فيها:
لو كففت عن الثرثرة لمدة دقيقة واحدة، لن يفقد العالم أي شيء…
جحظت عيناها وظنت أن المدح بالجملة الآتية ولكنه أكمل وهو يمسح على وجنتها هذه المرة:
به من السفهاء ما يكفي، ولن يكترث إن قلوا واحد.
وكأن دلو ماء بارد سُكب فوق رأسها، وضع هو المشط في كفها بابتسامة وهو يصرفها هامسا:
روحي.
وتبخر بعدها من أمامها تماما، خرج بهدوء بعد أن أتم مهمته، رفع ظنونها إلى السماء السابعة ثم وعلى حين غرة فعلها ملك المفاجأة وأسقط هذه الظنون على الأرضية بابتسامة توحي أن صاحبها الأكثر براءة على الأرض.
لو كانت تعلم أن حظها عثر إلى هذه الدرجة، لما غادرت دارها أبدا، تخطى التوقيت بعد منتصف الليل ولكنها حسمت أمرها في الخروج، استطاعت بمعجزة دون أن يراها أحد، تعلم الآن وجهتها جيدا، ما من أحد في الطريق الآن، الجميع نائم، تركوا البلدة لا يرافقها سوى الأشجار والسماء التي احتضنت نجومها والقمر، وحتى لو تواجد أحد لن يعرفها، ترغب في الوصول الآن لوجهتها للبحث علها تجد شيء ولكن سمعت صوت من الخلف جمدها:.
أهلا أهلا رزان هانم، ليكي وحشة.
دب الرعب في أوصالها، إنه عيسى، غدرت هي أولا حين ساعدت جابر في نصب الفخ لحسن، ذلك الفخ الذي لم ينقذه منه إلا طاهر، فماذا تتوقع الآن ممن لا يسامح، استدارت له بأنفاس متسارعة ولكن استجمعت قوتها سائلة:
في إيه يا عيسى.
أشار عيسى على الحجاب على رأسها قائلا: لا الحمد لله ربنا يهدي، بس هو جوزك عارف إنك برا على الطريق الساعة 2 قرب الفجر…
مط شفتيه وهو يقول ببراءة: مفتكرش إنه عارف، أنا بقول اتصل أديه خبر.
تملك التوتر منها وأسرعت تبعد يده عن الهاتف، فهاجمها بغضبه وهو يسأل:
أنتِ قبل ما تحاولي تغدري باخويا، سألتي نفسك أنا ممكن أعمل إيه، ده تاريخك المهبب كله معايا، أقل حاجة هجيب باسم اللي لسه شايل لحد دلوقتي منك، ونعرف جوزك بالقصة والمشاعر الفياضة اللي كانت بينكم، ويعرفه انك في الاخر ختمتيه على قفاه وسرقتيه علشان برضو جابر ياخد حذره.
لا تريد خسارة كل شيء الآن، تحدثت بدفاع: عيسى أنا مكانش قصدي غدر، بس هي القافية حكمت، ده كان أول طلب يطلبه جابر مني
ما هو أنا برضو القافية حكمت عندي أردلك الطاق طاقين.
قالها بهدوء جعلها تهتف بأعصاب تالفة: عيسى سيبني في حالي بقى.
ونعت حظها البائس مكملة: حتى اللي اتجوزته وقولت أبوه رجله والقبر وهيورثه، وعيشتي هتبقى أحسن مية مره شكلي كده هنطلع أنا وهو من ورا أبوه قفانا يأمر عيش.
كلمات مبهمة ولكنها موحية، جعلت عيسى يطل عليها بالنظرات التي برع في جعلها تنطق وكأنها تهتم لوضعها:
عيش إيه؟، أنتِ هتشتغليني، هو جابر ومنصور اللي عندهم شوية.
منصور عنده، جابر لا.
قالتها فرد عليها بقوله: ما في الاخر كله لجابر.
ولا هيروح يورث حد غير ابنه ويهف عليه الشوق يوزع فلوسه في الشارع؟
همست بخيبة متحسرة وكأنها بلا وعي: ده لو طلع ابنه أصلا.
كان مدركا من نبرة الحسرة التي تتحدث بها من البداية أنها تخفي شيء، كيف تتحسر وقد نالت زيجة كهذه، ظن أن هناك إشكال ما وتيقن حين سمع همستها هذه فاحتدت نظراته ونطق:
قولتي إيه؟
أدركت أنها ستقع في فخ والسبب فيه لسانها كالعادة، ذلك الذي لا تحفظه على الإطلاق، تسارعت أنفاسها أمام نظرات عيسى الثاقبة، وقالت مسرعة بتوتر:
مقولتش حاجة، وسيبني بقى الله يكرمك علشان ألحق أروح.
هرولت من أمامه ولم تعد تأبه بشيء إلا أن تعود للمنزل بسرعة قبل الفجر حيث ميعاد استيقاظ منصور، أما هو فكرر جملتها التي ظنت أنه لم يسمعها قائلا لنفسه:
ده لو طلع ابنه أصلا!
أكمل بتركيز حديثه الذي لم يسمعه إلا هو: ما هو لو البت دي مبتخرفش، والكلام ده صح يبقى في احتمالين، إن منصور وجابر واحد فيهم بيمثل على التاني وفي الحالة دي يبقى جم في ملعبي، أو الاتنين بيمثلوا على البلد كلها و في الحالة دي، ابتسم وهو يختم:
فأنا بشجع المواهب.
حقائق وأسرار بإمكانها أن تجلب نيران تطول الجميع، نيران ظنوا أنهم أغلقوا صفحتها، ولكنه سيتفنن من هذه اللحظة في أن يفتحها من جديد، أن يوقظ كل ما ظنوا أنه لن يستيقظ ثانية ونسوه.
ولكنه لم ينس ما يخصه أبدا.
التعليقات