التخطي إلى المحتوى

الفصل السابع والأربعون»

هل تلك نغمات تطن في أسماعها؟ أم هي سحب وردية تسحبها معه إلى عالمهما الجميل؟ خطوة مع خطوة، الكف تحتضن الكف، ذراعه تحاوطها، ويدها مستندة على كتفه. يميل، فتميل معه. يبتسم، فتبادله ابتسامته. يدندن معها، ليست تلك كلمات، بل هو ما استوطن بقلبيهما وأتى اليوم ليخرج ويُعلن أمام الملأ.

غير منتبهين لأحد، وكأن العالم قد خلا عليهما. أميرة؟ بل هي سندريلا، ولكن في نهاية القصة، بعد أن عثر عليها أميرها ليتحدى بها العالم. والآن، وقت رقصتهما في الحفل المكتمل. لن تهرب هذه المرة خوفًا من افتضاح حقيقتها، ولن يدور هو بحثًا عنها. لقد انتهت رحلة العذاب والآن بدأت رحلة الاستقرار. لقد حان الوصال.

حكايتنا كملت كلمات

حكايتنا كملت

وكان في وعد نفذته

وشيلتك في عنيا

اسمك واسمي جنب بعض

ولآخر عمري شريك فيا.

أجواء الحفل الأسطوري كانت تضم عددًا لا بأس به من وجهاء المجتمع، رجال أعمال وسيدات من أفراد العائلة العريقة من أهل العريس، وأهل العروس من الطبقة المتوسطة والعادية. كان أبناء عمها حاضرين بدعوة وُجهت إليهم كالغرباء، كما وُجهت أيضًا لعدد من أبناء الحارة التي كانت تسكن بها “بهجة”، كوالد طلال وطلال الذي حضر مع خطيبته ووالدتها. أتى بهما بإصرار وتحدٍّ، حتى إن رأى منها تمردًا، أجهضه بالقوة،

فجلس بهما على طاولة تخصهما وحدهما. كان يراقب رد فعلها هي ووالدتها، التي كادت عيناها تخرجان من فرط انبهارها بكل شيء حولها، عكس ابنتها التي غمرتها الحسرة. جسدها ترجم ما بداخلها بلغة يفهمها هذا المتربص جيدًا:

مالك يا سامية؟ حاسك مش على بعضك ليه؟

مش على بعضي إزاي يعني؟ ما أنا كويسة أهو، كويسة خالص كمان، ولا فيَّ حاجة مش مظبوطة مثلاً؟

أطالت في الكلام لتزيده يقينًا بتشتتها، بإنفعال مكتوم عقب محذرًا لها ولوالدتها:

طيب خلي بالك يا “كويسة”، عشان البص في كل حتة لافت نظر الناس عليكم، والناس اللي هنا غير اللي متعودين عليهم في الحارة.

إلى هنا، لم تقوَ على كبح غضبها:

أفندم بقى، ليكون هما من طينة وإحنا من طينة تانية؟ لا يا حبيبي، البنت اللي فوق دي هي وأخواتها مكانوش لاقيين…

قطعت كلامها منتفضة برعب حينما زجرها بنظرة مخيفة ارتعدت لها أوصالها، وأضاف بلهجة تهديدية:

لمّي لسانك يا سامية، لمّي لسانك واعملي لنفسك مقام، بدل ما أعرّفك أنا بطريقتي المقام اللي تستحقيه.

تجمعت الدموع في عينيها وهي تنظر نحو والدتها تطلب منها الدعم، فحاولت درية التدخل قائلة:

يا طلال يا بني، هي مش قصدها تشتمها، هي بس يعني…

اسكتي بقى يا حماتي، بلا قصدها بلا ما قصدهاش. أنا غلطان أصلاً إني جيبتها. كان حقي أحرمها ما تعتبش الفرح ده أساسًا.

بحنق شديد، غفلت عن الكلمات التي تسقط من فمها وقالت:

ليه بقى إن شاء الله؟ ده فرح بنت عمي، على فكرة، مش واحدة غريبة عني.

استدار لينظر إليها ويحدجها بنظرة كاشفة، ثم تمتم بما ألجمها:

بنت عمك؟ مش دي اللي من شوية كنتِ بتقولي إنها وأخواتها مكانوش لاقيين الأكل… ولا إيه يا حماتي؟

أصاب الأخيرة الخرس، حينما وجه اللوم الصريح نحوها، فأشاحت ببصرها عنه تهرب من مواجهته. وقعت عيناها على ولديها؛ سامر، الذي تجاوزها وأصبح يتصرف بطبيعية وقد وجد ضالته في شيء آخر، وسمير، الذي رغم وجود زوجته بجواره وابنه في حضنه، كان الحزن والحسرة مرسومين بوضوح على وجهه.

وفي ناحية أخرى، وتحديدًا في وسط القاعة، وبعد إصراره على أن تراقصه على أنغام الموسيقى الرومانسية، رضخت لرغبته بعد إلحاح منه. لتجد نفسها الآن محاطة بذراعيه، وكفه التي تحط أحيانًا على خصرها أو ظهرها، في وضع لا يريحها:

هشام، ابعد شوية، مينفعش كده.

سمع منها، ليقرب وجهه أكثر:

أبعد إزاي يعني؟ عايزني أبان زي التمثال وأنا برقص معاكي؟ دا حتى الناس يضحكوا علينا، يا أستاذة.

زمجرت داخلها برفضٍ عبّرت عنه:

محدش قالك تبقى زي التمثال، بس ابعد وشك شوية، ولا إيدك دي كمان، بتحركها ليه ع الفستان؟

فستان؟

تمتم بها بخبث، مردفًا:

وماله لما إيدي تيجي ع الفستان يا صفية؟ مش أنا كاتب كتابي عليكي وشرعًا فستانك بقى من حقي، يعني إيدي تيجي كده ولا كده، دا يعتبر شيء عادي.

قال الأخيرة وهو يدفعها من الخلف لتصطدم بصدره، ووجهها لا يفصل عن وجهه سوى سنتيمترات. شهقت مجفلة لفعله، لتدفعه بدورها وتبتعد عنه، فهرولت تاركة إياه في وسط صالة الرقص دون أن تلتفت إليه أو ترى رد فعله. توجهت نحو الطاولة التي كانت تجلس عليها، وعادت إلى مقعدها، فتبعها هو، ليواجهها بغضب:

دا برضو كلام يا أستاذة يا محترمة؟ تسيبيني في نص القاعة قبل الرقصة ما تخلص؟ الناس تقول علينا إيه دلوقتي؟

طالعته بحدة، تصيح به، كاظمة غيظها المكتوم، وبصوت تجاهد ألا يصل للآخرين:

أيوة يصح، ويصح أوي كمان. والناس يقولوا ولا يغلطوا حتى. عامل حسابهم أوي؟ يبقى تحترم نفسك، وبلاها قلة أدب وتحرش!

أشار بسبابته نحو صدره وكأنها وجهت له إهانة:

أنا قليل أدب؟ لا، ما اسمحلكيش. المرحلة دي لسه موصلنهاش أساسًا. أما بقى عن التانية، فدي اسمها لمسات بريئة، يا أستاذة. نسميها تحرش بقى إمتى؟

توقف وهو يشير بيده نحو عدة مناطق في الجسد، متابعًا بخبث:

لما إيدي تيجي هنا، أو هنا… أو هنا.

“صرخت بها لتوقف استرساله، مطالبةً إياه بالكف عن عبثه المتعمد. قليل الأدب الوقح، كما كانت تسبه الآن في داخلها، فتنهاه بقهر:

مية مرة أقولك يا هشام بلاش أسلوبك ده معايا! أنا متعودتش على الجرأة مع أي حد، وأنت كل مرة تزود. مش عايزة أرفع صوتي، بس أنا محبش حد يتعامل معايا كده.

تركها تنهي كلماتها، ثم ربع ذراعيه فوق صدره بملامح عابسة. وتحدث بهدوء:

بس أنا أحب كده. عشان أنا جوزك على الورق دلوقتي وشرعًا أمام ربنا. يعني حقي أتجرأ، وإنتِ واجب عليكي تعودي نفسك. مدام قبلتي بيا كزوج، يبقى أكيد في حتة في قلبك على الأقل عايزاني… ولا أنا غلطان يا صفية؟

مهما أخفت أو أنكرت، سيأتي عليك الوقت الذي لن تجد فيه الفرصة للكذب. وذلك إن حوصرت بالسؤال المباشر، كما يحدث الآن. وقد بدا على ملامحها بوضوح أمام مواجهته، لتجيب بمراوغة:

والله، أنا لو كارهاك أو مش طايقاك، مفيش قوة في الدنيا كانت هتجبرني أوافق على خطوبتي منك أو كتب الكتاب.

تبسم بثقة، قائلاً:

طب حلو أوي يا أستاذة، طمنتِ قلبي يا شيخة.

وكالعادة، خجلت من مواجهة عينيه. تلك المرأة المحاربة في الدفاع عن حقوق النساء أمام المحاكم والقضاء، تصبح كالقطة الوديعة حين يغلبها الحياء.

رفعت رأسها فجأة، منتبهة لصوت الصفير الذي علا في قلب القاعة من بعض الحضور، تشجيعًا وتحية لحمل العريس لعروسه. دار بها لعدة لحظات قبل أن يتوقف، لتضع قدميها على الأرض.

مشهدهم الجميل ارتد بأثره على تلك المتزمتة دائمًا، التي تتخذ الجمود وسيلة لفرض احترامها على الجميع. غزت الابتسامة ثغرها وهي تتابع فرحة العروسين. جذب ذلك انتباه الجالس أمامها، الذي كان يتابعها بتمعن لكل خلجة وكل همسة منها. فعلق قائلاً:

عجبك شكلهم يا صفية؟ يبقى انتظري يوم فرحنا. وليكي عليا ما خلي رجلك تلمس الأرض لساعة كاملة وأنا بلف بيكي.

استدركت حالتها، لتعي علي كلماته. فتبسمت ضاحكة بعدم استيعاب:

إيه اللي بتقوله ده؟ ساعة!

وأكملت ضاحكة لترتشف من عبوة المياه الغازية، تخفي توترها المكشوف أمامه:

بقولك اللي هيحصل يا صفية… وبكرة تشوفي.

عادت العروس، والتي كانت كالملكة، تعانق مليكها وتراقصه على أنغام الموسيقي الرومانسية. ثم جلست متربعة على عرشها بجواره، تتلقى التهاني والمباركات بمقام يليق بها، رافعة رأسها بعزة.

“كانت هذه هي النهاية الأفضل لقصة معاناتها؛ ما أجمل الجبر بعد الصبر! فقد تحقق لها ما كانت تطمح إليه، وأصبح قلبها الذي عانى طويلاً ينبض بالأمل من جديد

أما هو، فسعادته كانت تتجاوز سعادتها بمراحل. ألقى كل عُقد الماضي خلف ظهره، متجاوزًا أفكارًا قميئة ترسخت في عقله منذ مولده، وقد تيقن بالتجربة أن لا قيمة لأي شيء أمام راحة قلبه وبهجته.

— “مبسوطة يا بهجة؟”

سألها هامسًا، مقربًا وجهه منها، يتأمل ملامحها بشغف. تلك العينان الصافيتان، بخضرتهما المتوهجة اليوم، كحجر زمرد نادر لا يضاهي جماله شيء. اللعنة على غبائه الذي كاد أن يفقده هذا السحر! وليذهب عالم المال والأعمال والسلطة والجاه أمام نظرة واحدة منها وابتسامة خلابة كتلك التي تبادله بها الآن.

— “أنت بتسألني يا رياض؟ أنا مش مبسوطة، أنا طايرة! عارف يعني إيه طايرة؟ ربنا يخليك ليّا، حققت لي أمنية ما كنتش أتصوّر إنها تحصل أصلًا.”

رفع كف يدها إلى شفتيه، يطبع قبلة على ظهرها، ثم همس بشغف:

— “كده بقى، محدش له حجة يمنعك عني. حتى لو خطفتك ورُحت بيكي المريخ، محدش هيجرؤ يحط عينه في عيني. لا أخوكي العبيط اللي بيرقص مع أصحابه هناك ده، ونسي حتى ييجي يبارك لنا، ولا الكابتن شادي اللي مشغول بالرغي مع مراته على جنب لوحدهم، وبرضو نسي ما يبارك لنا.”

ضحكت، تتطلع نحو الاثنين، اللذين كانا بالفعل منشغلين عنها. بدا أنهما قد سلّما الراية ودفة الشراع، تاركين شأنها، لتسوقها رياح الاطمئنان والأمان مع وليفها بعد التشتت والعذاب. التفت كلٌّ منهما إلى شؤونه الآن.

— “أممم…”

زامت شفتيها بمرح، وعلّقت علي حديثه:

— “منسوش يا عمّ الخبيث! هما بس مستنيين الدنيا تخف شوية، وهييجوا يباركوا ويرقصوا كمان. ولا انت صدّقت إنهم سابوا مكانهم؟ دي مجرد استراحة بس.”

— “لا والله!”

قالها ضاحكًا، ليقترب أكثر مردفًا بوعيد:

— “طب خلي حد فيهم يقدر يحوشني عنك تاني. ده أنا هنسيكي طريق بيتكم أصلًا لسنة قدّام!”

قالها وضحكاته تملأ المكان. اضطرت هي إلى دفعه بمرفقها ليصمت عن عبثه، وقد أشعل الخجل وجنتيها وبدا عليها الاضطراب واضحًا. تمالكت نفسها بصعوبة وهي تنبهه إلى قدوم مصطفى عزام وزوجته.

— “مبروك يا ابن خالتي.”

قالها مصطفى، وهو يمد يده مصافحًا. ثم جذبه من كفه ليضمه إليه بعناق أخوي.

— “مبسوط لفرحتك يا حبيبي.”

شعر رياض بصدق الكلمات في نبرته، فرد عليه بحرارة، متناسيًا مآسي الماضي والذكريات القبيحة، التي لم يكن لأي منهما يدٌ بها.

أما بهجة، فقد تلقفت الصغير من نور وقبّلته، متبادلة مع والدته الحديث بودّ:

— “أنا مبسوطة أوي إنك جيتي ونوّرتي الفرح. لا وجايبة الأمور ده معاكي، ده كان واحشني أوي!”

عبرت نور عن فرحتها هي الأخرى:

— “حبيبتي، ده هو اللي فرحان بيكي! ما شوفتيش اترمى عليكي إزاي أول ما شافك؟ اتعلّق بيكي من أول مرة شافك فيها. انتي جميلة يا بهجة، وأنا فرحانة ليكي أوي.”

— “مش قد فرحتي بيكي والله.”

قالتها بهجة، ليدور بينهما حديث سريع، ثم انضم إليهما الرجلان بألفة ومحبة، والتقطوا معًا صورًا تذكارية.

وفي مدخل القاعة، حيث كانت بهيرة تدلف مستندة على ذراع ابنها، تمتمت بغيظ:

— “شايف يا عدي؟ أخوك اللي جري يبارك لابن خالته؟ طبعًا، فرحان إنه ما يبقاش لوحده في العيلة متجوز من أصل وضيع!”

أغمض عدي عينيه بضيق، مستهجنًا قولها:

— “ماما، أرجوكي، بلاش الكلام ده. إحنا جايين نعمل الواجب مع خالتو ورياض. دا انتي بنفسك بتقولي إنه حبيبك.”

عبست ملامحها المجعدة بضيق، قائلة:

— “ما هو فعلًا كان حبيبي وما زال. كان دايمًا راقي وبيفكرني بالمرحوم الباشا والدي، أرستقراطي ومأصل لجدوده الباشوات. ما كانش يشبه أبوه المستهتر ولا والدته اللي طول عمرها شاردة عن أصلها الكريم. واديه في الآخر لفّ لفّ، وبقى زيهم… رايح يتجوز خدامة!”

— “ماما!”

تمتم بها محذرًا:

— “خدي بالك، الكلام ده يضرّنا إحنا كمان معاه. العروسة من عيلة متوسطة وخلاص، مش عايزين نزود عن كده.”

طرقت بعصاها وهي تغمغم بضيق:

— “وأنا اللي ملجمني ومخليني ساكتة عن المهزلة دي غير اسم العيلة. غاصبة عن نفسي أحضر فرح مش متقبلاه ولا مستوعبة حدوثه، بس عشان اسم العيلة. منك لله يا نجوان، دايمًا تعباني من صغري لحد شيبتي.”

❈-❈-❈

في إحدى ردهات القصر المنزوية بعض الشيء، وقفت تنتظر بقلق يعصف بها.

تدفعها المسؤولية لتحمل ما لا تطيق، ولكن شيئًا ما يحثها على التجاوز والتقبل. أو ربما هو أمر مختلف عن كل ما سبق، ولكنها تريده.

“أنا جيت ومعايا آدم”،

هتفت بها عائشة وهي تسحب الأخير من يده، والذي علق بدوره:

“هي دي نوجة اللي قولتي عليها؟”

تطلعت إليه نجوان بحنين جارف، وقد تأثرت بنبرته التي تحدث بها، بالإضافة إلى الشبه العجيب الذي هزّ قلبها من الداخل. شعرت وكأنها شجرة تتقاذفها الرياح بشدة، ذلك القاسي الذي خدعها ورحل قبل أن تواجهه، تاركًا خلفه قطعة طبق الأصل منه.

أتلعنه في مماته الآن، بعدما ترك وراءه ما يعكس الماضي بأبشع صوره؟ أم تحتضن الصغير الذي يعيد إليها روحها التي فقدتها مع الراحل؟ ورغم كل أفعاله، لا تزال حتى الآن لا تحمل له حقدًا أو كراهية.

“هاي يا طنت”،

قالها آدم وامتدت كفه نحوها بكل ذوق تعلمه. أمسكته هي دون أدنى تفكير وسحبته إليها لتقبّله على وجنتيه وتخاطبه بصوت بحّ لفرط ما يكتنفها من مشاعر:

“ما تقوليش يا طنت يا قلبي، قولي يا نوجة، زي عائشة ما بتناديلي”.

سمعت الأخيرة لتضيف بمرح:

“أيوة يا آدم، نوجة دي حبيبتي وصاحبتي وكل حاجة. دي أحلى ست تشوفها في حياتك أصلًا”.

“أصلًا”،

ردّدها آدم ضاحكًا ساخرًا من طريقتها. فتدخلت نجوان قائلة:

“طب إيه رأيك تيجي تعيش معايا الشهر اللي هيقضيه رياض بره مصر مع عروسته، وتحكم بنفسك إن كانت هي بتبالغ ولا أنا فعلًا كده…”

سمع منها آدم وتوجّه نحو عائشة مستفسرًا بحيرة. تابعت نجوان لتطمئنه:

“عشان تطمّن أكتر، عائشة كمان هتقضي معايا الفترةدي. أنا جهّزت أوضتين، واحدة ليها وواحدة ليك. ها، إيه رأيكم أنتوا الاتنين؟”

سمعت عائشة، فهتفت بفرح:

“أنا طبعًا جاية! هقضي الشهر كله معاكي يا نوجة”،

ولفت ذراعيها حول خصرها تعبيرًا عن فرحتها. مما شجع آدم أيضًا على الموافقة:

“أنا كمان موافق، مدام هلعب مع عائشة”.

“أيوة بقى”،

قالتها عائشة، بينما اقتربت نجوان من الصغير لتقبّله أعلى رأسه:

“ده بيتك وبيت والدك يا حبيبي، وأنت هتيجي تنور مكانك”.

ترجّل من سيارة الأجرة التي توقفت بالقرب من القصر والهاتف على أذنه يتحدث مع صديقه والد طلال، الذي كان يتابع معه:

“أيوة يا سيدي، نزلت أنا ومراتي من العربية. بس أنت متأكد إن ده القصر فعلًا اللي معمول فيه الفرح؟ … آه، ماشي ماشي، هاخد طريقي دوغري زي ما قلتلي. جايلك أهو”.

أنهى المكالمة والتفت ليسحب زوجته بضجر:

“ما تمدّي رجليكي بقى يا ولية، الفرح قرب يخلص، مش كفاية عطّلة البيت والعيال اللي كانو ماسكين في رقابينا”.

ردّت هي بعَتب:

“الله! برضو التأخير هتجيبه في العيال؟ ما المساكين سكتوا واتراضوا. أنت اللي اتأخرت عند الحلاق! هنكدب بقى؟”

نفث دخانًا من أنفه بضيق شديد، وردّ بنبرة غاضبة:

“يعني المشكلة بقت في الحلاق؟ مش في عيالك اللي نهبوا تلت آلاف جنيه مراضية بأكل من برا عشان يوافقوا يسبونا نمشي لوحدنا؟ اسكتي، اسكتي! أنا مبقوق ومعبّي ومش عايز أتكلم لانفجر. أنا قربت أشحت بسببكم”.

تجاهلته وأشارت إلى القصر بانبهار:

“يا حلاوة يا ولاد! ده إحنا داخلين في قصر فعلًا. إيه ده؟ إيه ده؟ بقى أنت عندك بنت أخ متجوزة باشا من بتوع زمان ومخبي عليّا يا خميس؟ الله يسامحك. طب قولي عشان أعمل الواجب”.

“واجب!”

تمتم بها خميس زاجرًا بنظرة مشتعلة، يودّ لو يفرّغ بها غضبه. فما يعانيه منها من ابتزاز متعمد طوال الوقت، يجعله يلعن الساعة التي رآها بها.

يفضّل لو عاد به الزمن ليتجنب خطأ الزواج منها، فقد اكتشف أن نار درية أرحم من جنتها. على الأقل، الأخرى لا تعايره طوال الوقت بكلمات مبطّنة تنقص من قدره كرجل أمام امرأة مثلها لا يقدر عليها إلا الله.

وداخل القصر،

صعدت الجميلة صبا برفقة زوجها إلى منصة العروسين لتهنئتهما وتقديم المباركة. قابلتها بهجة بفرح، لتسحبها إليها وتضمها بحب، أما شادي فقد قابل العريس بابتسامة مازحة:

“أكيد مستنيني من أول الفرح، بس أنا قولت أخليك تاخد نفسك شوية وأريحك مني الحبة دول”.

قهقه رياض معلّقًا بتحدٍ:

“يا حبيب قلبي، مستغناش طبعًا، ما تقولش كده. أنت فعلًا هترتاح على طول بعد كده، عشان خلاص ما بقاش في حجة، وبهجة كمان بقت ملكية خاصة بالإشهار دلوقتي. محدش يملك يفرقنا عن بعض أبدًا”.

لم يقوَ شادي على الإنكار، فعبر عن فرحته باستسلام:

“والله ده شيء يسعدني، وربنا يديم محبتكم لبعض. هي تستاهل العوض، وأنت أكيد كنت محتاجها”.

تنهد رياض بعمق، مرددًا:

“آه والله كنت محتاجها، محتاجها أوي. ربنا يخليهالي”.

“آمين يا رب، آمين”،

تمتم بها شادي ليبادله رياض الضحك والمزاح، حتى طلبت بهجة التقاط صور تجمع الأربعة معًا. وبعد التقاط الصور، انسحب شادي وزوجته تاركين المنصة للعروسين، غافلين عمّن وقف بالقرب منهم، مذهولًا يراقب نزولهما.

كان عدي لا يصدق عينيه، أوَهم هذا ما يراه؟ أم تلك أحلام يقظة سعيدة؟ ولكن كيف تكون سعيدة بوجود هذا الرجل الذي هزمه رغم ضعفه، وخطف المرأة الوحيدة التي تمناها ولم يحصل عليها؟ هنا يبرز السؤال: ما علاقة هذين الاثنين بابن خالته وعروسه؟

لم يدع نفسه للحيرة أكثر من ذلك، وصعد سريعًا ليبارك لـرياض الذي قابله فاتحًا ذراعيه:

بعناق رجولي، ضمّه إليه مهنئًا:

“حبيبي يا رياض، فرحتي بيك ما تتوصفش”.

“ده أنت اللي حبيبي يا صاحبي”،

صافح عدي بهجة ليهنّئها هي الأخرى، ثم تبادل المزاح مع رياض، قبل أن ينفرد به هامسًا:

“الراجل والست اللي طلعوا من شوية دول تعرفهم منين؟”

اهتز رأس رياض بعدم تركيز، فأشار إليه بذقنه نحو الطاولة التي يجلس عندها الاثنان. تطلّع إليهما ثم أجاب:

“ده شادي ابن عمة بهجة، واللي معاه مراته. بتسأل ليه؟”

وكأن الرد كان جليًا على ملامح عدي التي تغضنت بحزن.

وإلى طاولة سامر وشقيقه،

استغل الأول انصراف إسراء للحديث مع إحدى السيدات، ليتوجه نحو شقيقه بلوم:

“إيه يا عم سمير، ما تاخد بالك شوية واصحى، بدل ما أنت مفضوح كده بسحنتك المقلوبة دي. أي حد هيشوفك هيعرف اللي فيها، إشحال بقى مراتك اللي كاتمة في قلبها وساكتة”.

سمع منه سمير ليعقب بيأس وعدم اكتراث:

“تكتم ولا تفضح حتى، أنا ميهمنيش حد يا سامر. الخنقة اللي أنا فيها تخليني أولّع في الكل منغير تردد، وهي عارفة كده، بدليل إنها ساكتة، عشان متأكدة إن الحكاية خلصت بجواز غريمتها. إنما أنا قلبي هيفضل محروق مهما حاولت أتجاوز أو أعمل نفسي ناسي. منهم لله أمك وأبوك، ضيّعوا مني الحاجة الوحيدة اللي حبيتها”.

بماذا يعقب؟ والمرارة التي تظهر في صوت شقيقه تكشف حجم معاناته. رغم ذلك، لم يكن سمير بريئًا تمامًا من ذنبه، فهو أيضًا يتحمل قسطًا كبيرًا من الخطأ حين تخلى عنها وتركها تصارع الأهوال في تربية أشقائها رغم صغر سنها آنذاك. ولكن لا داعي للجلد الآن أو صب اللوم. فليخفف الله عنه مصيبته.

“يا نهار أبوك اسود، شوف مين اللي جاي!”

تمتم بها سمير، لافتًا انتباهه نحو مدخل قاعة القصر التي يُقام بها الحفل. حيث يدخل خميس بصحبة امرأة تلفت أبصار الجميع نحوها، بزينة وجهها المبالغ بها وفستانها الأحمر الصارخ. حجابها الصغير يغطي نصف رأسها فقط، كاشفًا عن شعرها المصبوغ باللون الأصفر. تتأبط ذراع خميس بثقة، وكأنها المرأة الوحيدة الجميلة في القاعة.

“يا ستار من الفضايح يا رب”،

غمغم بها سامر بضيق ملحوظ، قبل أن تقع عيناه على من جاءت خلفهم.

والتي خطفت الأبصار نحوها هذه المرة، بانبهار وإعجاب، هي لورا، التي بدت كعارضات الأزياء العالميات بفستانها الأسود الطويل، ذو الفتحة الكبيرة من أعلى الركبة التي أظهرت سيقانها اللامعة. كانت الحمالتان العريضتان في أعلى الفستان، وشعرها الحريري المصفف بطريقة مميزة لا تليق إلا بها، يجعلانها قبلة للأنظار.

وفي مقارنة سريعة عقدها سامر بين المشهدين، شعر بالنقص وشيء غير مريح كان غافلًا عنه، لكنه بدا واضحًا الآن.

– “آه يا خميس الكلب، ساحب البهيمة دي وجايبها الفرح كمان؟”

صدر هذا التعليق من درية وهي تتابع دخول الاثنين، مما أثار استياء طلال الذي لم يعجبه الأمر:

“لا إله إلا الله، خلي بالك من ألفاظك يا حماتي، مش عايزين فضايح الله يرضى عنك. ولا حد يجي يسحبنا من قفانا ويخرجنا ويقول علينا بيئة. كل اللي في الفرح ده ناس عليوي، ما تعرفش كلامك ده.”

ردت عليه درية بنبرة ظهر فيها الاستهجان بوضوح:

“بيئة؟ وكمان يطردونا؟ ليه بقى؟ كان القصر الجمهوري ده إن شاء الله ولا إيه؟ أنا بتكلم من قهرتي، الراجل الأهبل مش عامل حساب لسنه ولا منظره، جَرّرها معاه وساحبها. هي دي أشكال تدخل حتت نظيفة زي دي؟”

سامية، التي كانت تساند والدتها، أضافت بتأييد:

“عندك حق يا أما، ده كفاية البويا اللي ملغمطة بيها وشها ولا الفستان الأحمر. ده لوحده حكاية!”

رغم حنقه من تهكم الاثنتين، إلا أنه لم ينكر صدق حديثهما. زفر طلال بغيظ، مشيحًا بوجهه عنهما، وهو يحدّث نفسه بندم:

“يا ريتني ما سمعت نصيحتك يا بويا، ولا اتصلت بيه أبلغه بأمر الدعوة. ده حتى عياله نفسهم مستعرين منه!”

أما بهجة، فقد تصلّبت مكانها فور أن وقعت عيناها عليه، يصعد نحوها بصحبة تلك المرأة ليبالغ في تهنئتها:

“بهجة، بنتي حبيبتي!”

هجم عليها، يجذبها من ذراعيها ليقبلها على وجنتيها، لكن هذا الغيور تدخل على الفور، وأبعده عنها بحزم:

“استنى هنا، بنتك مين يا حج؟ ابعد كده!”

تلجلج خميس، مبررًا أمام صمتها:

“أنا… أنا أبقى عمها يعني، في مقام أبوها بالضبط.”

“عمي بس؟ أنا أبويا مات من زمان. على العموم، تشكر يا عمي.”

قالتها بهجة بحسم، لتصب الحرج على خميس الذي حاول تدارك خزيه:

“آه معلش يا بنتي، أكيد متأثرة. بس هي قالتلك أهو، أنا أبقى عمها، ولا إيه يا عريس؟ ده أنا حتى جاي أباركلك معاها.”

صافحه رياض بضغط قوي على يده، مانعًا إياه من الاقتراب أكثر أو احتضانه، ليؤكد له مكانته كغريب. أما صفاء، التي ضحكت ببرود مدعية عدم الفهم، فقد حاولت هي الأخرى تكرار فعل زوجها، معتبرة أن كونها امرأة سيمنحها حرية التصرف:

“أنا بقى عارفة نفسي مرات عمك الجديدة يا عروسة.”

وقبل أن تفعل ما يدور برأسها، وجدت كف رياض كحاجز يمنعها من التجاوز، مع ابتسامة لا تخفي فظاظته:

“معلش، عشان المكياج.”

أومأت برأسها، تواصل ضحكها باضطراب:

“آه صحيح، عندك حق. ألف مبروك يا عروسة… ألف ألف مبروك!”

قالتها وهي تلملم حرجها، ثم نزلت عن المنصة تبحث عن طاولة تضمها هي وزوجها، الذي أدرك جيدًا مكانته حتى لا يأخذه العشم ويطمع فيما هو أكبر.

أما عن رياض، فقد التفت ليطمئن على بهجة فور مغادرتهما:

“أوعي تكوني زعلانة عشان عاملته بقلة ذوق.”

هزّت رأسها نافية على الفور:

“وهي فين قلة الذوق؟ أنت اتصرفت بحماية ليا، وأنا اتصرفت بطبيعتي لأني رافضة أي دور يفرضه عليا دلوقتي بعد ربنا ما كرمني بيك. ما هو كان ناسي طول السنين اللي فاتت، ودلوقتي افتكر إنه في مقام أبويا وفاكرني هتكسف من شكلي قدامك؟ لا طبعًا.”

ضمها من كتفيها إليه دون مبالاة بأحد، يدعمها بثقة:

“أيوة بقى، أنا عايزك تبقي قليلة ذوق براحتك. جوزك معاكي وفي ضهرك.”

لم تخجل من فعلته، بل عبرت عن امتنانها قائلة:

“ربنا يخليك ليا يا رياض.”

❈-❈-❈

مع تواصل لفقرات الحفل المشتعلة، كان هناك عدد من المطربين الصغار والكبار أيضًا، منهم المطرب المفضل لإحدى الحاضرات، والتي غلبتها الفرحة برؤيته:

الله، عمر دياب! هتفت بها صبا وكأنها طفلة تحضر أجواء العيد، غير منتبهة لوقارها أمام زوجها الذي ردد، ينبهها رغم سعادته بأفعالها:

اهدي يا مجنونة، مش عايزين فضايح، الناس بتبص علينا.

ردت بلهفة غير مبالية:

وايه يعني؟ ما هما نفسهم جريوا عليه. ما تيجي أحنا كمان نتلم عليه؟ أنا نفسي أتصور معاه زي ما حصل يوم حفل الفندق. فاكر يا شادي؟

فاكر يا قلب يا شادي، بس استني على ما الدنيا تهدا، وأنا هوصلك ليه لو نفسك تتصوري معاه…

حبيبيييي! قاطعته بفرحة غامرة، وسحبته من يده بعد ذلك، ليتابعان المطرب المفضل لديها في اندماج معه

غافلين عن المتابع الذي كان يراقبهم من جهة غير مرئية لهما، بشغف لا يقل عن لهفتها، فقد اختار فقرة المطرب كهدية لابن خالته، وكأن قلبه كان على موعد مع الحدث. اللعنة على هذا الاشتياق الذي يجتاحه من الداخل، لامرأة أصبحت لا تجوز له. وامرأته، التي أنجب منها أطفاله، قد تصالح معها واستقرت الأمور بينهما، ولكن بنظرة واحدة من تلك الجنية التي خطفت قلبه، أصبح الأمر وكأن شيئًا لم يكن.

واقف تعمل إيه وسايب صاحبك لوحده؟ انتفض مستفيقًا من شروده، ملتفا نحو صاحب الصوت، ثم نكزه بسبابته بخفة على ذراعه، متابعًا:

جاي من تركيا عشان تسرح؟

كااارم! تمتم عدي بالاسم قبل أن يلتقي مع الآخر بعناق رجولي، وترحيب حار متبادل بين الاثنين:

إيه الغيبة الطويلة دي يا عمنا، وحشتني والله وحشتني.

وأنت أكتر والله يا كارم، المهم أنت اتأخرت ليه؟ الفرح قرب على نصه.

تبسم بانتشاء وعدل من حلته:

لا، ما أنا كان عندي مشوار مهم. مهمة حساسة كان لازم أتمم عليها قبل ما أجي وأسحب مراتي المسكينة اللي كانت هتاكلني على التأخير.

عندها حق طبعًا تاكلك، مهمة أي دي الحساسة اللي تخليك تتأخر كده على فرح رياض؟

ماهي تخص رياض برضو. طب أقولك، تعالي أفهمك وهو معانا. الحمد لله مراتي إندمجت مع بهيرة عشان ما تسمعش كلامنا.

ليه يا بني؟ هو إيه الموضوع بالضبط؟

اتجوزوا! معقول بالسرعة دي؟

كان هذا رد الفعل الأولي من رياض بعد سماع حديث كارم بعد أن انفردا معًا بصحبة عدي، مستغلين انشغال العروس بالرقص بين مجموعة من الفتيات.

فجاء التساؤل من عدي:

يعني مين دي يا عم اللي جوازها هممكم أوي كده؟!

ياسيدي دي تبقى خالة آدم، ست كده ما شاء الله، ما تفرقش عن المرحومة أختها غير في الشكل.

أاااااه. تمتم بها عدي بتفهم، ليزيد عليه الآخر بقوله:

أديك خمنت لوحدك يا سيدي، ودي كانت مسببة خطر كبير لعريسنا اللي عايز يعيش مرتاح مع عروسته. أنا بقي يا حبيبي حبيت أخدمه وأخدمها، عرفتها على واحد من نفس طينتها. مخدوش مع بعض يومين، ولقيتهم عازميني شاهد على كتب كتابهم، وكأنهم خايفين لا يطيروا من بعض. فعلاً الطيور على أشكالها تقع.

جشعة. قالها عدي بتخمين، ليؤكد له رياض:

أااااوي، واللي اتعرفت عليه نفس الشخصية زي ما قال كارم، من عيلة أرستقراطية زيينا، لكنه يضيع جبل فلوس على مزاجه والقمار. مكنتش أتمناهولها، بس هي اللي اختارت.

فعلاً، كل واحد يدفع تمن اختياره.

ردد بها كارم من خلفه، قبل أن ينتبهوا جميعاً إلى الأبصار التي توجهت نحوهم، حينما أنشقت دائرة النساء لتكشف عن العروس بينهن وهي تشير إليه بيدها كي ينضم معها. فضحك مردداً:

“معرفش أرقص بلدي، والله ما أعرف.”

ضحك عدي هو الآخر، واستجاب كارم لإشارة من زوجته التي كانت مع المجموعة، ليسحبه مجبراً:

“جرب وهبب أي حكاية، حد قالك إن إحنا كمان بنعرف.”

ودفعه ليشارك الاحتفال بمرح على أنغام الألحان الشرقية، فوجد الحل بأن يندمج مستشعراً الكلمات التي يرددها المطرب:

«ماقدرش أنا على اللي عيني شيفاه ومجاش في بالي

الرقة دي، أه، يا سحر عنيه حاجة فوق خيالي

دا اللي أنا حلمت بيه يكون عشاني مش عايز حد تاني

اتعلقت في ثواني، دا حبيبي ياما صادفني قلوب كتير

وليلة لحبيبي، أعمل فيه إيه؟ غيرتي خوفي عليه دايماً يزيد

وأمال بقي لو صارحت عنيه ولمست إيدو»

استمر الحفل بأجوائه الممتعة، وقد حضره العديد من الأصدقاء بعد ذلك، مثل جاسر الريان وطارق وكاميليا وزهرة كداعمات للعروس جارتهم قديماً، وصديقة صفية التي ارتخت قليلاً مستجيبة لمزاح خطيبها الطبيب هشام، والذي كان يؤدي كلمات الأغنية بإتقان شديد ليجعلها تضحك معظم الأوقات.

وفي ناحية أخرى، كانت الوقفة الفاصلة لشخص آخر، وقد وصل إلى قراره أخيرًا بعد أن رأى وقارن وحكم العقل على العاطفة:

واخد جنب لوحدك في آخر القاعة، دا بدل ما ترقص وتشارك، إيه الكآبة دي يا عم؟ تفوهت بها، تقترب منه بأناقتها اللافتة، ليلتفت إليها قائلاً:

معلش بقى، دماغي مش متحملة الأغاني، شكلي كده كئيب فعلاً.

قطبت باستغراب:

ليه يعني؟ مش فرحان لبنت عمك؟ بادلها الرد بسؤاله:

من ناحيتي أنا طبعًا فرحان لها من قلبي والله، إنتي بقى فرحانة كمان ولا؟

تبسمت بثقة وكأنها قد تجاوزت تلك المرحلة:

أنا خفيت خلاص من مرضي يا سامر، بدليل إني جيت وواجهت وباركت لرياض وعروسته وطنت نجوان كمان.

برافو عليكِ، تمتم بها وهو يكتم زفرته، ثم أطرق برأسه قليلاً في تفكير قبل أن يرفع نظره قائلاً:

عقبالك إنتي كمان، شكلك زي القمر النهاردة، أكيد هتلاقي ألف عريس يتقدمولك من بكرة.

ضحكت، تضرب كفًا بالآخر مرددة:

ألف مرة واحدة؟ لا يا سيدي، مش لدرجة دي، بس تقدر تقول هو فعلاً في حاجة زي كده.

توقفت تتابع بتلعثم وارتباك:

آآآآ، ابن عمة ماما، ده اللي كان واقف معايا من شوية، شوفته.

آه، شوفته. ردد بها من خلفها وبيقين ترسخ داخله:

بس أنا لسة مرديتش ولا أديت رأيي، هو كلم ماما وأنا قلت أخد فرصتي في التفكير.

اعتدل في وقفته يخاطبها بجدية:

لو إنسان كويس متتأخريش في الرد عليه ولا تضيعي ثانية زيادة من عمرك. على العموم، أنا كمان قررت، وقريب هتلاقيني ملبس دبل.

سألته بلهفة أكدت صدق ظنها:

بجد يا سامر؟ طب هي فين؟ لو في الفرح هنا، قولي خليني اتعرف عليها.

أزاح عيناه عنها بسأم، فالفكرة قد خطرت برأسه في التو ولم يأخذها بجدية حتى الآن، ولكن مهلاً….

توقف بصره في نقطة معينة، نحو تلك الجميلة التي تراقص شقيقتها ببراءة ورقة يعلمها عنها منذ نعومة أظافرها، ولكنه لم ينتبه إليها سوى الآن. فقد كبرت ولم تعد تلك الصغيرة التي نشأت أمام عينيه بأخلاقها المتميزة وعفويتها دون تصنع، ليردد اسمها داخله:

قاربت الليلة الأسطورية على الانتهاء، وقد حان وقت ذهابها مع زوجها، فخرج يسبقها حتى يأتي بالسيارة من المكان الذي اصطفها به، فانتظرت هي داخل حديقة القصر حتى يتصل بها لتخرج، ولم تحسب حساب شخص آخر كان لا يصدق أن فرصته للحديث معها قد أتت:

لسة جميلة زي ما إنتِ يا صبا. شهقة إجفال صدرت منها قبل أن تلتف إليه، فتتحقق من هويته بعدم استيعاب:

إيه ده، معقول؟ إنت إيه اللي جابك هنا؟ تبسم، يقترب منها ليجيب بثقة:

دا قصر أجدادي يا صبا، والفرح اللي جوا يبقى فرح ابن خالتي على قريبتكم، بهجة….

صمت بتنهيدة خرجت من العمق قبل أن يتابع بتمني:

تصدقي إني تخيلتك مكانها النهاردة، وأنا جنبك مكان رياض.

اشتعلت عينيها بغضب لم يخفَ عليه فتابع غير قادر على التوقف:

أنا هنا بتكلم على جواز في العلن، مش عرفي ولا في السر. كان نفسي أخد الفرصة أنا كمان زي رياض ومضيعكيش من إيدي.

ردت بحدة حتى يكف عن عبثه:

لا حضرتك ناسي، رغم إني كارهة أتكلم في الموضوع ده من أساسه، بس أنا هفكرك إن الوضع هنا مختلف. الوضع هنا اتنين بيحبوا بعض، بس اللي كان واقف بينهم هو الظروف وسوء الحظ. إنما لما اتخطوا الاتنين، وصلوا لبر الأمان. أنت بقى… راجل متجوز ومعاك أولاد، يعني كان الأولى تبص لاهل بيتك وولادك، مش تعيش حياتك بالطول والعرض. ولما تغلب معاك واحدة، تطلب منها الجواز في السر.

ولو كنت طلقتها واديتيها كافة حقوقها هي والولاد، كنتي هتوافقي يا صبا؟ بس قبل ما تجاوبي على دي، عايز أسألك: إنتِ سعيدة أصلاً مع شادي؟

وأنت مالك؟ صدر الصوت الخشن خلفها، لتفزع برؤية رجلها، وقد بدا أمامها كالوحش بطاقة تفوح منها الشر:

إيه اللي رجعك تاني يا عدي يا عزام؟ ومالك ومال مراتي أصلاً؟

أجابه ببرود غير مباليًا بالهلع المرتسم على هيئة تلك المسكينة:

أنا قابلتها بالصدفة زي ما إنت شايف، وكنت بسألها سؤال بريء، مقصدتش بيه أي حاجة وحشة.

سؤال بريء برضه؟ ولا دي مقدمة قبل ما توز في ودانها زي الشيطان؟ أنا بقى هخلص منك القديم والجديد.

قالها وتقدم بخطواته بنية واضحة علمتها لتهرع إليه تحاول منعه، فتتصدر بجسدها أمامه:

لا يا شادي، إحنا ماشين وسايبينه، شادي….

توقفت في الأخيرة وقد ارتخت أعصابها، لتلفها غمامة سوداء فتسقط فاقدة للوعي، فتتلقفها ذراعيه قبل أن تصل للأرض، هاتفًا بإسمها:

….يتبع

الثامن والاربعون من هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *