التخطي إلى المحتوى

 

رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل السابع وعشرون والثامن وعشرون والتاسع وعشرون والثلاثون والحادي والثلاثون والثانى والثلاثون الأخير بقلم شروق مصطفى حصريه 


رواية جمر الجليد( الجزء الاول)الفصل السابع وعشرون والثامن وعشرون والتاسع وعشرون والثلاثون والحادي والثلاثون والثانى والثلاثون الأخير بقلم شروق مصطفى حصريه 

27_ 28 جمر الجليد

ربطت بين كلمات مي والحلم الذي رأته. ظلت تردد داخلياً:

“خلي بالك من همسة… همسة يا سيلا… همسة محتاجاني…”

فجأة، تركت يدي مي، ورفعت رأسها بسرعة. نطقت بصوت متهدج، كأن الكلمة خرجت رغماً عنها:

“همسة!”

تراجعت مي ونظرت بدهشة بسبب تركها المفاجئ: “اهدي، همسة في أوضتها وماما معاها، ما سبتهاش.”

وقفت سيلا ومسحت دموعها المتبقية: “ط… طيب، أنا رايحة أشوفها.”

ثم خرجت إلى الخارج.

في الغرفة المجاورة، استيقظت همسة باكرًا. نظرت بجانبها واستجمعت ذاكرتها حتى تذكرت هوية النائمة بجانبها. كانت بالأمس قد غفت لعالمها الخاص، تتمنى أن تجد ما تبحث عنه في منامها، لكن دون فائدة.

نهضت بهدوء حتى لا توقظها، وجلست أمام المرآة، وأمسكت المشط لتسرح شعرها كما تفعل والدتها حين تراها تفعل ذلك. ظلت تبتسم بين الحين والآخر للمرآة، تتذكر والدتها وهي تمشط شعرها وتقول:

“همستي حبيبتي، يلا نحضر الفطار.”

فتجيب همسة بابتسامة: “حاضر يا ماما، أسرح شعري وجاية على طول.”

تدخل الأم بابتسامة حنونة، تأخذ المشط منها وتبدأ بتمشيط شعرها:

“أنا بحب أسرحلك شعرك أوي، بحس إنك لسه في عيوني الطفلة الصغيرة اللي مش بتعرف تسرح. عارفة نفسي في إيه؟ نفسي ألبسك طرحتك، طرحة فستانك الأبيض بإيدي كمان. ياااه، إمتى ييجي اليوم ده؟”

خجلت همسة من كلمات والدتها وابتسمت دون أن ترد.

ضحكت الأم ضحكة صافية وأمسكت وجنتيها بحب، قبل أن تقبلها وتقول:

“الله على الطماطم اللي على الصبح. يلا يا هانم، تعالي حضري الفطار معايا. بابا مستني بره، وسيلا هروح أصحيها حالاً.”

تركتها الأم وخرجت. ابتسمت همسة على مداعبتها، لكنها سرعان ما عادت لتحدق في المرآة ودموعها لم تتوقف. انتبهت فجأة ليد أحدهم تمشط شعرها بحنان، نظرت إلى صاحبة اليد فوجدتها أختها سيلا.

كانت سيلا قد دخلت الغرفة ووجدتها تجلس أمام المرآة، تبتسم وتدمع، ممسكة فرشاة الشعر دون أن تمشط شعرها، فقط تائهة في عالم آخر.

أخذت سيلا المشط من يدها وبدأت تمشط شعرها من أعلى لأسفل في صمت.

تركتها همسة تمشط شعرها، لكن ابتسامتها لم تصل لعينيها، إذ كانت مليئة بوجع وألم العالم أجمع. أما سيلا، فكانت تمشط وتنظر مباشرة إلى عيني همسة، متجاهلة انعكاسهما في المرآة.

توقفت سيلا فجأة، وضعت المشط جانبًا، ثم جثت على ركبتيها حتى تكون على نفس مستواها. أمسكت وجنتي همسة بيديها الاثنتين ونظرت في عينيها قائلة:

“همستي حبيبتي، أنا مليش غيرك دلوقتي. انتي أختي، وصديقتي، وحبيبتي، وكل حاجة. ملناش غير بعض.”

صمتت للحظة ثم أكملت همسة بصوت مبحوح:

“عاوزاكي تخرجي كل اللي جواكي أنتِ عارفة…

توقفت لبرهة وهي تبتلع ريقها بصعوبة، ثم تابعت بصوت خافت ممتزج بالدموع التي حاولت جاهدة كتمانها:

“عارفة إن بابا وماما مبسوطين أوي.”

قالت الكلمات وهمسها يحمل شجنًا عميقًا، لكنها تابعت محاولة كسر الصمت الذي يغلف المكان:

“آه والله، بجد مبسوطين… وهما معانا وحوالينا، بس بروحهم. حاسين بينا وبِكِ… وزعلانين مننا، شوفتي؟”

حاولت رسم ابتسامة رغم الوجع الذي يعتصرها، ثم أضافت:

“مش عاوزاهم يزعلوا مننا. أنا شوفتهم… رجعوا صغيرين، وكانوا في مكان زي الجنة. حواليهم أطفال وضحكتهم كانت مليا المكان.”

نظرت لعينَي أختها، وحاولت جذبها للخروج من قوقعة الألم، فأمسكت بيديها وضغطت عليهما بحنان، قائلة:

“آه والله، بجد… وسألوني عنك، كانوا زعلانين أوي.”

كانت همسة تستمع بصمت، ملامحها مزيج من الإنكار والتأثر. فجأة، انزلقت من على الكرسي وجلست على الأرض، ثم احتضنت سيلا وبكت بانهيار، بأنات مؤلمة:

“آآآآآآآه… يعني مش هشوفهم تاني؟ أنا تعبانة أوي… أوي!”

شهقت شهقات متتالية، ثم أضافت بصوت متقطع:

“كان نفسي أشوفهم… أوي.”

قطعت سيلا كلماتها وهمست إليها بحنان وهي تمسح على شعرها:

“راحوا للأحن منا يا حبيبتي. أنا شوفتهم والله… مبسوطين وفرحانين، بس زعلانين مننا. عاوزين نعمل حاجة تفرحهم… إيه رأيك؟ نعمل صدقة جارية ليهم.”

هزت همسة رأسها بالموافقة وهي تبكي:

“موافقة… طبعًا موافقة.”

في هذه اللحظة، انتبهتا لصوت غلق الباب. التفتتا نحو الصوت بنظرات مدهوشة، ثم بادرت همسة بقولها وكأنها تذكرت شيئًا:

“دي طنط نبيلة! كانت نايمة جنبي!”

نظرت إلى سيلا بقلق وأضافت:

“يا خبر! أكيد ازعجناها. طيب… يلا بينا نخرج لهم بره. عيب يفضلوا لوحدهم.”

نهضت همسة بتردد، بينما أسندتها سيلا بحنان وخرجتا معًا لملاقاة من في الخارج.

خرجوا إلى غرفة الطعام ليجدوا مي ووالدتها قد أعدتا الفطور. تقدمت نبيلة نحوهم بابتسامة حنونة، ثم أمسكت وجنتيهما بحنان وقالت:

“حبايبي الحلوين، آسفة لو كنت أزعجتكم. أنا خرجت عشان أسيبكم براحتكم. وإن شاء الله تكون آخر الأحزان يا رب.”

سيلا: “يا رب يا طنط.”

وجهت نبيلة حديثها لهمسة:

“وانتي يا حبيبتي، عاملة إيه دلوقتي؟”

همسة بخفوت: “الحمد لله على كل حال.”

مي بصوت شبابي مليء بالمرح:

“تعالوا! حضرت لكم الفطار من صنع إيديا يا بشر، يا رب يعجبكم!”

قالتها مي محاولة التخفيف من أجواء الحزن، وأيضًا لأنها لاحظت أنهم لم يأكلوا شيئًا منذ الأمس، خاصة سيلا التي تعاني من الأنيميا، وكان موعد جلستها العلاجية اليوم، لكنها لم تكن تعرف كيف تتصرف في الأمر.

هتفت نبيلة بلطف:

“يلا يا بنات، قربوا نفطر سوا.”

توجهت نبيلة نحو همسة وأمسكت بيدها بلطف:

“تعالي يا حبيبتي.”

همسة برفض: “يا طنط، مليش نفس بجد.”

نبيلة: “كُلي على قد نفسك، مش شايفة وشك أصفر إزاي؟ هزعل منك والله.”

ذهبت همسة معها على مضض، وجلست بجانبها.

أما مي، فتوجهت لإحضار سيلا، لكنها وجدتها تسبقها قائلة:

“اعفوني أنا.”

أمسكت مي بذراعها قبل أن تذهب وقالت:

“تعالي هنا، رايحة فين؟ تعالي وسطي عشان خاطر همسة… وعشانك.”

ثم همست في أذنها:

“إنتي بتاخدي علاج ولا نسيتي؟ والجلسة كمان!”

رفعت مي صوتها قليلًا عند كلمة “كمان”، مما دفع سيلا إلى إسكاتها بسرعة:

“هشش! جايه خلاص. متجيبيش سيرة الموضوع ده تاني هنا، فاهمة؟”

قالتها بنبرة تحذير، ثم أضافت همسًا:

“أنا غلطانة إني قولتلك من الأول.”

جلس الجميع على المائدة، والصمت خيم على المكان، إلى أن قطعته مي بمحاولتها إدخال بعض المرح:

“أحم! مل قولتليش… إيه رأيكم في الفطار اللي أنا عملاه كله بنفسي؟” قالتها بتفاخر.

رفعت سيلا رأسها ونظرت لها بنصف عين، ثم صمتت وبدأت تفتت الجبن بالشوكة دون اهتمام.

همسة بابتسامة رقيقة: “تسلم إيدك يا حبيبتي، جميل.”

لكن مي لم تستسلم، فنظرت إلى سيلا وقالت بمرح:

“ها يا سيلا؟ ما قولتيش رأيك!”

نبيلة بنبرة محاولة تهدئتها: “بس يا بت، سيبيهم يأكلوا.”

سيلا برفع حاجبها:

“رأيي في إيه بالظبط؟ ده جبنة وعيش وشاي وخيار! عملتي إيه بالظبط عشان الفرح ده كله؟”

مي بتفاخر مدعية المرح: “الله! ما تكسفنيش بقى… ده اللي بعرف أعمله! كفاية إحساسي ولمساتي.”

نبيلة وهي تضحك: “يخيبك! قال لمسات قال! هتتجوزي إزاي بلمساتك دي؟”

سيلا بابتسامة ساخرة وهي تنهض: “يبقى نسكت أحسن ولا إيه؟”

اقتربت سيلا منها بخطوات وكأنها ستضربها، مما جعل مي تدعي الخوف وتختبئ خلف والدتها:

“خلاص! خلاص! يا ماما دي هتضربني!”

عادت سيلا إلى مكانها وجلست وهي تبتسم، مما أضفى جوًا من المرح على الجلسة وجعل الجميع يضحك. لكن قبل أن ينهوا الفطور، دق جرس الباب، ليعلن عن حضور شخص غير متوقع.

نهضت مي لتفتح الباب، لكنها توقفت فجأة عندما وجدت رجلًا متقدمًا في العمر، اكتسى رأسه بالشيب. تطلعت إليه بتوجس، إذ لم ترتح لنظراته التي تفحصتها من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها. ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة قبل أن يتحدث بلهجة ثقيلة:

“إيه؟ مش هتخليني أدخل يا بنت أخويا؟ ولا هقف كتير على الباب؟”

لم ينتظر إذنها، بل تخطاها ودخل إلى الشقة وكأنه في بيته. وقف يتأمل المكان بنظرات مريبة، وكأن كل تفصيلة تشده وتثير فضوله، حتى انتبه على صوت سيلا الذي ناداه باندهاش:

“عمي؟!”

توقف مكانه، متفاجئًا بردة فعلها، ثم نظر إليها بتأنٍ قبل أن يرد ببطء:

“انتي مين بقى؟ سيلا ولا همسة؟”

تقدمت سيلا نحوه بحذر، تاركة بينهما مسافة آمنة، وقالت بجمود:

“أنا سيلا.” وأشارت نحو أختها: “ودي همسة أختي.”

هز رأسه وكأنه يحاول استيعاب الموقف، ثم أضاف بفضول:

“أمممم، أمال مين ال…”

لكن سيلا قاطعته بإشارة إلى مي ووالدتها قائلة:

“دي صاحبتي مي، ودي مامتها.”

صمت الرجل للحظة، ثم عادت نظراته تتجول في المكان قبل أن تتوقف عند سيلا التي بدت متعجبة من طريقة حديثه. لم تستطع كتمان غضبها وسألته مباشرة:

“إيه يا عمي؟ مش هتعزينا ولا لسه في أسئلة كمان؟”

تدارك الرجل نفسه بسرعة، وأخذ يعيد ترتيب ملامحه إلى مظهر أكثر لطفًا وقال بصوت مفتعل الحنان:

“لا طبعًا، تعالوا في حضني يا حبايبي، يا ولاد الغالي.”

اقتربت سيلا ببطء منه، تمنت داخليًا أن تجد في حضنه شيئًا من دفء والدها، أن تشتم رائحته أو تشعر بالندم في عينيه عن أخطاء الماضي. لكنها لم تجد سوى برود غريب وجفاء يخلو من أي أمان، وكأن حضنه كان مليئًا بالشوك لا بالدفء. ابتعدت عنه دون أن تنبس بكلمة.

نبيلة التي شعرت بالتوتر في الجو، استأذنت بلطف وقالت:

“بعد إذنكم، يلا يا مي تعالي معايا نحضر الغداء.”

ثم أمسكت بيد ابنتها وسحبتها معها إلى المطبخ، تاركة سيلا وهمسة مع عمهم.

مي وهي تهمس لوالدتها: “ماما، أنا مش مطمنة للراجل ده.”

نبيلة بموافقة: “وأنا قلبي اتقبض أول ما حضنهم. ما شوفتيش نظرته كانت عاملة إزاي؟ زي اللي لقى كنز وفرحان. بس اللي مستغرباله… عرف إزاي؟”

مي وهي تفكر: “يا ماما، دي حادثة كبيرة. أكيد عرف من التلفزيون أو الراديو. بيذيعوا في النشرات عن أسماء المتوفين.”

نبيلة بعد تفكير: “آه، صحيح. فاتتني دي.”

بينما كانت مي تساعد والدتها في المطبخ، بدأت تروي لها ما سمعته من صديقتها سيلا مسبقًا:

“ماما، سيلا كانت حكت لي قبل كده إن عمها ده نصب على أبوها زمان، وطرده من البلد. بصراحة، أنا مش مرتاحة لوجوده هنا. ربنا يستر ويبعد عنهم كل شر.”

نبيلة تنهدت وقالت: “يا رب، الله يحميهم.”

في تلك الأثناء، كانت سيلا تدعو عمها للجلوس في غرفة الصالون. أشارت له بلطف إلى أحد المقاعد وقالت:

“اتفضل يا عمي.”

دخلت همسة وجلست بجانب أختها، لكنها بقيت صامتة، إذ لم تكن تتذكر عمها جيدًا بسبب صغر سنها عندما انتقلت العائلة إلى القاهرة.

ابتسم الرجل وحاول أن يفتعل الحنان ليكسر الحاجز بينه وبينهن. بدأ حديثه قائلاً:

“عارفين يا بنات، أبوكم الله يرحمه، كنا دايمًا مع بعض زي التوأم. ما كناش بنفارق بعض أبدًا، لولا يوم ما قرر فجأة يسيب البلد وينقل للقاهرة. كان شايف إن الشغل هناك مع أصحابه أفضل. أنا اتحايلت عليه يفضل ويشاركني في شغلنا، لكنه أصر يا ربنا يرحمه بقى… في الجنة إن شاء الله.”

قالت سيلا وهمسة بصوت واحد: “إن شاء الله.”

هز رأسه موافقًا ثم أكمل قائلاً:

“بصراحة، مراتي كانت نفسها تيجي معايا النهارده، بس هي تعبانة شوية. وبتقولي كل يوم إنها نفسها تشوفكم. وقالت لي إنكم لازم تيجوا تعيشوا معانا هناك. أنتم عارفين… القعدة هنا لوحدكم، وأنتم بنات في السن ده، مش أمان. والطمع في البنات كبير اليومين دول. فما رأيكم؟ تعالوا، هتنبسطوا أوي عندنا.”

نظرت سيلا إليه بحذر وردت بحزم:

“الصراحة، يا عمي، إحنا منقدرش نسيب البيت هنا. ده مكاننا، وإحنا متعودين عليه. وبصراحة ما نعرفش حد هناك.”

ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال:

“إيه الكلام ده يا بنتي؟ أمال أنا فين؟ مرات عمك فين؟ ومحمود، ابني، ما شاء الله عليه، شاب ناجح وكسيب. بيدور على بنت الحلال، وبصراحة شايف إن بنت عمه أحق من أي واحدة تانية!”

تجمدت سيلا وهمسة في أماكنهما، مذهولتين من كلماته. تبادلتا النظرات بصمت، بينما أكمل الرجل حديثه بفرحة داخلية عندما لم يبديا اعتراضًا مباشرًا:

“بصوا، بما إنكم هتعيشوا معايا أنا ومرات عمكم وابني محمود، عندي كمان اقتراح. البيت ده كبير أوي، وفي حي راقٍ، وما شاء الله ديكوراته تحفة. رأيي نبيع البيت، وكل واحد ياخد نصيبه، ويحط فلوسه في البنك أو يشغلها معايا لو حبيتوا.”

ظل ينظر حوله في أرجاء المنزل بنظرات طامعة، وكأنه يقيّم قيمته المادية.

سيلا، التي كانت تراقبه بنظرات حادة وغير مفهومة، أدركت نواياه الخبيثة. لكنها لم تتحدث، بل فضلت الانتظار لترى كيف سيتصرف لاحقًا.

لم يتمكن الرجل من إكمال كلامه، إذ فجأة وقفت سيلا أمامه بغضب وعينان تشتعلان بالنار:

“نبيع إيه يا راجل؟ كبرت وخرفت ولا إيه؟ عيد اللي قولته تاني!”

وضعت يديها على خصرها ونظرت له بحنق شديد قبل أن تضيف بحدة:

“قول بصراحة إنك جاي وراسم على الكبير، بلا أخويا، بلا توأمك، وبلا جو الحنية اللي نزل عليك فجأة ده. ما كفكش زمان لما أكلت حقه؟ دلوقتي جاي تاكل حق اليتامى كمان؟! يكش تخجل على سنك يا راجل، هتقابل ربنا بأي وش؟! واه لو بابا سابلك زمان نصيبه، دلوقتي نجوم السما أقربلك. أنا لحمي مرّ، ما تعرفنيش، ومش هتاخد حقنا، فهمت؟”

رد عليها بغضب وصوت عالٍ، وقد احمر وجهه من شدة الانفعال:

“إنتي قليلة الأدب! أخويا للأسف معرفش يربيك. احترمي نفسك، وشوفي بتكلمي مين!”

زاد غضب سيلا وارتفع صوتها أكثر، لتخرج تمامًا عن سيطرتها:

“هكون بكلم مين؟ واحد نصاب! نصب على أبويا زمان وجاي ينصب علينا تاني. فاكرنا لسه عيال ولا إيه؟!”

ثم هدأت قليلًا لكنها واصلت بنبرة أكثر ثباتًا وحزمًا:

“ده أنت حتى ما افتكرتش أخوك غير لما مات. وجاي تورثه دلوقتي كمان؟ نصيب مين يا أبو نصيب؟ بجاحتك؟!”

ابتسم ابتسامة مليئة بالحقد والخداع، ثم قال بنبرة تحذيرية:

“إنتي ما تعرفيش إن ليّا نصيب في الورث يا شاطرة ولا إيه؟ أخويا مات، وما فيش غيري أخوه الوحيد، وأنتم مجرد بنتين. يبقى ليّا ورث كمان. أنا قلت  تعيشوا معانا عشان أسهل الأمور، لكن لو مش عاوزين، براحتكم. بس نصيبي أنا مش هسيبه، بالرضا أو بالغصب، هآخده، فاهمة؟”

بينما كانت الأجواء متوترة وصوت النقاش يتصاعد بين سيلا وعمها إبراهيم، دلف عاصم ووليد إلى الغرفة. كانا قد وصلا قبل بضع دقائق، وجلست مي معهما في غرفة مجاورة، لكنهما لم يستطيعا البقاء صامتين أكثر عندما بدأت الأصوات تعلو.

دخل الاثنان الغرفة في محاولة لتهدئة الوضع، إلا أن وجودهما زاد الطين بلة. تقدم عاصم بخطوات ثابتة ومعه وليد، وألقى التحية:

“السلام عليكم.”

انتبه إبراهيم إليهما، وبدت على وجهه علامات الغضب والاستهزاء. نظر إليهما نظرة ساخرة وقال بحدة:

“آه، قولولي كده! عجباكم القعدة هنا ورجّالة داخلة وطلعة! ما أنتم مش لاقيين اللي يلمكم بقى!”

ثم أشار إليهما بإصبعه وهو يسأل بسخرية:

“وإنت مين وإنت مين بقى إن شاء الله؟”

لم ينتظر ردًا، بل التفت مجددًا نحو الفتيات ونظر لسيلا وهمسة بنظرات متسلطة وهو يشير إليهما بسبابته:

“ما يهمنيش مين، اسمعوا كلامي. تلمّوا حاجتكم اللي هنا وتيجوا معايا. ده آخر كلام. وانتي…”

وأشار لهمسة التي كانت ترتعد من صوته المرتفع:

“ابني هيكتب كتابه عليكي أول ما نوصل إسكندرية.”

هب وليد فجأة وأمسك إبراهيم من ياقة قميصه بغضب هادر:

“كتب كتاب مين على مين يا راجل يا خرفان؟! همسة دي مراتي! فوق واعرف بتقول إيه! البيت ده محترم، والناس اللي فيه محترمة، ومحدش هيخرج من هنا غيرك!”

ثم دفعه بقوة باتجاه الباب.

تدخلت سيلا، وقد اشتعل الغضب في صوتها:

“ملكش حاجة عندنا! ده شقا بابا لوحده! وانت زمان أخذت حقه بالكامل. انسى إن ليك حاجة هنا. خلص الكلام! يلا برا!”

نظر إبراهيم إليهم بنظرات مليئة بالخبث والوعيد، ثم قال وهو يتجه نحو الباب:

“مش أنا اللي يتقاله يلا، وحقّي مش هسيبه!”

رد عليه عاصم بصوت بارد، لكنه يفيض بالتهديد:

“اعلى ما في خيلك اركبه.”

ثم خطا عاصم للأمام واضعًا يده داخل جيب بنطاله، ونظر لإبراهيم بنظرات مميتة أشبه بنظرات وحش يوشك على الانقضاض.

تساءل إبراهيم بغضب وهو يشير إليه:

“وأنت مين تاني؟! شكلها فتحتها سبيل هنا! اللي داخل واللي خارج!”

ابتسم عاصم بسخرية وهدوء قاتل قبل أن يقول بصوت عميق:

“أنا مين؟ هقولك أنا مين… عملك الأسود.”

ثم أضاف بلهجة حازمة مليئة بالوعيد:

“وأنت ما تعرفش أنا ممكن أعمل إيه. اللي لازم تعرفه، إنك وقعت مع اللي هيخلّيك تندم إنك جيت هنا أصلاً.”

ثم أشار عاصم للفتيات بيده وقال بصوت حاد وهو يشدد على كلماته:

“البيت ده ومَن فيه… من ممتلكاتي. وحط تحت الكلمة دي ميت خط أحمر. فاااهم؟”

صدمت سيلا من كلماته، ورفعت عينيها نحوه بنظرات متسائلة وغير مفهومة، وهمست لنفسها:

“ممتلكاته؟! ده اتجنّن ولا إيه؟!”

أما إبراهيم، فقد توعدهم بنبرة مليئة بالكراهية والغضب:

“وأنا هعرف أتعامل مع أشكالكم دي! وهعرف أجيب حقي، فاكرني هخاف من شوية عيال زيكم؟! هتشوفوا هعمل إيه!”

ثم غادر الغرفة بعصبية، وأغلق الباب خلفه بقوة جعلت الجدران تهتز.

جلست سيلا على أقرب مقعد، غير قادرة على استيعاب ما حدث للتو. أهذا هو عمها؟ الرجل الذي من المفترض أن يكون مكان والدها، يحميهم من غدر البشر؟ بدلاً من ذلك، بدا وكأنه يريد أن ينهش حقوقهم مثل غيره.

استسلمت سيلا لذكرياتها، وعادت إلى الوراء، إلى أيام طفولتها عندما كانت في المرحلة الإعدادية. كانت على دراية بما حدث لعائلتها قبل انتقالهم إلى القاهرة، تلك اللحظات التي طبعت في ذاكرتها رغم صغر سنها.

تذكرت والدها محسن محمد أحمد، الرجل الذي عاش سنوات صعبة في ظل شقيقه إبراهيم. كانا يعيشان في الإسكندرية، في منزل ورثاه عن والدهما. كان المنزل مكوّنًا من طابقين، كل طابق عبارة عن شقة واحدة، بنظام البناء القديم. عاش إبراهيم في الطابق الأول مع عائلته، بينما احتل محسن الطابق الثاني مع زوجته نرمين وابنتيه الصغيرتين، سيلا وهمسة.

لم يكن محسن مرتاحًا للبقاء في هذا الحي، خاصة بعد أن أنجب البنات. كان يخشى عليهن بسبب الأجواء المحيطة؛ تجمعات الشباب التي تحدث ليلاً عند مدخل المنزل، وتعاطيهم للمواد المخدرة، والمشاكل التي كانت تفتعلها زوجة شقيقه، إضافة إلى تصرفات ابن شقيقه السيئة ومرافقة أصدقاء السوء.

وفوق ذلك، جاءت فرصة ذهبية لوالدها للعمل مع أصدقائه المقربين في شركة حراسة. كانت هذه الفرصة بداية حياة جديدة، لكنه كان بحاجة إلى المال لبدء هذه الخطوة.

سرحت سيلا أكثر، وتذكرت ذلك اليوم الذي عاد فيه والدها إلى المنزل، مكتسيًا بالحزن والهم.

لاحظت نرمين زوجته ملامحه الكئيبة، فسألته بقلق:

“مالك يا محسن؟ في إيه؟ مرضاش ولا إيه؟”

جلس بجانبها بتعب، وظهرت في صوته نبرة منكسرة:

“شوفتي يا نرمين… أخويا، اللي من أمي وأبويا، عمل فيا إيه. روحت له وقلت له إني جالي شغل كويس في القاهرة، وعاوز أبيع الطابق بتاعي، على أساس إنه أولى من الغريب. هبّ فيا، وعلا صوته، وقالي: مالكش حاجة عندي. أبويا كاتبلي البيت كله بيع وشراء. ووراني عقد كده!”

صمت قليلًا، ثم أغمض عينيه وقد فرت دمعة على وجنته. مسحتها نرمين بحنو، لكنه تابع بصوت يملؤه الوجع:

“قالي لو كنت قاعد فيها لحد دلوقتي، يبقى ده ذوق مني. بس طالما عاوز تنقل، يبقى في سلامة من دلوقتي!”

توقف مرة أخرى، ثم تابع:

“أخويا يطردني من بيته؟ ومش عاوز يديني حقي؟! أخويا أنا! أنا…”

ظل يردد الكلمات دون استيعاب، حتى حاولت نرمين تهدئته:

“متزعلش نفسك يا محسن. يغور البيت والمكان كله. خليه يشبع بيه. يعني حد هياخد حاجة معاه؟ إحنا منقدرش نستغنى عنك. ربك كريم، ومش بيسيب حق حد. كلنا ماشين ببركته.”

نظر محسن إليها بحزن:

“اللي وجعني مش البيت ولا الفلوس. الفلوس إحنا اللي بنعملها. اللي وجعني إنه باعني كده، على طول. ما سألنيش حتى محتاج إيه. عارفة؟ لو كان قالي إنه عاوز البيت ومش معاه فلوس دلوقتي، كنت والله سيبتهوله. بس ده ما أعطانيش فرصة حتى. دانا لو الغريب طلب مساعدة، ما بفكرش ثانية إلا وأساعده. ما بالك بأخويا؟ ليه الطمع والجشع ده عند الناس؟”

أنهى كلماته بوجع:

“إحنا خلاص… ملناش قعاد هنا. هو جاب الخلاصة، وحقّي عند ربنا. هو العادل، وهيجيب لي حقي حتى لو في سابع أرض.”

ابتسمت نرمين بحنو وهي تمسك وجنتيه:

“اسمعني يا محسن. أنا عندي ذهب كتير مش بلبسه. نبيعه ونفك زنقتنا، لحد ما…”

قاطعها وهو يهز رأسه بحزم:

“مفيش داعي يا نرمين. ما تزعليش مني، لكن ذهبك أنا مش حمدّ إيدي عليه.”

ابتسمت له بمكر:

“طيب اسمعني. أنا وإنت إيه؟ إحنا واحد. وأهو أنت قولت: ذهبي. وأنا عاوزة أدخل شريكة معاك. ولا مش عاوز شريكة زيي بقى؟”

ضحك رغم ألمه، وربّت على يديها بحب:

“حبيبتي… أحلى شريكة!”

وسط هذا الحوار الدافئ، سمعوا صوت شهقات خارج الغرفة. التفتوا ليجدوا سيلا الصغيرة واقفة عند الباب، وعيناها تلمعان بالدموع.

نادت نرمين عليها بقلق:

“سيلا؟ حبيبتي! أنت هنا من إمتى؟”

لم تجد سيلا كلمات ترد بها. كانت حزينة مما سمعته، وغير قادرة على استيعاب أن عمها سبب حزن والدها. 

فجأة، انتبهت إلى صوت وليد يناديها بقلق:

“سيلا؟ أنت هنا؟”

لوّح بيده أمام عينيها حتى أفاقت من شرودها وقالت بصوت مرتبك:

“هاه؟ آسفة… كنت سارحة شوية.”

جلست سيلا على الكرسي، تحاول استجماع شتات أفكارها بعد كل ما مرّ بهم. أمامها، كان عاصم يراقبها بصمت، ينظر إليها بنظرات ثاقبة وكأنه يحلل كل ما يدور في ذهنها.

التفتت فجأة عندما تحدث وليد:

“سيلا، كنت بقولك… هنعمل إيه في عمك؟”

ردت بثبات:

“ولا حاجة طبعًا. سيبك منه. ده احنا اللي عاوزين منه حق بابا زمان، اللي نصب عليه فيه، وبابا سابه وجينا هنا. لكن أنا مش هسيب له حاجة. واللي عنده يعمله.”

ثم تابعت بنبرة جدية وهي تنظر مباشرة إلى وليد:

“المهم دلوقتي الكلام اللي هقوله لك. يمكن مش الوقت المناسب، لكن لازم يتعمل. ده لو أنت لسه على كلمتك.”

نظر وليد إليها متسائلًا:

“قصدي إيه على كلمتي؟ وضحي.”

تنهدت سيلا، وقالت مباشرة:

“عاوزين تكتب كتابك على همسة.”

تفاجأت همسة التي كانت جالسة صامتة بجانبهم، ونطقت لأول مرة وهي ترفع رأسها:

“إيه!؟ إنتي اتجننتي يا سيلا؟”

نظرت إليها سيلا بحزم:

“أنا كنت هتكلم مع وليد في الموضوع ده قبل ظهور عمي، لكن كله جه مع بعضه.”

هزت همسة رأسها نافية بشدة، ودموعها بدأت تتساقط:

“لا… لا… مستحيل.”

أمسكت سيلا بيديها وربتت على وجنتها برفق:

“أسمعيني يا همسة. إحنا بنات لوحدنا في الدنيا دي، والناس معظمها ضمائرها مش حلوة زي عمك كده. لازم يكون لك ظهر قوي وأمان تحتمي فيه. وليد هو أمانك. وبعدين، أنا مش بقولك إنك تحتفلي أو تفرحي دلوقتي. إحنا هنكتب الكتاب هنا في البيت بس، وبعد الأربعين إن شاء الله، يعني لسه في وقت.”

أخذت نفسًا عميقًا وأكملت:

“وبعدين، عمك لو رجع تاني، يلاقي راجل موجود معانا يصده. فاهمة يا حبيبتي؟”

نظرت همسة إلى أختها الكبرى، ورغم الخجل والحيرة التي تملكتها، هزّت رأسها موافقة، ثم خفضت رأسها بخجل.

التفتت سيلا إلى وليد الذي كان يتابع المشهد بصمت، ثم قالت بحزم:

“اتفقنا يا وليد؟”

ابتسم وليد ابتسامة جذابة، ونظر إلى همسة التي لم ترفع رأسها:

“اتفقنا.”

نهض عاصم واقفًا بجانب وليد، وقال بصوته الرخيم:

“نستأذن إحنا.”

وبعد لحظات، غادر كلاهما المنزل، تاركين سيلا وهمسة وحدهما.

نظرت سيلا إلى أختها الصغيرة بحنان، ثم احتضنتها وربتت على كتفها قائلة:

“كله هيعدي إن شاء الله. أنا هدخل أرتاح شوية.”

تركتها وهرولت إلى غرفتها، حيث أغلقت الباب خلفها. شعرت بتعب شديد بعد كل ما تحمّلته أمام الجميع، وزاد الألم عند مغادرتهم. تناولت بعض المسكنات، ثم استلقت على السرير حتى غفت في نوم عميق.

في الخارج، غادر عاصم ووليد المنزل متجهين إلى الشركة لمتابعة أعمالهم.

مرّت الأربعون يومًا بسرعة، لكن الحياة داخل المنزل كانت تسير ببطء وكأن الوقت توقف. سيلا وهَمسة انعزلتا كل في غرفتها، بالكاد تتقابلان على مائدة الطعام. سيلا أصبحت حبيسة غرفتها، متكئة على المسكنات للتخفيف من آلامها، بينما همسة وجدت ملاذها في غرفتها الخاصة بالرسم، تغرق في لوحاتها وتخفي دموعها خلف الريشة.

مي، صديقة سيلا المخلصة، بقيت بجانبهم منذ وفاة والدتهاما، ولم تترك المنزل، رافضة ترك سيلا تغرق في استسلامها. لكن سيلا كانت عنيدة، تواجه صديقتها ببرود متعب ونفاذ صبر.

“سيلا، انتي بتعملي كده ليه؟ ليه ضعيفة كده؟ أنا تعبت منك. مش شايفة حالتك وصلت لفين؟ انتي عايشة على السوائل، وأقل أكلة بتوجعك. طيب، لو مش عشانك، عشان همسة!”

سيلا رفعت صوتها قليلاً، وقد نفد صبرها:

“والله، يا مي، أنا تعبت منك ومن كلامك. أنا كده مرتاحة أكتر. سيبيني على حريتي شوية. آه، أنا بتألم، لكن باخد مسكن وخلاص. تعب الكيماوي ده فوق طاقتي، والله تعبت.”

قالتها بصوت محمّل بالحسرة، وانهارت دموعها على وجنتيها. أكملت بصعوبة:

“عارفة إحساس إنك تلمسي نار غصب عنك؟ مؤلم، صح؟ الكيماوي ده نفس الإحساس… نار جواكي بتحرقك، بتكويكي من الداخل. بصي شعري.”

أشارت إلى خصلات شعرها التي أصبحت ضعيفة ومتساقطة، صمتت قليلاً قبل أن تضيف بصوت متقطع:

“يعني، أنا هعيش لحد إمتى؟! كلها أيام بنعيشها وخلاص. اللي كنت عايشة عشانهم راحوا وسابوني. مفيش دافع أتمسك به. دوافعي كلها انهارت.”

نظرت إلى مي بعينين متعبتين وقالت:

“ولو على همسة، أنا مش هسيبها غير وهي متسندة على ظهر قوي يحميها ويحافظ عليها.”

ردت مي بنبرة تحمل مزيجًا من الألم والرجاء:

“طيب، وأنا يا سيلا؟ مليش غلاوة عندك؟ عايزة تسيبيني وتمشي؟ طيب، اتعالجي عشاني أنا! ما تضعفيش!”

سيلا نظرت إلى صديقتها بعينين مليئتين بالحزن والاعتذار:

“أنا حاولت يا مي، بجد حاولت. بس مش قادرة. والله مش قادرة. محدش حاسس بالنار اللي جوايا. طاقتي خلصت، خلصت خلاص.”

انهارت في حضن صديقتها، تبكي بحرقة. لم تستطع مي السيطرة على دموعها هي الأخرى، واحتضنتها بشدة، تبكي معها حتى غفت سيلا بين ذراعيها.

بعد أن تأكدت مي من نومها، أسندتها برفق على السرير، غطتها جيدًا، وأطفأت الأنوار بهدوء. غادرت الغرفة، وأغلقت الباب خلفها بحرص.

توجهت مي إلى غرفة همسة لتطمئن عليها. عندما فتحت الباب، وجدت همسة جالسة أمام لوحتها في غرفة الرسم. كانت عيونها مثبتة على اللوحة، ترسم وجهًا حزينًا مليئًا بالدموع. لم تكن بحاجة إلى كلمات، فقد رأت مي في الرسم انعكاسًا صادقًا للحزن العميق الذي يعتصر قلبها.

تركتها مي بسلام، أغلقت الباب بهدوء، وتوجهت إلى غرفة الجلوس حيث أجرت مكالمة هاتفية، صوتها منخفض، لكن حزمها كان واضحًا في الكلمات القليلة التي قالتها.

تلقي عاصم المكالمة، لكن سرعان ما ارتسمت علامات الغضب على وجهه بعد سماعه ما قيل له في المكالمة. كان جوابه مقتضبًا:

“تمام، أنا هتصرف، سلام.”

بينما كانت الأحداث تتوالى، جاء دور رودينا التي جاءت لتؤدي واجب العزاء والاعتذار عما صدر منها في وقت سابق. تم قبول اعتذارها، لكن سيلا لم تعد كما كانت من قبل، ولم تعد تعود مع رودينا كما كان الحال في السابق.

انتهت الأربعون يومًا سريعًا، لتأتي اللحظة المنتظرة، يوم كتب الكتاب. كان الجو مشحونًا بالتوتر والترقب. حضر الجميع، عاصم، معتز، وليد، رودينا، ووالدة مي، وهيثم، ليشهدوا هذه اللحظة المهمة.

في الجهة الأخرى، كانت سيلا ومي داخل الغرفة، تحضران همسة وتجهيزنها لهذا اليوم الخاص. كانت همسة ترتدي فستانًا أبيض بأكمام طويلة، مع شريط وردي عند الوسط، والفستان كان واسعًا وجميلاً. والأمر المفاجئ الذي أسعد الجميع كان ارتداء همسة للحجاب، حيث اختارت الحجاب الوردي الذي يتناسب مع شريط الوسط في فستانها، وقررت عدم وضع أي مستحضرات تجميل.

بعد أن تم تجهيزها، خرجت همسة إلى المكان حيث كان الجميع ينتظر. تم استدعاؤها لتوقع على كتب الكتاب، وبالفعل قامت بالتوقيع، ليعلن المأذون رسمياً:

“بارك الله عليكما، وجمع بينكما في خير.”

بدأ الجميع في تهنئتهما، لكن قبل أن يغادر المأذون، توقف عاصم فجأة ومنع المأذون من الرحيل.

قال له:

“استنى يا شيخنا، في كتب كتاب تاني هيتعمل دلوقتي؟”

يتبع 

توقعاتكم

29_ 30 جمر الجليد

عمّ الصمت المكان، وصُدم الحاضرون بشدة، إذ تسمرت أنظارهم عليه في دهشة عارمة. استعاد الشيخ هدوءه وعاد إلى مجلسه قائلاً بصوت رزين:

على خيرٍ بإذن الله… أين العروس؟

وقف عاصم قبالة سيلا، ينظر إليها بثبات كأنه يبحث عن ردّ فعلها، ثم أطلق ابتسامة خفيفة قبل أن يقول بنبرة واضحة:

سيلا!

انصبت الأنظار جميعها على سيلا، التي جلست متجمدة في مكانها، غارقة في أفكارها، عاقدة العزم على إزالة كل العقبات التي تحول دون إتمام مخططها. لكنها سرعان ما انتبهت لصوت الشيخ وهو يكرر سؤاله: “أين العروس؟”، ولتلك النظرات والابتسامة الغامضة التي أطلقها عاصم نحوها.

تملكتها موجة من الغضب، فهبت واقفة كعاصفة هوجاء، وقد تملكتها الصدمة، ثم صاحت بنبرة حادة وشرر الغضب يتطاير من عينيها:

سيلا مين؟! أنا؟ ومع مين؟! أنت اتجننـ؟!

همّت بإكمال عبارتها، لكن عاصم قاطعها سريعًا بصوت حازم موجّهًا حديثه للحضور:

بعد إذنكم يا جماعة… هستأذنكم آخذ سيلا ونتكلم لوحدنا.

ثم أمسك بيدها بحزم، وسحبها نحو الغرفة المجاورة دون أن يترك لها مجالًا للاعتراض.

ما إن أغلق الباب خلفه، حتى أفلتت يدها من قبضته بعنف، وقالت بغضب عارم وصوت مرتفع:

إنت إزاي تقول حاجة زي كده قدامهم؟! مين عطاك الحق في ده؟!

نظرت إليه بنظرات تتقد غضبًا وأكملت بصوت يقطر احتقارًا:

أنا وأنت؟! مستحيل يجمعنا أي شيء… فاهم؟!

توقفت للحظة، ثم أردفت بحزم لا يخلو من تحدٍّ:

إنت بتحلم! أنا مستحيل أوافق عليك، ولو كنت…

لم تتم عبارتها، إذ تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وكمّم فمها بيده، ثم دفعها بخفة إلى الحائط، واقترب منها متحدثًا بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من الصرامة:

سيلا، صوتك مايعلاش، اسمعي الكلام مرة واحدة من غير عِند.

توقف لبرهة ينظر في عينيها، ثم أردف بثقة وهدوء قاتل:

إنتِ فاكرة إنك تقدري تلعبي اللعبة دي لوحدك؟ لا… أنا فاهم كل حاجة.

حاولت دفعه بيديها، ولكن بالنسبة لها كان أشبه بحائط صلب لا يتحرك، ولم يُبدِ أي اهتمام لمحاولاتها. اقترب أكثر، وصوته جاء هادئًا لكنه ممتلئ بالعاطفة:

صدقيني، اللي عملته ده هو الصح. أنا عملت كده عشانك… قبل أي حاجة تانية.

توقف لبرهة، ينظر في عينيها كأنه يحاول أن يخترق صمتها، ثم تابع بنبرة أكثر دفئًا:

مش هقولك “ادي فرصة لعلاقتنا يمكن يحصل وفاق”… لا. أنا عايز أبقى في ظهرك، عايز أرجعلك سيلا القوية اللي عرفتها زمان. إنما سيلا اللي قدامي دي… ضعيفة، مهزومة…

(رفع حاجبه قليلًا، وكأن كلامه أصابها مباشرة، ثم أكمل بصوت منخفض مليء بالعتاب):

عاوزة تستسلمي… للموت؟! لوحدك؟ وتسيبي المرض ينتصر عليك؟ ده اللي كنتي بتفكري فيه… مش كده؟

(لم تنتبه سيلا للدمعة الخفية في صوته، لكنه أكمل بحزم أكثر):

جوزتي أختك بسرعة عشان تبقي لوحدك؟ عشان محدش يحس بيكي وأنتِ بتستسلمي؟ صح؟!

(توقف لحظة ينتظر ردها، ثم اقترب أكثر، وقال بهدوء):

ردي عليا… أنا شفت ده في عنيكي… حسيته.

(نظر إلى وجهها بثبات، ثم تابع بصوت مملوء بالصدق):

سيلا، أنا اتغيرت كتير. مش عاوز منك حاجة غير إنك تثقي فيا… بس كده. وأنا هكون أمانك، وظهرك، وكل حاجة.

كانت كلماته مليئة بالحب والعشق، ليس مجرد حبٍ عابر، بل عشق يريد أن ينتشلها من ضعفها، أن يعيدها قوية كما عرفها. يريدها أن تواجه مرضها وتنتصر عليه، لكنه أدرك أن ذلك لن يحدث إلا إذا كان بجانبها، سندًا لها.

حاولت التملص منه مرة أخرى، تهز رأسها يمينًا ويسارًا رفضًا لكلماته، ولكن هذه المرة لم يقاومها. حرر يده من على فمها، وكأنه يريد أن يسمع منها الجواب الذي سيحسم كل شيء بينهما.

سيلا (بنبرة مشحونة بالرفض والوجع):

إنت… إنت فاكر إنك هتعرف تساعدني؟ إنت مين عشان تشيل اللي أنا فيه؟! ده أنا حتى مش عارفة أشيل نفسي!

(توقفت للحظة، ثم أكملت بنبرة مختنقة):

متحاولش معايا… أنا خلاص… تعبت. مش ناقصة حد يحسسني إني ضعيفة أكتر من كده.

(عينيها لمعت بالدموع، لكنها لم تسقط. حاولت أن تبدو قوية رغم انكسارها، لكن عاصم لم يتحرك خطوة. فقط نظر إليها بعينيه الممتلئتين بالحزن والحب، ثم قال بهدوء):

عاصم:

أنا مش هسيبك، حتى لو رفضتِ. مش هسيبك تدمري نفسك، ولا تستسلمي. أنا هنا، وهفضل هنا، غصب عنك وعن أي حاجة.

تراجعت سيلا خطوة للخلف، لكن كلماته اخترقت قلبها رغمًا عنها. شعرت وكأنها تواجه حربًا داخلية، لكنها أدركت أنه لن يتراجع بسهولة.

في الخارج جلس وليد بجانب همسة التي لم تصدق حتى الآن أن عقد قرانها قد كُتب. ظلت تنظر خجلًا إلى الأرض، وقد اختلطت في عينيها مشاعر الفرح والألم.

أخذ وليد ينظر إليها بابتسامة دافئة، سعيدًا برؤيتها ترتدي الحجاب، الذي لم يضف إليها إلا نورًا وجمالًا. كسر الصمت بينهما قائلًا بنبرة مفعمة بالإعجاب:

مبروك… الحجاب جميل أوي عليكي، ياريت تلبسيه على طول.

رفعت همسة رأسها قليلًا لتنظر إليه بابتسامة خجولة وقالت:

حلو بجد؟

أجابها، وعيناه تتلألآن بشدة عشقه لها:

إنتِ اللي محلياه أكيد.

نظرت للأرض خجلًا من غزله الصريح، بينما امتلأت عيناها بالدموع التي حاولت أن تخفيها. شعر وليد بوجعها الداخلي، فاقترب منها وقال برفق:

همستي… هما أكيد حاسين بيكي وفرحانين ليكي. أنا واخدك بُكرة نزورهم… أنا وإنتِ، إيه رأيك؟

رفعت همسة رأسها بسرعة، وقد اشتعلت السعادة في عينيها:

بجد؟! نفسي أزورهم أوي… ربنا يخليك ليا يا وليد.

ابتسم وليد ابتسامة واسعة وقال:

ويخليكي ليا يا حبيبتي. قريب جدًا تنوري بيتك… كلها أسبوع، وتيجي تنورينا وتكملي حياتي. ساعتها نعمل عيلة صغيرة… أنا وإنتِ… قد كده!

ابتسمت له بخجل، ولم تستطع الرد.

على الجانب الآخر، جلس معتز وقد أخذت العصبية مأخذها منه، يهزّ ساقه بعنف في حركة لا تهدأ، وعيناه معلقتان بمي بنظرات ملؤها الغضب والوعيد. كلما جالت بخاطره أحداث ما جرى، أحس بغصة تخنق صدره وغيظ يعتصر قلبه. أما مي، فقد جلست بوقار يخفي في طياته انتصارًا واضحًا، نظراتها الموجهة نحوه كانت أشبه بتحدٍّ صامت، وكأنها تقول له دون أن تنطق: لا سبيل للحديث معها مرة أخرى. 

متذكرًا ذلك الموقف السخيف، حاول معتز أن يقترب منها ويتحدث إليها، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة. كانت مي دائمًا تتجاهله ببرود متعمد، وكأنما تسد كل أبواب الحوار بينهما. إلا أنه في تلك المرة الأخيرة، لمحها تسير على الرصيف أمامه. دون تردد، أوقف سيارته على الفور ونزل منها، متجهاً نحوها بخطوات ثابتة.

وقف في طريقها واضعًا يده في جيب بنطاله محاولًا أن يبدو متماسكًا، على الرغم من الغليان الذي كان يعصف بداخله. عندما اقتربت منه، استوقفه شيء في ابتسامتها، تلك الابتسامة الغامضة التي لا تخلو من تحدٍّ خفي. أخذ نفسًا عميقًا وقال بصوت هادئ، محاولًا أن يتحكم في نبرة حديثه:

“مي، لو سمحتي، خلينا نتكلم. تعالي نقعد في أي مكان ونتفاهم زي الكبار. بلاش شغل أطفال.”

كان يأمل أن تجد كلماته صدىً لديها، لكن ما حدث بعد ذلك تركه في حالة من الصدمة. تراجعت مي خطوة إلى الوراء، وبدون سابق إنذار رفعت صوتها عاليًا بشكل مباغت، قائلة:

“الحقوني!”

التفت الشباب الذين كانوا يجلسون على مقربة منهم بسرعة، وأشارت مي إلى معتز وهي تصيح بصوت واثق:

“بيتحرش بيا!”

ركضت مي بعيدًا بخفة، تاركة معتز في مواجهة موقف لم يكن يتخيله حتى في أسوأ كوابيسه. وقف في مكانه مذهولاً، وعيناه تتبعانها وهي تبتعد. غص حلقه بالكلمات، ولم يجد سوى جملة خرجت بصوت مبحوح:  

آه يا بنت اللـ…!

لكن الأمر لم ينتهِ عند ذلك. الشباب الأربعة تقدموا نحوه والتفوا حوله بوجوه غاضبة. أحدهم قال بلهجة حادة:

مش جدعنة منك على فكرة.

لم يمنحوه فرصة للدفاع عن نفسه، وانهالوا عليه بالضرب. أربعة شباب ضد واحد، حتى أن مي، التي ابتعدت قليلًا، التفتت لترى ما يحدث. شهقت بصوت مكتوم عندما رأت المشهد. وضعت يدها على فمها، لكنها لم تستطع منع نفسها من الابتسام داخليًا.

تركتهم يكملون ما بدأوه، واتجهت سريعًا نحو الصيدلية. اشترت المسكن وعادت إلى المنزل مهرولة، قلبها ينبض بالخوف من أن يراها مرة أخرى.

عاد للواقع وما زالت عيناه مليئتين بالتوعد، وكأنها رسالة خفية لا تحتاج إلى ترجمة. ظل يكرر الوعيد داخل عقله، منتظرًا الفرصة المناسبة للتحرك.

لاحظت مي الكدمة الزرقاء التي تلطخ أسفل عينه اليسرى، تلك العين التي لم تتوقف عن إرسال تهديدات صامتة نحوها. شعرت بضيق غريب في صدرها لا تعرف سببه، لكنها لم تستطع تجاهل شعور الخوف الذي تملكها. تسللت لتختبئ خلف شقيقها، وكأن وجوده يمنحها بعض الأمان من تلك النظرات التي بدت كأنها تخترق دفاعاتها.

قطع الصمت صوت معتز، موجّهًا كلامه نحو والدتها، وشقيقها الجالسين أمامه:

“أستاذ هيثم، مش كده؟”

ابتسم هيثم ردًا:

“صح، وأنت معتز، ابن عم وليد؟”

هز معتز رأسه بالإيجاب وأردف قائلاً:

“بالضبط… كنت حابب أكمل نص ديني أنا كمان. طنط نبيلة أكيد عرفتني الفترة اللي فاتت.”

ونظر نحوها بنظرة تحمل الكثير من المعاني.

ردت نبيلة بابتسامة ودودة:

“أكيد يا ابني، الصراحة تتقال، أنت وقفت معانا وما سبتناش خالص. ربنا يبارك فيك.”

ابتسم معتز بخفة، ثم وجه حديثه لهيثم مباشرة:

“يشرفني إني أطلب إيد أختك على سنة الله ورسوله.”

كانت الصدمة واضحة على وجه مي، حدقت فيه بدهشة وكأنها فقدت القدرة على النطق. حاولت التحدث، لكن شقيقها كان الأسرع:

“ده شرف كبير لينا، لكن الأصول إنك تطلبها من بيتها.”

رد معتز بسرعة، وكأنه كان يتوقع الرد:

“ما عنديش أي مانع… شوفوا الميعاد اللي يناسبكم، وأنا أجي فيه.”

نظرت له مي بضيق واضح، لكنه قابل نظرتها بنظرة تحدٍّ تحمل الكثير من الإصرار.

تحدث هيثم مع والدته بصوت منخفض، ثم التفت إلى معتز وقال:

“إيه رأيك على آخر الأسبوع الجاي؟ أنا أكون إجازة وقتها.”

بدت الفكرة بعيدة جدًا بالنسبة لمعتز، فرد قائلاً:

“بعيد أوي… طيب خليها يوم الاثنين اللي بعد بُكرة.”

ابتسمت نبيلة وقالت بلطف:

“اللي تشوفه يا بني.”

ارتسمت على وجه معتز ابتسامة نصر واضحة، ثم نظر إلى مي نظرة سريعة، رفع خلالها إحدى حاجبيه في إشارة مليئة بالمعاني الخفية.

بعد ذلك، تبادلوا أرقام الهواتف للترتيب، بينما بقيت مي تنظر له بضيق لم تستطع إخفاءه.

ترك يده عن فمها لكي يسمع ردها، ولكن فجأة ثنت نفسها للأمام، وتلوّت من الألم، ثم سقطت على الأرض. همست بصوت ضعيف: “آه، هموت، مش قادرة… مسكن… مسكن بسرعة… مي… آه.” بالكاد نطقت بها.

هرع خارجًا ينادي على صديقتها:

“مي، لو سمحتي، دقيقة واحدة.”

جاءت إليه، وكان الاستفهام واضحًا على وجهها، ثم تحدث إليها بصوت منخفض:

“المسكن بسرعة.”

ذهبت لجلب الدواء، ثم أحضرته ودخلت معه.

هرول إليها بعينين مليئتين بالقلق والخوف أثناء تناولها للدواء.

أعطتها مي الدواء، ثم ناولتها بعض المياه، لكنها ظلّت متألمة قليلاً، ثم هدأت تدريجيًا.

عاصم، بقلق ظاهر في صوته:

“حاسّة بإيه دلوقتي؟ أحسن؟”

تحاملت على نفسها قليلاً، ثم قامت لتحاول إنهاء هذا اليوم العجيب. نظرت إليه بنفاد صبر، وقالت:

“هكون أحسن فعلاً لو بعدت عني وسبتني في حالي، وانسيت كل الفيلم اللي قولته من شويه… مش عاوزة لا سند ولا ظهر، سندي مات، معنديش بديل، ابعدوا عني بس، وأنا هكون مرتاحة، مش عاوزة حد جنبي، أنا كده كويسة أوي.”

أمسكها من يدها، لكنها دفعته بكلتا يديها، وبدأت تفقد السيطرة على نفسها. ظلّت تضرب صدره ضربات متتالية:

“مش بتفهم؟ ليه؟ ابعد عني بقى، مش عاوزة شفقة من حد، وخاصة منك أنت، مش عاوزة حاجة، سبوني لوحدي بقى.”

قالتها وهي تنهار، وقلبها ينبض بشدة.

حزنت مي عليها، لكنها لم تعرف ماذا تفعل مع استسلامها هذا، فاستنجدت بعاصم وأخبرته بما تنوي فعله.

استفاقت من شرودها بعد مشاورة عاصم لها. تقدمت إليه وهمس في أذنها بشيء ما، ثم انصرفت بعد ذلك.

أطاعت ما قاله، وتركتهم، وانصرفت للخارج لتنفيذ ما طلبه منها.

أمسك يدها مرة أخرى محاولًا تهدئتها، لكنها دفعته بعيدًا قائلة بغضب:

“ابعد عني! ابعدوا عني! سيبوني لوحدي، جاي ليه دلوقتي؟ مش كنت بتبعديني عن حياتك وعن أختك؟ إيه حصل دلوقتي؟ أنا بكره شفقتك عليا، ملكوش دعوة بحياتي! أنا حرة أعيش ولا أموت!”

صمتت قليلاً تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تابعت بغضب شديد:

“ولو آخر راجل، مش هكون ليك، سامع؟”

تركها تفرغ كل ما بداخلها، ثم تحدث أخيرًا بصوت هادئ:

“خلصتي؟”

نظرت له بدهشة من لا مبالاته بما قالته، وهزت رأسها بصمت إلى أعلى وأسفل.

عاصم، محاولًا الحفاظ على بروده:

“طيب، بصي بقى… خلاصة الكلام، طالما هنمشيها بعند، أنا مشيت الناس اللي بره تمام، لكن بطريقتك دي هتضطريني أعمل حاجات عقلك ده مش هيقدر يتوقعها!”

قال هذه الكلمات بجفاء، وتركها في حالة من التخبط والحيرة. ثم خرج بعد ذلك، وأغلق الباب خلفه بقوة.

انتفضت  جراء غلق الباب المفاجئ، ثم جلست على أقرب كرسي لها، تحاول تهدئة نفسها قليلاً.

بعد لحظات، خرجت، لكنها لم تجد أحدًا في المكان سوى شقيقتها. يبدو أن الجميع قد غادروا، حتى مي!

جلست بجانبها، فانتبهت الأخيرة لها، ثم قامت سيلا بحضنها بحرارة وقالت:

“مبروك يا حبيبتي، ألف مبروك! كنتِ زي القمر النهاردة.”

خرجت سيلا من أحضانها وهمست في أذنها:

“تعرفي هتوحشيني أوي… البيت هيبقى وحش أوي من بعدك.”

خرجت همسة من أحضانها وقالت بصوت هادئ:

“طيب، ليه يا سيلا، ترفضي عاصم؟ هو هيصونك بجد، راجل يعتمد عليه، شكله بجد بيحبك. ما شوفتش شكله لما خرج من عندك؟ كان عامل إزاي.”

ابتسمت سيلا لها بحب وكأنها لم تستمع لكلماتها، ثم أجابت:

“سيبك مني أنا دلوقتي، المهم عندي إنتي. كلها أسبوع وها تسيبيني. عاوزين نجيبلك الحاجات اللي ناقصاك، من أول بكره ننزل أنا وإنتي. إيه رأيك؟”

أجابتها همسة بابتسامة صغيرة. 

عند مي كانت لا ترغب في الذهاب مع والدتها وأخيها، كانت تفضل البقاء معهم لتبيت عند رفيقتها. لكنها لم تفهم ما كان ينوي عاصم فعله.

فلاش باك

عادت مي بذاكرتها إلى ما حدث قبل رحيلها من منزل صديقتها.

بعد أن أمرها عاصم بشيء ما وانصرفت لتنفيذه، خرجت وقدمت اعتذارًا للمأذون وطلبت تأجيل كتب الكتاب، موضحة أنه سيتواصل معه لاحقًا.

استأذن المأذون وغادر.

بعد قليل، خرج عاصم من المنزل بوجهٍ لا يبشر بالخير.

نبيلة: “طيب يلا يا هيثم، نمشي، الوقت تأخر علينا.”

هيثم: “يلا يا أمي، هتيجي معانا يا مي ولا حتقعدي؟”

همّت مي بالرد بأنها ستظل، لكنها بالكاد قالت: “أه، حف…” قبل أن يقاطعها عاصم بنبرة صارمة، قائلاً وهو ينظر إليها: “روحي معاهم يا مي، انتي.”

نظرت له مي باستفهام وقالت: “بس… أأ…!”

قابل نظرتها بحركة رأسٍ إلى الأسفل، في إشارة منها إلى أن توافق دون نقاش.

ورغم عدم فهمها لما يجري، إلا أنها وافقت وذهبت معهم.

عودة من الفلاش باك

تنهدت مي داخل غرفتها، تدعو الله بتيسير أمورها، وهمست: “ربنا يستر من اللي جاي.”

وفجأة خطر ببالها معتز، فتذكرت ما فعلته معه ونظراته المليئة بالتوعد. بدأت تضرب كفًا بكف وتلطم على وجهها: “آآآاااع، شكله يخوف! يمامي ده هيموتني لما يجي! آآآاااع، لسه بدري عليا! يعني كان لازم أطلع فيها سبع رجالة فبعض! لا، وجاي بعد بكره… اهئ اهئ!”

استمرت في لعن حظها الأسود من هذه المواجهة المنتظرة حتى استسلمت أخيرًا للنوم.

أما سيلا، فقد دلفت إلى الحمام لتأخذ حمامًا دافئًا يريح أعصابها بعد يوم طويل ومرهق. أنهت استحمامها ثم توجهت إلى غرفتها لترتاح قليلًا.

تمدّدت على السرير وهي تنظر إلى السقف، غارقة في التفكير بما حدث منذ قليل، مسترجعة كلماته الغامضة عن “أشياء غير متوقعة”. رفعت يدها إلى أعلى رأسها وأطلقت تنهيدة عميقة: “آآآآه.”

بينما كانت مستغرقة في التفكير، شعرت بحكة في رأسها. رفعت يدها لتتفقد ما هناك، فوجدت السوار الذي نسيته تمامًا. نفخت بضيق قائلة: “هف! نقصاك انت كمان! نسيتك خالص أصلاً، ومش حاسة بيك! ونسيت كمان أقوله يفكه. قال عاوز يتجوزني! يتجوز واحدة مريضة؟ يعمل إيه بيها؟ أنا خلاص… مش حانفع لحد، لا ليه ولا لغيره.”

همست بهذه الكلمات في حزن، ثم غفت للنوم مباشرة، منهكة من كل شيء.

صباح اليوم التالي

خرجت كل من همس وسيلا للتسوق وشراء ما ينقصهما. وبعد ساعات من التجول بين المحلات، تمكّنتا من إنجاز الكثير، لكن التعب بدأ يظهر عليهما، خاصة على سيلا.

قالت سيلا، وهي تشعر بالإرهاق: “آخر محل ونروح يا همسة، مش قادرة بجد.”

ردت همس، التي بدا عليها التعب أيضًا: “خلاص، أنا كمان تعبت والله.”

قالت سيلا: “طيب، أنا هدخل الأكياس اللي معايا العربية، وأبقى حصليني.”

ردت همس: “خلاص، وأنا مش هتأخر.”

حملت سيلا جميع الحقائب واتجهت نحو السيارة، لكنها تفاجأت بـ…

صباحًا، داخل إحدى شركات AM

ظل عاصم غارقًا في العمل، لكن عقله وقلبه لم يتركاها لحظة. تلك اللمسة الصغيرة منها، رغم بساطتها، كانت كافية لإعادته إلى الحياة، بعد أن كانت روحه صحراء جرداء بلا حياة. غير أن رفضها له كان كطعنة نافذة، أوجعت قلبه البارد الذي لم يعرف يومًا معنى الرجفان، لكنه الآن يرتجف كأنه على وشك فقدان روحه للأبد.

تنهد بعمق، وأخرج نفسًا طويلًا، ثم تناول من جيب بدلته صورًا تخصها، كان يحتفظ بها منذ تلك المهمة التي جمعتهما. حدّق في الصور طويلًا، شارداً بما لا يُرى أمامه. أغلق على نفسه في مكتبه وألغى جميع مواعيده لهذا اليوم. وبينما هو حبيس أفكاره، أمسك هاتفه واتصل بوليد.

عند وليد

في تلك الفترة، كان وليد منشغلاً بتشطيبات الفيلا الجديدة التي يستعد للانتقال إليها مع معشوقته الصغيرة. لم يذهب للعمل، بل قضى وقته مع العمال، يتابع كل التفاصيل الصغيرة. هاتف همسة ليطمئن عليها، واتفق معها على الاتصال به بعد انتهائها وسيلا من التسوق، ليتقابلوا لاحقًا.

بينما كان يضع هاتفه جانبًا، وصله اتصال من عاصم. أجابه مبتسمًا:

“حبيبي! عامل إيه؟”

رد عاصم بنبرة جادة:

“الحمد لله. مش هتيجي الشركة النهارده؟”

وليد، بنبرة اعتذار:

“صعب أوي والله. طول النهار حكون مع العمال بيخلصوا كام حاجة ناقصة. وبالليل هقابل همسة. نزلت مع سيلا يجيبوا شوية حاجات ناقصاهم.”

صمت عاصم لبرهة، ثم قال مفكرًا:

“طيب تمام. وانت رايح لهم، كلمّني. جاي معاك، بس متقولش إنّي جاي!”

رد وليد، مستعجلًا لإنهاء المكالمة:

“تمام، ماشي. سلام بقى، عشان حد بينادي عليّ من العمال.”

أغلق عاصم الهاتف، بينما في داخله كان القرار قد حُسم. اليوم، سيُغلق كل الحسابات المفتوحة. لم يعد هناك مجال لتأجيل الأمور، خاصة إذا كان كل تأخير قد يعني خسارتها… ربما إلى الأبد.

تنفس عميقًا وأخرج زفيره ببطء، مسندًا رأسه إلى الخلف. عينيه مغمضتان، لكن صورتها لم تفارقه حتى في خياله. أقسم لنفسه أنه لن يتخلى عنها أبدًا، مهما كلفه الأمر، حتى لو استسلمت هي. كانت هي الحياة التي عادت إليه بعدما ظن أنه فقدها، والنور الذي شق عتمته.

تذكر حديث الطبيب المتابع لحالتها عندما ذهب إليه في الأيام الماضية. صدمه الطبيب بخطورة وضعها، وأنها إن لم تكمل جلسات العلاج الكيميائي سريعًا قبل الجراحة، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة. كان هذا التحذير كصفعة على وجهه، لكنه أيقظه إلى حقيقة واحدة: لا وقت للانتظار.

استمر عاصم في العمل حتى وقت متأخر من الليل، محاولًا شغل نفسه، لكن عقله كان يهرب إليها في كل لحظة.

كانت سيلا تحمل الحقائب الثقيلة، متجهة إلى السيارة المتوقفة في الجراج. الإرهاق كان واضحًا على ملامحها، لكن خطواتها توقفت فجأة.

تجمدت في مكانها حين رأت عاصم هناك، مستندًا إلى مقدمة سيارتها، بذراعيه المعقودتين وصدره المرتفع كأنه يحاول جمع كل شتات نفسه قبل المواجهة.

التقت أعينهما… تلك النظرة الحادة المليئة بالكلمات التي لم تُقال بعد، كانت كفيلة بأن تجمد كل كلماتها على شفتيها.

تقدمت سيلا نحوه بنفاد صبر، رافعة إحدى حاجبيها في تحدٍّ واضح، وقالت بحدة:

“إنت مراقبني بقا ولا إيه؟”

ابتسم عاصم بهدوء، لم يتأثر بحدتها، وردّ بثبات:

“جاي أسمع قرارك لآخر مرة… فكرتِ في اللي قولتُه ليكي؟”

سيلا تجاهلت كلماته، وفتحت باب السيارة الخلفي لتضع الحقائب الثقيلة التي كانت تحملها. أغلقت الباب، ثم توجهت إلى الباب الأمامي، عازمة على إنهاء هذا النقاش الذي لم تكن في حالٍ تسمح به. وقفت للحظة، ثم نظرت إليه نظرة صارمة وقالت بكلمة واحدة، مختصرة كل شيء:

“انسى.”

كادت تفتح الباب وتدخل، لكنه كان أسرع منها. مدّ يده ليغلق الباب، ثم انتزع المفاتيح من يدها بحركة خاطفة. استدار سريعًا وركب السيارة، مغلقًا الباب بإحكام، وأشار لها بيده أن تركب من الجهة الأخرى.

تجمدت في مكانها، مصدومة من تصرفاته، ثم ضربت سطح السيارة بقوة وغضب.

خفض زجاج السيارة قليلاً ونظر إليها بثبات، وقال بهدوء لكنه يحمل نفاد صبر:

“اركبي الأول ونتفاهم بعدين.”

نظرت إليه بدهشة، غير مصدقة تصرفه الجريء، وقالت بحدّة:

“إنت بجد؟”

ردّ بصوت جاف، يحمل صيغة أمر لا تحتمل الرفض:

“يلا، اركبي بقى.”

عقدت ذراعيها أمام صدرها، مظهرة عنادها وتحديها الواضح، وقالت:

“لا! أنا مستنية همسة، ويلا اخرج بقى من عربيتي!”

ابتسم بسخرية، وردّ بثباتٍ قاتل:

“همسة مع وليد. يلا بلاش رغى على الفاضي. اركبي.”

قال كلمته الأخيرة بنبرة مرتفعة قليلاً، مما زادها غيظًا. دبّت قدميها على الأرض بحدة، ثم التفتت فجأة، وركبت السيارة أخيرًا. أغلقت الباب بقوة، وأدارت وجهها للجهة الأخرى، وقالت بغضب مكتوم:

“وبعدين بقى؟! مش كنا خلصنا؟”

نظر إليها بنظرة صلبة مليئة بالهيبة، وقال بصوت منخفض لكنه يحمل تهديدًا خفيًا:

“صوتك مايعلاش تاني.”

شعرت برهبة من نبرته، فابتلعت غضبها بصعوبة، وأخذت نفسًا عميقًا تهدئ به أعصابها. قالت محاولة السيطرة على نفسها:

“طيب، رايح فين؟ ممكن أفهم؟”

لكنه لم يجبها. أدار السيارة وانطلق بها في صمت مطبق، متجاهلًا كل كلماتها وثرثرتها، يحاول أن يهدأ من عاصفة مشاعره التي لم يمر بها من قبل.

توقف أخيرًا أمام النيل، في مكان هادئ خالٍ من الضوضاء. الليل كان قد أرخى سدوله، وانعكاس الأضواء على المياه جعل المكان أشبه بلوحة سحرية تبعث على السكينة.

التفت إليها، وملامحه هذه المرة كانت هادئة بشكل غريب. تحدث بلين وصوت منخفض:

“هديتي؟ ممكن نتكلم بهدوء بقى؟”

لكن بدلًا من أن تهدأ، استشاطت غضبًا أكثر من إلحاحه. نظرت إليه بحدة، وقالت باندفاع:

“إيه؟ إنت شايفني مجنونة وبشد في شعري ولا إيه؟ مش بحب الطريقة دي، وعلى ما أظن إنّي نهيت كل حاجة معاك. وهقولها لك للمرة الأخيرة: ابعد عن طريقي خالص… ممكن؟”

انفجرت في وجهه، كلماتها كسياط تلهب صدره، ثم أدارت وجهها بعيدًا عنه وكأنها ترفض مجرد وجوده بقربها.

تنهد عاصم بحزن، مدركًا عمق الجرح الذي سببه لها. مد يده برفق وجذب وجهها لينظر في عينيها المليئتين بالوجع، وقال بصوت خافت يحمل رجاءً:

“بصيلي… ليه كل ده؟ أنا خايف عليكي بجد!”

تمنى أن تجد في كلماته ما يخفف عنها، أن تتراجع عن قرارها، لكن الرد جاء قاسيًا وغير متوقع. دفعت يده عنها بقوة، صوتها مخنوق بالمرارة، وقالت بحدة:

“ما تقولش خايف عليا تاني! أنا محدش بيخاف عليا غيرهم… فاهم؟ هما بس اللي كانوا بيخافوا عليا!”

عند ذكرهم، انهمرت دموعها بغزارة، ولم تستطع السيطرة على نفسها. وكأن سدًا من المشاعر المكبوتة انهار فجأة. تابعت بصوت متهدج، كأنها تخرج كل ما احتبس في قلبها لسنوات:

“فجأة كده بقيت خايف عليا؟ وعَلى حياتي كمان؟ ومتمسك بيا أوي دلوقتي؟ افتكرتني بس دلوقتي؟! إنت طول عمرك كنت بتبعدني عنكم. إيه اللي حصل دلوقتي؟! لو أنا نسيت، أنا مستحيل أنسى! إهانتك… تجريحك ليا… اتهامك لشرفي… لما قلت إني شمال. فاكر؟ فااااااكر؟”

عينيها التمعت بالدموع والغضب، وواصلت بانهيار:

“جيتلي وأنا فاقدة النطق من اللي شفته، ومقهورة إني مالحقتش البنت اللي اتقtتلت تحت أيديهم! وبعد ده كله، جيت تكمل عليا بكلامك… قتلت اللي باقي فيا، وفرقتني عن أقرب صاحبة ليّا. محدش حس باللي حسّيته، ولا حد عاش اللي عشته. زمان كنت بموت بالبطيء… وإنت؟ إنت كنت السبب! إزاي تتوقع إني أنسى؟”

لم تستطع التوقف عن البكاء، وكأنها تفرغ كل الألم الذي حملته لسنوات طويلة. أكملت بصوت منكسر، وهي تشير إلى جرح على كتفها:

“بتقول بتخاف عليا؟ بتخاف عليا من إمتى؟ فاكر يوم عقابك لما هربت من حمايتك ضrبتني بدم بارد هنا؟  وسبتني مرمية بنزف لوحدي يوم كامل؟”

شهقاتها باتت متتابعة، لكنها لم تتوقف عن الحديث، كأنها تُخرج حملًا جثم على صدرها طوال عمرها. قالت بصوت خافت لكنه موجع:

“حتى لما اتهمتني إني السبب في إصابة أخوك… فاكر؟ حتى وقتها ماسبتنيش في حالي!  أنا دلوقتي مابقتش عاوزاك جانبي. مش عايزة حد يقرب مني.”

ابتسمت بسخرية، لكنها كانت ابتسامة لم تصل إلى عينيها الغارقتين في الدموع:

“إنتو بتقولوا إني غلطانة… إني كان لازم أسكت. لكن أنا؟ ذنبي إيه؟ ذنبي إني حاولت أصرخ عشان أجيب حق بنت كانت ممكن تكون أختي أو بنت بلدي؟ ذنبي إني رفضت أكون سلبية زيكم؟ كل اللي عملته إني حاولت أواجههم، عشان أوقفهم، وكنت متأكدة إن الحق لازم ينتصر. لكن إنتو؟ كنتوا واقفين تتفرجوا، وسايبينني لوحدي!”

أخذت نفسًا متقطعًا، لكنها لم تستطع إخفاء الإرهاق الذي بدا واضحًا على ملامحها. أكملت بصوت مثقل بالحزن واليأس:

“كل اللي طلبته منكم إنكم تسيبوني في حالي. أنا خلاص… حالة ميؤوس منها. مش باقي لي في الدنيا غير همسة، واطمنت عليها. الحمد لله… كفاية عليا كده.”

توقفت للحظة، والدموع تنساب على وجنتيها بلا توقف. نظرت إلى النيل أمامها وكأنها تحادث نفسها، وقالت بصوت مكسور بالكاد يُسمع:

“سيبوني أروح لهم… هما وحشوني أوي.”

بقى عاصم في مكانه، عاجزًا عن الرد. صدمته كلماتها التي ألجمت لسانه، وعينيه المليئتين بالندم تابعتاها وهي تخرج كل ما كان مختبئًا داخلها. لم يكن في وسعه سوى أن ينظر إليها بصمت، مدركًا أن كل ما قالته كان صحيحًا… ومدركًا أنه السبب الأكبر لكل ما عانته.

ــــــــــــــــــ

كلماتها خرجت كأنها خناجر مسمومة بنصل حاد، تغزو قلبه بلا هوادة، تمزق داخله مئات المرات. شعر بألمها وكأنه يراه لأول مرة بوضوح. هي السبب، وهو الجاني. رجف قلبه للمرة الثانية، وكأن قسوته التي اعتادها لم تعد تقوى على احتمال هذا الكم من الألم.

لم يدرك نفسه إلا وهو يجذبها إليه بعنفوان كمن يحاول أن يحميها حتى من نفسه. ضمها بين ذراعيه بقوة، يخفيها داخل أحضانه، وكأنها أمانه الذي أضاعه.

انصدمت سيلا من فعلته، وحاولت التملص من قبضته، لكن عاصم أحكم احتضانها أكثر، وكأنها آخر ما يملك في الحياة. لم يستطع السيطرة على ما بداخله. لأول مرة، أسوار بروده العالية التي بناها طيلة حياته انهارت، وأطلق آهة طويلة وموجوعة، كأنها تعبير عن سنوات من الألم المكبوت:

“آآآآه…”

ارتعدت أوصالها داخل أحضانه عند سماعها آهات انكساره، لكنها توقفت عن المقاومة، شعرت بضعفه لأول مرة. شدد احتضانه كأنه يخشى أن تفلت من بين يديه، وهمس بصوت متحشرج، يحمل كل وجعه الذي كان يخفيه:

“آه… لو تعرفي أنا شفت إيه في حياتي… آسف، والله آسف على كل دمعة كنت السبب فيها. آسف على كل كلمة جرحتك بها. أنا هافضل طول عمري متأسف… لأنك وجعتي، والوجع ده بسببي.”

كانت كلماته تشق طريقها إلى قلبها رغم ألمها، وحين تحدث مجددًا، شعرت وكأنها تسمع شخصًا آخر، شخصًا ينزف من أعماقه:

“صدقيني… اللي كان بيتعامل معاكي ده مش أنا. ده كان شخص ميت، واحد مات جواه كل إحساس، شاف أمه تخونه مع واحد غريب، وشاف بعينه موتها على إيد أبوه، وشاف أبوه يموت قدامه في نفس اليوم. أنا كنت إنسان مات يومها… مات ثلاث مرات في نفس اللحظة.”

توقف لوهلة، ثم رفع وجهها بيديه لتنظر في عينيه، وأكمل بصوت يحمل رجاءً صادقًا:

“أنا كنت إنسان ميت… وانتي اللي أحييتيني. انتي اللي رجعتيلي روحي، مستحيل أسيبك تسيبيني دلوقتي. أنا عاوزك، محتاجك، ومش عاوز سيلا الضعيفة دي. أنا عاوز سيلا القوية اللي عرفتها. ارجعي لي، سامعاني؟”

خفضت سيلا رأسها وهي تحاول أن تحجب دموعها. همست بصوت بالكاد يُسمع، لكنه حمل كل انكسارها:

“للأسف… جيت متأخر. أنا خلاص… مش باقي فيا حاجة عشان أديها لأي حد.”

قطع حديثها سريعًا بوضع يده على فمها، مانعًا إياها من الاسترسال في كلامها الذي أحرق قلبه:

“هششش… ماتكمليش. أنا جنبك، وهفضل جنبك. انتي مش لوحدك… أنا هنا، وهفضل هنا. مش هسيبك أبدًا.”

شد على كتفيها، ينقل قوته لها، وتحدث بثقة عميقة:

“انتي أقوى من كده… وصدقيني، احنا نقدر نكمل مع بعض. انتي محتاجاني… وأنا محتاجك أكتر من أي حاجة في الدنيا. مش هطلب منك حاجة دلوقتي غير إنك تسامحيني… وإننا نبدأ من جديد. انتي نور حياتي اللي طفى زمان… والنور ده مش هينطفئ تاني.”

سيلا ظلت صامتة، لكن عيناها حملتا أكثر مما تستطيع التعبير عنه بالكلمات. تنفست بعمق، وكأنها تحاول استيعاب كل ما قاله. أخيرًا، همست بصوت خافت:

“أنا… أنا خايفة.”

ابتسم ابتسامة صغيرة مليئة بالحزن والرجاء، وأمسك يدها برفق:

“أنا كمان خايف… بس هفضل جنبك. مش هطلب منك إنك تحبيني دلوقتي، بس خلينا ندعم بعض. أنا هكون كل حاجة ليكي… أخوكي، وأبوكِ، وسندك، وأمانك. بس أوعديني إنك مش هتستسلمي.”

شعرت بقوة يده تحتضن يدها، وكأنها رسالة طمأنينة. لم تجد الكلمات، فقط أومأت برأسها بخفوت، وكأنها توافق على ما يقول.

فجأة، جذبها إلى أحضانه مرة أخرى، هذه المرة بلهفة امتنان. همس بقلب ينبض عشقًا:

“بحبك… بحبك، سيلا.”

كانت كلماته بمثابة وعد… وعد بأن الحياة لن تكون كالسابق، وبأنهما معًا سيصنعان طريقًا جديدًا، مليئًا بالأمل والقوة.

أدرك عاصم نفسه سريعًا بعد انجراف مشاعره، فابتعد على الفور قائلاً بصوت مرتبك:

“أحم… آسف، بس… بصراحة، مش مصدق اللي بيحصل.”

اكتسى وجه سيلا بحمرة الخجل، ولم تستطع التفوه بشيء، فآثرت أن تدير وجهها بعيدًا عنه، قبل أن تهمس بخفوت يكشف عن إرهاقها:

“ممكن نروح… أنا عايزة أنام.”

قهقه عاصم للمرة الأولى بصوت عالٍ خرج من أعماقه، وكأن شيئًا بداخله قد تحرر:

“والله كنت فاكر إنك هتنامي في حضني، بس ما حصلش!”

ارتبكت سيلا وتاهت للحظة وهي ترى ابتسامته الحقيقية للمرة الأولى. ظلت تحدّق به بصمت، بينما تهمس في داخلها: “عرف منين؟ أنا بنام وأنا واقفة أصلاً… يلا، مش مهم.”

ابتسم عاصم وهو يراقب شرودها، ثم علق بتلقائية:

“عادتك بقى، هنقول إيه؟”

انتبهت فجأة وسألته بدهشة:

“وإنت عرفت إزاي إن دي عادتي؟ سمعتني وأنا بتكلم مع نفسي ولا إيه؟… بسم الله، شكله ملبوس.”

همست بالجملة الأخيرة بصوت خافت، لكنها لم تغب عن أذنه.

ضحك عاصم وهو يلتفت إليها:

“آه، سمعتك على فكرة، بس هعدّيها.”

رمقته بنظرة حادة وقالت:

“إنت بايخ أوي، تعرف؟”

رد بلامبالاة ظاهرة:

“مقبولة منك برضه.”

تغيرت ملامحه فجأة ليعود إلى الجد، وسألها بنبرة هادئة:

“بكرة هتكوني مع مي في قراءة الفاتحة، صح؟”

أومأت برأسها:

“آه، طبعًا.”

بقلم شروق مصطفى

صمت للحظة قبل أن ينطق ببطء، وكأنه يختبر رد فعلها:

“طيب… إيه رأيك بكرة نخلي المأذون يكتب كتابنا؟”

لم يجد ردًا منها، فاقترب قليلًا وهتف بصوت خافت يحمل رجاءً:

“سيلا… يا حبيبتي.”

اهتز صوته عند نطق الكلمة، وكأنها مسته غصة في داخله. أما هي، فارتجفت لوهلة دون أن تعرف سبب ذلك الشعور الغريب الذي اجتاحها. أكمل حديثه:

“أنا حابب أكون جنبك… نبدأ حياة جديدة سوا، وأول حاجة نكمل علاجك اللي سبتِه.”

رفعت سيلا عينيها إليه، وأجابته بنبرة واهنة تحمل ألمًا دفينًا:

“لا… بلاش. أنا مش عايزة. العلاج ده بيقتtلني… بيألمني أوي. تعبت منه بجد.”

شدد عاصم على يدها بنبرة تحمل صلابة وثقة:

“سيلا، أنا معاكِ. الأول كنتِ لوحدك، لكن المرة دي أنا جنبك. مش هسيبك، وفاهم إنك أقوى من ده. ما ينفعش تضعفي دلوقتي. إحنا هننتصر على أي حاجة سوا. وبعدين، أنا هسفّرك برّه تعملي العملية، وهفضل معاكي في كل خطوة. فاهمة؟”

أومأت برأسها بخفوت، وقالت بصوت يكاد لا يُسمع:

“فاهمة.”

ابتسم عاصم بسعادة مفاجئة وقال بمزاح:

“يااااه، أول مرة ما تعانديش. حبيبتي أخيرًا بتسمع الكلام!”

رفعت رأسها ونظرت إليه بعناد مصطنع:

“طيب… مش فاهمة.”

ضحك عليها وقال:

“لأ، كلمة الحق طلعت الأول بس.”

تذكرت فجأة السوار الذي ترتديه ومدت يدها نحوه:

“طيب ممكن تفك البتاعة دي؟ مضايقاني أوي. مش خلصت مهمتك خلاص؟”

نظر إلى السوار بملامح متحيرة، ثم قال بأسف:

“للأسف… مش هينفع.”

حدّقت فيه بدهشة وسألت:

“ليه؟”

تنهد عاصم وأجاب بصدق غافل:

“عشان… لما كنتِ بتوحشيني، كنت بسمعك منه.”

اتسعت عيناها من الصدمة، وهتفت:

“إنت بتقول إيه؟! قصدك إيه بإنك كنت بتسمعني؟”

أدرك عاصم زلة لسانه، فحاول التهرب متوترًا:

“هاه؟ لا… مين قال إني بسمع؟!”

لكن سيلا لم تتركه، وواصلت بنبرة مندهشة:

“يعني مش ده مجرد تتبع؟! كنت بتتصنت عليا؟!”

حاول أن يخفف التوتر بابتسامة صغيرة وقال:

“آه، في خاصية تصنت بس مش بفتح كتير، يعني مش حاجة تخوّف!”

حدّقت فيه بغضب مكتوم:

“إنت بجد… مش طبيعي!”

أردفت بنبرة صارمة:

“فكه دلوقتي… مش طايقاه.”

لكنه بدلاً من الرد، أمسك يدها وقبّلها بحنان. سحبت يدها بسرعة وغطت وجهها خجلًا وهي تهتف:

“إنت… إنت بتعمل إيه؟!”

قهقه عاصم على ملامحها الطفولية، وقال مبتسمًا:

“ماشي… بكرة نفكّر في موضوعه.”

ردت بنبرة محذّرة:

“ما تسمعش حاجة تاني، ماشي؟”

قال وهو يحاول كتم ضحكته:

“هحاول.”

صمت للحظة، ثم نطق اسمها بهدوء:

“سيلا.”

التفتت إليه بصمت، فقال:

“افتحيلي قلبك… ممكن ندّي نفسنا فرصة؟”

تنهدت بعمق وأجابته بصدق مؤلم:

“مقدرش أوعدك… قلبي مات من زمان. الحادثة دي… والماضي اللي مريت بيه، خلاني مش عارفة أدي حاجة لحد. أنا خايفة أظلمك.”

أمسك يدها وضغط عليها بثبات وقال:

“سيلا… أنا مش هجبّرك على حاجة. بس سيبيها للوقت. إحنا نقدر نبدأ من جديد، مع بعض.”

شعرت سيلا ببعض الطمأنينة بين كلماته. أومأت برأسها وقالت:

“هحاول.”

ابتسم عاصم داخليًا، وتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لهما.

يتبع الفصل الجاي الأخيرررررررر من الجزء الأول

31_32 جمر الجليد بقلم شروق مصطفى 

سيلا… أنا مش هجبّرك على حاجة. بس سيبيها للوقت. إحنا نقدر نبدأ من جديد، مع بعض.”

شعرت سيلا ببعض الطمأنينة بين كلماته. أومأت برأسها وقالت:

“هحاول.”

ابتسم عاصم داخليًا، وتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لهما.

بينما كان وليد يتقدم نحوها في المول، توقف قليلاً، متأملاً همسة وهي تقف حائرة بين الإكسسوارات النسائية. كانت ابتسامته الدائمة حاضرة، مشعّة بالثقة التي اعتاد أن يحيط بها كل من حوله. اقترب بخطوات هادئة، حتى صار بجوارها، ومد ذراعه ليشير إلى قطعة محددة قائلاً بنبرة واثقة:

“دي أجمل حاجة هنا على فكرة.”

شهقت همسة فجأة، مرتدة للخلف بخوف واضح، ثم رفعت رأسها نحوه وهي تقول بحدة مليئة بالدهشة:

“إنت! كده برضه يا وليد! تخضني؟”

ارتسم على وجهها الضيق وهي تكمل بلهجة عاتبة:

“زعلانة منك، امشي بقى!”

ضحك وليد، محاولاً تلطيف الموقف:

“أسف والله، مقصدش أخضك. ما أنا لسه قافل معاكي ع التليفون وعارفة إني هنا.”

ردت همسة بنبرة تحمل بعض العتاب:

“ما كنتش عارفة إنك جاي على طول.

ابتسم وليد بخفة:

“حقك عليا حبيبتي، ما تتضايقيش.”

وضعت همسة يدها على قلبها، قائلة بخفوت:

“خلاص، بس ما تعملهاش تاني.”

رد وليد بحنان:

“حاضر، وعد! ها، خلصتي ولا لسه؟”

نظرت همسة إلى ما أشار إليه قائلة:

“خلاص، هاخد ده.”

تقدمت نحو الكاشير لتدفع، لكن وليد أوقفها بنظرة صارمة لم تعهدها من قبل. تجاهل اعتراضها تماماً، دفع الحساب بنفسه، ثم التقط الحقيبة من العاملة وسار أمامها نحو الكافيه القريب، وهي تلحق به في صمت.

حين جلسا معاً، نظرت همسة إليه بحذر، قائلة بصوت منخفض:

“مالك يا وليد؟ في حاجة مزعلاك؟”

نظر إليها وليد بغضب مكبوت، وهو يتحدث بحزم:

“همسة، آخر مرة تعملي كده. انتي دلوقتي مسؤولة مني، أي حاجة تخصك أنا اللي أتكفل بيها. فلوسك؟ هفتحلك حساب في البنك تشيليها فيه، لكن أي حاجة تانية أنا اللي لازم أتصرف. ما تحطينيش في الموقف ده تاني، مفهوم؟”

ارتبكت همسة، وانخفضت بنظراتها نحو الطاولة، قائلة بخجل:

“آسفة والله ما كان قصدي. لسه… لسه مش متعودة على كده.”

رأى وليد الحُمرة التي غمرت وجهها، فابتسم بلطف، مغيراً نبرته إلى الهدوء:

“خلاص، ارفعي رأسك، الناس هيقولوا إني مزعل القمر اللي قدامي ده. ها، هتطلبي إيه تشربي؟”

انتفضت همسة فجأة، وكأنها تذكرت شيئاً هاماً:

“سيلا! نسيتها. لازم أكلمها تيجي تقعد معانا.”

ضحك وليد وهو يطمئنها:

“سيلا مع عاصم دلوقتي، بينهم شوية أمور بيصفّوها. ادعيلهم يتفاهموا.”

هزت رأسها بابتسامة خفيفة:

“إن شاء الله.”

بدأ حديثهما يتخذ منحى أعمق، يتبادلان فيه أحلامهما وطموحاتهما، ويضعان أسساً لمنزل زوجيّة مشترك، قائم على المودة والتفاهم. ولتتويج هذه اللحظات، أخبرها وليد بفكرة أداء عمرة معاً كبديل لحفل الزفاف التقليدي.

شهقت همسة بسعادة لم تستطع إخفاءها:

“بجد! ده أحلى خبر سمعته. كنت بحلم بيها.”

ابتسم وليد، مكملاً:

“قلت بما إننا مش هنعمل فرح كبير، ندخل بيتنا على طاعة ربنا. لما لبستِ الحجاب، حسيت إني أكتر واحد محظوظ. ربنا يبارك لنا في حياتنا.”

نظرت إليه بامتنان، قائلة بحب:

“ربنا يباركلي فيك. أنا فعلاً محظوظة إنك في حياتي.”

حين عادت همسة إلى المنزل، وجدت سيلا عند الباب، محاطة بحقائبها. سألتها همسة بدهشة:

“إنتِ لسه واصلة؟”

أجابت سيلا بصوت خافت:

“أيوة، عاصم هو اللي وصلني.”

تابعت همسة بشيء من الارتباك:

“والله ما كنت عارفة إنه جاي. وليد كلمني وأنا في المول، وكنت مشغولة.”

لكن نظرات سيلا لم تكن تحمل أي فرحة تُذكر. وحين سألتها همسة عما حدث، أجابتها سيلا بجملة قصيرة، لكنها مفاجئة:

“بكرة كتب كتابي.”

شهقت همسة، واحتضنتها بشدة قائلة:

“بجد! مبروك يا حبيبتي!”

لكن سيلا، برغم عناقها، لم تُظهر الحماس المتوقع، وانسحبت سريعاً لتقول بصوت منهك:

“أنا بس تعبانة شوية. هدخل أستريح.”

دلفت سيلا إلى غرفتها، حيث أخذتها أفكارها إلى صراعات داخلية، قائلة لنفسها:

“هل قراري كان صحيحاً؟ أم أنني تسرعت؟ يمكن أن يكون هذا أملي الأخير… لكن لماذا لا أشعر بالفرحة؟”

تنهدت بإرهاق:

“ربما قدري أن لا أفرح أبداً.”

… 

جلس كل منهما مع أفكاره، يتأمل المستقبل الذي ينتظرهما، والمصاعب التي قد تواجههما. كان عاصم غارقًا في حيرة وقلق، يحاول إقناع نفسه أن الأمور ستسير كما هو مخطط لها. أما سيلا، فكانت تحاول الهروب من مواجهة الواقع بتجاهل كل شيء، إلا أن قلبها المثقل بالهموم لم يكن ليهدأ.

في تلك الأثناء، كان معتز يعيش يومه بطريقته الخاصة. لم يذهب إلى الشركة كعادته، بل ظل في المنزل يرتب نفسه بعناية، يختار ما سيرتديه للقاء الغد، والبسمة لم تفارقه. كان يرى اليوم المنتظر كبداية جديدة، وأخيرًا سيجتمع بملاكه البريء.

صباح اليوم التالي

الجميع كان مستعدًا للمقابلة مساءً. دلف عاصم إلى غرفة أخيه ليحدد موعد الذهاب، وأخبره بأن كتب الكتاب سيتم اليوم. بارك له معتز وغادر، تاركًا عاصم غارقًا في أفكاره المتضاربة.

حاول عاصم مرارًا الاتصال بسيلا للاطمئنان عليها وإخبارها بأنه سيمر لأخذها، لكنها تجاهلت مكالماته.

سيلا، التي كانت مستيقظة بالفعل، نظرت إلى هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين وأغلقته بتردد، محاولة إبعاد كل ما يربطها بالواقع. ذهبت إلى همسة لمساعدتها في تجهيز أغراضها قبل انتقالها إلى منزل زوجها بعد يومين.

دخلت سيلا غرفة همسة لتجدها منشغلة بمكالمة هاتفية، فأشارت إليها أن تعود لاحقًا. لكن همسة رفعت يدها مشيرة لها بالبقاء.

همسة: ” موجودة، في حاجة ؟”

ثم أضافت بابتسامة: “تمام هقولها؟ ، ونكون جاهزين في الميعاد.”

أنهت المكالمة ونظرت إلى سيلا بنبرة مازحة: “عاصم كلمك كتير مش بتردي عليه ليه؟” 

سيلا، مرتبكة: “آه، لا، كان صامت مخدش بالي… في حاجة؟”

همسة بابتسامة خفيفة: “هيعدوا علينا الساعة الثامنة، جهزي نفسك. 

هزت سيلا رأسها موافقة: ” هساعدك  في تجهيز حاجتك الأول.”

أمضت الأختان الوقت في تجهيز حقائب همسة. اختارت سيلا لها فستانًا زيتوني اللون، مغلقًا بأزرار وحزام جملي عند الخصر، ونسقت معه حجابًا وحقيبة وحذاءً بنفس اللون.

ابتسمت همسة واحتضنت سيلا بامتنان: “بجد مش عارفه من غيرك كنت عملت ايه، ربنا يباركلي فيكي يارب.”

ثم أضافت بسعادة: “و انتي هتلبسي ايه تعالي نختار لك حاجه مناسبه ؟

ابتسمت سيلا بمجاملة: ” انا هخد الاول شاور سريع و نشوف.”

بعد قليل خرجت سيلا من غرفتها مرتدية بنطالًا أسود، بلوزة برقبة مرتفعة سوداء، وشال بيربيري، مع جاكيت طويل أسود.

عندما رأتها همسة، صاحت بدهشة: “أية دا يا سيلا! ال لابساه ده! و لسه ساعتين على الميعاد كمان.

سيلا بتوتر واضح: “ماله لبسي انا مرتاحه كده سيبيني براحتي.

همسة، محاولة التهدئة: “بس انهاردة عندنا مناسبة مهمة انتي وعاصـ… 

قاطعتها سيلا بحدة، وقد بدأت تفقد أعصابها: “يوه بقى كل شويه عاصم سيبوني في حالي بقا. !”

توقفت فجأة، مدركة عصبيتها المفرطة، وزفرت بخفوت: “أنا آسفة يا حبيبتي، مش قصدي… بس متوترة شوية.”

اقتربت منها همسة ووضعت يدها على خدها بحنان: “ولا يهمك يا حبيبتي، التوتر ده طبيعي.”

بينما كانت همسة تراقبها بقلق، أمسكت سيلا بحقيبة يدها واستعدت للخروج.

همسة بتعجب: “رايحة فين؟ لسه بدري!”

 

سيلا بتردد: “هروح عند مي أقعد معاها شوية لحد ما تيجوا.”

همسة باستغراب: “بس هما جايين ياخدونا مع بعض!”

سيلا بحسم: “عادي، قوليلهم عند مي. سلام بقى عشان متأخرش.”

غادرت بسرعة، لكنها في الحقيقة كانت تهرب. تهرب مِن مَن؟ من الجميع؟ أم من نفسها؟ قضت الليلة تتقلب على سريرها، عينها معلقة في السقف وكأنها تبحث عن إجابة، ولم يغفُ لها جفن من شدة التفكير.

اتصلت بصديقتها مي، وقد أثقلها التردد، لتبلغها بأعذار بدت واهية وغير مقنعة عن عدم قدرتها على الحضور في هذا اليوم الذي يفترض أن يكون مميزًا. تجنبت الحديث عن الاتفاق الذي دار بينهما بالأمس، كأنها تخشى مواجهة ما يثقل صدرها.

مي، على الرغم من شعورها بالضيق وخيبة الأمل، تفهمت أن سيلا تعاني من صراع داخلي يخص علاقتها بعاصم. ولم تشأ أن تضغط عليها أكثر. 

أغلقت المكالمة ثم نظرت إلى معصمها بضيق وهمست:

“مافضلش غير السوار بس!…”

كانت تشير إلى السوار المعدني الذي يطوق يدها، وكأنه قيد يمنعها من التنفس.

استقلت سيارتها متجهة إلى أحد محلات المجوهرات، وعندما دخلت طلبت من البائع أن يزيل السوار. الرجل تأمله قليلًا، ثم رد باعتذار:

“للأسف يا آنسة، السوار ده تصميم خاص، مينفعش يتفتح إلا بالمفتاح الأصلي.”

شعرت بالإحباط وخرجت مسرعة تبحث عن مكان آخر. في المحل الثاني، كان الجواب نفسه. لكنها لم تيأس، وأصرت أن تجد حلاً.

في المحل الثالث، سألها البائع:

“هياخد شوية وقت، تستني؟”

نظرت إلى ساعتها بتردد:

“اد إيه؟”

رد البائع:

“حوالي نص ساعة لساعة.”

شعرت بالضغط، فالوقت كان يداهمها، لكنها وافقت في النهاية:

“ماشي، بس خلص بسرعة.”

ابتسم البائع بطمأنينة:

“ما تقلقيش، بس الشغل ده محتاج هدوء.”

ثم أشار إلى كرسي بجانبه:

“اقعدي هنا وثبتي أيديك.”

جلسَت وهي تمسك أنفاسها، تُراقب خطواته بحذر. جلب البائع جهازًا صغيرًا يشبه المسدس، ومن فوهته خرجت شعلة نار دقيقة. قال لها بلهجة جادة:

“إيدك ماتتحركش خالص، ممكن تتحرقي.”

هتفت سيلا بلهفة:

“متقلقش، بس خلص بسرعة.”

لكنه رد بهدوء:

“لأ، مش عاوز استعجال. دي إيدك اللي بنتعامل معاها، لو السوار بره كان الموضوع سهل.”

لفّ معصمها بقفاز حراري لحمايتها، ثم بدأ بتوجيه النار على السوار. كان يعمل بحذر، يشغل الجهاز ويطفئه على فترات، حتى انصهر المعدن قليلًا فبدأ يتفكك تدريجيًا. العملية استغرقت ساعة كاملة، لكنها انتهت أخيرًا.

سيلا بابتسامة مليئة بالراحة:

“أخيرًا! شكرًا جدًا.”

دفعت له الحساب وخرجت مسرعة، دون أن تعرف وجهتها، لكنها لم تدرك بعد حجم العاصفة التي ستواجهها.

في منزل همسة، كانت قد انتهت من تجهيز نفسها تمامًا، تنتظر وليد في هدوء وابتسامة تملأ وجهها.

على الجانب الآخر، كان عاصم ووليد يستعدان أيضًا. عاصم ارتدى بدلة سوداء أنيقة مع قميص أبيض وربطة عنق سوداء، بينما وليد كان بنفس المظهر. أما معتز، فقد اختار بدلة كحلية أظهرت أناقته بشكل مميز، مع عطر فاخر يملأ المكان برائحته.

خرج الثلاثة سويًا، لكن معتز استأذن ليذهب بسيارته منفردًا، قائلاً:

“هروح أجيب شوية حاجات قبل ما أجيلكم.”

رد عاصم، وهو يغلق باب السيارة:

“تمام، أنا ووليد هنجيب البنات ونحصلك.”

تحرك وليد وعاصم بالسيارة، متجهين إلى منزل البنات في الطريق، شعر عاصم بانقباض غريب في قلبه. لم يعرف سببه، لكنه حاول تجاهله.

عندما وصلوا، اتصل وليد بهمسة ليخبرها بأنهم بالخارج. وبعد دقائق، نزلت همسة وحدها، ووجهها يفيض بالفرح والخجل.

وليد، وهو يقترب منها:

“إيه القمر ده؟! لا، أنا مش هستنى اليومين دول، إحنا النهارده نروح بيتنا!”

ابتسمت بخجل وهي تهمس:

“بس كده عيب، عاصم هنا!”

أمسك يدها بحنان وفتح لها باب السيارة لتجلس. لكنه تفاجأ عندما وجدها وحدها في الداخل. سأل بقلق:

“هي سيلا فين؟!”

توقف عاصم فجأة، وكأن الزمن قد تجمد معه، عيناه تحدقان في باب العمارة بنظرة مثقلة بالشوق والتوجس. ببطء، نزل من السيارة، خطواته تئن تحت وطأة الترقب، وكأن قلبه يسبق جسده نحو الباب. وقف هناك، مسمّرًا كتمثالٍ حي، لا يحرك ساكنًا سوى أنفاسه المتلاحقة التي فضحت اضطرابه. عيناه لم تفارق الباب، وكأنه يراه نافذة لأملٍ طال انتظاره قطع تأمله حديث همسة: 

“سيلا نزلت بدري… راحت عند مي.”

التفت عاصم بغضب مكبوت:

“إيه؟ ومقولتيش ليه؟!”

 حاولت التبرير:

“هي قالتلي إنها متوترة شوية، ومي محتاجاها.”

تجاهل كلامها وأشار لهم بالدخول إلى السيارة:

“يلا اركبوا.”

ركب بعدها، ووجهه محتقن بالغضب. قبض على قبضته بشدة.”

انطلقوا في الطريق، وعاصم يجاهد ليخفي البركان الذي يغلي داخله. 

ـــــــــــ

عاد معتز بعد شراء بعض الحلوى واتصل بهم لينتظر وصولهم. لم يمض وقت طويل حتى وصل وليد بالسيارة، وتجمعوا جميعًا أسفل البناية.

توجه معتز بنظره نحو همسة قائلاً بابتسامة:

إزايك يا همسة؟

أجابته بابتسامة رقيقة:

الحمد لله، مبروك، إن شاء الله يتمملك على خير.

رفع معتز يده بطريقة مسرحية وقال:

يا رب.

ثم أخذ يهندم ملابسه وهو يسأل بابتسامة خفيفة:

ها، شكلي مظبوط كده قبل ما نطلع؟

وليد اعتدل في وضع كرافته وأجاب:

تمام، مظبوط.

التفت معتز إلى أخيه وغمز له بمرح:

مش عايزني أساعدك في حاجة يا عريسنا؟

كان عاصم شارد الذهن، منشغلاً بأفكاره، ولم يلتفت إلا بعد أن وكزه معتز، فرد بنبرة حادة:

انزل من فوق دماغي، مش فايق لك.

شعر وليد بتوتر الجو، فتدخل ليخفف حدة الموقف، قائلاً وهو يلكز معتز مازحًا:

لما نشوفك فوق هتبقى عامل إيه يا خيبتها!

التفت نحوه بنظرة حادة:

لم نفسك وعدي اليوم، مش ناقصين استظرافك.

واصل وليد المزاح وهمس لهمسة وهو يكتم ضحكاته:

شوفِ، أول مرة يتوتر بالشكل ده، هيعمل إيه فوق؟

وكزته همسة بخجل وقالت:

بطل هزار، الموقف مش مستحمل.

رفع وليد يده بمرح:

خلاص، سكتنا.

ثم استأنف الحديث موجهاً كلامه لعاصم:

بقولك، كلمت المأذون، جاي إمتى؟

رد عاصم وهو يستعد للمصعد:

كلمته، هيجي على الساعة تسعة. معتز يخلص الأول ونبدأ بعدهم.

وليد بابتسامة:

على بركة الله كان نفسي عامر يكون معانا. 

أجاب عاصم بينما يتحرك نحو المصعد:

عامر عنده ضغط شغل في الغردقة.

غابت الكلمات بينهم للحظة، وتقدموا جميعًا نحو لحظتهم المنتظرة.

وصلوا أخيرًا أمام المنزل، حيث استقبلهم هيثم بحرارة وأدخلهم إلى غرفة الصالون ذات الأثاث الراقي المكون من قطعتين. جلست المجموعة، بينما حضرت والدة هيثم للترحيب بهم.

استأذنت همسة بلباقة:

طيب، أنا هدخل أشوف مي جوه.

نبيلة بابتسامة مشجعة:

أه، طبعاً، اتفضلي يا حبيبتي.

دخلت همسة الغرفة، متوقعة وجود شقيقتها، لكنها فوجئت بغيابها.

هبت مي واقفة بعصبية، وما إن رأت همسة حتى انفجرت معاتبة:

كده تسيبيني لوحدي؟ محدش عبرني، لا إنتِ ولا أختك النادلة دي!

ارتبكت همسة وسألت بصدمة:

إيه؟ سيلا مجتش؟

أجابت مي بصوت خافت:

كلمتني من ساعتين واعتذرت. قلت أكيد مش عايزة تواجه عاصم، وسكت.

اتسعت عينا همسة وهي تضع يدها على وجهها:

دي قالتلي إنها جاية لك من ساعتين! يا خبر! النهارده كتب كتابهم، عاصم أتصالح معاها من امبارح. إزاي تعمل كده؟

نظرت مي إليها بذهول وصوت مختنق تعلم سبب فعلتها:

نعم؟! إنتِ بتهزري؟ طيب هي فين؟ عاصم عارف إنها هنا؟

ردت همسة بقلق واضح:

هو ده اللي محيرني… إيه اللي حصل؟

قاطعت حديثهما نبيلة التي دخلت فجأة:

في إيه يا بنتي؟ الناس قاعدة بره، يلا تعالي!

خرجت نبيلة مسرعة، بينما استدارت مي نحو همسة وقالت بلهفة:

روحي لوليد بسرعة، خليّه يحاول يهدي عاصم، أكيد هو هيعرف يلاقيها.

هزّت همسة رأسها موافقة والخوف يسيطر عليها:

حاضر، يا رب يستر.

عادت مي وجلست بجانب والدتها، تحاول إخفاء توترها بينما كان معتز يجلس مبتسمًا، يتطلع إلى لحظة الحديث مع العروس. في هذه الأثناء، اقتربت همسة من وليد وهمست له بضع كلمات جعلته يومئ برأسه بتفهم.

التفت وليد إلى عاصم، الذي كان يجلس بجواره، وعيناه معلقتان بالباب الذي خرجت منه الفتيات، ينتظر خروج سيلا بتلهف لا يستطيع إخفاءه. كسر وليد صمته بهمسة مقتضبة ألقاها في أذن عاصم، فتجمد الأخير في مكانه.

كانت الكلمات كصاعقة سقطت على رأسه. شعر وكأن الغرفة قد اختفت، والوجوه من حوله باتت بلا ملامح. صوت الضحكات والأحاديث تحول إلى ضجيج بعيد، كأنه يعبر من عالم آخر. لم يعد يسمع شيئًا سوى صدى أفكاره المتخبطة: “تركتني؟ تخلت عني؟”.

جلس عاصم وسط الجميع، لكنه كان في عالمه الخاص، يغرق في بحر من الأسئلة التي لا إجابة لها. كيف يمكن أن تفعل ذلك؟ ألم نتفق؟ ألم نتجاوز كل شيء معًا؟ شعور بالخيانة يضيق صدره، لكنه يكتمه بصمت قاتل.

رفع وليد يده وربّت على كتفه بهدوء محاولاً أن يخرجه من شروده، لكنه لم يلق أي استجابة. كان عاصم غارقًا في دوامة الذكريات، يتذكر لحظات تصالحهما، وابتسامتها التي كانت كفيلة بإذابة أي غضب. كيف تحولت تلك الابتسامة إلى غياب؟

وسط هذا العدم، حاول وليد أن يتصرف بحكمة. اقترب منه وهمس من جديد:

متقلقش، هنلاقيها. بس خلي بالك من نفسك قدام الناس ومعتز.

هزّ عاصم رأسه ببطء، محاولاً استعادة توازنه، لكنه شعر وكأن ثقل العالم بأسره قد انصب على كتفيه. عاد إلى واقعه الظاهري، لكنه لم يعد هو. شعر أن المكان يضيق عليه، وكأن الهواء بات أثقل من أن يتنفسه. نهض فجأة، مستأذنًا بصوت هادئ متحججا: بعد اذنكم بس هطلع اعمل مكالمة مهمة. 

تحرك هيثم برفق إلى جانبه، يرشده إلى الشرفة بخطوات ثابتة رغم الاضطراب الذي بدا جليًا عليه، تقدم نحو السور واستند إليه، ممسكًا بهاتفه كذريعة لا أكثر… 

… 

عندما دخلت مي، وقف لها معتز مرحبًا بابتسامة جذابة.

نبيلة بابتسامة رسمية:

اتكلموا هنا قدامنا.

تركتهما نبيلة وجلست بعيدًا مع البقية، بينما مد معتز يده مصافحًا مي بابتسامة:

مش عاوزة تسلمي عليا ولا إيه؟

ترددت مي لثانية وكادت أن تسحب يدها، لكنه شدها قائلاً بمرح:

حرام عليك، للدرجة دي بخوف؟

ردت بتوتر:

لا، عادي.

جلست في صمت، بينما تابع معتز الحديث بابتسامة:

أنا مش مصدق إني قابلتك أخيرًا. ده إنتي نشّفتي ريقي يا شيخة!

عندما لم ترد، مال نحوها قائلاً بمزاح:

هتفضلي ساكتة كده كتير؟ ولا إيه؟ أمال فين “الحقوني بيتحرش بيا”؟

ارتجفت مي ولم ترفع عينيها له. شعر معتز بندم كبير على ما سببه لها من خوف، فربّت على يدها بحنان قائلاً:

ما تخافيش، مش هعضك. صدقيني، أنا اتغيرت.

بعد لحظات من الصمت، رفع وجهها برفق قائلاً بصوت صادق:

انتي هنا… مكانك هنا.

وأكمل بابتسامة:

ممكن نفتح صفحة جديدة؟

أومأت مي برأسها بخجل موافقة، فوقف معتز فجأة بحماس صارخًا:

أيوه بقى!

نظر حوله معتذرًا:

أحّم… آسف.

ضحك الجميع، بينما كانت مي تخفي وجهها بحرج.

جلس معتز مرة أخرى بجانبها وهو يهمس بسعادة:

آسف آسف، بس من الفرحة مقدرتش أمسك نفسي. تعرفي إن دي أول مرة أفرح بجد من قلبي؟

نظرت له مي باندهاش:

بجد؟

ابتسم معتز وأكد:

أيوه والله.

بينما هم في هذا الحديث، اقترب هيثم وربّت على كتف معتز ممازحًا:

ها، إيه الأخبار يا عريس؟

خفضت مي رأسها في خجل، بينما أجاب معتز بنبرة مليئة بالثقة والفرح:

السكوت علامة الرضا أهي!

ضحك هيثم، ثم قال ممازحًا:

يا مي، طيب أين صوتك؟ هزي رأسك أو اعملي أي حركة!

بالفعل، هزت مي رأسها برفق واندفعت مبتعدة إلى جانب والدتها، ووجنتاها قد احمرّتا خجلًا.

نهض معتز بعد ذلك، واتجه مع هيثم للجلوس مع باقي العائلة. بدأت الأم حديثها بلطف، ودارت المناقشة حول تجهيزات الفرح، واتفقوا على قراءة الفاتحة.

في هذه الأثناء، كان عاصم يقف في الشرفة، ممسكًا بالسور بقوة، يحاول تهدئة نفسه من الغضب. جاء وليد يناديه بلطف:

عاصم!

التفت عاصم بعيون مشتعلة كالجمر، فسأله وليد بهدوء:

عرفت هي فين؟

أجاب عاصم بنبرة حازمة وهو يشد قبضته على السور:

هعرف، بس نمشي من هنا الأول.

اقترب وليد منه وربت على كتفه محاولًا تهدئته:

طيب اهدى كده عشان أخوك. وكلّم المأذون ألغيه مؤقتًا. تعال نقرأ الفاتحة. 

هدأ عاصم قليلًا، وتوجه مع وليد ليشاركوا في قراءة الفاتحة.

بعد الانتهاء، أخرج معتز علبة بها خاتم كان قد اشتراه خصيصًا لمي، وألبسها الخاتم بنفسه بابتسامة واسعة لم تفارق وجهه. نظرت له مي بخجل، وابتسمت ابتسامة خفيفة لأول مرة.

استأذن عاصم سريعًا، وقال بعذر دبلوماسي:

عندي مشوار مهم لازم أخلصه.

نبيلة، مستغربة:

ما لسه بدري يا ولاد، اقعدوا شوية كمان!

رد عاصم متمالكًا نفسه:

معلش، أعذرينا المرة دي. مشوار مهم. 

ثم وجه كلامه لمعتز:

هتيجي معانا ولا هتقعد ؟

معتز بابتسامة هادئة:

هقعد شوية واحصلكم.

همست مي وهمسة لبعضهما أثناء وداع الأخيرة:

طمنيني وكلميني أول ما توصلي، ماشي؟

هزت همسة رأسها موافقة، وودعتهم جميعًا.

ركب عاصم السيارة بجوار وليد وهمسة، وما أن أُغلقت الأبواب، ثبت نظره بحِدة على الطريق أمامه. أمسك بالمقود بقوة، حتى برزت عروق يده، كاشفة عن الغليان الذي يحاول جاهداً كتمانه.

لاحظ وليد توتره، فاختلس نظرة قلق نحوه، ثم قال بحذر، محاولاً تهدئة الأجواء:

عاصم، هدِّي أعصابك… عشان نقدر نفكر صح. 

 لم يُجب عاصم على كلمات وليد، واستمر في القيادة بعصبية، وكأن عجلة القيادة هي المنفذ الوحيد لغضبه المكبوت. ارتسم على وجهه قناع من الجمود، يخفي خلفه عاصفة من المشاعر المضطربة. قبضته المشدودة على المقود وبرزو عروقه كانت شاهدة على صراع داخلي لا يُحتمل.

في المقعد الخلفي، جلست همسة صامتة، تنظر عبر النافذة، وكأنها تهرب بعينيها من ثقل اللحظة. كانت دعواتها الخافتة في سرها هي كل ما تملكه، تناجي الله أن يُهدي الأمور قبل أن تتفاقم.

كان ذهنه غارقًا في دوامة من التشوش، تتصارع داخله الأسئلة دون إجابة. كيف لها أن تفعل به هذا؟ كيف تجرأت على أن تهدم كل ما بناه في لحظة؟ لأول مرة، كسر صمته وأخرج ما في داخله، منحها ثقته كاملة، ووعدها بأن يكون سندًا لها، وأن يظل بجانبها مهما كان.

ولكنها، برغم ذلك، تخلت عنه… وبسهولة. وكأن وعوده لم تعنِ شيئًا. 

وصلوا إلى المنزل بخطوات متسارعة يسبقهم القلق الذي كان ينهش قلوبهم. صعدوا متلهفين، آملين أن يجدوا إجابة تطمئن أرواحهم، لكن ما وجدوه كان الصمت، صمتًا أثقل من أي كلمات.

لا أثر يشير إلى وجودها، وكأن المكان يعلن غيابها بصمت مريب. وقفت همسة في منتصف الصالة، تنقل نظراتها بين أرجاء المنزل في حيرة وقلق. أشار وليد إليها بهدوء قائلاً:

شوفي أوضتها… يمكن نلاقي حاجة تطمنا.

تحركت همسة بخطوات بطيئة نحو الغرفة، مشدوهة بمزيج من الخوف والأمل. لم تمضِ سوى لحظات حتى لحق بها وليد، وقد التقط أذناه صوت بكاء مكتوم بدا كأنه يتغلغل في الجدران، ينبض برائحة الحزن.

أما عاصم، فقد بقي عند الباب، جسده متسمّر، ونظره مثبت على الأرض. لم يقوَ على الدخول، وكأن قدميه رفضتا حمله إلى مواجهة الحقيقة التي يخشاها.

داخل الغرفة، كان كل شيء يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى، كانت تبحث بعينيها ويديها عن أي خيط، وأثناء ذلك توقفت فجأة. عيناها وقعتا على ورقة مطوية على الطاولة، وبدت كأنها تركت عمدًا لتُكتشف.

مدت يدها بتردد، التقطتها بارتعاش واضح. فتحت الورقة، وما إن قرأت السطور الأولى حتى اختنقت بعبراتها، وبدأت دموعها تنساب بلا صوت. كانت الصدمة تفوق قدرتها على التعبير، وكأن الكلمات المكتوبة أثقل من أن يتحملها قلبها.

 اقترب وليد منها بخطوات سريعة. أخذ الورقة من يديها المرتعشتين، وتفحصها بعينين غارقتين في الحذر والقلق. مرت لحظات ثقيلة وهو يقرأ، ملامحه تتبدل بين الذهول والأسى

 ثم بدأ يقرأ بصوت منخفض:

“همستي حبيبتي، ما تزعليش مني إني سبتك فجأة، عندي أسباب خاصة بيا. وده لأن عندي عقدة في لحظة الوداع. ابدأي حياتك الجديدة مع وليد، بيحبك وهيحافظ عليكي. وعيشي حياتك، أنا اطمنت عليكي الحمد لله مع اللي يستاهلك. وبلغي عاصم إني آسفة بجد. فكرت كتير في حياتنا، لقيت إني هظلمه. عارفة إني خذلته. قولي له إني بجد بجد حاولت، لكن مقدرتش. مش هينفع إني أعلقه بيا، مش هقدر أكون له الزوجة اللي يتمناها. خليه يبدأ حياته مع الشخص الصح، ويعيش حياته وينساني. طمني مي كمان، قولي لها إنك أحسن صديقة عندي، وخليها تدعيلي. بحبكم كلكم، أنا سافرت. بلاش تدورا ورايا، أنا مرتاحة وأنا لوحدي. ادعيلي يا همسة، متنسونيش بالدعاء، محتاجاها أوي.”

نظر وليد إلى عاصم بدهشة وقال: “يعني إيه الكلام ده؟ في حاجة غلط، مش مفهوم وداع إيه اللي خلاها تسافر فجأة كده؟ دي اختها هتتجوز! انت فاهم حاجة؟”

همست بصوت مملوء بالألم: “أنا بابا وماما سابوني، وهي كمان! ليه تسيبني وأنا محتاجها؟ ليه تعمل كده؟ أنا عاوزه اختي، قلبي بيقولي إن في حاجة مش كويسة، إزاي تسيبني كدة فجأة؟”

ثم تقدمت إلى عاصم، الذي وقف صامتًا، لا يجيب ولا يواسي، كانت عيونها تمتلئ بالدموع، بينما لسانها يردد كلماتها الأخيرة بألم، دون أن تجد منه ردًا. حاولت مرارًا أن تقرأ تعابير وجهه، لكن صمته، جعلها تنكسر داخليًا، فدارت قدماها سريعًا إلى وليد.

لكن عاصم ظل في مكانه، تجمد، وكأن وقع كلماتها لم يؤثر فيه. تركهم أخيرًا، ومضى بعيدًا عنهم… 

اقترب منها وليد، بعينين مليئتين بالشفقة، وقال بلطف: “معلش، هو مصدوم شويه، إن شاء الله هنلاقيها.”

ثم ربت على كتف همسة التي لم تكف عن البكاء، وقال لها برفق: يلا هتيجي معايا.”

ساعدها في تحضير حقائبها. نزلوا إلى السيارة، ولم يجدوا عاصم. حاول وليد الاتصال به لكنه كان مغلقًا. فانطلق عائداً إلى منزلهم الجديد.

بينما كانوا في الطريق، هاتفت همسة مي لتخبرها بما فعلته صديقتها، كانت الكلمات تتساقط من شفتيها بصعوبة.

… 

ظل يسير بلا هوادة، كأن الطرقات بلا نهاية، حتى توقّف أمام النيل. أطلق أنفاسًا حارة، تحمل احتراق روحه، وعيناه تحدقان في المياه الساكنة بملامح جامدة تخفي عاصفة مشتعلة بداخله.

تمتم بصوت بالكاد يُسمع، الكلمات تنساب من شفتيه بلا وعي. قبضت يداه على عجلة القيادة، وكأنها ملاذه الوحيد. الطريق بدا طويلًا بلا نهاية، وأضواء السيارات المارة لا تُضيء عتمة أفكاره. الهواء البارد تسلل من النافذة، يعبث بخصلات شعره، لكنه لم يُبدِ أي اهتمام، غارقًا في بحر من التساؤلات التي تزيده حيرة.

فجأة، رفع صوته كمن يخاطب فراغ الطريق، لكن الكلمات سرعان ما تلاشت، ذابت وسط أنفاسه الثقيلة وصمت الليل. لم يكن واثقًا إن كان يهرب من أفكاره أم يطاردها.

“لما نشوف اختيارك هيوصلك فين يا غبية…”

أطلق نفسًا مشبعًا بسخرية مريرة، وكأنه يضحك على لعبة القدر:

“فاكرة لو رميتي الجهاز هتعرفي تهربي مني؟”

….. 

عند معتز كان جالسًا وسط أهلها، والفرحة تعلو وجهه؛ فاليوم أصبحت “مي” أخيرًا ملكه. ظلَّ معتز يتأملها وهي شاردة تنظر إلى الخاتم الذي ارتدته للتو. ابتسم وسألها بلطف:

“عجبك الخاتم؟”

انتبهت له، وقد بدا عليها التوتر:

“ها؟ آه، جميل جدًا ورقيق أوي… ميرسي بجد.”

ابتسم لها بابتسامة جذابة تُظهر اهتمامه:

“أصلِك نسيتي تردي وسرحتي بيه… أنا كده هغار منه بقى!”

لكن بالها كان مشغولًا على رفيقتها، فردَّت بارتباك:

“لا أبدًا… أصلي في حاجة كده…”

قبل أن تُكمل حديثها، رنَّ هاتفها، فأجابت على المكالمة بلهفة، على أمل أن تطمئنها. ولكن كلمات الطرف الآخر كانت صادمة؛ شهقت وقطعت المكالمة على الفور.

لاحظ معتز تغيُّر حالتها المفاجئ، فسأل بقلق:

“مي، إيه اللي حصل؟! حد حصل له حاجة؟ مالِك، فيه إيه؟ انطقي!”

لكنها لم ترد؛ فقط بدأت بالبكاء. حاول معتز تهدئتها، فأمسك بيدها ليُبعدها عن وجهها:

“إيه اللي حصل؟! طيب اهدي وفهميني عشان أقدر أساعدك.”

أخيرًا نطقت بصوت متقطع:

“س… سيلا… سافرت وسابتنا… كـ… كلنا… ومحدِّش عارف هي راحت فين!”

كان وقع كلماتها كالصاعقة عليه. تذكَّر فجأةً “عاصم” وما كان من المفترض أن يحدث اليوم. كيف نسي أمرهما؟ وكيف غاب عن باله أنه لم يرَها منذ فترة؟ تحوَّلت أفكاره لملامح “عاصم” الغريبة يوم قراءة الفاتحة.

شدَّ على شعره بعنف، وكأنه يلوم نفسه، ثم نظر إليها في حيرة وسأل:

“طيب ليه تعمل كده؟!”

أجابته وهي تبكي بحرقة:

“إنت مش فاهم حاجة… محدِّش فاهم حاجة.”

ازدادت نبرة صوته حدَّة:

“ممكن تبطلي عياط وفهميني عشان أقدر أتصرف؟!”

دون مقدمات، أفلت لسانها بالحقيقة:

“سيلا… عندها كانسر.”

كانت الكلمة كالصاعقة. في تلك اللحظة، مرَّت والدتها بجانبهما، فشهقت ولطمت صدرها وجلست بجوار مي في صدمة:

“يا حبيبتي! بتقولي إيه؟! سيلا عندها إيه؟!”

تجمَّد معتز مكانه، غير قادر على تصديق ما سمعه، لكنه تمتم بذهول:

“عاصم كان عارف؟!”

هزَّت مي رأسها بالإيجاب، وهي تغالب دموعها:

“أيوة، هو اللي اكتشف مرضها. محدش كان يعرف غيري أنا وهو. حتى همسة ما تعرفش حاجة… بدأت علاج الكيماوي من فترة، بس لما ماتوا أهلها وسابوها… استسلمت تمامًا. كلمت عاصم وقلتله إني مش قادرة عليها، وكانت مستسلمة خالص. قالي إنه هيتصرف. بس دلوقتي… دلوقتي همسة قالت إنها سافرت ومحدش يعرف مكانها!”

انهارت مجددًا في البكاء، واحتضنتها والدتها وهي تُربِّت عليها، داعية لصديقتها بالشفاء.

نهض معتز فجأةً، وقد بدا عليه التصميم:

“متقلقوش، أنا عندي معارف كتير. وعاصم مش ممكن يسيبها، أكيد عارف مكانها. هتصرف وهكلمكم لو في أي جديد.”

خرج سريعًا من المنزل، متجهًا للبحث عن أخيه، لعلَّه يصل إلى حل. هاتفه أثناء القيادة، لكن هاتف عاصم كان مغلقًا. حاول الاتصال بوليد، الذي أخبره بفحوى الرسالة التي تركتها سيلا، وربط الأمر بمرضها.

“وهو فين دلوقتي؟!” سأل معتز بلهفة.

“مشيت من عنده. أنا مش هقدر أسيب همسة لوحدها، حالتها صعبة أوي.”

أصرَّ معتز:

“خليك جنبها أنت… أنا هتصرف.”

أغلق المكالمة، وقاد بسرعة حتى وصل المنزل، لكنه تفاجأ بعاصم الذي كان قد وصل قبله بقليل. كان عاصم يقف في الصالة بلا روح، ينظر إلى الفراغ بعينين جامدتين.

تقدَّم معتز نحوه، وهزَّه من كتفيه بعنف:

“عاصم! انت واقف كده ليه؟! عرفت مكانها، صح؟!”

لكن عاصم لم ينظر له، ولم ينبس ببنت شفة.

صرخ معتز بغضب:

“رد عليا! إنت مش هتتخلى عنها، قولي إنك هتلاقيها وتلحقها قبل ما…”

قاطعه عاصم بجمود:

“هي اللي اختارت طريقها.”

تركه وبدأ بالمغادرة، لكن معتز لحق به وأمسكه من ذراعيه:

“هتسيبها لوحدها؟! إزاي تتخلى عنها في عز مرضها؟ ده اللي قولتهولي؟ إنك هتبدأ صفحة جديدة؟! فوق يا عاصم!”

دفعه عاصم بعيدًا بحدَّة، وقال بصوت بارد:

“هي اللي اتخلت عني. لو هي مش خايفة على نفسها، مش هقدر أعمل حاجة. مش عايز أسمع سيرتها تاني هنا.”

وقبل أن يذهب، التفت مرة أخرى:

“أنا مسافر بكرة الصبح، عندي مأمورية، ومش عارف هرجع إمتى.”

تركه وذهب إلى غرفته، بينما بقي معتز واقفًا في حيرة، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله الآن.

…. 

دلفا معًا إلى المنزل، ووليد أمسك يدها بقوة كأنه يرسل إليها طمأنينة عبر أنامله. التفتت إليه بعيون متوسلة، وشدت على يده بخوف: “ما تسبنيش.”

تردد صوتها في أذنه، فأحس بالوجع الذي يثقل كاهلها. ابتسم محاولًا التخفيف عنها وقال بلطف: “ما تقلقيش… قاعد على قلبك. مش متحرك غير لما أنتِ اللي تقوليلي: امشي.”

ثم أغلق الباب خلفهما بهدوء.

همسة حاولت رسم ابتسامة على وجهها، وقالت بصوت خجول: “شكراً… بجد.”

لكن وليد هز رأسه معترضًا وهو يرد عليها بابتسامة مطمئنة: “لا لا، بيننا مفيش شكر ولا كلام مجاملات. إحنا دخلنا الليفل التاني.”

تجمدت ملامحها لوهلة، وسألته بحيرة: “ليفل تاني إيه؟ مش فاهمة.”

ضحك وهو يمد يده نحوها: “تعالي، تعالي يا شابة… هفهمك بعدين. المهم نطمن على أختك الأول.”

قادها إلى غرفة صغيرة، فتح الباب وأشار بيده: “الأوضة دي هتنامي فيها مؤقتًا، لحد ما تتعودي على المكان. وأنا هنام في الأوضة اللي جنبك.”

شعرت بالحرج من لطفه، وردت بخجل: “مش عارفة أقولك إيه… شكراً على كل حاجة.”

تركته وأغلقت الباب خلفها.

نظرت إلى غرفتها الجديدة بصمت، ولكن قلبها كان يصرخ ألمًا. ألقت بنفسها على السرير، وبدأت في البكاء بانهيار. لم تصدق أن أختها قد تركتها بهذه السهولة، بدون تفسير أو كلمة وداع. ظلت تبكي حتى أرهقها البكاء وغطت في نوم عميق.

في الغرفة المجاورة، دخل وليد متعبًا. كانت الغرفة بسيطة، فيها سرير متوسط الحجم ومكتب صغير. فرد جسده المنهك على السرير، وأغمض عينيه من شدة الإرهاق.

بعد عدة ساعات، استيقظ فجأة على صوت فتح باب غرفته. وقفز من السرير ليجد همسة واقفة أمامه، وشعرها منكوش من أثر النوم.

بدهشة وخوف، قال بسرعة: “همسة! مالك؟ في حاجة؟”

ردت وهي تبدأ في النحيب: “مش عارفة أنام لوحدي… خليك جنبي، ما تسبنيش.”

اقترب منها واحتواها في حضنه، يمسح على رأسها بحنان: “اهدي… أنا جنبك. مش هسيبك. تعالي.”

قادها إلى السرير، جعلها تستلقي، ثم تمدد بجانبها ليطمئنها. أدارت له ظهرها، وبكت وهي تهمس: “كلهم سابوني ومشيو… حتى هي.”

شعر بارتجافها، فلف ذراعيه حول خصرها ليمنحها الأمان، وبدأ يمسد شعرها بحنان. همس بجوار أذنها: “مش هسيبك. أنا جنبك… حياتي كلها.”

شعر بانتظام أنفاسها وهي تغفو بين ذراعيه، فقبل وجنتها بلطف ونام بجانبها.

في الصباح

أشرقت شمس يوم جديد على الجميع، لكنها لم تحمل سوى الحزن والمجهول.

في مكان آخر، كان معتز يبحث عن أخيه ليعرف مستجدات سيلا، لكنه لم يجده. زفر بضيق وعاد إلى غرفته ليبدل ثيابه. هاتف وليد واتفقا على اللقاء في الشركة.

في مكتبه، انتظر معتز حتى دخل وليد بوجه شاحب وقلق: “ها… فيه جديد؟ عاصم عمل حاجة؟”

معتز زفر بسخرية وقال ببرود: “عاصم؟ انساه. إحنا لوحدنا دلوقتي.”

نظر وليد إليه بصدمة: “إزاي مجاش؟ هنمشي إزاي كده؟”

رد معتز بفتور: “عاصم سافر في مأمورية شغل، ومش عارف يرجع إمتى. والموضوع ده مش أولويته دلوقتي.”

وليد لم يصدق: “إزاي مش أولويته؟ سيلا حالتها صعبة، دي أختها بتنهار! هو ناوي يسيبها كده؟”

معتز أشار له أن يهدأ وقال بحزم: “عاصم رجع لبروده القديم. مش فارق معاه حاجة للأسف. والأسوأ من كده… سيلا حالتها الصحية متدهورة جدًا. لو ملحقناهاش، ممكن نفقدها.”

وليد بصدمة: “إيه؟ يعني إيه حالتها متدهورة؟ مالها سيلا؟ انطق!”

معتز أخذ نفسًا عميقًا وقال: “سيلا عندها سرطان في المعدة، ورافضة تتعالج. حالتها خطيرة جدًا هي هربت.”

وليد أغلق عينيه من الصدمة، يحاول استيعاب الكلام. مسح على وجهه وقال بعد لحظة: “طيب… والعمل؟ إحنا لازم نتصرف بسرعة. بس همسة… لو عرفت حاجة زي دي، هتنهار!”

معتز رفع يده محذرًا: “إياك تقول لها حاجة دلوقتي. مش وقتها. الأول لازم نلاقي سيلا. أنا هكلم صديق لعاصم عشان يساعدنا، وإنت جهز صورة لسيلا ننشرها في الكمائن، ونتابع خط سير تليفونها.”

وليد أومأ برأسه: “تمام. لو في جديد كلمني. أنا راجع البيت. مش هينفع أسيب همسة لوحدها أكتر من كده.”

ترك المكتب بسرعة، وقاد سيارته عائدًا إلى المنزل، قلبه معلق بهمسة التي تركها نائمة. كان قد قبّل جبينها قبل أن يخرج، وأخبرها بهمس أنه سيعود سريعًا.

وصل المنزل وفتح الباب بحذر، لكنه لم يجدها في مكانها. دارت في ذهنه أسوأ الاحتمالات، لكنه هدأ عندما سمع صوت المياه من الحمام. انتظر حتى خرجت، تقف أمامه متفاجئة، تحتضن نفسها بالمنشفة. شهقت عندما رأته والتفتت عائدة إلى الداخل، مغلقة الباب خلفها.

وليد، محاولًا كسر الإحراج، حمحم وقال: “همسة، أنا خارج. خدي راحتك.”

خرج من الغرفة وأغلق الباب بصوت مسموع ليطمئنها.

بعد قليل، خرجت مرتدية سالوبيت وردي عليه رسمة أرنوب، وشعرها يتدلى بحرية. تقدمت نحوه بخجل وقالت بصوت ناعم: “صباح الخير.”

نظر إليها، وارتبكت عيناه بجمالها الطبيعي. ابتسم وقال بسرحان: “صباح الخير، حبيبتي. نمتي كويس؟”

خفضت رأسها بخجل ولم ترد، فاقترب منها، ورفع وجهها برفق: “إنتِ مراتي. متتكسفيش مني. أنا أول مرة أنام مرتاح كده.”

وجهها احمر خجلًا، فأمسك وجنتيها وضحك قائلاً: “والله نفسي أكلهم!”

تراجعت للخلف بابتسامة صغيرة وقالت: “بطل هزار بقى. امشي، سيبني أحضر الفطار.”

وليد هتف بمرح: “مين قال عيب؟ مش هيجرى حاجة لو أنا اللي حضّرت الفطار لطفلتي وأكلتها كمان!”

ضحكت، ثم اتفقا أن يحضرا الفطور معًا. جلسا على الطاولة، يتناولان الطعام في جو مليء بالمرح.

خلال الفطور، تحدث وليد بهدوء: “همستي، محتاج صور سيلا عشان ننشرها في الدوريات والكمائن.”

تغير وجهها فجأة، وامتلأت عيناها بالدموع. ردت بصوت مكسور: “حاضر… بس أول مرة تبعد عني كده. وحشتني جدًا.”

وليد وضع يده على يدها، محاولًا طمأنتها: “متقلقيش. هنلاقيها قريب، وعد مني.”

في مكان آخر تلقى اتصالًا  الذي أعطاه رقم سيارة سيلا وهاتفها. بدأوا بتعقب الإشارات للوصول إليها. ورغم كل المحاولات، ما زالت الأمور غامضة… 

نهاية الجزء الأول 

تكملة الرواية الجزء الثاني من هناااااااااا 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *