التخطي إلى المحتوى

رواية بشرية أسرت قلبي الجزء الثاني للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

(ذات القناع الخفي! ).

إن أخبره أحداً بأن من يكن له هذا العداء المخيف هي مجرد انثى لما صدق ذلك، ولكنه من اكتشف هذا الأمر بنفسه، تأهبت بالهجومٍ عليه فراقبت تحركاته باهتمامٍ، بدى وكأنه مشتت الذهن، استغلت ألماندين لحظات شروده التي منحتها صورة خاطئة عن غفلته لما تود القيام به، جذبت الخنجر الموضوع بفستانها الأزرق الذي كشف عنه الوشاح بوضوحٍ، ومن ثم أسرعت لتغرس خنجرها بصدره؛ ولكنها تفاجئت به يضع الصولجان من أمامه فصنع حائل غريب منعها من أن تمسك به، فتخفى بسرعة الرياح ليغدو أمامها مباشرة، بعنفوانٍ شديد حركت سيفها باليد الأخرى تجاهه، فقيد يدها بتحكمٍ، ثم ردد وعينيه تكتشف لون عينيها الساحر: ما الذي فعلته لأنال عداء حورية شرسة مثلك أنتِ!

وبأصابعه لامس خصلات شعرها الرمادي الطويل وهو يسترسل حديثه الهائم بها: بالطبع أحمق.
دفعته بعيداً عنها، ثم اتخذت وضعية الهجوم من جديد، ليتحرك فكيها ناطقاً بمقتٍ شديد: كنت تنجو بحياتك في كل مرة، ولكن ليس اليوم.
ابتسم ديكسون وهو يتفادى ضرباتها بحرافيةٍ: ربما حالفني الحظ لألتقي بكِ.

تغزله الصريح بها جعلها تهتاج غضباً، استجمعت قواها ليشع ضوء أحمر اللون من عينيها، اخترقت كتفيه فأسقطته أرضاً، أشرق وجهها بابتسامةٍ نصر ظناً من أنها ستتمكن منه، وقف على قدميه من جديد وهو يفرك كتفيه، صعقت حينما وجدته يقف مقابلها بصلابةٍ، وكأن طاقتها المدمرة لم تمسسه بالسوءٍ، سُلطت نظراتها على الصولجان الملقي أرضاً فجذبته وهي تحاول استخدام قواه ضده، وجدت أن ما تحمله بين يدها مجرد عصا فتعجبت كثيراً لذلك، اقترب منها ديكسون بثباتٍ انفعالي، ليلتقط منها الصولجان ثم رفعه أمام وجهه وهو يخبرها بسخريةٍ: وهل توقعتي غير ذلك؟

أعادت خصلات شعرها المتمردة للخلف، وهي تتطلع له بهدوءٍ، القضاء عليه لم يكن أمراً هين، عليها التقرب منه لتعلم نقاط ضعفه، توقعت أن تكون المعركة فيما بينهما دامية ولكنه كأي رجل يفقد صوابه أمام الحوريات، هكذا ظنت لذا أرادت استغلال تلك النقطة للتقرب منه علها تستكشف نقاط ضعفه فتتمكن من القضاء عليه، أفاقت ألماندين من شرودها الغامض حينما دنا منها ليصبح أمامها مباشرة، فقال بصرامةٍ بدت بلهجته: ستخبريني الآن ما الذي يدفعك لقتلي وإثارة التمرد بين شعبي!

حدجته بتلك النظرة القاتمة قبل أن تخبره بكرهٍ: وسأفعل أكثر من ذلك إن تركتني أخرج من هنا على قيد الحياة.

زادته تلك الحورية حيرة، فأخر ما خمنه أن من يكن له هذا العداء هي مجرد إمرأة، تعلقت أعين ديكسون بها، يتأملها باستغرابٍ فكيف لتلك الحورية الحسناء أن تمتلك مثل تلك القوة، على غفلة منه كاد بأن يلامسه خنجرها الصغير، فكتف ديكسون ساعديها باحكامٍ ومن ثم تأججت عينيه بلونها الارجواني المخيف ليسحب قوتها تدريجياً، تحركت باندفاعٍ لتتحرر منه حتى قوتها فشلت باستخدمها، ذُهلت لما يمتلكه من قوةٍ عظيمة تفوقها أضعافاً، وإن كان ظاهراً بابتسامته المتعجرفة التي ختمها بقول: إنتابني الفضول لمعرفة ما خلفك حوريتي الشرسة.

فحرر يدها وانحنى ليجذب صولجانه، ثم جذب ثيابه العلوية ليتجه للخروج من الكهف، ومن ثم استدار إليها: سأمنحك فرصة للقضاء على ولي عرش السراج الأحمر، وعليكِ استغلالها جيداً يا فتاة.
ثم أشار لها قبل أن يتخفى من أمامها: أراكِ غداً.
جزت على أسنانها بغيظٍ، فلطمت بيدها الحائط الحجري من خلفها وهي تردد بعصبيةٍ بالغة: سأقتلك أيها الوغد!
بالمملكة.

احترق قلبها خوفاً عليها، بات غيابها نقمة تستحوذ عليها حتى تبدد طاقة الصبر بداخلها، ظنونها بأن السوء قد يكون طالها جعلها ترتجف رعباً من مجرد تخيل سماع هذا الخبر القابض، كادت روكسانا أن تتعثر أكثر من مرةٍ من فرط توترها، فجلست على الحجر الأسود الذي يتوسط باحة القصر العتيق، تتابع بعينيها المكان علها تعود فيطمئن قلبها، أسرع التابع إليها بلهفةٍ لإخبارها ما يحمله من بشارة ستبدل حالتها المذرية، فانحنى للأمام قليلاً وهو يحيها بوقارٍ: يتغمد الرحاب مولاتي الملكة روكسانا.

ثم استكمل قائلاً: الأميرة إيرلا عادت للمملكة سالمة مولاتي.
نفثت عما يخنق رئتيها باطمئنانٍ، ثم تساءلت بلهفةٍ واضحة: أين هي؟
أتاها رداً قاسياً من خلفها: من يستمع اليكِ، يظنك تحبنني حقاً!
التفت روكسانا تجاه ابنتها، منحتها نظرة حزينة علها تتسلل لأعماقها فتشعر بالظلم الذي تسدده لها، فقالت: كيف لأم أن لا تحب ابنتها؟
اقتربت منها ايرلا لتخبرها بسخريةٍ: ستحبها بالتأكيد ولكن ليس كحب ابنها البشري.

انسدل الدمع من أعينها وهي تستمع لما يقال بصدمةٍ، فرددت بصوتٍ متقطع من أثر بكائها: لا أفرق بينكما أبداً. لا أدري ما الذي دفعك لقول ذلك!
ابتسمت إيرلا ببرودٍ: تعمدتي أن أكون بعيدة عن العرش حتى تكون الفرصة عظيمة لأميرك المدلل ليصبح الملك الأحق بعرش السراج الأحمر، وتخبريني الآن أنك لا تفرقين بيننا!

وكأن الرعد أصابها بالصم، أصبحت لا تستمع لأي شيئاً يحدث جوارها، تتأمل شفتيها الناطقة بعدة كلمات لا تستعبها من شدة صدماتها بما تكنه ابنتها من كراهية شديدة لها ولاخيها، كيف للعرش أن يبدد حب كافحت لزرعه بقلوبهما ليحب كلاً منهم الأخر، نعم لم ترى من ديكسون سوى الحب الكبير تجاه شقيقته ولكن ماذا لو استمع لما قالته لتو؟، هل سيستمر بمحبتها تلك أم سينقلب ما بينهما للعداء، لا تريد هذا الصراع المقبض الذي يقتل به الاخ أخيه لأجل العرش مثلما حاول أدلر فعلها من قبل لأجل العرش، غادرت إيرلا لجناجها غير عابئة بحالة روكسانا المخيفة، التف العالم بها فاعتصرها بقوةٍ، وكأنها عصفور صغير لا يمتلك أجنحة تعاونه على الفرار، استسلمت لما يجتاحها لتسقط أرضاً مغشي عليها باستسلامٍ لما يجتاحها من ألم يعصف بجسدها البشري الضعيف.

الشعور بها ليس أمراً إرادي، بل يصاحبه منذ أن كان برحمها، يشعر بها وبما قد يصيبها، لذا عاد ديكسون سريعاً للمملكة، ليجدها كما توقع هو، أسرع إليها فحملها بين ذراعيه الصلبة، ليتخفى سريعاً لجناحها، وضعها برفقٍ على الأزهار العتيقة التي تشكلت لتمنحهم شكل الفراش بنعومته واسترخائه، جلس لجوارها وهو يحرك رأسها برفقٍ: أمي افتحي عينيك، ما الذي أصابكِ!

خشى ديكسون استخدام قواه ليجعلها تسترد وعيها خشية من أن يؤذيها وخاصة بأنها مازالت تحتفظ بالجسد البشري الهزيل، لم يكن أمامه سوى اللجوء ل ضي، فأسرع بارسال التابع إليها، فما لبثت سوى دقائق معدودة حتى أتت تهرول، فتساءلت بأنفاسٍ لاهثة وهي توزع نظراتها بينه وبين روكسانا: ماذا حدث ديكسون؟
أجابها على مضضٍ: لا أعلم. شعرت بأنها ليست على ما يرام وحينما عدت للقصر وجدتها فاقدة الوعي!

حاولت ضي استكشاف ما بها، وحينما لم تجد سبباً طبي مقنع، قالت بتخمينٍ اكتسبته بعد سنوات معاشرتها: يواجه البشر حالة من التغيرات النفسية العجيبة حينما يشعرون بأحاسيسٍ مضطربة. أعتقد بأن هناك ما أزعجها.
صاح بهياجٍ: ومن يجرأ على فعل هذا!
بدأت روكسانا باسترداد وعيها تدريجياً، فرفعت أجفانها الثقيلة ببطءٍ، لتردد ببسمةٍ شاحبة: ديكسون
أمسك بيدها ليسألها بلهفةٍ: هل أنتِ بخير؟ ما الذي أصابك فجأة!

اختزل الحزن عينيها، فحاولت التهرب قدر ما استطاعت: أنا بخير بني. لا تقلق لن يحدث لي شيئاً وأنت هنا تشعر بي في كل وقت أحتاج به إليك.
لم يقتنع ديكسون بما قالت، بل شعر بأن هناك أمراً هام؛ ولكنه لم يرد أن يجبرها على الحديث وهي بتلك الحالة، شعرت ضي بما تحاول روكسانا إخفائه فتدخلت قائلة: كيف ستكونين على ما يرام وأنتِ تهملين صحتك روكسانا. أخبرتك كثيراً وأنتِ عنيدة لا تستمعين لأحداً.

منحتها نظرة ممتنة، لمعاونتها على الهروب من وابل أسئلته، فقالت: أجل، ولكني سأعدك بأن أكون حريصة أكثر من ذلك.
ردت عليها: سأحرص على ذلك بنفسي.
ثم أشارت لهم، قائلة: حسناً فلنهبط للاسفل سريعاً قبل أن يعنفنا أبي للتأخر عن الطعام.
ابتسمت روكسانا وهي تشير لها: هيا.

هبطوا للأسفل فوجدوا المائدة تضم أفراد العائلة، حتى راوند انضمت اليهما بعد محاولت بيرت المستميت ليتمكن من إخراجها مما هي به، وزعت روكسانا نظراتها بينهما ثم تساءلت باستغرابٍ: إيمون، أين إريكا؟
تعجب من سؤالها، فقد ظنها برفقتها منذ أخر مرة تركها فقال: لا اعلم. ظننتها هنا!
سُلطت النظرات على ديكسون الذي بدأ غضبه يتصاعد حينما تذكر ما حدث منذ الصباح، فقال بإيجازٍ: عادت لموطنها.

ضمت روكسانا حاجبيها بتعجبٍ: بتلك السرعة! ماذا حدث لتعود سريعاً تلك المرة!
أجابها بضيقٍ: لا أعلم. طلبت العودة فأعادتها لمنزلها مثلما أردت.

شعرت روكسانا بأن هناك أمراً غامض حدث بينهما لذا أجلت الحديث بالأمر حينما تصبح معه بمفردها، أما إيمون فاصبح على يقين تام بما حدث، فتألم قلبه لأجلها، يعلم أن الحب من طرف واحد يحطم الوجدان، بل ينتزع كل الذكريات الطيبة التي جمعها العاشق بمحبةٍ على أمل بأن الأخر يكن له نفس المشاعر، انقطعت الهمسات الجانبية فيا بينهما حينما هبط الملك شون بصحبة لوكاس، تقدمه بالسن أصبح ملحوظاً فأصبح لوكاس عكازه بعدما وصل لعمر الخلاص، حيث تهدر قوته ويفقد طاقته بأكملها ليصبح كَهْلُ، عاونه على الجلوس ومن ثم إحتل مقعده هو الأخر ليشير للجلوس ببدء تناول الطعام، شعر لوكاس بأن هناك أمراً غامض بين زوجته وابنته فالامر كان مريباً بعض الشيء، فتطلع لابنته ليسألها بحدةٍ: أين ذهبتي منذ الصباح إيرلا؟

ابتلعت طعامها بصعوبةٍ وهي تجيبه: كنت بحاجة للخروج فذهبت بعيداً عن المملكة.
صدح صوته عالياً بعصبيةٍ: هل تعلمين عاقبة من يخالف أمر الملك؟
شعرت بالخوف ينخر عظامها وخاصة وهي تراه غاضباً هكذا، فطأطأت رأسها للأسفل وهي تقول: ذهبت لرؤية صديقتي، سامحني مولاي الملك.
قال لوكاس بوجومٍ: أي صديقة؟
لزمت الصمت، ليجيبه ديكسون ساخراً: لم تجد سوى شقيقة سامول لترافقها!

ذُهلوا جميعاً وعلى رأسهم روكسانا التي صرخت بفزعٍ: أأجننتِ، الا تعلمين بالعداء الذي يجمعنا به. بالتأكيد تخدعك للانتقام مما حدث بالماضي.
نهضت إيرلا عن مقعدها لتصيح بضجرٍ: كفى، لا شأن لي بما حدث بالماضٍ ولا يعني لي.

وقف لوكاس هو الأخر فنهض الجميع إحتراماً له، ترك محله واقترب حتى أصبح قريباً من ابنته، لتخرج كلماته حازمة كالسوط: لا أحداً يجرأ على رفع صوته بحضور الملك إخترقتي أكثر من قانون وقاعدة إيرلا، لذا عليكي الإنصات لعقوبتك حيداً. من الآن لن تغادري خارج هذا القصر وإن كنتِ تمتلكين الشجاعة إفعليها ولنرى ماذا سأفعل حينها؟

صمتت بحرقةٍ حينما استمعت لعقوبته وبما صرح به، فغادرت بقهرٍ للأعلى قبل أن تنفطر باكية من أمامهما، بكت روكسانا بتأثراً على حال ابنتها التي ترفض الخضوع لسلطة أبيها وأخيها، لا تعلم لما ينتباها شعور مخيف عن القادم، رغم استيائه الشديد حينما علم من أركون بتخفيها لزيارة مملكة الشارق، بوحه للملك عن ذلك ليس الا خوفاً عليها فهو يعلم كم هي عنيدة، فمن المستحيل أن تستمع إليه، ولكن أمر الملك نافذ على الفور، فوقف ديكسون أمامه مقدراً حجم غضبه الشديد منها، ليختار كلماته بعنايةٍ: أعلم أن سامول لا يستخدم النساء بمعركته بل يقودها بشجاعةٍ حتى أخر رمق به؛ ولكن علينا الحرص مولاي الملك فهناك من يريد أن لا تنطفئ تلك النيران أبداً لذا من الممكن أن يأذيها حتى يزداد العداء بيننا.

زفر لوكاس بامتعاضٍ شديد وهو ينادي: إيمون، قم بمراقبة إيرلا جيداً.
إنحنى وهز يخبره بوقارٍ: كما تشاء.
منح لوكاس زوجته نظرة مطولة قرأ بها ما تود البوح به من حزنٍ وخوف على ابنتها الوحيدة التي بذلت قصارى جهدها لتبعدها عن تلك السياسية المدمرة وبالنهاية تفعل ما يحلو لها دون اللجوء لأحداً.

الساعات تمر ببطءٍ شديد منذ عودتها، مازالت تجلس بشرفتها أرضاً، وتتمسك بأعمدتها الحديدة، تتطلع لقطرات المطر التي تندفع بقسوةٍ من السماء لتلامس الأرض، وكأنها تبكي حزناً على حال تلك العاشقة البائسة، تدفقت الدموع على خديها الوردية وهي تهمس بأنفاسٍ شاحبة: ظننتك تحبني مثلما أحببتك!
وبكف يدها أزاحت إريكا دموعها الغائرة: ليتني لم أستمع لقلبي لما كنت سأتألم هكذا.

بكت بانكسارٍ كلما تذكرت رده الذي حطمها كلياً، ودت لو بقيت على أمل كاذب كونه يبادلها الحب بدلاً من أن يبتر توقها بأن يكون إليها.
بالخارج.
زفر كيفن بانزعاجٍ وهو يراها تجوب الردهة ذهاباً وإياباً: كفى لينا، لا أرى شيئاً يدعى للقلق!
توقفت بمحلها ثم اقتربت منه بوجومٍ شديد: ألا تشعر أن ما حدث غريباً، لم يحدث مرة أن عادت إريكا دون أن تقضي عطلتها كاملة. أخشى أن يكون حدث شيئاً لم تخبره لنا إريكا.

حاوطها كيفن ليقربها إليه: لا أعتقد ذلك، علها تود قضاء عطلتها برفقة أصدقائها.
شددت من احتضانه، هامسة برقةٍ: أتمنى ذلك.

حلق أيمون عالياً بطائره، حتى نقله لمكانه المفضل الذي يجمعه بأصدقائه، غام فوق سطح المحيط ليرفرف بعيداً عن إيمون الذي رفع جسده بالهواء بمهارةٍ ومن ثم جذب الحجر التوباز من يديه فأنفلق لجزئين كونا فتحة ضخمة بقاع المحيط بدت وكأنها بوابة سرية، سلكها إيمون حتى وصل للداخل ومن ثم سحب الحجر ليختفى الباب السري، قطع المسافة القصيرة مسرعاً وعينيه تفتش عنه حتى وجده يتمدد أرضاً تجاه الرمال الزرقاء المتحركة من أسفلهما وكأنها سرير متحرك، أفرغ إيمون ما كبت بداخله باندفاعٍ: ماذا فعلت معها ديكسون؟

لم يجيبه، بل ظل مغلق العينين باسترخاءٍ تام، فصاح الاخير بتعصبٍ: كنت أعلم بأنك ستجرحها حينما تعترف لك بحبها.
فتح ديكسون عينيه ثم استند بجذعيه ليجلس باستقامةٍ: وهل كنت تتوقع غير ذلك إيمون أنت تعلم جيداً أني أعاملها مثل إيرلا. كيف سأمنحها حبي إذن؟
هتف به وهو يتمالك ذاته: ألم يكن بمقدورك أن تكون لطيفاً قليلاً، سمحت لها بالعودة قبل أن تودع أحداً.

راقب ديكسون انفعالات إيمون بتعجبٍ، فنقل إليه صورة مصغرة عما يحدث ما رفيقه، اقترب منه ثم وضع يديه على كتفه وهو يتساءل باهتمامٍ: أأحببتها إيمون؟
تلك الربكة التي سيطرت عليه أكدت للأخر صحة شكوكه، فردد ديكسون بذهولٍ: بحقك يا رجل!
أجابه بحزنٍ بالغ: تراني الصديق المقرب المؤتمن على أسرار حبها العتيق، فكيف لي بالبوح بما يخبئه قلبي لها؟
شعر بألمه، فأسبل جفنيه بأسى: ستتفهم ذلك يا صاح!

كاد بأن يجيبهم؛ ولكن قاطعهم وصول الصديق الثالث لهما، ارتمى أركون على الرمال مردداً بإنهاكٍ شديد: اليوم كان شاق للغاية.
ثم استطرد باستغرابٍ: أتيت مبكراً إيمون على غير عادتك!
تمدد لجواره بهدوءٍ، فانضم لهما ديكسون، حال الصمت بينهما إلى أن قطعه ديكسون بسؤاله الغامض: هل تؤمن بالحب من النظرة الأولى أركون؟

بمجرد ذكره للحب أتت زمرد على ذكراه، فحاول جاهداً إخفاء بسمته وهو يجيبه: لا أعلم، ولكني أؤمن بأن كل شيء يبدأ بنظرة. ومن ثم يصل الأمر لحجم أكبر حينما يخفق قلبك بجنون ولربما لقاء ثانٍ يتطور الأمر لحب ملموس!

غامت أعين إيمون وهو يتابع سطح الكهف البلوري، يتأمل بشرودٍ أسماك الميغالودون التي تمر بحريةٍ من فوقهما دون أن تراهما أو تلاحظ بوجودهما، كلمات أركون لم تنال أعجابه فنظرته تجاه هذا المرض المؤلم مختلفة، لذا قال بتريثٍ: نظريتك تجاه الحب بسيطة أركون. ليت الأمر يبدأ بالنظرات بل بالاعتياد!

ثم تنهد وهو يكمل: نظرة واحدة لا تكفي، الاعتياد على رؤيتها، رؤية ابتسمتها التي تخترق قلبك، سماع صوتها المحبب إليك، اعترافها الدائم أنك أمانها دون وعي منها.

هام ديكسون بمفهومٍ كلاً منهما عن الحب، رُسمت أمامه صورة تذكارية لها، عينيها الفيروزية التي تكن له عداء لا يعلم بدايته، خصلات شعرها الرمادية التي تمكن من لمسها بأصابعه، شجاعتها بمجابهته جعلته ضعيف لأول مرة، يعجز عن قتلها بعد أن تعاهد أكثر من مرة بأنه سيقتل بنفسه من زرع تلك الفتنة بين شعبه، وكأن أركون قرأ ما يدور بعقله، فقال: لا تقلق ديكسون أبذل قصارى جهدي لمعرفة من خلف هذا التمرد.

تدخل إيمون قائلاً: أشعر وكأن الملك سامول هو خلف ما يحدث، وربما الصداقة الغريبة بين إيرلا واحدة من مكائده.
قطع أركون شكوكه: لا أعتقد ذلك سامول ليس بتلك الدناءة. حينما يهاجم عدو يحاربه بساحة المعركة.
استدار ديكسون تجاههم، ليخبرهم بهدوءٍ: أتعجب ما الذي فعلته لأكتسب هذه العداوة التي لا تنتهي!

رد إيمون عليه: الجميع يطمعون بالسلطة والمكانة التي يتمتعون بها بعهد الملك الأكبر فتصبح مكانته بخطر إن تولى ابنه العرش عله يبدل عصبة حكامه.
ابتسم في سخطٍ: الملك لا علاقة تربطه بأحداً سوى العداء، ليتني كنت شخص عادي أحظى بحياة طبيعية كغيري.
ثم نهض ليترك المحيط بأكمله، مغادراً للمملكة مجدداً.

ربما تستطيع أن تخدع من حولها بصلابتها المصطنعة؛ ولكن وحدتها تضعفها كثيراً، تشتاق إليها حتى وإن كانت تقسو عليها، تشتاق لعناقٍ طويل تشعر به بأمانٍ فقدته منذ سنوات البلوغ، تجعدت معالم وجه إيرلا حزناً كلما تذكرت كيف كانت علاقتها القوية بروكسانا، كانت تحبها كثيراً وتجعلها ركناً هام بمذكرات حياتها، لينتهي هذا الركن بذكرى هذا اليوم الصادم
##.

كعادتها حينما تخرج كل صباح للتنزه برفقة تارا تذهب لجناح والدتها سريعاً لتخبرها عن مغامراتها التي لا تنتهي، كادت إيرلا بأن تدلف للداخل؛ ولكنها توقفت حينما استمعت بأذنيها روكسانا وهي تخبر لوكاس: ديكسون هو الأجدر بالحكم، لا أريد إيرلا أن تتدخل بمثل تلك الأمور، إجعلها بعيدة عن السلطة والعرش لوكاس.

تراجعت خطوتان للخلف وهي تحاول أن تستوعب ما استمعت اليه لتو، كيف تطلب من أبيها أن يجعلها بعيدة عن العرش والسلطة وهي الأحق كونها تشبهه كثيراً، حتى الشعب مازال لا يتقبل ديكسون كملك جدير بعرش السراج الأحمر كونه يشبه البشر كثيراً، فكانت هي الخيار الأمثل، ليست لأنها تشبههم ولكن لأن عصبية ديكسون وتهوره المعتاد جعله منبوذاً من الجميع لذا كانت هي الخيار الأمثل، عادت لجناحها منكسة الرأس تعيسة، فكأن الكلمات كالعدو القاسي تتردد بداخلها دون توقف، كبتت بداخلها ما استمعت إليه بتلك الليلة وليتها ما فعلت علها إن تحدثت معها كانت لتعلم المخبئ خلف تلك الكلمات المقتضبة.

بمملكة الشارق.
امتلأت القاعة المخصصة للإجتماعات الطارقة بكبار مسؤول المملكة، ليكون على مقدمتها سامول، انطلقت الهمسات الجانبية فيما بينهما، فثقب أمادي (قائد حرس سامول ) عينيه بنظرةٍ تشي بالكثير من القلق وهو ينطق: زيارة ديكسون لهذا المكان المحظور، وقتله للرجل جعل الشعب يتمرد غضباً، علينا أن نستغل تلك النقطة لصالحنا فإن هاجمنا المملكة سيتقبل شعبها سامول العظيم ملكاً وسيعارض حكم ديكسون.

أجابه واحداً منهما قائلاً بتأييد: أرى أنه الوقت المناسب لمهاجمة المملكة.
قُطع الحديث فيما بينهما حينما نهض سامول بهيبته المخيفة، ليمر بين الصفوف المستديرة بين بركة من المياه بلونها الأبيض الساحر، ليردد بحزمٍ: أرى أن البعض تناسوا مكانتهم هنا.
كاد بأن يتحدث أحداهما ليبرر فعلته، فبترت الكلمات على لسانه حينما ضرب سامول الأرض بقدميه، فقال: تلك المعركة تخصني وحدي، لا يهمني العرش بل الانتقام هو هدفي.

وأستكمل بصوته الأجش: انصرفوا.
غادروا جميعاً بعد سماع أوامره الصريحة بالإنصراف، فبقى بالقاعة بمفرده يتأمل مقعد العرش بشرودٍ قاتل.
بجناح روكسانا.

زيارتها المعدودة لكوكبها بصحبة ابنها ديكسون منحتها الفرصة لشراء ما رغبت به من أقمشة نسجتها مع بتلات الزهور الرائعة، فصنعت أكتر من فستان ساحر، جعلها مميزة للغاية لتليق بمنصب كمنصبها، إختارت فستان أحمر اللون مصنوع من الأعلى بالستان الأحمر لينتهي بدنتيل مزين ببتلات الزهور الحمراء المتناثرة على أطرافها الطويلة، ثم أختارت لشعرها تاجاً أحمر اللون زادها جمالاً فوق جمالها، اقتربت لتقف على حافة الصخور الصلدة المتدلية من جناحها، تترقب لحظة صعوده للجناح بشوقٍ يجعل جسدها يرتجف بخفةٍ، داعبت الابتسامة شفتيها حينما شعرت بوجوده جوارها، فهمست بصوتها العذب: كنت أعلم بأنك ستستمع لقلبي الملتاع إليك.

إقترب ليحتضنها من الخلف، فدفن رأسه بين خصلات شعرها الطويل، يشم عبيره المميز ليردد جوار أذنها: ليتك تشعرين بما يحدث إليّ حينما أقترب منك.
وبأنفاسٍ حارقة لفحت بشرتها فأججت رغباتها بنجاحٍ: أشتاق لكِ في كل دقيقة تكونين بها بعيدة عني، أشعر بالغيرة من الهواء الذي يصل لرئتيك وأنا بعيداً عنك.

أغلقت عينيها بقوةٍ تأثراً بقربه الشديد منها، استدارت لتكون مقابل عينيه لتختطف ما بقي بداخله، طوفها بنظراته التي تعمقت بها، فرفع أصابع يدها ليطبع قبلات متفرقة على أطرافها: أجمل ملكة رأتها عيني، ملكتي البشرية.
أطبقت بأصابعها على يديه المحتضنة لها، وهي تردد ببسمةٍ مشرقة: أتعلم لوكاس.
أخبريني يا ملكتي.
كثيراً ما كنت أتساءل ماذا لو كنت صعدت على متن المركبة مع كيفن و لينا ذاك اليوم؟ كيف كنت سأعيش بدونك؟

ضمها لصدره بحنانٍ وهو يخبرها بمشاعرٍ صادقة: كانت أسوء لحظات إختبرتها روكسانا، كنت بين إختيارين كلاهما أصعب من الأخر، خشيت أن يكون حبي سبيل المعاناة لكِ بعالم غير عالمك، خشيت أن يحاوطك الملل بموطن لا تعرفين فيه أحداً غيري.
وهل هذا لا يكفي؟ أنت موطني لوكاس.

قالتها وعينيها تتعمق بالتطلع لعينيه الساحرة، فحملها بين ذراعيه ليطوف بها عالياً، لتتخفى معه بمكانهما المفضل المنعزل عن الأعين، يقتبس هو من رحيق عشقها اللامنتهي ويريها كيف يمتلك عالمه الخاص، المباح لبشريته فقط.
بمملكة الميغالودون.

تمكن أمادي من التنكر جيداً ليصبح بمظهر مقارب لأهل ميغالودون، كان يخطو بينهما بحذرٍ شديد حتى وصل لداخل قصر الملك، سمح له الحرس بأن يمر وكأنه ضيف معتاد زيارته لتلك المملكة الشيطانية، أنحنى أحد الحرس الذي يتدلى من فكيه أنياب حادة كأنياب وحش بلوخستان ومن ثم زحزح ذاك المعدن القاسي بالإضافة إلى السليكا، تقدم أمادي للداخل لينحني سريعاً قبل أن تطول عينيه من يجلس أمامه: فليحيا ملك ميغالودون. بيلين العظيم.

أشار الأخير بيديه قائلاً: ما الأمر الهام الذي جازفت لأجله بقدومك إلى هنا؟

استقام بوقفته ومن ثم رفع عينيه تجاه عرشه، ازدرد ريقه الجاف بصعوبةٍ وهو يراه متحولاً من أمامه فكان يشبه الموروبوس (يعد أغرب وحوش البرية غرابة في العصر الجليدي، ولم يستطع العلماء تفسير تكوينه بذلك الشكل الذي كان عليه، حيث انه يتبع أحد فصائل الخيل، والتأبير، والخراتيت، فقد كان يشبه تكوين رأسه نفس تكوين رأس الحصان، وظهره كان مقوس والأرداف منحدرة، والأرجل والأقدام تشبه مثيلاتها في الخرتيت)، تحول بيلين لشكلٍ مناسب لحداً ما، فكان جلده أسود كجلباب الليل المعتم، وعينيه يكسوها اللون النحاسي الباهت، شكله مخيف؛ ولكنه ليس كما كان من قبل، زلزل جسده خوفاً حينما صرخ به الأخير غاضباً: هل أتيت لتتأملني!

بلل شفتيه بلعابه وهو يحاول استجماع كلماته المتنفرة: مولاي الملك جئت لأخبرك بأني أبذل جهدي لإضرام النيران بين سامول و لوكاس وابنه. ولكنه يرفض خوض الحرب الآن.
ضرب بحافة يديه الممتلئة بالأظافر الحادة البلور المتكور من جواره: إفعل ما بوسعك لشن الحرب بينهما، لن يتمكن جيشي بالصمود أمام قوة لوكاس وابنه المعتوه الذي يمده بالقوة، أريد أن أستغل الحرب التي ستحدث بينهما لأحتل مملكة السراج الأحمر.

أجنى رأسه رعباً من أن يكون رأسه تمن هذا الغضب المخيف: لا عليك سيدي سأفعل ما أمرتني به.
ثم تراجع للخلف ومازال رأسه منحني حتى خرج من القاعة بأكملها، فهرول للخارج بخطواتٍ سريعة وكأنه ينجو من هلاك موته، ولكنه يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة ومهام أصعب وليس هناك مخرج لنجاته، عليه أن يؤدها على أكمل وجه والا سيكون الثمن رقبته!

البقاء بمفردك هو أمراً قاسي، ولكن ماذا لو لم يكن بالإختيار! العزلة أبشع ما بستحوذ على قلب المرء كالقبر المظلم الذي يبتلع جثمانه، وكيف له الا يشعر بذلك ومحبوبته قد غادرت تلك الحياة، أغلق الملك شون المجلدات من أمامه وهو يخطو أخر سطر به ليقص رحلته الطويلة بصحبة محبوبته بُوران، مازال يتذكر لمسة يدها الباردة على جلد يده، مازال يتذكر كلماتها الأخيرة قبل أن تغلق عينيها للأبد، احتضن المجلد وهو يتمنى بداخله أن يلحق بها سريعاً، فنيران الشوق تكاد تحرقه لتحوله لفتاتٍ، يعلم بأنه أصبح كَهْلُ على مشارف الموت وبعد خطوات من اللقاء بها، يود ذلك وبشدةٍ عله يتمكن من مسك يدها مجدداً!

شعر بحركةٍ من خلفه، عاونته للخروج من ذكرياته المؤلمة، فابتسم وهو يشير على المقعد المقابل له دون أن يستدير للخلف: اجلس ديكسون.
تشكلت بسمة صغيرة على جنبي شفتيه، فكلما حاول إخافته يشعر به، فجلس مقابله وهو يسأله بذهولٍ: أمازلت مستيقظ بعد!
غامت عينيه بجناحه المعتم، وكأنها سحبت الضوء برحيلها منذ سنوات، ليجيبه بفتورٍ: ليت العقل يغفل عن ذكراها فيتمكن النوم من الاستحوذ على جسد زهد الحياة.

رد عليه ديكسون بمشاكسةٍ: أراك تتوق للموت بدلاً من أن تضع خطة لقضاء ليالي وردية بصحبة أحدى الحوريات!
ضحك الملك حتى برزت أسنانه بوضوحٍ، فقال بصعوبةٍ بالحديث: القلب لا يهوى الا إمرأة واحدة ديكسون.
ثم إستكمل بجديةٍ تامة: منحتني الحياة فرصة لخوض قصة حب خالدة، حتى وإن كانت قاسية بنهاية الأمر ولكن يكفيني ذكرياتها لعيش ما تبقى بحياتي.

وتنهد بوجعٍ وهو يضيف: لا أستطيع أن أرى سواها، أشعر وكأنها المرأة الوحيدة بالكوكب بأكمله.
كان يستمع إليه بحرصٍ شديد، لا يعلم ما الذي أصابه منذ رؤياها، أصبح مولع للإستماع لقصص الحب، بعدما كان يعشق سماع كل ما هو متعلق بالصراعات والحروب، انتبه لصوته جيداً وهو يخبره بنظرةٍ شك: هل تمكنت أحداهن من غزو قلب حفيدي المشاكس؟
تغيرت معالمه، فحاول قدر الإمكان أن يكون بملامحٍ ثابتة: لا أعتقد ذلك.

قال وهو يضغط على كتفيه برفقٍ: سيحدث ذات يوم بني.
ثم أشار له بحزمٍ مصطنع: تأخر الوقت كثيراً، هيا إذهب للنوم.
نهض ليردد قبل أن ينصرف: حسناً، نوماً هنيئاً مولاي الملك.
أجابه بابتسامةٍ عذباء: نوماً هنيئاً ديكسون.
تخفى سريعاً ليظهر بجناحه، فتمدد على الفراش ومازالت كلمات الملك شون تدور بخلده حتى الصباح!

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *