التخطي إلى المحتوى

رواية في حي السيدة للكاتبة هاجر خالد الفصل العشرون

سوادٌ تام أحاط بحياتها، مرّ خمس أيام على خطف رائف لعائلتها الصغيرة، وفجأة انقطعت أخبار سليم عنهم، نقل من السجن إلى مكان لا يعرفه أحد، حتى صديقه الذي كان المسؤول عن القضية نقل إلى مكان آخر، لم تستغرب عائشة كل هذا، بل هي كانت تعرف بأن رائف سيتفنن بتعذيبها، جالسة على السرير الخاص بها، تبكي دون صوت، وملامحها الخاوية تجعلك تشعر بالألم عليها، عائشة…

دقات خفيفة على الباب أخرجتها من شرودها، كانت أميرة زوجة فرغلي الذي كان قبل أيام الوحش الذي تخاف منه، أثبت بكل جدارة أن شهامة الرجال لم تختفي، تولى مسؤليتها كاملة وزوجته انتقلت بالفعل لشقتها لمواساتها، كانوا مثالًا على الأسرة الطيبة الساكنة في الأحياء الشعبية، ادخلي، قالت عائشة بصوت ضعيف، ففتحت أميرة الباب تنظر لها بابتسامة باهته، معلش قلقتك يا ست البنات، سي فرغلي برّة وكان عايزك، قالت أميرة وهي تتهرب بنظاراتها من أمام عائشة، فعلمت أن فرغلي غاضب كعادته، لم يكتفي رائف بخطف أختها ووالدتها وتعذيبهم، بل كان يتصل بها ويجعلها تسمع بكائهم وصراخهم، نهضت عائشة بتثاقل وخرجت بخطوات بطيئة ناحية صالة المنزل، تجر روحها وراءها، مبعتش حاجة؟

قالتها ببرود مشابه لخواء روحها، فنظر فرغلي لها ولاحظت أعينه السوداء تنبض بغضب مستعر، يلا نروح للشرطة.
قال فرغلي بغضب أهوج وهو يقبض على الهاتف بين قبضته، نظرت له عائشة بهدوء، رائف مبيهددش وخلاص، رائف بينفذ وأنا مش هقدر أكسر كلمته تاني.
قالت هي فنهض الآخر صارخًا بغضب، السلبية إللي إنتِ فيها دي مهتنفعش، مستنية إيه بالظبط قولي، مستنيه إيه!

انهارت عائشة أرضًا ببكاء وقد انكمشت على نفسها بخوف، وحين لاحظت أميرة حالتها اشتعلت عيناها بسخط أهوج ثم تسللت خارج المنزل عازمة على تنفيذ ما خططت له، جثى فرغلي أرضًا على بعد مسافة منها كي لا تفزع، بصي يا عائشة، إللي زي رائف ده مجنون، ومش لازم نسايسه في الجنون بتاعه لازم نرد عليه، علشان مش يتمادى أكتر.

قال فرغلي بهمس وهو ينظر لها بألم، فرفعت عائشة أنظارها وهي تردد ببكاء، حاولت كتير أهرب منه، وكالعادة هو إللي بيفوز، رائف ملوش كبير، وحتى لما حسيت إن ممكن حد يحميني منه، اتخلى عني وسابني أواجه لوحدي، مش هدّي نفسي أمل زائف المرادي، رائف محدش يقدر عليه، وإللي يفكر يواجهه هيتأذي، أنا عارفة إنك فاكر إني زعلانة من سفيان، بس بالعكس أنا فرحانة إنه هيبعد عن العك ده كله، كفايه الأذى إللي حصله وحصل لأهله بسببي، حين أنهت عائشة جملته لكم فرغلي الأريكة بغضب قائلًا، مش بقولك إنتِ إنسانة سلبية، إللي حصل لسفيان ده مش بسببك وبطلي تحطي اللوم على نفسك، والكلام الغبي إللي سفيان قاله كان طالع في لحظة غضب وهيندم على كل كلمه قالها، ده صاحبي وأنا عارفه، تعالى صوت شهقاتها أكثر وصرخت به، أنا مش سلبية، بس أنا زهقت، زهقت أشوف وجعهم كل مرّة بسببي، دي مش سلبية بس أنا مش قد رائف، وكل مرّة هو بيثبتلي إني مش هقدر عليه وعمري ما هخلص منه، أنا لوحدي قصاده، وهفضل طول عمري أواجهه لوحدي، حين انتهت جملة عائشة الهستيرية تعالى صوت المؤذن قائلًا « اللّه أكبر، اللّه أكبر ».

تصنمت عائشة في مكانها ورفعت رأسها نحو السماء بألم، اللّه أكبر اللّه أكبر، ظلّت ترددها ببكاء وقد أقشعر جسدها من حلاوة الكلمة، اللّه أكبر من بطش رائف، اللّه أكبر من كل متجبرٍ زائف، اللّه معكِ يا عائشة، لم يفارقكِ أبدًا في كل مرّة، حتى لو زاد الألم، حتى لو زاد البطش، الصبر سيكون مفتاح الفرج، ومهما طالت مدة الابتلاء فاليسر آتٍ لا محالة، مرّت عدة دقائق، تبكي عائشة بتثاقل، وفرغلي جالس على الأريكة عاجز القوى ولا يعلم ماذا يفعل لها، تعرفي…

قال فرغلي فجأة فرفعت أنظارها ناحيته ليبدأ بالحديث، أنا مولود يتيم من صغري، أبويا مات في حادثة عربية قبل الولادة وأمي ماتت وهي بتولدني، وكان بينهم وبين عيلة أبويا مشاكل، فلما أتولدت خدوني ورموني في الشارع، مهانش عليهم يودوني ميتم أو يدوني لحد يربيني، حنت عليا جارتهم وخدتني مع ولادها، بس جوزها كان قلبه قاسي عليا، عارفة أنا ليه حافظ الكلام ده كله، علشان لما كنت بغلط كان يجي يضربني وهو بيسمعني الكلام ده، كبرت وبقا عندي 11 سنة، ولسه بيضربني ويذلني على اللقمة إللي باكلها، كان بيعامل ولاده حلو أووي قدامي كإنه قاصد يذلني ويوريني إني يتيم مليش سند، لحد ما في مرّة كنت باكل معاهم عادي وبدون أي مقدمات لقيته طالع من الأوضة وماسك الحزام بتاعه وبيضرب فيا، محدش قدر ينجدني من إيده، ومعرفش بيضربني ليه، لغاية ما سمعت الست إللي ربتني بتحضن ابنها وتقوله متقولش لأبوك إنك سرقتهم وأنا مهقولش وكده كده هو افتكر فرغلي أخدهم.

حسيت نفسي مكسور أووي وهربت، هربت من البيت والمحافظة والشارع هو إللي رباني بعد كده، وفيوم ربك الكريم بعت عمك أمجد في شغل في المنطقة إللي أنا كنت فيها، كنت بلطجي أوي وسب وشتم وقرف قابلني وأنا كنت. كنت بحاول أسرق منه، بس هو مضربنيش. ولا حتى كلمني، قالي بس كده لو شوفتك تاني هبلغ عنك، وكنت سارق منه مبلغ كبير يعني، ومعرفش ليه روحت ليه تاني يوم ورجعتله فلوسه، كان عندي وقتها 17 سنة، شافني مرّة تانية بشرب سجاير فبصلي وهو مضايق وسابني ومشي روحت طافي السيجارة ومكملتهاش، ويشاء ربنا يا ستي إنه ياخدني معاه أشتغل، آه وربنا، عمك أمجد هيشغل فرغلي الحرامي معاه، معرفش هو وثق فيا ازاي، ولا ليه، بس أنا أهو شغال معاه لحد دلوقتي، وفاتح قهوة كبيرة في المنطقة، وجوزني وجهز البيت معايا، بصي ربك عمل ايه، بعد ده كله أنا أهو، عايش، عادي خالص، مش هقولك إني نسيت إللي حصلي بس هقدر أقولك إنه مبقاش يأثر فيا، مش عارف ليه بحكيلك، بس حسيت إنك محتاجة تعرفي إن الحال الوحش مبيدومش، بس يا ستي دي قصة فرغلي…

كانت عائشة تنظر له بحزن، حاله وحالها وفجاة أحست به سيدمع تقريبًا فحاولت تلطيف الجو قائلة، ليه سموك فرغلي…
نظر لها فرغلي بابتسامة واسعة مرددًا وهو يحك مؤخرة رقبته، ده اسم أبويا، أنا اسمي أكرم
توسعت أعينها بصدمة طفيفة ثم قهقهت بخفة وهي تنظر له، عملت زي عبد العال، أمه كانت اسمها رشا وابوه اسمه هَاني
قلدت عائشة المسرحية الشهيرة وهي تخبره بهذا فابتسم لها فرغلي ثم نهض قائلًا.

متفكريش في أي حاجة دلوقتي وارمي حملك على اللّه، أنا هتصرف متقلقيش، ومترديش عليه لو رن، مفيش داعي توجعي قلبك…
رحل فرغلي فمحيت الابتسامة من على وجهها ثم نهضت بتثاقل لتصلي، داعية المولى أن يحفظ لها عائلتها…

في منزل الحاج أمجد، كان سفيان يستعد للذهاب إلى والده، لم يفق بعد من غيبوبته، وحالته كانت خطيرة للغاية فتم وضعه في العناية المركزة، ومنع الزيارة، ولكن لأن سفيان طبيب كان يدخل لرؤيته كل يوم تقريبًا، سفيان…
نادته هايدي وهي تدخل غرفته بهدوء فالتفت لها ثم ابتسم ابتسامة طفيفة، عيونه…
قال هو لتنظر له هايدي بخوف قائلة، عائشة…
توسعت أعينه بقلق لم يستطع السيطرة عليها، مالها، فيها حاجة، انطقي بسرعه.

ابتسمت هايدي بحزن على حالته القلقة.
مادام بتحبها أوي كده سيبتها ليه واتخليت عنها، وإنتَ عارف إن هيا ملهاش حد هنا تقريبًا، نظر سفيان لها بسكون ولم يكلف نفسه عَناء الرد، كلهم يعتقدون بأنه تركها وتخلى عنها، ولكنه يتظاهر فقط…

سفيان غضب من عائشة، وطردها شر طردة لكي تصل هذه المعلومات لرائف، فيعتقد بأنه تركها وتخلى عنها، ولكن سفيان أبدًا لا يستطيع فعلها، هو أراد أن يحمي عائلته من بطش رائف، وسيلعب بخبث ومن تحت الطاولة كما يلعب الآخر، هو الآن يبحث عن عائلتها، ويبحث عن أخوها مروان، واختفاء سليم المفاجئ جعل منه في حالة غضب مستنكر، رائف ضربهم بقسوة هذه المرة، ولكن سفيان يقسم بأنها ستكون الأخيرة، هو سيريه كيف يفعل هذا بوالده، وكيف يبكي فتاته…

عائشة، حبيبة روحه منذ الصغر، أجنّوا جميعًا ليعتقدوا بأنه سيتركها، أهناك شخصٌ يتخلى عن حياته؟!
يعلم بأن فرغلي يساعدها، وفرغلي يعلم أيضًا أن سفيان لم يتخلى عنها، ولكنه فقط يبعدها لكي تكون في أمان نوعًا ما من غضب رائف الأهوج، سفيان، متظلمش عائشة أرجوك، كلنا عارفين إنها ملهاش ذنب، أنا كنت في الأول برمي اللوم عليها بس هيا ذنبها إيه.

قالت هايدي برجاء ولكن سفيان لم يلتفت لها فنظرت له بحزن والتفتت للخروج، تحرك سفيان بعد خروجها وذهب ناحية السرير وجلس عليه ببطء شديد، يعلم بأن عائشة حزينة الآن، ولكنه يريد حمايتها من رائف، رائف سيؤذيها حين يرى سفيان بجانبها، وهو الآن يريد أن يجد عائلتها ثم بعد هذا سيلعب بطريقة ظاهرة، وسينتقم منه، هو يقسم
دقات عالية على باب المنزل جعلتهم في حالة قلق، فخرج سفيان من الغرفة ليفتح الباب ببطيء، ست أميرة؟!

قال سفيان بتعجب فنظرت له بغضب وقبل أن يتحدث معها صرخت في وجهه قائلة، ايه يا أخي ده، البت يا عين أمها بقالها يومين قافلة على نفسها ولا بتاكل، واختها مخطوفة هيا وأمها، وإنتَ مفيش دم خالص، معندكش ريحة الدم يا سفيان، أومال فين سفيان إللي كان الناس بيتحاموا فيه لما بيحصلهم حاجة، سفيان إللي مبيسكتش عالظلم والناس بتعمله ألف حساب، رد راح فيين إنطق، يا خسارة عليك يا سفيان، بجد يا ألف خسارة عليك.

نظر لها سفيان بهدوء مصطنع، ولم يعقب على كلامها، وهايدي واقفة وراءه تبكي بحزن على حال عائشة، تحرك سفيان ببطيء شديد وبرود مصطنع ناحية الغرفة مجددًا، وترك أميرة واقفة تنظر له بسخط وقلة حيلة، صارخة بأنه سيندم أشد الندم على فعلته، أما سفيان فأغلق الباب بقوة شديدة كادت تكسره ثم أمسك الهاتف ليتصل بأدهم يسأله عمّا توصل له، ألو، السلام عليكم، عملت إيه يا أدهم، طمنّي؟

قال سفيان بقلق وهو يحاور أخاه، سفيان، في حاجة حصلت…
قال أدهم بتوتر شديد وهناك غمامة حزن تزين صوته، إيه إللي حصل؟
قال سفيان بنفس النبرة القلقة، فأجابه بما جعل منه في حالة صدمة، رهف أخت عائشة، ناس لقيتها مرميّة قدام المستشفى وعلشان أنا كنت رافع قضية بإنها مفقودة فهما اتصلوا عليا وقالوا إن حالتها مش مطمنة خالص.
قال أدهم لتتسع أعين سفيان بصدمة وكل ما يفكر به الآن كيف سيخبر عائشة؟

كانت عائشة جالسة على سجادة الصلاة تصلي كعادتها كلما تشعر باليأس، رنين هاتفها أخرجها من شرودها وأمسكته ببرود، هي تعلم من المتصل على كل حال…
عيوشة، جاهزة للمفاجأة الجديدة يا حبيبتي؟ أتمنى تكوني جاهزة، وأنا متأكد هتعجبك أووي، افتحي الصور إللي هبعتها يا بيبي.

قال رائف بخبث وهو يضحك بسخرية اشمئزت منها عائشة، وحين استمعت لصوت إغلاق المُكالمة، فتحت الصور التي أرسلها لها وحين لمحتها سكنت جميع الأصوات حولها، رهف، أختها الصغيرة، وصديقتها الوحيدة، الدماء تحيط بها من كل مكان وعلامات زرقاء تزين جسدها الأبيض، لقد تفنن رائف بضربها، ويا اللّه على منظرها، قدمها دامية بصورة جعلت من عائشة متأكدة بأنها لن تستطيع السير عليهم مجددًا بسهولة، فبدأت بالصراخ وحين أرسل لها عنوان المستشفى التي كانت بها أختها، أخبرها بأن مفاجآته لم تنتهي بعد، ظلّت تدور حول نفسها بفزع، تبحث عن ملابس الخروج وحين لم تجدها خرجت باسدال الصلاة خاصتها وهي تبكي، فتحت باب المنزل وحين همت بالخروج اصطدم رأسها بصدر سفيان، كان ينظر لها بأعين حمراء وهنا لم تستطع السيطرة على شهقاتها، تبكي كأنها تشتكي حالها، تبكي بقوة على حال أختها، سفيان وفرغلي يقفون أم منزلها، كأنهم ينتظرونها ليتحركوا ناحية المستشفى، فزع سفيان فجأة من حال عائشة الغريب، بعد إنتهائها من البكاء وقفت فجأة بصمود غريب وقد توقفت عن البكاء، وهناك برود غريب يحيط بها، سفيان علم ما بها، الفتاة تفقد نفسها ببطء، عائشة على مشارف الإكتئاب، أو هي فعلًا تمر بحالة اكتئاب، تحركوا بسيارة سفيان ناحية المشفى، فرغلي يقود السيارة بسرعة وعائشة متكومة على نفسها بالخلف تنظر لخارج السيارة بهدوء، وسفيان يقبض على يده بغضب شديد، رائف اللعين لقد فاز في هذه المباراة، ولكن سفيان لا زال حي، سيريه فقط يطمئن عليهم جميعًا وسيريه كيف يكون اللعب حلوًا، أختي، رهف جات هنا، قالت عائشة بتلعثم لموظة الاستقبال فنظرت لها الأخرى باستغراب ليمليها سفيان اسمها كاملًا ومواصفات حالتها، وحين أعطته رقم الغرفة تحركوا بسرعة نسبيًا للذهاب لها، رهف…

قالت عائشة بفرح طفيف حين رأت أختها مستيقظة وليست نائمة، اقتربت منها ببطىء وهي تدمع بفرح كأنها كانت تعتقد بأنها لن تراها حيّة، وبالفعل الصور رائف أخذها لحالتها كانت قبل يومين، وتم إيجاد رهف قبل 10 ساعات فلهذا تم الاعتناء بها وحين استيقظت كانت في حالة برود شديدة، لمست عائشة رهف ببطيء وهي تبكي بشهقات عالية، تريد الاطمئنان فقط أنها بخير شديد، نادتها عائشة مجددًا لكنها لم تلتفت لها، فبكت عائشة أكثر وتوسلتها ببكاء شديد أن تجيبها، أطلعي برّة…

قالت رهف ببرود شديد ولم تكلف نفسها عناء النظر لها، نعم؟، رهف أنا عارفة إنك ممكن تكوني زعلانة مني، بس باللّه عليكِ مش تبعديني عنك، عشان خاطري أنا مليش غيركوا، قالت عائشة بهستيرية وبكاء يشق الحجر حزنًا عليها، سفيان ينظر لهم بعجز وهو يكتم غضبه بصعوبة بالغة وفرغلي فقط ينظر أمامه بحزن، قومي إطلعي برّة ومتورنيش وشك تاني، علشان أنا مش طايقة أبص في وشك، قالت رهف فتعالت شهقات عائشة بحزن يقبض روحها، ثم أمسكت بيدها تقبلها بحنان، كأنها تخبرها بأنها تعذرها، لم يهدأ غضب رهف ولم تنطفئ ثورتها، فدفعت أختها على حين غرّة لتسقط أرضًا وحين أراد سفيان التدخل منعه فرغلي، صرخت رهف بها بغضب، اطلعي برة، امشي من حياتنا بقا، كل مرّة بتعارضيه فيها بيأذينا احنا، هتعملي إيه أكتر من كده، ردي بقا، إنتِ عايزة مننا إيه حرام عليك، يا ريتك ما كنتي أختي، يا ريتك ما تولدتي يا عائشة، قالت رهف بغضب وهي تبكي، فلاحظت عائشة حالتها وكأنها لا تستطيع التحكم بنصفها السفلي، فنهضت من الأرض ولم تبالي بثورة أختها الثائرة ثم اقتربت منها ببطىء وهي تدعوا اللّه أن لا يحصل ما تفكر به.

رفعت البطانية بقوة وجذبتها من أيدي أختها التي تصرخ بها بفزع، نظرت عائشة لها بصدمة وسفيان توسعت عينيه بقوة وقد كتم شهقته المصدومة أما فرغلي فخرج مسرعًا ولم يتحمل رؤية منظرها، رهف بترت قدمها؟

شيء عائشة لم تتحمله فجلست تبكي بصراخ وهي تضرب الأرض بقبضتها حتى أدمتها، رهف أيضًا لم تتحمل الشفقة الموجودة بأعينهم فظلت تبكي أما سفيان فأمسك ساعده بيده الأخرى وكأنه يحاول السيطرة على غضبه، رهف كانت قدميها الإثنين سليمتين، ولكن لقد بترت كف قدم واحدة من الأسفل، ظلت عائشة تعتذر منها وهي تقبل يديها بتوسل، ترجتها ألا تبعدها عنها، ظلت تبكي بصراخ آلم قلوبهم، عائشة تتوسل لرهف ولكن رهف تشعر بالشفقة ناحية نفسها، لا تريد منها البقاء لأنها لا تحب أن يشعر أحد بالشفقة عليها، سيبيني لوحدي باللّه عليكِ، إبعدي عني دلوقتِ لو سمحت عايزة أفضل مع نفسي شوية، قالت رهف ببكاء، فقبلتها عائشة على يديها بقوة، أرجوكِ يا رهف، واللّه مش هعمل صوت، واللّه العظيم هقعد ساكتة، قالت عائشة وهي تكمم فمها بيديها كأنها تخبرها بأنها لن تزعجها ببكائها، نظرت رهف للناحية الأخرى ولم تضعف أبدًا، بل ظلّت مصرّة على رأيها لتنهض عائشة من الأرض ببكاء وتخرج من الغرفة ببطء تجر قدميها، يتبعها سفيان بعدما نظر لرهف باعتذار، تسير ببكاء وهي تشهق وتمسح وجهها، يناظرها الناس بحزن ولكنها لم تأبه لهم، لقد خسرت المعركة مجددًا أمام رائف، وستخسر مجددًا، كان هذا اعتقاد عائشة، لقد فقدت الأمل، لقد فقدت نفسها تمامًا هذه المرّة…

أرجوكِ أوقفي السيارة ماريا أريد إحضار الورود لأمي، هي تحب الورود الحمراء، بالتأكيد ستفرح بها، قال مروان بحماس شديد وأعينه تلمع بالدموع، وماريا تنظر له بفرح وتقهقه على حماسه الطفولي، لقد جاء اليوم الذي سيجتمع به مع عائلته، أمه، عائشة، وحوريته الصغيرة، لقد تحققت أحلامه أخيرًا، وقد أقترب كثيرًا منهم، ماريا تعلم العنوان بالتفصيل، وهم الآن في الحارة التي يعيشون بها، بعد مرور عدّة دقائق هبط مروان من السيارة متألقًا كشاب يذهب للتقدم لحبيبته، ممسكًا بباقة ورد حمراء كما أراد وتجاوره ماريا وهي تبتسم على حديثه، كان يقص عليها ذكريات طفولته، وشبابه التي تجمعه بعائلته، كان فرحًا، وأعين الناس تناظره بفضول، وقعت أعينه على تجمع للناس والذين كانوا يناظرون الأرض بشفقة، وبعضهم يبكي والآخر يصرخ في الهاتف وهو يحدث الإسعاف، لم يهتم بهذا، ولن يسمح لنفسه بالإنشغال بأي شيء سيعطله عن رؤيتهم، اقترب من المنزل عدّة خطوات وقبل أن يرن الجرس استمع لصرخة مبحوحة أطلقتها فتاة منادية باسم أمها، فالتفتت ماريا بفضول شديد ومدت بصرها لداخل التجمع الذي فض فجأة وحين رأتها توسعت عيناها بخوف حين لمحت هويتها، نظر مروان لها باستغراب ثم تحرك ناحية التجمع والصوت بقلبٍ منقبض وأعينه تدمع على حين غفلة منه، وحين اقترب بالقدر الكافي وتوسط الجمع كلهم، سقط أرضًا بصدمة، لقد كانت أخته عائشة تبكي وهي تحتضن جثة والدته…

جثة والدته؟
لقد ماتت والدته ولم يستطع رؤيتها، لقد رأى إنهيار أحلامه أمام عينيه، لقد فقد والدته، وفقد الأمل بلم الشمل مجددًا، لقد ربح رائف الجولة، واستطاع تدميرهم جميعًا كما أراد،.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *