التخطي إلى المحتوى

رواية حان الوصال الفصل الثامن والاربعون 48 بقلم أمل نصر

توقفت السيارة بها في هذا البلد الغريب، وسط أجواء غامضة لم تستوعبها بعد، وهي تنظر عبر زجاج النافذة طوال الطريق.

كان هذا نداء زوجها الحبيب الذي سبقها بالخروج من السيارة. استدركت كلامه واستجابت، فنزلت من السيارة التي كانت تقلهم. وما إن وضعت قدمها على الأرض حتى غرست في ذلك الشيء الأبيض، فهتفت بدهشة:

“إيه ده؟ يا لهوي! أنا حاسة نفسي جوه فريز التلاجة!”

صدرت ضحكته بمرح وهو يسحبها من يدها ويتحرك بها قائلاً:

“إنتِ لسه شوفتي حاجة يا بهجة؟ أمال أنا ملبسك تقيل ليه؟ ده انتي هتنبهري أكتر جوا.”

“أكتر من كده؟!”

تمتمت بها وهي تواصل طريقها معه باتجاه السلم الخشبي. صعدت الدرجات بجانبه حتى توقفا أمام مدخل كوخ خشبي. فتح الباب لتدخل خلفه، فتوقفت مكانها، تدور برأسها في كل الاتجاهات، متأملة المكان بانبهار.

تركها تتأمل حتى صرف السائق الذي وضع الحقائب خلفهما. ثم عاد فجأة ليضمها من خصرها، وطبع عدة قبلات على وجنتها، فصرخت بإجفال:

“ررررررييياض! خضتني!”

ضحك بمشاكسة وهو يقول:

“هو إنتِ لسه شوفتي خضات ولا انفعالات؟ دا أنا هبرجلك الأيام اللي جاية ! بس دلوقتي خلينا نريح الأول عشان أنا تعبااان.”

ضحكت بخجل تحاول إخفاءه، ودفعته بقوة بقبضتها على ذراعه. لكنه لم يشعر بها بسبب الملابس الثقيلة التي يرتديها.

“أجل تلميحاتك الوقحة شوية، والله أنا عايزة أتعرف على كل حاجة هنا. البيت ولا الكوخ ده شكله يجنن وغريب عليا، أول مرة أشوفه.!

شاكسها بإبتسامة مراوغة:

“ماشي يا قلبي، هتتعرفي على كل حاجة بس…” توقف قليلاً قبل أن يكمل

“بس إيه الهدوم الكبيرة دي؟”

“الهدوم دي أنت اللي ملبسهالي!”

قالتها بدهشة، لكنه على الفور بدأ يخلع معطفها قائلاً بغيظ:

“آه، طبعاً، برا! إنما هنا مينفعش.”

“مينفعش ليه؟”

سألته وهي تتصنع عدم الفهم، لكنه لم يترك لها الفرصة للتلاعب. دفعها بخفة لتصطدم بالجدار خلفها، وألقى المعطف أرضًا. يداه عرفتا طريقهما؛ واحدة أحاطت خصرها، والأخرى رفعت وجهها إليه ليقترب منها متناولاً ثغرها بقبلة عاصفة، متلهفة،مشتاقة،. طالت حتى تحولت إلى قبلة ناعمة ورقيقة. قبل أن يبتعد قليلاً بأنفاس متقطعة وقال بإجابة مختصرة لسؤالها:

“عشان من هنا ورايح، مفيش أي حواجز تفصلني عنك أبداً، فاهمة يا بهجة؟”

أومأت برأسها مرتين دون أن تستطيع الكلام. فأقترب يعاود الكرة بشوق ولهفة أشد، حتي دني ليرفعها من ركبتيها مغمغمًا بنفاد صبر:

“لا، إحنا كده ملناش غير أوضتنا!”

“بس أنا لسه ما اتفرجتش على باقي البيت!”

رد بسرعة وهو يتحرك بها نحو وجهته:

“هتتفرجي بعدين! البيت ده فوق الجبل، أنا وإنتِ وبس، ومفيش حد تالتنا. دا أنا ماصدقت أستفرد بيكي. هي لسه فيها كلام؟”

ضحكت بمرح وهي تجادله:

“طب ناكل الأول، أنا جعانة! رياض… رياااااض!”

❈-❈-❈

استيقظت من نومها صباحًا، تطوف بعينيها داخل أرجاء الغرفة تبحث عن من ترك الفراش باردًا بجوارها. نهضت بحذر، والقلق يزداد في قلبها أن يكون ما زال متأثرًا بحديث الأمس.

كانت على وشك الخروج من الغرفة حين أبصرت خياله داخل الشرفة، يعطيها ظهره وهو يتأمل الخارج. تراجعت عن خطواتها، وغيرت اتجاهها نحوه قائلة:

“إنت صحيت بدري ولا ما نمتش جنبي أصلاً؟”

لفت انتباهه صوتها، فالتفت إليها متكئًا على الحاجز الإسمنتي، يطالعها بصمت للحظات قبل أن يجيب بفتور:

“للأسف، ما نمتش أصلًا، رغم إني حاولت كتير، لكن النوم مهوبش عيني ولو دقيقة، وكأنه اتفق مع تعب جسمي إني ما أدوقش الراحة.”

تبدلت ملامحها إلى القلق وهي تستشعر السبب الذي سرق منه الراحة وأغرق قلبه في الحيرة والتساؤلات. اقتربت منه بخطوات مترددة، وسألته بحزن:

“ليه؟ إيه اللي شاغل بالك للدرجة دي؟ معقول يكون شك يا شادي؟”

استنشق دفعة من السيجارة التي لا يلجأ إليها إلا في غمرة التوتر، وكأنها وسيلته الوحيدة للتنفيس عما يعجز عن السيطرة عليه، ثم أجابها دون مواربة:

“مش شك يا صبا، قد ما هو تفكير في الكلام اللي اتقال. يا ترى لو طلق مراته فعلاً… وحاول تاني بجواز في العلن زي ما قال… عدي مش فرصة هينة يا صبا.”

نظرت إليه بذهول، وقالت بصوت مرتجف:

“وأنا إيه دخلي إن كانت فرصة ولا مش فرصة؟ إنت بتتكلم في إيه يا شادي؟ أنا مراتك!”

سمعها وأطرق برأسه للحظات قبل أن يرفع عينيه إليها قائلاً:

“عارف إنك مراتي، بس أنا بتكلم عن النفس الضعيفة. أي حد فينا ممكن يضعف قدام الإغراء، وده مش مجرد إغراء. ده تحول كبير لو حصل معاكي، ونقلة كاملة من إنسانة عادية متجوزة من واحد أقل من العادي، أينعم مستور شوية،لكن ميملكش حتي تمن الثروة اللي يملكها عدي عزام الوسيم، الغني اللي معاه سلطة وهيبة. بيملك كل حاجة، وحتى مشكلته الوحيدة مع الجواز والولاد بيعرض إنه يحلها. يعني بيفتح أبواب السعد قدامك،تقريبا هيحولك لأميرة، إنماأنا بقى…”

توقف قليلًا ليزفر تنهيدة مثقلة قبل أن يضيف بألم:

“أنا مين قصاده؟ أنا مين قصاد واحد زيه بيقدملك الدنيا على طبق دهب، وأنا؟ أنا أقل بكتير… فرق السما والأرض. أنا قصاده ولا حاجة، يا صبا.”

قاطعته بحزم وهي تضع كفيها على صدره وتهزه بعنف:

“لكن قصاد صبا، إنت كل حاجة! إيه اللي خلاك تفكر فيا بالطريقة دي؟ لو كان بالفلوس أو الشكل، كنت إتجوزت من قبل ما أشوفك حتي، أينعم محدش من اللي اتقدمولي وصل لمكانة عدي عزام ، لكن كانوا ولاد ناس هما كمان وأحسن منه، ومع ذلك، ما قلتش أمين غير ليك. عشان ما جبلتش غيرك،

اللي في صدري ده.

وضربت بقبضتها على موضع قلبها، وقالت بدمعة غلبتها:

“مدقش غير ليك. سبحان اللي بيألف القلوب. أنا قلبي ما حبش غيرك. ولا كنوز العالم تقدر تخلي قلبي يستغنى عنك. فهمت ولا أعيد تاني يا شادي؟”

بصوتٍ حبس في صدره من شدة ما يجتاحه من الداخل، بعدما أثلجت صدره وبلسمت قلبه المسكين بكلماتها، هذه الجميلة الصغيرة التي تعشقه كما يعشقها، وتستغني عن مال العالم ووسامته الشديدة من أجله.

“فاهم يا قلب شادي… فاهم. يا رزق شادي وعوض ربنا ليه.”

وجذبها إلى صدره بقوة، يسحقها بضمته، من أين يجد التعبير؟ أي كلمات في العالم قد تسعفه الآن؟ لقد تضخم قلبه بكم من المشاعر لا يوجد في العالم ما يمكن أن يصفها.

طال العناق بينهما، ولم تحاول تنبيهه أو منعه، فهي الأخرى كانت في أمس الحاجة إليه. حتى قطع لحظتهما صوت هاتفه يرن، مما اضطره إلى فك ذراعيه عنها. تناول الهاتف من جيب بنطاله البيتي وأجاب:

“ألو، مين معايا؟… مين؟

ممرضة المركز؟… آه يا فندم، دا رقمي اللي سجلته لتحليل زوجتي صبا مسعود أبو ليلة. هي النتيجة ظهرت؟…”

تجمد في مكانه فجأة وهو يردد بذهول:

“بتقولي إيه؟ إيجابي؟! متأكدة؟!”

صرخ بالكلمات الأخيرة وهو ينتفض، مما أثار فزعها. نظرت إليه بقلق وسألته:

“في إيه يا شادي؟”

التفت إليها بعشق العالم كله في عينيه وهو يردد:

“إنتِ حامل يا صبا… حامل يا قلب شادي!”

❈-❈-❈

داخل الطائرة الخاصة، كان قد اتخذ قراره بالرحيل دون انتظار ساعة أخرى في الوطن. علم بنتائج التحليل قبل أصحابها أنفسهم، بفضل نفوذه الواسع الذي مكّنه من مراقبة الوضع منذ الأمس.

كان ذلك منذ اللحظة التي وقعت فيها أمامه، فرفعها زوجها بين ذراعيه وغادر بها القصر متوجهًا إلى أقرب مشفى في المنطقة، للاطمئنان عليها. حينها، وصله خبر توجيه الطبيب لهم بإجراء عدة تحاليل قبل أن يسمح لهما بالمغادرة. لم يحتج إلى بذل الكثير من الجهد لمعرفة المركز الذي نُقلت إليه العينات، وأصدر أوامره بضرورة إبلاغه بالنتائج فور ظهورها.

وبالفعل، تلقى الخبر الذي حطم كل أمل صغير قد نما في قلبه. ويحرم عليه حتى الأحلام بعد ذلك.

حامل…

ستلد من الرجل الذي فضّلته عليه. الأبناء الذين سيزيدون من قوة أسرتها وترسيخ أعمدتها.

شعر بمرارة تفوق الوصف. لقد أضاعها بغروره وعناده، عندما اعتقد أن كل النساء سواء، وأن الفارق الوحيد يكمن في السعر. لم يدرك حينها أن عقابه سيتحقق حين يدق قلبه للمرة الأولى، مع المرأة الوحيدة التي لا يمكن شراؤها ولو بكنوز العالم.

❈-❈-❈

بخجل شديد خرجت من البناية التي تقطن بها، تمشي باستحياء نحو السيارة التي كان مستندًا عليها بظهره، متربع الذراعين، يدعي الجمود والثبات، بينما عيناه تلتهمان تفاصيلها المحببة إلى قلبه.

جمالها هادئ ومريح للعين، رقيقة ولطيفة كقطة وديعة، لكنها سرعان ما تتحول إلى شرسة وتكشر عن أنيابها إذا استُفزت. وربما تهجم على من يخطئ في حقها. كيف ترى هذه المجنونة نفسها عادية وهو يراها أجمل النساء، وأكثرهن ذكاء، خاصة عندما يشاكس الجانب الشرس بها.

صباح الخير.

ألقت التحية وهي تقترب منه، تسبقها حمحمة خفيفة لتجلي حلقها. أجابها بصوت رائق، متأثرًا برؤيتها:

صباح الفل والورد والياسمين، يا أستاذة يا آنسة صفية.

عبست، وزامت شفتيها بغيظ من مناكفته المعتادة، ونفثت زفيرًا كالدخان من أنفها. ثم توجهت إلى باب السيارة الأمامي، فتحته، وجلست بالداخل، مغمغمة بحنق:

يا صباح يا عليم يا رزاق يا كريم… هنبدأها من أولها نقرزة؟ أنا عارفة، اليوم باين من أوله!

ضحك بتسلية، ثم انضم إليها، جالسًا خلف عجلة القيادة، وأدار المحرك قائلاً بهدوءه المعتاد:

ليه بس النرفزة والخلق الضيق؟ هو دا ذنبي إني بحترمك يعني؟

رمقته بنظرة كاشفة، ثم أشاحت بوجهها نحو الأمام قائلة:

الظاهر إنه طالبة معاك غلاسة على الصبح، وأنا ماليش خلق.

أطلق تنهيدة طويلة، ثم قال بنبرة مشبعة بالهيام:

مقدرش… مقدرش يا صفية ما أناغشكيش، ولا أتحرم من شكلك وإنتِ متكدرة كده ونفسك تخنقيني… أصلك ما بتشوفيش نفسك وأنت متعصبة.

كادت أن تفرح بكلماته الأولى، لكنها عقدت حاجبيها،ليرتسم علي جبينها علامة الإحدي عشر فور سماعها بالأخيرة، وسألته بتوجس:

ماله شكلي وأنا متعصبة عشان يضحكك كده؟

توقفت عن الكلام عندما لاحظت تعبيره المستفز، فردت بنبرة عاتبة:

بلياتشو أنا يا هشام عشان أضحكك؟

وهو في بلياتشو يبقى قمر كده؟

أجفلها غزله، فتوردت بشرتها بحمرة شديدة، مما جعله يضرب بقبضته على عجلة القيادة بحماس مهللًا:

آه! هو ده اللي عمره ما هيخليني أبطل مناغشتك، بطلي إنتِ تتكسفي يا صفية، ووشك يبقى زي محصول الطماطم… يمكن ساعتها أقدر.

رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة حاولت كتمها، لكنها سرعان ما استعادت ادعاء الاستياء، قائلة وهي تشيح بنظرها:

أنا بقول لما تعقل الأول! نفسي أفهم، خدت الشهادة وبقيت دكتور إزاي؟

أجابها بمزاح يحمل تلميحًا:

بالحمام! أصلي أمي شاطرة أوي في تربية الحمام. كل دكتور كان عنده مادة امتحان كنت أبعتله من حمامها، هو يظبط نفسه في بيته، ويجي الامتحان ويروقني بالدرجة النهائية. حكم الحمام ده مهم جدًا. ما سمعتيش عن فوايد الحمام للمتجوزين يا صفية؟

لم تفهم كلماته في البداية، فهزت كتفيها بلامبالاة، لكنها سرعان ما أدركت المعنى خلف ابتسامته المستفزة. عندها، برقت عيناها بغيظ، وضربته بقبضتها على ساعده قائلة:

بطل وقاحة وقلة أدب يا هشام!

رد بضحك متواصل حتى دمعت عيناه، ثم غمغم بينها وبين نفسه:

بطل وقاحة وقلة أدب كمان! ده على أساس إننا عتبنا المرحلة دي أصلًا؟

على رأس مائدة الطعام التي قامت بإعدادها بمساعدة الدادة نبوية، كانت جالسة تتناول معهما بتأني وتركيز شديد، عيناها لا تحيدان عن آدم رغم حديثه الممتع مع عائشة:

نفسك في الأكل حلو أوي يا نوجة، الفطار يجنن. ضحكت بصخب معلقة على مبالغتها المحببة:

نفسي كمان! وهي الجبنة ولا المعلبات فيهم نفس أصلاً؟ هو يدوب بيض الأوملت، حبيت أجربه زي ما كنت بعمله لرياض، شكلكم أنتم كمان طلعتوا بتحبوه.

قالت الأخيرة بقصد واضح نحو آدم الذي انتبه ليلتف إليها، فهو بالفعل من كان يتناول بنهم في طبقه، ليتوقف قليلاً عن مضغ الطعام بفمه، لتسارع هي برقتها:

أنت وقفت ليه؟ كل يا حبيبي بالهنا والشفا، أنا عارفة من الأول إنك بتحب البيض بالطريقة دي، وكنت بتكلم عشان أفتح كلام معاك.

سألها بفراسته:

رياض هو اللي قالك؟ أومأت رأسها بموافقة، وداخلها تؤكد، حتى وإن لم يخبرها ابنها بنوعية الطعام التي يفضلها آدم، كانت ستعلم من نفسها، فهذا لم يترك شيئًا، من حكيم ولم يرثه عنه حتي طريقته في تناول الأصناف التي يحبها.

تنهيدة مثقلة صدرت منها، تستدعي تماسكها وإزاحة هذه الأفكار عنها بمخاطبة عائشة:

عيوش القمر، أنا النهاردة فضيلتكم أنتم الاتنين، شوفوا نفسكم عايزين تقضوها لعب في الجنينة برا ولا نخرج نتفسح مع بعضنا؟

نخرج نتفسح طبعًا مع بعضنا، ردت بها عائشة على الفور تجيبها بحماس هللت به، لتتلاقاها نجوان بابتسامة حنون، قبل أن تنقل بعينيها نحو آدم الذي لم يتكلم:

وأنت يا حبيبي، مش عايز تيجي معانا؟ طالعها بابتسامة رزينة لامست أعماقها:

أروح معاكم عادي.

تبسمت، معلقة بفضول يقتلها:

“إزاي جبت الرزانة دي؟ طفل في سنك وعاقل كده؟”

ضحكت عائشة متأثرة بكلامها، حتى هو شاركهم الابتسام، ثم أضاف:

عادي يعني يا طنط، تقدري تقولي طبع، بس ماما هي كمان كانت دايمًا تقولي كده، إني عاقل لدرجة الملل.

خبأت ابتسامتها فور ذكره لوالدته الراحلة، وحاولت جاهدة تمالك نفسها من غصة الحزن التي شقت حلقها. توقفت عن الطعام بعدما فقدت شهيتها تمامًا، ثم رسمت ابتسامة زائفة، و فركت كفيها ببعضهما ونهضت قائلة:

ماشي يا حبايبي أنا قايمة أجهز نفسي وإنتوا كملوا فطاركم على ما خلصت. وتوقفت موجهة كلماتها لآدم:

متنساش علاجك مع دادة يا نبوية يا آدم.

❈-❈-❈

عاد خميس من الخارج بخطوات متسارعة بعد أن أنهى عمله في الوكالة برزق وفير جمعه كعادته. كان يتأمل الأجواء بحذر، فرغم اختياره الدائم لموعد نومهم في الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، إلا أنه يخشى مقابلة أحدهم، فيزعجه بطلبات ومصروفات لم يعد قادرًا على تلبيتها. لقد ملّ من زحمة المنزل وحرقة الدم التي تصاحب الصرف المتواصل لكفاية هذه القبيلة من الأطفال ووالدتهم من الطعام. ما ينقصه فقط هو فرصة الهرب من كل هذا. طالما يجمع المال، يستطيع الزواج بغيرها، امرأة جميلة وصغيرة، ويفضل أن تكون عقيمة لا تنجب.

في هذا الوقت، كانت زوجته داخل المرحاض. لم يكلف نفسه عناء مناداتها، بل أسرع مستغلًا الفرصة، واتجه نحو الركن الفاصل بين الخزانة الخشبية للملابس والحائط ليخرج حقيبة السفر القديمة من مكانها المعتاد. ولكن، مهلاً… أين هي؟

لم يجد سوى كتب مدرسية للأطفال وكراسات وبعض الأقلام. زمجر بغضب:

يا صفاء! انتي يا صفاء!

صدح بصوته الجهوري عندما تأكد من عدم وجود الحقيبة، وواصل النداء بعجالة:

يا صفاااااء! هاقعد أنادي عليكي طول اليوم؟ انتي فييييين يا ست انتي؟

استجابت لندائه بصوت متذمر وهي تخرج من المرحاض، تلف رأسها المبلل بمنشفة صغيرة:

إيه؟ إيه؟ أنا جاية أهو… جرى إيه؟ الدنيا طارت؟

تخصر ليستقبلها بتهكم:

لأ، مطارتش، لكنها هتفرقع وتولع لو مردتيش على سؤالي دلوقتي! الشنطة القديمة اللي كانت هنا راحت فين؟

شنطة الهاند باج السودة المقطعة! فينها يا ولية؟ اللي كانت فيها هدومي القديمة!

طقّت فمها باستهجان مستنكرة ثورته:

بقى كل ده عشان شنطة قديمة ومقطعة! إيه قيمتها دي عشان تبهدل الدنيا وتصرخ كده؟ طب العيال لمّوها النهاردة مع حتة الغيارين، وعبوها كتب من بتاعتهم وباعوها لبتاع الروبابيكيا…

صرخ بصوت أعلى، قابضًا على ساعديها ،يعنفها بحقد غير مصدق:

إيه اللي بتقوليه ده؟ انتي أكيد بتهزري! لا يمكن تكوني بتتكلمي جد. يا إما… يا إما انتي خدتِ الفلوس اللي فيها! أيوة، أنا عارفك، أبوكي القرش وأمك الفلوس!

نفضت ذراعيها من قبضته لتنهره بغضب:

شيل إيدك عني يا راجل! إنت اتجننت ولا إيه؟ كل الجنان ده على شنطة قديمة ومقطعة؟ ولا…

توقفت فجأة، ثم تابعت بفراسة:

ولا يكونش كنت حاطط فيها فلوس ولا حاجة غالية؟

دفعها بقوة، وملامحه تخالف طبيعته المعروفة بالجبن، ليصارحها دون إنكار:

أيوة، كنت حاطط فيها فلوس، وفلوس كتيرة كمان، في جيب سري، عشان انتي وولادك الحرامية ما توصلولهاش! أديكي عرفتي… يبقى اطلعي بفلوسي يا ولية، ولا أحسن أوديكم كلكم في داهية!

لم تكن أقل شراسة منه، لتقبل إتهامه بضعف أو تردد، فردّت تبادله بدفعه أقوي من دفعته، مكشرة عن أنيابها:

داهية تاخدك وتاخد اليوم اللي شوفناك فيه يا عجوز يا عرة الرجالة! مفيش حرامي غيرك! إنت جاي ترمي بلاك علينا ولا إيه؟ أما دي عجايب والله!

صرخ بأعلى صوته وقد فقد آخر ذرة من حكمته، قابضًا على رقبتها:

دا أنا اللي هوديكي في داهية النهاردة! والله ما أنا سايبك!

ثارت عليه بجنون أشد:

طب إن كنت راجل، اعملها! عشان الداهية دي إن شاء الله تاخدك انت!

ثم صاحت بأعلى صوتها:

الحقوني يا نااااس! الراجل الخرفان عايز يموتني!

❈-❈-❈

ضحكتها التي كانت تجلجل في البقعة الخالية إلا منهما، وهو يقوم بسحبها بيديه الاثنتين بروية وصبر، كي يعلمها التزلج على الجليد، وقد جهزها بجميع الأدوات: الثياب الثقيلة، والنظارة الواقية التي تحمي عينيها، والقفازات، والخوذة، وغيرها من الأشياء الهامة، بالإضافة إلى الزلاجات الجليدية التي ترتديها في الأسفل، والتي تسير بها بصعوبة رغم مساعدته لها، وجسدها يميل يمينًا ويسارًا بلا توازن، حتى زمجر مخاطبًا إياها بحزم:

بطلي بقى واثبتي! كده اليوم هيضيع في المحاولات وبس.

هتفت تجادله بمرح:

وأنا أعملك إيه يا مفتري بمزاجك الغريب؟ ما كنا روحنا بلد ساحلي ولا استوائي. حبكت التلج والمزاج الغريب ده!

ضحك معلقًا بتسلية:

بقى دي جزاتي؟ أَني عايز أعيشك في جو مختلف، دي الرومانسية في أعلى صورها يا بنت خليل.

توقف فجأة عن العبث ليردف بشجن، تخلل كلماته:

أنا عشت أجمل أيام عمري في الجو ده يا بهجة، الأسرة السعيدة: بايا وماما، وحبهم اللي كنت بشوفه في كل تصرفاتهم لبعض. قعدتنا إحنا التلاتة قدام الدفاية والحطب، وبابا ضاممنا أنا وماما في حضنه، وهو بيحكي تفاصيل يومه في الشغل، ماما تحكي عن مغامراتها مع الجيران. وأنا أحكي أي حاجة هبلة عشان أشاركهم.

كنت دايماً برسم في عقلي إني أقعد أنا وحبيبتي قدام النار، ونحكي ونحب في بعض.

بس أنت مقعدتنيش قدام النار ولا الدفاية يا رياض.

قالتها بعفوية، انتشلته من ذكريات كان قد غاص فيها، ليستدرك ضاحكًا:

حاضر يا بهجة، هنقعد قدام النار وندفى. هو إحنا ورانا إيه أصلاً؟

جادلته، وهي تتشبث به حتى لا تقع:

يعني إيه الكلام ده بقى؟ شهر عسلنا هيبقى يا تلج أخوض فيه، يا قعدة قدام النار، هوده يبقى عسل يارياااض!

أطلق ضحكة مدوية قبل أن يغيظها قائلاً:

لا، طبعًا! أنا محضرلك برنامج شامل هيعجبك ويريحك أوي يا بهجة.

وعاود ضحكاته، ليحاول مجددًا تعليمها.

استجابت بتحريك قدميها بخطوات بطيئة، رويدًا رويدًا أصبحت تستقيم معه حتى كاد أن يصل بها إلى ممر التزلج، لتأتي عاصفة ثلجية فجأة، بفعل بشري، حينما مر أمامهم بعض الأفراد بسرعة البرق، يطيرون فوق كوم عالي من الثلج، ارتفع جزء كبير منه ليغطي وجوه الأثنان وملابسها الثقيلة.

شهقت بهجة بإجفال امتزج بدهشتها، أما هو، الذي أصابه ما أصابها، كاد أن يخرج من فمه سبّة نحو الرجلين الذين اختفيا كالظلال بسرعتهما في التزلج. ولكن أوقفه ضحكتها، التي صدحت بدون قيود أو خجل.

ضحكة صافية بشقاوتها، ألهبت مشاعره الهائمة بها، ولكن هذا لم يمنعه من استفزازها.

ليباغتها بكومة صغيرة من الثلج دفعها بها، أوقفتها عن الضحك بصدمة، سريعًا ما تجاوزتها، لتدنو سريعًا تلتقط كومة بين كفيها، ألقتها عليه بكامل قوتها لتغطي وجهه بالكامل، وجزءًا ليس بالهين من معطفه، حتى شعرت ببعض الندم، قبل أن يقلب الأمر عليها، ويرد بكومة أخري نحوها، وتبدأ حرب كرات الثلج بينهما، ولحظات من المرح والضحكات التي لا تنتهي.

وصلت الأسرة بأكملها إلى المشفى الذي يتلقى فيه خميس الإسعافات اللازمة، بعد خوضه شجارًا غير متكافئ تمامًا مع المرأة وأولادها والجيران الذين شهدوا على ما حدث له. كان يتلقى الضرب على كل مناطق جسده، ليُضاف ذلك إلى سجل خسائره من الكرامة والصحة أيضًا.

يتأوه بصخب داخل الحجرة التي تم احتجازه فيها حتى يتعافى ويتمكن من السير مجددًا. دلف إليه أولاده الثلاثة بصحبة والدتهم، التي أصرت على أن تراه بهذا الوضع.

آاااه، آااه، آاااه، هموت يا ناس هموت.

بادرت والدتهم بالتهكم وبلهجة لا تخلو من الشماتة:

سلامتك، سلامتك يا سبع الرجالة سلامتك من كل شر.

رمقها بنظرة حارقة، فهو الأعلم بشماتتها به الآن، ليحاول النهوض بجذعه ينتوي طردها، لكن غلبه الألم في ذراعه المكسور، فعاد للتأوه والنواح:

آاااه، يا دراعي، ااااااه يا كلي يا أنا ياما! هو أنا كنت حمل أشكال تشمت فيا كمان؟

مصمصت درية بشفتيها، بينما حاول سامر تهدئة الوضع من خلفها قائلاً:

معلش يابا، إحنا جايين نطمن عليك بس.

نظر خميس نحو أولاده الثلاثة بتساؤل:

– كلكم؟

أشاحت سامية بعينيها عنه، لا تطيق الرد عليه، بينما تكفل سمير بالرد:

طبعًا يا أبويا، كلنا، من أول ما وصلنا الخبر وإحنا لمينا نفسنا وجينا على طول نطمن. إنت عامل إيه دلوقتي؟

تلقف السؤال ليجيب بصوت يحمل مظلوميته:

هموت يا بني! الوِلْيَة الحرامية هي وعيالها سرقوني ونهبوني، وآخرة المتمة خرجت من عندها بعلقة! دا أنا اتضربت ضرب مخدوش حمار في مطلع.

ضحكة شامتة بزغت على شفتي درية لتزيده حنقًا، فعبّر عن استيائه:

إنتو جايبين الست دي معاكم ليه؟ عشان تشمت فيا؟ دي جزاتي عندكم!

يابا والله مش كده، أمي بس عايزة تطمن.

قالها سامر لتُعلّق درية مكررة بتهكم:

أهو قالك أهوووه، جاية أطمن وأعمل الأصول. يا راجل يا أبو الأصول! هههههه.

وختمت بضحكة أشعلت رأسه، فكان دخول سامية وخطيبها كنجدة له:

مساء الخير عليكم جميعًا. المشوار قُضي والحكاية انتهت خلاص. يا عم خميس…

مشوار إيه؟

توجهت سامية بالسؤال نحو خطيبها، فأتت الإجابة من والده:

حكاية صفاء يا بنتي. الست دي كانت ملفقة لأبوك كام قضية عشان يتحبس فيهم سنين، بس إحنا ضغطنا عليها وخليناها تتنازل.

جاء اعتراض خميس صائحًا:

نعم! يعني بعد دا كله كمان هي اللي كانت شاكياني؟ دا بدل ما تجيب فلوسي! الحرامية!

انفجرت درية خارجة عن دور اللامبالاة قائلة:

نعم الله عليك يا حبيبي، ما هو دا الطبيعي! تحلبك زي البقرة، ولما تروح فايدتك تِرْمَيك في السجن ولا تتخلص منك أحسن من ده كله!

أممممم…

زمجر بها خميس بغضب، ليتوجه نحو أبنائه بحنق:

يا جدعان بقي واحدة زي دي جايبينها معاكم ليه هااا لييييه؟

كادت أن تمطره بالتقريع وكلمات الشماتة، لكن إشارة حاسمة قام بها طلال رافع يده امامها يسكتتها. ثم وجّه أمره للجميع:

اسمعوا بقى أما أقولكم، أنتوا عيلة في بعضيكم، لكن أنا بصراحة فاض بيا. أنا هجهز الكوشة ولوازم الفرح من دلوقتي، عشان تخرج من هنا على ليلتنا على طول، مش هستنى أكتر من كده.

فرح مين؟

سأله خميس بحيرة، قبل أن يجيب طلال بحسم:

قصدي علي فرحنا، مشاكلكم تحلوها مع بعضيكم، لكن مراتي هتيجي بيتها بقى. تماااااام

صاح في الأخيرة بتحذير جعل الجميع خلفه يوافقون بلا تردد، أما سامية، فقد أسعدها الأمر، حتى إنها لم تستطع الحفاظ على جمودها أو إخفاء تأثرها.

كوخ من الخشب، مزود بكل وسائل الراحة والترفيه، ولكن تغلب عليه اللمسة القديمة الكلاسيكية، هذا الشيء المترسخ برأسه منذ الصغر، يخلق طمأنينة بالعقل، وعاطفة كانت تهفو لهذا الجو الرومانسي،

لقد جهز كل شيء، بداية من اعداد الطعام بطريقته، ليضع الاطباق الفاخرة الآن على المائدة التي زينها بالشموع الملونة الحمراء، بالإضافة إلى مشروب غازي معتاد عليه في هذا البلد، لا يمت للخمر بصلة ولكنه فاخر ويستحق ثمنه الباهظ، من أجل بهجة قلبه والذي قد تنخدع به حينما تراه وتظنه من المسكرات

تبسم بتسلية لمجرد التخيل، ليتوغل بقلبه الحماس من أجل رؤيتها، وقد طال انتظارها، مر اكثر من ساعة

منذ ان اختفت من امامه ولم تخرج من الغرفة حتى الآن، ولكنه لن يستعجلها، لديه الوقت كله، لقد أغلق الهواتف كي يصفي عقله من كل شيء إلا منها

تنهد يرتشف من مشروبه، ثم تحرك نحو المدفأة يضع قطعتين من الخشب ، فوصله رائحة عطرها التي جعلت قلبه يهفو ليلتف برأسه على الفور ناحيتها.

قطب بشيء من الانبهار والتعجب، وقد ظهرت الجميلة امامه بمعطفها الصوفي فوق الفستان، لتبزغ على فمه ابتسامة عزبة في استقبالها ممازحًا:

– هي الحلوة عندها مشوار وانا مش عارف؟

تبسمت ترد بكلمات متقطعة يلوح منها الخجل والشقاوة في أن واحد، وهي تتقدم نحوه:

– مش مشوار، بس الفستان ااا…. يعني بعد ما لبسته،…. كنت عايزة اغيره والله….. بس خوفت لا تزعل…. اصله بصراحة معجبنيش..

– معجبكيش ليه؟

غمغم يستقيم بجسده، ثم اقترب يجذبها من المعطف وبحزم منه، ينزع كفيها التي تشدد عليه في الأمام مردفًا بشغف:

– شوقتيني اشوفه عليكي……… واووو

وتابع بصفير من فمه يتأمله عليها جرأة تزيدها اضطرابًا وكلمات غير مترابطة:

– انت اشتريه ازاي بالتمن اللي قولت عليه، دا قميص نوم والنعمة، يفرق بس في القماشة، عشان مختلفة وفخمة حبتين.

اخرجته بعفويتها عن التأمل وتلك الاحاسيس التي تأججت داخله، ليردد ضاحكًا بصوت مكتوم

– فخمة حبتين!…… ااااه….. هتموتيني، هتموتيني، اخلعي ده بقى خلينا اشوفه عليكي بالكامل .

– تاااني

رددت بها بتذمر لم يكترث له، لينزع عنها المعطف ويلقيه بعيدا، ثم يديرها امامها مواصلا صفيره يعبر تن اعجابه، فالفستان المكشوف بقصته الجريئة لا يخفي الا القليل من جسدها، بالإضافة إلى زينه وجهها الرقيقة والشعر المصفف يحاوط بشرتها بنعومته، فتمثلت امامها فتنة خالصة:

– عارفة يا بهجة، أنا شوفت كتير وقليل، حتى أجمل العارضات ، مفيش واحدة فيهم وصلت لجمالك.

همت ان تجادله مستخفة ولكنه قطع عليها قبل ان تبدأ:

– عارفك هنتكلمي عن جمال الشكل، وأن في ملكات جمال احلى منك، بس انا بتكلم عن انك جمعتي بين حاجتين، جمال في الشكل، وكمان في الروح، وزياااادة بقى، ملكة على قلبي يا اجمل بهجة.

ورفع كفها يقبل ظهره متابعًا:

– ممكن بقى الملكة تقولي نبتدي بإيه، ناكل الاول ولا نقعد جمب الدفاية ولا نرقص، انا جهزت وحضرت كل حاجة، الليدي لازم تأمر بس وانا عليا الطاعة.

أومأت بصوت بح بفرط ما يكتسحها من الداخل، تشير بسبابتها نحو جهاز الموسيقى، في اختيار حددته، لينفذ هو رغبتها على الفور، يدير إحدى الالحان الموسيقية المعروفة، ويضمها اليه، ليبدأ ليلتهم بالرقصة الرومانسية

ما أجمل من أن يدلل الرجل امرأته! فتصير بين يديه كقطعة الحلوى، تذوب مع كل كلمة غزل، فيتوهج وجهها وتزداد جمالا ورقة، تنضح انوثة ونعومة أيضًا

الوصف الحقيقي للمرأة هي انها كتلة لرد الفعل، كل تأثير خارجي ينعكس عليها في الداخل، دللها تجدها أنثى على حق، تقسو عليها وتعاملها بخشونة، اذن فالتستحق ما تتلاقاه منها.

راقصها ودار بها عدة مرات وحملها أيضًا كالفراشة، تناولت معه وجبة العشاء التي أعدها من أجلها، ثم أتى أخيرًا وقت جلستهما أمام المدفأة.

عدة وسائد افترشت الأرض، وفي الوسط طبق الفاكهة والمشروبات وعدد من المسليات، ليجلس مستندًا على إحداها، ويضمها إليه محققًا حلمه القديم، دفء الأجواء مع دفء المشاعر.

هاا، إيه رأيك بقى؟

ضحكت معلقة على كل شيء:

رأيي في إيه تاني؟ أنت عملت لي كل حاجة يا حبيبي، ولا في أحلامي حتى كنت وصلتلها. دلوقتي بس عرفت أنت ليه اخترت المكان ده؟ اتاريك طلعت رومانسي أوي، مع إن ما بيبانش خالص عليك.

أمال كان بيبان عليّ إيه؟ صحيح يا بهجة، انتي أول ما شفتيني حسيتي بإيه؟

ضحكت تدّعي الخوف وقد برقت عيناه أمامها وهو يتصنع الجدية، لتصارحه هذه المرة وقد انزاحت الحواجز التي كانت تمنعها عن إخراج ما في قلبها:

أول مرة عيني جات في عينك، لما ظهرت فجأة وأنا بمسح أثار الفوضي اللي عملتها نجوان في الأرض، في البداية شهقت واتخضيت، أكيد أنت فاكر.

طبعًا فاكر، وده يوم يتنسي؟ ده انتي كنتِ لابسة بيجامة محزّقة ومجسّمة التفاصيل.

قالها وهو يعض بأسنانه على شفته السفلى بمكر جعلها تلكزه بقبضتها كي تنهيه:

بلاش غلاسة بقى، دي هي نظرة واحدة، لحقت تفصل وتجسّم؟

يا بنتي، ومحلقش ليه؟ أنا راجل، يعني عيني تلقط ع السريع.

قالها بتفاخر جعلها تتوجس، سائلة له:

يعني أنت بتبص كده على كل الستات؟

لا والله، عمري.

قالها ليردف مؤكدًا لصدقه:

دي كانت أول مرة أصلًا أتشدّ لوحدة وأركز فيها. آه، أنا أعجبت وانبهرت بستات كتير، مش هأنكر، بس مفيش واحدة خطفتني من أول نظرة غيرك. لما بصيتيلي وعيني جات في عينك، بخضارها اللي ما شفتش جماله في الدنيا كلها، حسيت على طول إن ليكِ حكاية معايا. معرفش إزاي، بس ده اللي حسيته.

وأنتِ كمان إيه؟

أول ما عيني جات عليك، أيوة، اتخضيت في البداية، بس بعدها وأنا بكلمك، كان عندي إحساس إني شوفتك قبل كده، أو أعرفك. وكأن الحكاية اللي بتقول عليها كانت موجودة من زمان، من قبل إحنا حتى ما نعرف بيها… أنا بحبك أوي يا رياض.

قربها من خصرها إليه، ليقابل بتوهج بندقيته صفاء خضراويتها، يردف بصدق اعترافه:

وأنا بعشقك يا قلب رياض.

ثم تناول ثغرها بقبلة ناعمة، تمتزج بها الأنفاس، فتصبح شيئًا واحدًا، يبثها عشقه، وتبادله بلهفتها.

فتتطور القبلات إلى ما هو أعمق وأقوى، التحام الأجساد مع التحام الأرواح، لا شيء يفصل بينهما.

منعزلين بعالمهما عن الكون أجمع، عالم خاص بهما وحدهما، وصال أبدي لا يفصله حتى الموت.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *