رواية بشرية أسرت قلبي الجزء الثاني للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس
(دمعات المطر! ).
يقال أن الآلآم حينما تحاوطك تلامس قلوب المحبين قبل أن تمسك بالسوء، هكذا ما حدث بإيمون الماسد جسده بكوكب ومن أحبها بكوكبٍ أخر، حارب النوم طوال ليله حتى سطع نهار اليوم الثاني، والحزن يتغلب عليه كلما يتخيل كم أصابها الخذلان بألمٍ لا يعرف معناه سوى من تجرع منه عدة كُئُوس مريرة، تمنى لو تمكن من رؤياها ليخفف عنها وجع قلبها، ليتها تعلم بأن هناك عاشقاً يكن لها من العشق ما يكفي لصنع عازل يحميها من هفوة طائشة تكاد أن تمس بها.
بجناح ديكسون.
ولجت روكسانا للداخل تبحث عنه، فإنتظرت بالخارج بترقبٍ حتى أنتهى من الإغتسال، فتفاجئ بها بإنتظاره، فردد بدهشةٍ لوجوده بجناحه بهذا الوقت المبكر: أمي!
ابتسمت في حبورٍ: صباح الخير أميري الوسيم.
ابتسم على تحيتها المميزة، فأنحنى برسمية وهو يجيبها: صباح محفوف بالخيرات يليق بسمو الملكة، مولاتي روكسانا.
تعالت ضحكاتها وهي ترى الوشاح الذي يحاوط خصره يكاد بالسقوط، فاستدارت قائلة بمزحٍ: حسناً، إنهض وإرتدي ملابسك أولاً ثم قدم التحية.
فهم ما ترميه عليه، فاستقام بوقفته ليحكم تمسكه بالوشاح، مردداً بحرجٍ: فهمت ذلك، إمنحيني دقيقة واحدة.
ثم تخفى ليظهر من أمامها سريعاً بعدما إرتدى ملابسه المبطنه بمعدن يتشكل بهيئة دروع للحماية، فوقف من أمامها مجدداً ليخبرها باستغرابٍ: كل شيئاً على ما يرام؟
عبثت بخصلات شعرها الطويل بارتباكٍ، ثم قالت بتردد لاحظه ديكسون جيداً: أجل. أتيت لأطلب منك شيئاً خاص ديكسون.
أمسك بيدها ثم قدم المقعد لها، فاستجابت له وجلست بهدوءٍ، ليجلس مقابلها قائلاً بقلقٍ: هيا أخبريني أمي ماذا هناك؟
مررت يدها على وجهه بحنانٍ: أريدك أن تقترب من إيرلا، لا أعلم ما الذي أصابها. أشعر وكأنها تخفي شيئاً علها تخبرك به.
وهل أنا بعيد لهذا الحد؟
أجابته سريعاً: لم أقصد ذلك بني، ولكن علك انشغلت قليلاً بالفترة الماضية.
ثم تطلعت له بحزنٍ وهي توضح له الشك الذي يعتليها: أشعر وكأنها تعيش وحيدة منعزلة عنا، فكلما حاولت التقرب منها لا تسمح لي بذلك. ربما تسمح لك ديكسون.
أمسك يدها ثم قبلها بوقارٍ: حسناً سأفعل.
ابتسمت وهي تخبره بإمتنانٍ: كنت أتوقع ذلك.
وأزاحت تلك الدمعة العالقة بأهدابها سريعاً، ثم نهضت قائلة بابتسامةٍ مشرقة: لا تتأخر على الإفطار.
ثم تركته وهبطت للأسفل، ليستكمل إرتداء ملابسه ومازال يفكر حائراً بكلماتها الغامضة عن شقيقته؛ ولكنه عهد أن يتقرب منها ليعلم ماذا هناك؟
باحدى ممالك الحوريات.
سئمت من سماع جملتها المتكررة، فقالت بضيقٍ: مازلتي تكررين حديثك دون أي جدوى ألماندين، أخبريني ماذا حدث؟ وكيف سمح لكِ بالمغادرة؟
قالت برعونةٍ وهي تلوي شفتيها: أخبرتك أكثر من مرة بأنه من سمح لي بالرحيل.
جلست الملكة رودوليت على مقعدها شاردة الذهن بردة فعل ديكسون الغريبة، فقالت بعد فترة وجيزة من الصمت: كيف سمح لكِ بالذهاب بعد أن كشف ما فعلناه طوال الفترة الماضية؟
ثم استرسلت بخوفٍ: أخشى أن يضمر الشر لنا.
توقفت ألماندين عن هز مقعدها المصنوع من سلاسل التوباز المميزة، ثم نقلت نظرات عينيها الفيروزية تجاهها، ليخرج صوتها المشن بالعداء الشديد له: ليس قبل أن أقتلع عنقه.
أخبريني ماذا تخططين لفعله؟
قالتها الملكة بحيرةٍ من أمرها، فأجابتها ألماندين ببسمةٍ تفوح بالشر: سأذهب لرؤياه كلما أراد هو ذلك.
وقبل أن تستمر في طرح أسئلتها، صاحب برفيقتها الممددة لجوارها: فلننطلق كاديان.
أطاعتها على الفور فتضاعف حجمها، لتصعد ألماندين فوق ظهرها ومن ثم تطوف بها بعيداً عن المملكة بأكملها لمكانه المخيف علها تستكشف قوة الكائن الذي ستحاربه!
حفنة من الغيومٍ السوداء كانت ترسل ماءها ثجاجاً لتغرق كل شيء، المطر يجلد البنايات، والسيارات، والنوافذ، والرياح تزأر في غضبٍ لتحرك خصلات شعرها الأصفر بإنفعالٍ، أخرجت إريكا يدها من السياج الحديدي، تلامس حبات المطر الباردة عل برودتها تفيقها من أحلامها المهدومة، شعرت وكأن انكسارها هذا جريمة بحق ذاتها، فودت لو منحتها القوة، نهضت إريكا ثم عادت لغرفتها لتبحث عن هاتفها، التقطته لتخبر لرفيقتها بموافقتها على الخروج معها للملهى الليلي على عكس عادتها، أردات أن تتناسى ما حدث وكأنه كان سراب، وقفت أمام خزانتها الممتلئة بالملابس تتطلع إليها بنظرةٍ حارقة، ارتدت فستان أسود اللون قصير على غير عادتها، ثم وقفت أمام المرآة تتأمل ذاتها بترددٍ، قتلت هويتها وما تحب أن تكون عليه للثأر لكيانها الأنثوي المجروح، تعلقت نظراتها بالروج الأحمر القاتم، فخطفته لتضع على شفتيها لأول مرة، ومن ثم حملت حقيبتها الصغيرة لتتجه للخروج. بالردهة.
كان يتفحص كيفن جريدته كالعادةٍ، ولجواره كانت تعد لينا القهوة اللذيذة، فما أن انتهت حتى حملت الأكواب وإتجهت للطاولة المستديرة التي تجمعهما، انتبهت لينا لباب الغرفة الذي يفتح على مهلٍ، لتتفاجئ بابنتها تقف من أمامها، اندهشت حينما رأتها ترتدي هكذا، فقالت بصدمةٍ: لا أصدق ما أراه!
منحتها إريكا نظرة مشتتة، وكأنها لا تعلم كيف ارتدت هذا الثوب، تركت لينا ما بيدها ثم أسرعت لتقف أمامها تتطلع لها بدقةٍ: هل أنتِ إريكا حقاً؟
فركت أصابعها بتوترٍ، فاستطردت لينا ببسمةٍ تسلية: حسناً أخبريني إلى إين ستذهبين بهذا الفستان الأنيق؟
بدأ كيفن باستيعاب ما يحدث مع ابنته، فترك مقعده ثم سار باتجاهما، ليضع يديه حول كتفيه زوجته ثم قال: هيا لينا لا تكوني غليظة. دعيها ترحل ستتأخر على موعدها.
ذمت شفتيها بضيقٍ: حسناً، ولكن لم ينتهي حديثنا بعد.
رسمت ابتسامة صغيرة، ثم أكملت طريقها، تابعتها نظرات كيفن الحزينة كونه الآن يعلم ماذا حدث برحلتها بالتحديد؟
بجناح إيرلا.
بقائها منعزلة هكذا عظم بداخلها شعور بالنفور من قبل عائلتها، تعيش قصة الإبنة المضطهدة متكاملة الأركان، أعماها غضبها عن رؤية الحنان القابع بداخل كلاً منهما، ودت لو تمكنت من كسر كلمة أبيها لتخرج من حبستها المقبضة، ولكنها تخشاه فبالنهاية هو الملك وكلمته أمراً يطاع، نهضت عن مجلسها ثم وقفت أمام البلور المتدرج، تتأمل أسوار المملكة العالية بنظرةٍ شاردة بحلم المستقبل، فرددت بصوتٍ خافت: العرش سيكون من نصيبي مهما كان الثمن.
التقطت أذنيها صوت يقترب منها، فابتسمت ساخرةٍ: اطمئني مازلت على قيد الحياة.
أتاها صوت من خلفها جعلها تستدير بمعالمٍ مذهولة: أراكِ تشتاقين للموت مبكراً.
رددت باستغرابٍ: ديكسون!
اقترب حتى صار بالقرب منها فقال بصوتٍ دافئ: ما الذي أصابك إيرلا. أشعر وكأن من تقف أمامي فتاة أخرى لا أعرف عنها شيئاً أخبريني ماذا بكِ؟
امتعضت ملامحها، وبدا الضيق عليها ودت لو تمكنت بتلك اللحظة بالبوح عما يثقل صدرها، ولكنها كالعادة كان عليها التهرب من حقيقة ما يزعجها: أشعر وكأني أسيرة هنا، لا أعلم ما الذي ارتكبته لأنال تلك العقوبة، لا أرى أني مخطئة بشأن صداقتي ب زمرد.
أمسك ديكسون يدها ثم أجبرها على التخفي معه ليظهر بالقرب من باب جناحها، وزعت نظراتها بينه وبين الباب بعدم فهم فقال بجمودٍ: هيا، ماذا تنتظري؟
تطلعت له بنظرةٍ مشتتة وهي تباغته بسؤالها: ماذا تقصد!
قال وهو يرسم ابتسامة مقتضبة: يزعجك عقوبة الملك ببقائك بجناحك
وها أنا أحاول مساعدتك بالتحرر!
رفعت حاجبيها بتعجبٍ: ستسمح لي بالذهاب حقاً؟
نعم.
ولكن ماذا لو عاقبك الملك؟
رد عليها بنفس تلك الابتسامة: لن يفعل، إذهبي لرؤية صديقتك إيرلا. إفعلي ما يجعلك سعيدة.
تطلعت له بنظرةٍ غامضة، ثم قالت بهدوءٍ: لست مضطر لفعل ذلك.
رفع كف يديه ليحتضن وجهها برفقٍ، وبابتسامته العذباء قال: لرؤية ابتسامتك أخترق ألف قانون، لا أدري ما الذي يحدث معك ولكني لجوارك دائماً وأنت تعلمين ذلك.
رسمت ابتسامة متكلفة على شفتيها، فأحتضنها ديكسون بعاطفة شديدة، ومن ثم أبعدها عنه ليشير بعينيه تجاه الباب: هيا.
أشارت له بخفةٍ، ومن ثم استدعت تارا لتحملها سريعاً لمملكة الشارق.
بجناح راوند.
جلست روكسانا على المقغد الحجري المقابل لها، لتتابع الحوار المتبادل بينها وبين ضي التي أضافت بتعصبٍ: الجميع حزين لأجلك راوند، ألم يعد بوسعك تخطي هذا الحزن اللعين؟
ثم استكملت باندفاعٍ: عام يليه الأخر وأنتِ تلزمين جناحك حتى الطعام تفضلين تناوله بمفردك. إلى متى ستظلين هكذا؟
غامت عينيها بالدموعٍ وهي ترد بصوتٍ شاحب: ليتني أعلم.
دنت روكسانا منها، ثم جلست جوارها، فرفعت يدها لتمررها على ظهرها وهي تخبرها بحزنٍ: نشتاق لكِ راوند نريدك جوارنا، تشاركينا سعادتنا، وتخففين عنا أعباء الحياة كما كنتِ تفعلين.
رفعت عينيها إليها بقهرٍ: كنت أتحمل لأجلها روكسانا، ولكن لم تعد لجواري فكيف سأمنحكما الأمل وقد سلب مني!
مسدت على شعرها بحنانٍ: سيعود الأمل إن حاولتي إستعادته مجدداً. هيا رواند لا تكوني ضعيفة!
ابتسمت وهي توزع نظراتها بينها وبين ضي التي تتمسك بزيها الأحمر، لتشير لها بتصميمٍ: سترتدين هذا الثوب ثم سنخرج برحلةٍ قصيرة معاً.
قهقهة روكسانا لتردد بصعوبةٍ من بين ضحكاتها: التنزه بصحبتك أمراً جنوني ضي، أليس كذلك راوند؟
تعالت ضحكاتها هي الأخرى لتذكر الحمقات التي ترتكبها ضي التي توسطت بيدها خصرها بغضبٍ: حسناً، إذهبن سوياً.
وتركت الثوب ثم كادت بالخروج، فأوقفتها روكسانا التي غمزت لها بمكرٍ لنجاح مخططاتهما بشأن هذه الرحلة: أمازحك فحسب أيتها المتعجرفة!
ابتسمت وهي تشير لها بحماسٍ: حسناً، لنذهب.
انضمت إليهن راوند ليخرجوا معاً برحلةٍ بعيدة عن المملكة، وخاصة بزيارة الجانب الشمالي القابع بتلك الشلالات المنفردة التي تعشقها روكسانا كثيراً، فعادة ما تذهب لذاك المكان بصحبة لوكاس أو رفيقاتها.
انفتح الباب السري الخاص بمستقره الخاص، ولج ديكسون للداخل وهو لا يضع أي إحتماليات بوجودها بالداخلٍ، فمن تلك الحمقاء التي ستعود لموتها الذي منحها فرصة نجاة، خلع معطفه الصلب عن كتفيه ومن ثم جذب الصولجان ليمرره بيديه بثباتٍ وقوة، دفعت ألماندين الصخر المحاط بها وهي تردد بضجرٍ: لقد تأخرت كثيراً يا ابن البشرية، مللت حقاً من انتظرك.
ابتسامة صغيرة تسللت لشفتيه قبل أن يستدير لها: هل ينتظرني أحداً هنا!
أجابته بتحدٍ: أظننت بأن ما أخبرتني به بالأمس سيخيفني من القدوم إلى هنا مجدداً!
واستطردت بغضبٍ صريح: سأتي مراراً حتى أتمكن من قتلك بيدي.
نظراتها الشرسة ذكرته بحديث أبيه عن بطولاته بترويض حيوانه الشرس روجان، فكان الجميع يتعجب منه لعدم إختياره لطائر أو حيواناً مفترس يلازمه كظله مثل أغلبهم، ولكن ديكسون لم يرغب في ذلك، ليتيقن الآن بأن ترويضه لتلك الحورية هو ما عجز عن فعله فيما قبل، تحرك خطوتان في إتجاهها ليتحرر صوته أخيراً من صمته المطول: وأنا أنتظر ذلك.
ثم اقترب ليصبح مقابلها، ليستطرد بصلابةٍ: هيا افعليها.
بروده كان يستزف أعصابها، فرددت بسخريةٍ: ليت الموت هو الحل المثالي لأوجاع قلوبنا، فشفاء تلك الذكريات لا يتوقف على الموت بل المعاناة.
ضيق عينيه بعدم فهم، فاسترسلت بحقدٍ: أريدك أن تعاني لأخر أنفاسك. الموت رحمة لك.
لم يرمش له جفن وهو يتابعها بأعين تطول بالنظر لعينيها، فقال بمغازلةٍ صريحة: حسناً لا أمانع، ولكن أخبريني ما الذي فعلته لأحصل على عداوة حورية بمثل جمالك.
سكب الغضب ردائه المعتم على وجهها، فحملت سلاحها ومن ثم هاجمته مجدداً وهي تردد: ستعلم حينما تلقاها.
تخفى ديكسون سريعاً، ومن ثم ظهر من خلفها ليحكم ذراعيها بين يديه بإحكامٍ فشلت هي بالتحرر منه، حركتها المفرطة جعلت خصلات شعرها الرمادي يلامس وجهه فيجعله كمن يحارب حالة الوعي واللاوعي، حاول التحكم بمشاعره التي تنجرف تجاهها، فهمس بصوتٍ واجم: أتظنين بأنك ستتمكنين من قتلي بتلك البساطة!
ثم لفها بين يديه لتكون مقابله، تستمع بانصاتٍ لفحيح كلماته السامة: حسناً، لنرى هل ستحتملين ذلك أم لا؟
انتابها الخوف من كلماته المبطنة، فلف يديه حول جسدها ومن ثم رأت وميضاً حجب عنها الرؤيا ثم شعرت بحرارةٍ تجتاح جسدها، ومن ثم بشيئاً قوي سحبها بعمقٍ لترى بعينيها كيبلر يتقلص حجمه حتى إختفى من أمام عينيها، لتراه على شكل كرة دائرية الشكل ومن ثم لفح وجهها ضوء قوي لترى بعينيها، شعاعان متوازيان ينطلقان من نجم ساطع يحوي طاقة هائلة مخيفة، يتحد الشعاعان معاً برأس صولجان ديكسون ليضيء رأس الوحش القابع أعلى الصولجان ليتصل بفمه وكأنه شريان من الدماء يغذيه، ابتلعت ألماندين ريقها الجاف بصعوبةٍ وهي تتطلع لما يحمله بين يديه، صوب ديكسون بصولجانه تجاه النجم المتوسط الشعاعان فأنقسم لينفتح تدريجياً لتستطيع أن ترى بوضوحٍ ما يلتهمه بداخله من عظام غليظة لأعتى الوحوش، علمت الآن كيف إختفى جسمان هذا الرجل الذي أثار غضبه بذاك السباق القاتل، تأكدت بأنه يملك من القوة ما يجعل عدوه يفكر مرتين قبل أن يدنو إليه، يستطيع ببساطة نقل الجسد لذاك النجم المفترس الذي يفتت الجسد بحرارته الملتهبة، ظنت بأنه سيقتلها هنا والا لما كان أتي بها إلى هنا، إنطفئ الشعاع المتصل بصولجان، ليهمس جوار أذنها: لا تقلقي فلن أقدمك قربان لصَيْهَد. فمازال الفضول يتملكني لمعرفة سبب كرهك لي.
حاولت استجماع كلماتها الضائعة ولكنها لم تتمكن، فشعرت بنفس القوة تسحبها مجدداً لتطفو بها على إرتفاع أعلى من سابق، فأغلقت عينيها بخوفٍ ومن ثم فتحتهما على مهلٍ لتجحظ عينيها في ذهولٍ عظيم، رأت الكواكب تدور حول نجم الشمس في حركةٍ منتظمة، كواكب مماثلة لكيبلر وباحجامٍ مختلفة، حرر ديكسون يديه الممسكة بها فصرخت بفزعٍ، ابتسم بتسليةٍ وهو يخطفها لتكون تلك المرة مقابله، تأمل نظراتها التي مازالت الدهشة تسكنها بعد، ليقول بانفاسٍ تستمع إليها جيداً: الدهشة البادية على وجهك كانت تحتل عيني أمس حينما رأيتك.
شردت عينيها الفيروزية به، فاستكمل كلماته بهيامٍ وهو يحرك أصابعه على وجهها: عينيكِ لونها فريد أعجز عن وصفه.
ثم رفع عينيه للأعلى وهو يردف: شعرك الحريري رائحته تجعلني كالسُكارَى، وشفتيك التي ترتعدان تثيرني لدرجة أخشاها!
شتتها كلماته فأخذت تتطلع له بصمتٍ تعجز عن قطعه، حاوطها جيداً ومن ثم تخفى بها ليظهر من كوكب لكوكب أخر بسرعة فائقة، حتى أنتهت بهما الرحلة بكوكب الأرض.
أضواء ملونة تجوب الملهي الليلي بأكمله، الموسيقى الصاخبة تعلو بشكلٍ كبير وكأن لا شيء يسمع سواها، وعلى ما يبدو بأن الجميع بحالةٍ من الرضا على هذه الأجواء المقززة الا هي، كانت تنظر من حولها بنظرةٍ ضائعة، لم تصدق يوماً بأنها ستدخل هذا المكان الذي طالما كانت تنقمه بشدةٍ، لا تعلم ما الذي تريد إثباته بالتحديد، انتبهت إريكا لصوت رفيقتها وهي تشير لها بالكأس الزجاجي: ألم يعجبك المشروب؟
أشارت لها بهدوءٍ: أنا لا أحب المشروب وأنتِ تعلمين ذلك جيداً جيسيكا.
رفعت يدها وهي تخبرها: حسناً، إهدائي لم أجبرك على شربه!
ثم جذبت أعواد الثقاب لتشعل السجائِرُ، نفتث دخانها بتلذذ عجيب وعينيها تحاوط ذاك الشاب الجالس على البار الزجاجي البعيد عنهما، لتستدير تجاه إريكا بابتسامة تتبعها جملة غامضة: شابٍ وسيم يكفي!
رفعت حاجبها بتعجبٍ: ماذا؟
إعتدلت الأخرى بجلستها وهي تشرح لها بايجازٍ: أخبرتيني بأنك إعترفتي لابن خالتك بحبك ورفضك.
ذمت الأخرى شفتيها بغضبٍ بتذكريها بما تود نسيانه، أشارت رفيقتها بيدها: اسمعيني جيداً. عليكِ بموعدة هذا الفتى الوسيم لنرى إن كان ابن خالتك يحبك حقاً أم لا. إن كان يحبك لن يدعك ترافقين غيره.
لمعت الفكرة بعقل إريكا كالمصباح المضيء في ليل معتم، فابتسمت بفرحةٍ، وكأنها وجدت الحل الأمثل لمشكلتها، أشاحت بنظراتها بعيداً عن رفيقتها لتتطلع للشاب الذي أشار لها بكأسه فمنحته ابتسامة مشرقة، لتنهض عن الطاولة ثم إتجهت لتنضم إليه، لا تعلم بأنها تخالف بالقيم التي زرعها كيفن بصميمها منذ الطفولة، علها ستدفع ثمن ذلك باهظاً!
بمملكة الشارق.
تفحص الطريق جيداً قبل أن يردد في خوفٍ شديد: ماذا سنفعل الآن؟ كيف سنجبر سامول على شن الحرب ضد لوكاس وابنه؟
أجابه أمادي بهوان: سنفعل ذلك مهما كلف الأمر.
شردت عينيه بذاك الكيان المتنقل، ليبتسم وهو يردد بعد تفكير: سيبدأ الحرب بالتأكيد حينما يحاول لوكاس قتل زمرد.
تساءل بدهشةٍ: وما الذي سيدفع لوكاس لفعل ذلك؟
ابتسم وهو يخبره بغموضٍ: فكر بالطريقة التي سيختارها لقاتل شقيقته الوحيدة!
بدأ باستيعابٍ ما يفكر بهو، فبرزت أنيابه بضحكةٍ شيطانية حينما علم ماذا يفكر بفعله، فردد بشرٍ عظيم: سنحرص على أن تشير أصبع الإتهام على لوكاس وابنه.
ابتسم الاخير بانتشاءٍ لتنفيذ ذاك المخطط الناجح الذي سيشعل النيران بين لوكاس و سامول من جديد.
زحف الليل على أرجاء مملكة الشارق بأكملها، ليفرض على سكانها البقاء بالكهوف والاحتماء بالشعلةٍ التي تضمت لهما الأمان بأحضان تلك الكهوف المنعرجة، فتدلى ذاك الضوء الأحمرالشارد من قلادتها الملكية، لينير الطريق من أمامها، إجتازت إيرلا الممر السري التي إعتادت التطرق إليه للوصول لباحة القصر الملكي، فصعدت على الدرج المؤدي لجناح زمرد، كادت باستكمال طريقها، فتوقفت محلها والابتسامة تتسع على شفتيها حينما استمعت لصوته: إعتادت قدميكِ زيارة قصري ليلاً!
ابتسمت وهي تجيبه في ثقةٍ دون أن تستدير إليه: وربما عليك الاعتياد على رؤيتي مثلما إعتاد هو ذلك.
تخفى سامول ليصبح مقابلها، يتأمل عينيها بنظرة صامتة تتلصص لفهم ما بداخلها ليختمها بكلماته المتسائلة بتعجبٍ: تعلمين جيداً بالعداء الشديد الذي يجمعني بأبيكِ الملك ومازلتي تأتين إلى هنا بالخفاء الا تخشين الموت!
ردت عليه ببساطةٍ: بلى، ولكني لم أتجاهل وعداً قطعته على نفسي قط. وقد وعدت زمرد بأن صداقتنا ستظل حتى ولو كلف ذلك حياتي!
قطع المسافة فيما بينهما حتى أصبح قريباً للغاية، فهمس بغموضٍ: هل سيجدي عنادك هذا نفعاً أمام ملك إخترقتِ قوانين مملكته أكثر من مرة!
تطلعت إليه مطولاً، وقد راق لها التطلع لهذا الوسيم الذي تتحدث عنه نساء الكوكب بأكملهن، فإن كانت المروءة وإحترام المرأة بداخله أسمى الصفات فلما لا تستغل ذاك للبقاء هنا، لجواره علها تتمكن من التعرف عما يخفق بداخلها حينما تراه أمامها، استغرب من صمتها الذي طال لأكثر من دقيقة، حتى قطعته هي قائلة: لم تسنح لي الفرصة بالتعارف على قوانين مملكتك، علك إن منحتني فرصة البقاء هنا ربما سأكون حذرة في المرة المقبلة.
كان طلب جريء ببقائها هنا بمملكته، غامت حدقتيه بشكلٍ غريب، حتى عم السكون فيما بينهما، لا يعلم ما الذي ينتظره بالاجابة المتوقعة على طلبها المرفوض بالمرةٍ، أحكم سامول غلقه لثيابه ثم صعد الدرج متجاهلاً إجابتها حتى وصل لأخر طبقاته فاستدار ليمنحها نظرة قصيرة، ليردف: حسناً، لكِ ذلك.
ابتسمت إيرلا بعدم تصديق، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة كان قد اختفى من أمامها، فصعدت لجناح زمرد والفرحة تضيء وجهها، وجدتها تجلس عابثة الوجه، وكأنها تفتقدها لجوارها، فابتسمت الاخرى بمكرٍ وهي تتحكم بهالتها ذات الشعاع النافذ لتحيط بها من جوارها، انتفضت زمرد فزعاً حينما رأت أمامها كيان أحمر اللون ينزلق كالبلون المنتفخ، التقطت أنفاسها ببطءٍ وهي تحاول التحكم بثباتها الانفعالي: كفى، إيرلا.
عادت لهيئتها الطبيعية وضحكاتها تملأ الجناح بأكمله: أعلم بأنكِ منزعجة مني. ولكن أبي علم بقدومي هنا وعاقبني بالبقاء بجناحي.
رددت في صدمةٍ: وماذا تفعلين هنا؟ عله علم بقدومك إلى هنا مجدداً!
خلعت وشاحها الطويل، لتتمدد على فراشها قائلة بعدم مبالاة: لم يعنيني الأمر كثيراً، ديكسون من حررني بذاته سينال هو العقوبة بدلاً عني.
ثم فردت ذراعيها وهي تخبرها بغرورٍ: نسيت أن أخبرك بأنني سأظل هنا عدة أيام.
واستطردت بدلالٍ: بأمر من الملك سامول.
تدلى فكيها للأسفل في دهشةٍ عظيمة: ماذا؟
فتح عينيه ببطءٍ شديد حينما عادت إليه الأوربوروس لتستقر لجواره، ومن ثم تلوت الأفعى لتلدغ سامول بجبينه لتبخ نوعاً مختلف من السم الذي بدوره عرض له ما رأته بجناح زمرد، انخطف لونه وكأنه طفل لا يعي المشاعر الذي يختبرها لأول مرة حينما رأى إيرلا تضحك، استقام بوقفته ليشير لأفعته المخلصة بالانصراف ومن ثم بقى هو وحيداً، حائراً بتلك الفتاة الغريبة، وأكثر ما شغل خاطره عن حديثها عما يخص عقوبة لوكاس لها وبالرغم من ذلك مازالت موجودة هنا بقصره.
التعليقات