الفصل السابع والثلاثون]]
رواية رُحماء_بينهم
~علياء شعبان~
•~•~•~•~•~•~•~•
هلَّ الغروب وتبعه اسوداد الليل وتلك هي الفترة المسؤولة عن تأجج المشاعر وخروجها من مُكنها، استطار البرقٌ في السماء المُظلمة واستطيرت معه الأفئدة ذُعرًا وبدت أول ليلة تُحاكي أجواء الشتاء في خريف السنة، شرعت السماء ترعد وتبرق عاليًا تنبئ بقدوم فصل شتاء لا مثيل له في البرودة القارسة.. أجواءٌ توقظ ما خُمد داخلنا طوال العام وأوشك أن يكون طيَّ النسيان ولكننا قد ننسى كلمة قاسية قيلت بغتة ولم نكن نتوقعها أو ننسى أوجه مرَّت في حياتنا مرور الكرام دون أن تملأ قلوبنا آمالًا أو تنحر أعناقنا غدرًا.. مرَّت هكذا خِلسة ولم نحفل بغيابها.. إنما لا ننسى أكف أطبقت عظام أعناقنا.. مزقت أوراق موثقة بختم بقاءهم.. لا ننسى أقدام مرَّت دعسًا على قلوبنا ورغم مرور الزمن لا يزال أثر خُفها باقًا لا يُمحى.
انشغل العاملون في القصر برص المائدة يتحركون على قدمٍ وساقٍ في نظامٍ وحركة مُتأهبة حتى أنهم أوشكوا على الانتهاء، كانت “نبيلة” تجلس على الصوفة تقرأ الجريدة التي تقبع بين كفيها باهتمامٍ ولكن انشغالها بالصحيفة لم يمنعها من التركيز مع حركة العُمال وترقُب ما يفعلونه بحذر لتتحول عيناها في هذه اللحظة إلى “سكون” التي تهبط الدرج بحماسٍ مُندفعٍ تحاول التهام الدرجات التهامًا فحدقت الأخيرة فيها وما أنا وضعت قدميها على آخر درجة بالسلم حتى رددت “نبيلة” بتوجسٍ:
-خرجتي أخيرًا من قوقعتك؟ كُنت لسه هبعت لك حد من الخدم علشان العشا.
ضعُف حماسها قليلًا وبطأت خطواتها وهي تتجه نحو المائدة ثم تنظر إلى والدتها وهي تقول برغبة فاترة:
-لأ ما أنا مش نازلة علشان العشا، أنا نازلة أقف تحت المطر.
تنهدت “نبيلة” باستسلام وهي تطوي الجريدة مرة أخرى وتقول في حنق:
-يا حبيبة مامي دا مش حل، بابي غلط في اللي عمله مع عمر بس رفضك للأكل مش هيحل حاجة يا سكون!
انطلقت زفرة معترضة من بين شفتيها ورددت بصوت مخنوقٍ:
-أنا مش رافضة الأكل ولا حاجة كل ما في الأمر إن معنديش شهية والصراحة بقى المكان هنا بقى كئيب ومفيهوش روح.
نهضت “نبيلة” من مكانها ثم سارت إليها عدة خطوات إلى أن وقفت أمامها مُباشرة وشرعت تقول بلهجة أكثر لينًا ودعمًا:
-عارفة إن روحك موجودة في إخواتك، بس الأب يعرف مصلحة أولاده أكتر منهم شخصيًا.
اتسعت المساحة ما بين حاجبيها وراحت تحدق بقوة داخل عيني والدتها التي لمست من تصرفها عدم الاقتناع وكانت هذه فتيلة انطلاق غضبها المكبوت لتتابع مستنكرةً بصوت حادٍ:
-عارف مصلحتنا؟ أنا الحقيقة طول الليل بفكر في المصلحة اللي ممكن تكون ورا رفضه لجواز ابنه من البنت اللي بيحبها؟ المصلحة من سيطرته على حياتنا وتوجيهها زيّ ما هو عايز حتى قلوبنا عايز يعمل لها بوصلة اتجاهها رايح لرغباته بس، أيه المصلحة في مقاطعة أخوه وابن أخوه، أيه المصلحة في أخد ورث أخوه؟ أيه المصلحة يا أمي في كسر خواطر كل اللي حواليه؟
تسمرت “نبيلة” في مكانها تستمع بحرصٍ إلى انتفاضة ابنتها وخروجها عن صمتها الذي لم يكُن متوقعًا أبدًا ولم تجد ما ترد به على هذه الأسئلة، همَّت أن تدافع عن زوجها وتدفع هذه الأفكار السوداوية عن عقل ابنتها ولكن قبل أن تنطق بشيء سمعت صوته الجهوري يصيح:
-سيبيها يا نبيلة.. سيبيها تكمل كلامها!
انتفض جسدها كُله وهي تستمع جيدًا إلى وقع خطواته التي تقترب منها، هزمها الخوف في هذه اللحظة التي أدركت فيها أن ثورة ما على وشك الاندلاع ولكنها قررت ألا تلتفت مقابلة لوجهه وأن تبقى صامدةً تنتظر الخطوة القادمة منه.
عضت “نبيلة” شفتها السُفلى ما أن أبصرت عينيه المنكمشتين في غضب تقدحان بالشرر أثناء الاقتراب من ابنته، وقفت مُتحفظة تضع يدها على قلبها تخشى الأذى على ابنتها، صوت احتكاك حذائه بالأرضية بدا مُريبًا وعاليًا وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدت يقف أمامها مُباشرة بهيئته المهيبة وجسده الضخم يحملق فيها بنظرات صامتة يغلفها الغموض، أطرقت برأسها تنظر إلى الأرض فيما أردف بصوتٍ هادئ يخفي بين طياته خطرًا محدقًا:
-كُنتِ بتسألي من شوية أيه المصلحة ورا مقاطعة أخويا؟! وليه بتحكم حتى في اللي عايزه قلوبكم؟ مش كدا؟!
أومأت ترفع بصرها إليه في تحدٍ فوجدته يباغتها بصفعة قاسية كقسوة كفه الخشن الثقيل بينما خرجت تأوهات خافتة من بين شفتيها بعدما داهم الألم والدوار رأسها بأكمله وطفق يردد بأنفاس مستعرة من بين أسنانه المُطبقة:
-السؤال الأول علشان ملكيش فيه والقلم دا علشان السؤال التاني.
شهقت “نبيلة” بلوعةٍ وهي تقترب منه ثم تقبض على ذراعه تستجديه أن يكف عن التصرف بهذا الشكل فالتفت بنظراتها إلى كفها الملفوف حول رسغه ثم دفعها بقوة هي الأخرى وراح يعود بعينيه إلى “سكون” ثم أسرع بالقبض على ياقتها ودفعها إليه بقوة حتى اقتربت أكثر منه فصاح بلهجة متهورة:
-اوعي تكوني فاكرة إن تفضيلك عليهم هيخليكِ تحطي صوباعي تحت ضرسك، أنا قادر أسحب من تحت إيدك كل الصلاحيات وتكوني ملكيش لازمه زيهم، أنا مخلفك علشان تكونوا سندي مش تتمردوا عليا!!
تعمقت نظراتها إليه بكثير من التحدي وبقيت شامخةً بين يديه رغم اشتداد قبضته على ياقتها التي تضيق بقوة على عنقها حتى كاد يخنقها ولكنها لم تُبدٍ له ما يساورها من وجع واختناق في هذه اللحظة، ترقرقت الدموع في عينيها رغمًا عنها حينما تحولت ببصرها إلي البهو الممتلئ بأوجه كثيرة ما بين خائفة ومُشفقة إلى أن وقع بصرها على وجه مُختلف تمامًا عن البقية.. وجه ينظُر بملامح كشرة وعينين حادتين وصدر يعلو ويهبط يوشك أن يفيض بانفعالات متفجرة، التفتت مرة ثانية صوب عيني والدتها لتجده يباغتها بصفعة ثانية أقوى عن سابقتها وبصوت محفوف بالتهديدات تابع:
-إنتِ وأخواتك مِلكي.. حتى قلوبكم دي مِلكي.. ارجعي لعقلك قبل ما تخسري ثقتي فيكِ.
دفعها بقوة مُحررًا عنقها ما أن أنهى كلامه الصارم ثم تحرك مندفعًا كالسيلٍ إلى غرفته بينما بقيت هكذا متصلبةً بلا حراكٍ في مكانها تجوب بنظراتها بين الواقفين بدموعٍ تأبى السقوط وجسد يُقاوم في كَمدٍ بينما روحها أضحت مجروحة تستعر بنيران القسوة والدونية فمهما وضعت كِمادًا لها كي يتوقف نزفها أو تبرد يُصبح دون جدوى.
مشت “نبيلة” إليها بخطوات مترددة خوفًا من توجيه الضربة لها هذه المرة ولكنها لم تستطع التفريط بقلب ابنتها المُنكسر فأسرعت بالوقوف قبالتها ثم وضعت وجهها بين كفيها ورددت بصوت خافتٍ حزينٍ:
-سكون.. اتكلمي.. قولي أي حاجة.. متسكتيش كدا؟!
عصتها دموعها بُغتة منها فسألت على وِجنتيها بينما بقت هي متجمدة في مكانها لا تُحرك ساكنًا، وهناك كان يُتابع المشهد بقلبٍ يؤخذ بإبرة مدببة حادة تُحدث ثقوبًا به فأغلق عينيه محاولًا كبت طاقته السلبية التي ترنو إلى الفتك بذلك الوغد أبيها لم يشعر بنفسه إلا وهو يركل باب القصر بقوة بقدمه متوجهًا للخارج قبل ألا تنتهي هذه الليلة على خيرٍ ويسقط أحدهما صريعًا، لاحظت خروجه ما أن وصل صوت ارتطام قدمه بالباب إلى أذنيها لتقرر في هذه اللحظة أن تخرج عن صمتها وتقول بصوت متحشرج يخرج بالكاد:
-أنا كويسة.. هخرج أتمشى شوية.
زوت “نبيلة” ما بين عينيها ثم ردت بتوجسٍ:
-بلاش تخرجي وإنتِ متضايقة كدا، تعالي نطلع أنا وإنتِ الأوضة نتكلم شوية!!.
قبضت على ذراعها بينما انتشلت “سكون” ذراعها بسرعة ثم تابع بصوت محسومٍ:
-محتاجة إني أخرج شوية.. بعد أذنك.
حسمت قرارها بالخروج فاندفعت للخارج بأقصى سرعة لها ثم قصدت مرآب السيارات الملحق بالقصر لتتجه إلى سيارتها ثم تصعد داخلها فورًا بعد أن فتحتها، قررت في هذه اللحظة أن تُنهي حياتها فما شعرت به للحظة من دونية وتهميش جعلها تفقد السبب الذي يجعلها تعيش في هذه الحياة، لم ينظر إلى ما فعلته معه أبدًا فدومًا كانت أهلًا لتولج المسؤولية والقيام بها بلا شكوى ولكنه يتعمد الضغط على عنقها نكاية بها بدلًا من دعمها وتشجيعها على الاستمرار.
انطلقت بقوة غريبة جعلت السيارة تصدر صريرًا عاليًا جدًا قد وصل بسهولة إلى سمعه فدارت سيارتها يمينًا ثم إلى الأمام متجاوزةً الممر المؤدي إلى باب القصر الخارجي، هرول على صوت صرير السيارة واحتكاك اطاراتها ليحدق بصدمة كبيرة وهو يهرول مسرعًا كالبرق خلفها صارخًا بصوت هادرٍ مُلتاعٍ:
-سكون؟ انزلي من العربية إنتِ ما بتعرفيش تسوقي!
رمقتهُ بنظرة خاوية أرعبته لما تحمله من معانٍ كثيرة وقرارات يصورها لها الشيطان على أنها الأصوب، تجاوزت الباب الرئيسي ثم انعكست يسارًا في محاولة للبحث عن أخطر مكان يمكنه أن ينهي حياتها بصورة قاسية أو ربما يطمس معالم وجهها الذي ظهر عليه الضعف والكسرة.. ودت في هذه اللحظة أن تكون لحظاتها الأخيرة لا تقل بشاعةً عن لحظاتها التي لطالما عاشتها كالخانعة لأبيها الظالم قلبه.
استبد به القلق فوجهها لا يُبشر بالخير أبدًا فاتخذ قراره أن يكون خيالها في هذه اللحظة ليعدو بقوة وسرعة رهيبة خلف السيارة في عزمٍ يُضاهي تمامًا سرعة الفهد الذي لا يتجاوزه أحد، كان صدره يعلو ويهبط من كثرة العداء خلف السيارة وكلما اقترب من زجاج النافذة صرخ بصوت عالٍ يرجوها من خلاله:
-وقفي العربية يا سكون علشان خاطري.
رمقهُ لا مُباليةً باستجدائه وتزيد من سرعة السيارة، لم يستطع الاستمرار في الجري خلفها فقد بدأت قوته تتلاشى رويدًا رويدًا ليسرع بإيقاف سيارة أُجرة ويقفز داخلها فورًا ليتكلم بصوت لاهثٍ عالٍ:
-حاول تقرب من العربية الحمرا اللي قدامك دي!
قطب السائق حاجبيه في استغراب وراح يقول متوجسًا خيفةً:
-ماشي بس إنتَ عايز أيه من العربية؟!
صرخ فيه “كاسب” أن يزيد من سرعة السيارة وقال بلهجة حادة يحاول إيجاد كلمات بسيطة تشرح الموقف:
-دي خطيبتي ومش بتعرف تسوق أصلًا.
حدق السائق فيه بذهولٍ ثم التفت ينظر أمامه مرة أخرى محاولًا اللحاق بها وتقريب النافذة من نافذة سيارتها، استرق “كاسب” النظر إلى النافذة محاولًا رؤيتها ولكن دون جدوى فالمطر أغرق السيارة بأكملها وشوش الرؤية تمامًا في هذه اللحظة صرخ هادرًا كي تسمعه:
-سكون كفاية جنان بقى، اللي بتعمليه دا مش حل!!
سكت هنيهة ثم أكمل:
-فكري في إخواتك.. فكري في عُمر حتى!!.. عمر محتاجك!
كانت السيارة في هذا الوقت بالتحديد تتخبط على الطريق تنحدر تارة على اليمين وأخرى على اليسار في غير اتزان، ما أن سمعت كلامه حتى انهارت تمامًا وظلت تضرب مقود السيارة يكفيها وهي تجهش باكيةً متألمةً، شعر السائق أن الأمر بات خطيراً ويهدد حياته فطلب على استحياء نزول الأخير معللًا أن السيارة ما يزال عليها نقودًا لم تُدفع بعد وهذا الأمر سوف يُسبب له خسارة فادحة، أومأ “كاسب” مُقدرًا لمخاوفه ولكن أكمل وهو يميل على المقود قليلًا وينتشله من بين كفي الأخير:
-أنا فاهم بس أوعدك لو حصل أي خساير في التاكسي هعوضك بواحد غيره، سيبني الحقها بس!!
وافق الرجل على مضضٍ رغم توجسه حتى أنه بدأ يتبادل مع “كاسب” المقاعد وترك له حرية التصرف في السيارة ليبدأ كاسب في ازادة السرعة حتى أنه بدأ يلتصق بسيارتها في حذرٍ علها تتوقف ما أن تشعر باصطدام سيارتها ولكنها كمن أُعميت عينيه وانسدت أذنيه عن كل شيء حوله، ضغط على أسنانه بقوة من عنادها وقرر أن يجد حلًا سريعًا يتفادى به الكارثة التي توشك أن تحدث ولحُسن حظها أن الطريق لم يكُن مزدحمًا ولكن السيارات الموجودة كانت تتابع المشهد في ذهولٍ من تهور السيارة الحمراء، لم يجد بُدًا من التقدم عليها واحاطة سيارتها بسيارته علها في هذه اللحظة تتوقف ولكن ما أن وقف أمامها حتى عاندته بإصرارٍ ثم خرجت عن مسار الطريق ودخلت إلى طريق جانبي من الرمال يمتلئ بالصخور والأحجار وبدأت سيارتها تتخبط بقسوة شديدة حتى جاءت اللحظة التي كان يخشاها تمامًا، أُغشيت عينيها الممتلئة بالدموع عن رؤية المنحدر الذي ظهر أمامها ورغم رؤيته في اللحظة الأخيرة لم يخرج صوتها مُستغيثًا وهي ترى السيارة تحلق في الفضاء قبل أن تسقط عن المنحدر إلى أسفل.
أوقف السيارة مصعوقًا بقوة وهو يرى تحليق السيارة عاليًا ثم سقوطها إلى أن اختفت من أمامه، تجمدت أطرافه من الصدمة وراح ينظر إلى الغبار الذي خلفته إطارات السيارة مشدوهًا، تبادل النظرات المحدقة مع السائق الذي كان يجاوره ولكنه انتشل نفسه من الصدمة بسرعة، فتح السيارة ثم ترجل منها وهرول بجنونٍ وقلبٍ هلعٍ إلى الحافة صارخًا بصوت يحفه الضعف والكسرة:
-سكــــــون!!
كانت صرختهُ يُسمع صداها بوضوحٍ وما أن وصل إلى الحافة ونظر للأسفل حتى بدأ صدره يعلو ويهبط بهياجٍ وفوضى لا يعرف هل يسعد لأن المسافة صغيرة جدًا أم يصرخ بألم لأن السيارة قد انقلبت على ظهره وبدأ الدخان ينبعث من محركها!!
لم يترك لنفسه فرصة للتفكير فأسرع بالنزول عن المنحدر وسط كلمات السائق التحذيرية بالحرص والثبات فبدأ يضع قدميه على الصخور البارزة من الحائط إلى أن وصل إليها في النهاية، اندفع مُسرعًا نحو السيارة جاثيًا على ركبتيه يسترق السمع إلى استغاثتها ولكنها لا تفعل؛ بل باتت مُستسلمة للموت تمامًا ليصرخ برجاء خفي فيها أن تصدر صوتها ويقول بنبرة مهزومة:
-سكون، إنتِ سمعاني؟! لو سمعاني وحياة عمر تردي عليا.. ردي عليا وقولي إنك هتستحملي؟!
تدمر هيكل السيارة تمامًا وبدت كورقة مطوية بقبضة قاسية فجاهد “كاسب” بأنفاس مضطربة ووجه تكسوه الرهبة بإبعاد شظايا الزجاج قليلًا حتى أبصرها مغلقة العينين والدماء تقطر على وجهها، أخرج زفيرًا حارًا من جوفه ذعرًا عليها وبدأ يصرخ في السائق الذي نزل إليه لتقدم يد المساعدة:
-ساعدني نخرجها بسرعة.. العربية هتولع!
أومأ الأخير بفزعٍ بينما زحف “كاسب” حتى توغل بذراعيه ورأسه أسفل السيارة إلى أن وصل إليها وقبض على ذراعها وهنا تابع بأنفاسٍ تتلاحق بلا هوادة:
-سكون علشان خاطري فتحي عينيكِ وساعديني نخرج من هنا؟!
بدأ السائق يرفع هيكل السيارة بكُل ما يمتلك من قوة فيما بدأ “كاسب” يسحبها بذراعيه وهو يصرخ للأخير:
-ارفع أكتر.. العربية ضاغطة على رجليها!
بدأ العرق يتصبب على جبين السائق الذي أومأ بتعبٍ قائلًا:
-محتاجين ناس تانية ترفع معانا.
ومن أن سمع كلماته حتى جن جنونه وزحف للوراء مرة ثانية ثم وقف مسرعًا في مكانه وهو يقول بلهجة صارمة:
-يلا هنرفع أنا وإنتَ.. ساعدني يلا!
جاهد كُلًا منهما في رفع السيارة وبالفعل بدأت تتزحزح للوراء قليلًا ولكن المسافة لم تكُن كافيةً لسحبها من أسفل هذه الأنقاض وما زالت أقدامها محشورة بقسوة، حاول وحاول ولكن دون جدوى فبدأ يزأر بقوة وهو يضرب السيارة بكفيه في انهيارٍ ليجد صوت السائق يقول بأسف:
-العربية هتنفجر يا أستاذ ومش بإيدينا نعمل لها حاجة.
التفت إليه بعينين ناريتين يقدح الشرر منهما، انقض عليه يقبض على ياقته بشراسة وما أن أدرك نية الرجل في تحذيره والتعاون معه حتى أفلت قبضته ثم صرخ فيه بانفعالٍ جامحٍ:
-بإيدينا.. سامعني.. بإيدينا نخرجها سليمة.. لازم تخرج سليمة.. مش هينفع.. أوعدك إني هكافئك بكل اللي تطلبه.. بس هي مينفعش تموت.
انفجرت الدموع من عينيه وهو يطرح فكرة موتها بعيدًا عن عقله فيما أشفق الأخير عليه ما أن رأى بكائه وقال بحزن:
-الحالة الوحيدة اللي ممكن تخرج منها سليمة إنها تكون واعية وتحاول تخرج نفسها معانا!!
أومأ “كاسب” متفهمًا ثم نام على بطمة بالأرض مرة أخرى وبدأ يصرخ فيها بصوت هادرٍ يستجديها من خلاله وهو يسحبها للخارج بكل ما أوتيت من قوة:
-فوقي يا سكون.. سكون العربية هتولع.. ساعديني أخرجك من هنا.
بدأت تنصاع لندائه وتحرك جفونها بارتخاءٍ وما أن أبصرته بوضوحٍ حتى تابع بأنفاس مضطربة ووجه ملتاعٍ من شدة خوفه عليها:
-ساعديني أخرجك من هنا.. حاولي تزقي نفسك لبرا.. سكون؟ سمعاني؟!
أومأت تتجاوب معه ليبدأ بجذبها بينما تحاول هي جاهدة أن تسحب قدمها العالقة، توجه السائق للجهة الأخرى من السيارة وبدأ يرفعها قليلًا حتى تمكنت “سكون أخيرًا من سحب قدمها العالقة وأثناء محاولة “كاسب” جذبها سمعوا صوت طقطقة قوية تنبعث من داخل السيارة وعلى ما يبدو أن الانفجار يقتـــــرب جدًا، لم يخيفه الصوت أو يمنعه من جذبها إليه إلى أن نجح أخيرًا في التقاطها وسرعان ما وضع ذراع أسفل ظهرها وأخرى أسفل ساقيها حاملًا إياها ثم هرول هو والرجل مبتعدين عن السيارة التي كانت تنتظر هربهم حتى تنفجر وتتفتت جزيئاتها تفتيتًا وتتطاير في الفضاء وسط نظراتهم الذاهبة.
ظل ينظر مشدوهًا لقطع السيارة المتناثرة تارة ولها تارة أخرى، ابتلع ريقه على مهلٍ وهو يضمها بقوة إلى صدره كلما تخيل انفجار السيارة وعدم قدرته على إنقاذها!
•~•~•~•~•~•~•~•
اشتد هطول الأمطار بغزارة وصحبه نزول قطع صغيرة من الثلج مع هبوب رياحٍ عاتية يُسمع صوتها بوضوحٍ، لم يكُن نهارًا باردًا على الإطلاق بخلاف ليله قارس البرودة، نظرت بسعادة غامرة من أمام بوابة الحديقة الداخلية للشقة وطفق تصرخ بحماسٍ:
-دا بينزل تلج كمان، الله!
التفتت وراءها فوجدته يطالع الأوراق القابعة بين يديه بتركيز ولا يبالي بما قالته للتو، زمت شفتيها غيظًا ثم تحركت نحوه وما أن وقفت أمامه عاقدةً ذراعيه حتى صاحت بنبرة متبرمة:
-أنا بكلمك على فكرة؟
لم تبرح عيناه الأوراق وردد ببرودٍ:
-نعم يا آنسة؟!
التوى شدقها وقالت مستنكرةً:
-إنتَ جايبني هنا ليه؟ علشان نقعد في الشقة ولا نخرج ونروح البحر؟!
أخرج ابتسامة ساخرة من جانب فمه ولا يزال ينظر إلى الأوراق ثم تابع:
-حظك بقى إن الدنيا بتشتي، ما هو الواحد بردو مكانش المفروض يسمع كلامك ويجيبك البحر في الخريف يعني.
تخصرت باحتجاجٍ وردت:
-بس أنا بحب المطر وعايزة أتمشى تحته، لو مش عايز تخرج تمام، بس هخرج أنا!
تنازل ورفع وجهه عن الأوراق ثم زفر وهو يردد بهدوء:
-مينفعش تخرجي إلا بموافقتي وبرفقتي.. مفيش خروج من غيري.
دكت الأرض بقدمها وراحت تقول وهي تزفر حنقًا:
-طيب نعمل أيه في حالة إنك مش عايز تخرج وأنا عايزة!!
تليد بابتسامة عبثية:
-في الحالة دي الست بتطيع جوزها وبتكون عاقلة.
ضيقت عينيها قليلًا وبدا الغضب باديًا على وجهها مضيفة باستنكارٍ:
-على فكرة إنتَ طريقتك ومصطلحاتك دول مش بيعجبوني، أنا ليه يكون نفسي في حاجة ومعملهاش علشان جنابك عايز كدا!!
رفع أحد حاجبيه وتابع بإيجاز واقتضابٍ:
-ما قولنا طاعة زوج.. بصي يا آنسة وَميض إنتِ دلوقتي تقعدي تحت البطانية بعد ما تعملي لنا جردل سحلب وتشوفي كرتونك المفضل وأنا عندي مُقابلة مع بعض الزملا في الشركة لايف.. سمعيني صمتك لحد ما أخلص اللي في إيديا ونرجع نتخانق تاني وكل حاجة.
رفعت “وَميض” أحد حاجبيها ثم تابعت بمكرٍ وهي تضغط مليًا على كلماتها:
-يعني قررت بشكل نهائي إنك مش هتخرجني؟!
أومأ دون أن ينبس ببنت شفةٍ وأسرع بفتح حاسوبه مرة ثانية بعد أن طلب منها التزام الصمت والجلوس بعيدًا عنه أثناء المقابلة، زمت شفتيها غيظًا واندفعت باختناقٍ إلى الغرفة وظلت تجوبها بانفعالات مُتأججة من تهميشه لرغبتها وإعطاء أعماله الأولوية حتى أنها بدأت تبحث داخل عقلها عن فكرة شيطانية للانتقام منه إلى أن جــــــاءتها فــــكرة مُستبدة ستوقع به صريعًا في حربها معه.
انتظرت بترقب حتى انغمس في عمله أمام الحاسوب حيث بدأ يتكلم عن بعض القوانين التي ستفرضها الشركة في الفترة القادمة، أسرعت إلى الدولاب تتفقد ملابسها التي جاءت بها قطعة تلي الأُخرى وفي نفسها نية لإزعاجه وإثارة حنقه إلى أن وقعت عيناها على فستان قصير باللون الأحمر القاتم لا يصل إلى ركبتيها حتى وعار تمامًا من الظهرٍ وليس به أكمام؛ ابتسمت ابتسامة خبيثة وهي تلتقطه ثم تسرع في ارتدائه وما أن انتهت حتى وقفت أمام مرآة التسريحة وقامت بفرد شعرها على كفيها ثم انتقلت إلى آخر فقرة في خطة الانتقام لتلتقط أحمر الشفاه وتبدأ في دهن شفتيها بلون أحمرٍ صارخٍ حتى أنها تكاسلت عن استخدام الأنواع الأُخرى من مساحيق التجميل فاستخدمت أحمر الشفاه ذاته كموردٍ لوِجنتيها وأنفها واختصرت الأمر وفي النهاية ابتسمت إلى صورتها المعكوسة في المرآة بظفرٍ وأصبحت جاهزة تمامًا لتنفيذ الخطــــة!
تناولت علكة من جيب حقيبتها أولًا ثم سارت متوجسةً على أطراف أصابعها وقبل أن تخرج أمامه بدأت تسترق النظر إليه حتى تتأكد من انشغاله، وجدته يقول بصوت رخيمٍ به ما يكفي من صلابة رئيس حازم:
-لازم نكون فاهمين إن أي تأخير في الدعاية مش في صالح منتجاتنا، لو فعلًا عايزين المنتجات تسمع يبقى تكثف جهودنـ….
توقف فجأة عن الكلام ما أن ظهرت أمامه وبقى متسمرًا يُطالع هيئتها البهية بأعين منبهرة وللحظة أحس بهول ما فعل فنزل بعينيه إلى شاشة الحاسوب ثم ردد بلهجة مضطربة:
-آسفة يا شباب.. تقريبًا في مشكلة في النت.. خلينا نكمل.. طبعًا إحنا لو هنتكلم عن نوع الإعلان فلا بد إنه يكون فكرة برا الصندوق و….
توقف عن الكلام مرة أخرى حينما وجدها تقترب منه ثم تميل إليه قليلًا من وراء الحاسوب وتبدأ في مط علكتها بشكلٍ ظنته مُثيرًا بينما بدأت تقتنص عينيه بنظراتها الجريئة كنوعٍ من تشتيت تركيزه، تنحنح بسرعة قبل أن يرمقها بنظرات ثاقبة حادة ثم أنزل عينيه إلى الحاسوب مرة أخرى حاكًا جبينه بقليل من التوترٍ:
-طيب يا شباب.. أي حد عنده سؤال يقدر يسأله؟!
كانت عيناه تنظر إليه تارة بوعيدٍ وأخرى إلى الشاشة، لم ترعبها نظراته واستمرت في تشتيته فبدأت تحرك ذراعها بخفة إلى أن وصلت إلى كفه الذي يثبت به الحاسوب وبدأت تلمسه بصورة مُغرية، كان يعلم أن ما تفعله ليس إلا نكايةً به فبرزت عروقه من شدة الغضب وأغلق شاشة الحاسوب قليلًا قبل أن يرمقها بنظرات يقدح الشرر منها ويمرر أصابعه على رقبته في تهديدٍ لها، أخرجت لسانها له غير مُكترثة لغضبه وراحت تتمايل أمامه بغنجٍ وميوعة وما أن أدرك استمراريتها في هذا الطيش حتى فتح شاشة الحاسوب مرة أخرى وقال بلهجة حازمةً:
-طيب يا شباب معلش النت عندي فيه مشكلة، هستأذنكم نأجل الاجتماع لبُكرا!!
وافقه الجميع فأومأ مودعًا إياهم بابتسامة هادئة وهو يقول:
-السلام عليكم.
أغضبتهُ طريقتها المُتمردة ورفضها الاستماع إلى نصائحه ظنًا منها بأن العِند لا يجعلها ترضخ له، تحاول أن تقربه منها وفي نفس اللحظة تجتهد في دفعه عنها ولم يعُد يفهم ما الذي يدور في رأسها ولكنه يكاد يجزم بأن قدرته على تحملها أوشكت على الانتهاء وستحين قريبًا لحظة نيله منها.
وقفت أمامه بكامل زينتها؛ فأغلق حاسوبه مُستسلمًا لدلالها في انفعال خفيفٍ وما أن نظر إلى مظهرها المتألق ونظرات الانتصار المطلة من عينيها حتى تابع ببرود وهو يباغتها بغمزة من عينيه:
-لعن الله المُتشبهون بالنساء يابني.. روحي اقلعي الفستان دا وارجعي لطبيعتك.. ربنا يغفر لك.
صرت على أسنانها غيظًا من فظاظته، أسرع بغلق الحاسوب وشبكة الإنترنت تمامًا قبل أن ينهض ثائرًا في مكانه وما أن رأت ثروته حتى قررت الاختفاء من أمامه في الحال لتهرع بخوفٍ وحيطة نحو الغرفة فيما يتابع هو بلهجة يشملها الغيظ والغضب:
-تعالي هنا يا جبانة، فهميني بس إنتِ بتعملي أيه؟
تابعت وهي تقف على بُعد خطوات منه في حذرٍ:
-باخد حقي!
صاح فيها بغيظٍ:
-حقك أيه اللي بتاخديه بالطريقة دي؟! إنتِ بتدوسي على إيدي اللي بتوجعني علشان عارفة إني مش هعمل حاجة إنتِ مش عايزاها.. فبتتحديني!
وَميض تصرح في عنادٍ:
-أه.
ابتلعت ريقها على مهلٍ قبل أن تصرح باحتجاجٍ وثورة:
-وهتحداك طول ما إنتَ بتتجاهل رغباتي ومش بتديني حقوقي.
أطبق كفيه معًا قبل أن يرميها بنظرات ثاقبة لم تستطع قراءتها وما هي إلا ثوانٍ من الترقُب والفضول حتى وجدته يقول بابتسامة عابثة حتى أنها شمت في نبرته رائحة غريبة:
-عايزة حقوقك؟ موافق.. بس أيه رأيك أخد أنا كمان حقوقي؟!
تأكدت ظنونها فأسرعت بالتقاط هاتفها ثم تابعت وهي تبتلع ريقها بحذرٍ:
-على فكرة لو قربت مني هتصل بأمن الكمباوند وهقول لهم إنك بتتحرش بيا.
ابتسم ببرودٍ وأكمل:
-ما تتصلي.. محدش هيعبرك.. واحد بيتحرش بمراته.. هو حُر.
مطت شفتيها باستنكارٍ وردت:
-والله، طيب هنشوف هيعبروني ولا لأ!!
أسرعت بالاتصال على الأمن في إصرار وغيظٍ من تحديه لها وما أن جاءها صوت رجل ما حتى تابعت بنبرة متوترة:
-مع حضرتك آنسة وَميض!
حدق مشدوهًا من جملتها ثم استغل كلامها عبر الهاتف وأسرع بالاندفاع إليها والقبض على رسغها، شهقت شهقة عالية قبل أن يضع كفه مُكممًا فمها وباليد الأخرى أغلق المكالمة وهو يضغط على أسنانه ويقول متذمرًا:
-دا إنتِ نهارك مش فايت.. أيه اللي إنتِ قولتيه دا؟ آنسة أيه وزفت أيه؟!
ارتعبت من نظراته بعد أن حرر فمه وأدارها إليه لتقول بنبرة بلهاء:
-مش فاهمة يعني.. هو أنا مش آنسة؟!
ضغط “تليد” على جبهته وهو يصيح مُنفعلًا ومُحاولًا السيطرة على نفسه وإلا قتلها:
-أستغفرك.. أستغفرك ربي وأتوب إليك.
سكت هنيهة ثم قال بلهجة حادة بينما تقف أمامه ككتكوتٍ انسكب عليه كوب من الماء البارد في ليلة شتوية:
-عارفة يا وَميض إنتِ فايدتك أيه في حياتي؟!!
تساءلت نظراتها بفضول فيما أكمل بغيظٍ مكظومٍ:
-الاستغفار.. بشوفك بكثر من الاستغفار.
وَميض بشدق ملتوي تردد:
-يعني أخيرًا لقيت لي ميزة؟!
تنفس الصعداء قليلًا قبل أن يخطو إليه خطوات كبيرة حتى انعدمت المسافة بينهما وطفق يقول بحدةٍ:
-آنسة دي بيني وبينك يا أمي.. أنا غير مرئي يعني علشان تبقي آنسة بين الناس؟
أسرع بالقبض على رسغها مرة ثانية ثم تابع بلهجة ثابتة مُتأملًا هيئتها الناعمة باستمتاع أربكها:
-بس حلو الفستان دا.. لأ ولونه حلو!
حدقت فيه بعينين متسعتين وشعرت لوهلة أنها فقدت قدرتها على التنفس بصورة طبيعية فبدأت تتقهقر للوراء في وجلٍ بينما يتقدم نحوها كلما ابتعدت إلى أن وجدت نفسها محشورة بين ذراعيه وظهرها مسنودًا إلى الحائط، أرادت جمًّا أن تلوذ بالفرار ولكن هيهات فقد حشرها بصورة مقلقة للغاية وعلق بنظراته إلى عينيها الزائغتين في خجلٍ وهنا صرخت في محاولة فاشلة منها لإبعاده وهي تقول بصوت مُتحشرجٍ:
-إنتَ عايز أيه يا تليد؟! إنتَ وعدتني على فكرة؟ بلاش تخون الوعد علشان متسقطش من عيني!
أطلق ضحكة مُتهكمة ثم قال ببرود:
-أكتر من كدا سقوط.. دا أنا إرهابي وعميل ومُتطرف.. ناقص حاجة تانية في نفسك؟!
صمت لوهلة وهو ينزل بكفه ثم يقبض على خصرها ويقول بابتسامة مشاكسة:
-وبعدين أنا مش بخون وعد قطعته لحد، إنتِ اللي قررتي تلغي الوعد دا بينا، ولا إنتِ لابسة فستان عريان قدام واحد مش عايزاه يقرب لك ليه؟!
قبضت على كفه الممسك خصرها وحاولت مليًا إزاحته وهي تردد بتلعثمٍ:
-إنتَ عارف إني كُنت بستفزك.
ابتسم ابتسامة هزلية قبل أن يرفع كفه الآخر ويبدأ في تمرير أصابعه على شعرها بمشاعر حميمية واضحة جدًا وهنا تابع بصوت هادئ بعدما التقط بعض الخصلات وبدأ بقربهم من أنفه ثم يستنشق العبير المنبعث منهم بأحاسيسٍ متخبطة حقيقية رغم سعيه في إخافتها في بادئ الأمر إلا أن الأمر صار جادًا رغمًا عنه:
-بس استفزازك ليا مش في صالحك.. ولكُل فعل رد فعل!!
كانت تتابعه بعينين متسعتين في توجسٍ لينتفض داخلها هلعًا وبدأ صدرها يعلو ويهبط في ارتباكِ وهي ترى تماديه في الاقتراب منها حيث ترك خصلاتها ثم بدأ يلمس وِجنتها برقة راقت لها نوعًا ما ولاحظت نظراته العالقة بشفتيها وإبهامه الذي يتحرك صوبهما وما أن لمس إبهامه شفتيها برغبة واضحة منه حتى أشاحت بوجهها للجهة الأخرى وأغلقت عينيها وهي تقول بصوت مرتعبٍ:
-لأ يا تليد.. لأ بجد!
تجهمت معالم وجهه ثم ضغط بقوة على ذراعها وهو يقول بلهجة صارمة:
-لأ ليه؟! مش دا حقي زيّ ما بتطلبي حقوقك؟ أنا عايز حقي.
نظرت إلى الأرض وقالت بصوت مخنوقٍ:
-مش بالقوة.. أنا مش مُستعدة.
رماها بنظرة ثاقبة قاسية ثم أفلت ذراعها وراح يبتعد عنها مخنوقًا وهو يردد بحزمٍ:
-ادخلي غيري هدومك وعلى فكرة أنا كمان مش عايزك.
وقفت متسمرةً تستمع إلى عباراته الغاضبة بملامح حزينة وعينان تمتلأن بالدموع فعلى ما يبدو أنها أشعلت رغبته وأثارت مشاعرًا جامحةً داخله والآن تتركه ينازع كُل هذه الأشياء وحده ويعود خالي الوفاض، هرعت نحو الغرفة ثم صفقت الباب خلفها وهي تلوم نفسها ألف مرة لأنه لا يستحق منها كُل هذا العبث ولكنها أرادت فقط أن تمازحه!
•~•~•~•~•~•~•
استقبلت الأمطار بذراعين مفرودين بسعادة غامرة وبدأت تمشي في الحديقة بخطوات بطيئة كي تستقبل كُل قطراتٍ المطر التي تعتقد أنها تُذهب الحُزن والهم عنها كلما تساقطت من فوق جسدها، كان البرد ينخر عظامها فأسرعت باحتواء جسدها بذراعيها تمشي بمتعة كبيرة غير مُبالية إن أصابها نزلة برد أم لا، تحركت في خفة فراشة تتراقص على أغصان الشجر حتى وصلت إلى أرجوحتها التي لطالما حلمت بها في طفولتها ولم تحظَ بها لشدة فقرهم المدقع؛ فكانت أول شيء جلبته لإسعاد نفسها حينما أصبحت قادرة على شراء كُل شيء مهما كان ثمنه حتى أنها لم تنسَ شراء الدُمى التي أبكتها طوال ليال طفولتها لأن والدها لم يكُن يقدر على شراءها لها لأن ثمنها يساوي مرتبه كله.
كانت “نجلا” فتاة ذات رقة تشملها من الداخل والخارج فبالرغم من الفقر الذي عاشتهُ كُل حياتها إلا أنها كانت جميلة تعتني بنفسها جيدًا ثم أصبحت صبية خاطفةً للأنظار ثم سيدة شابة يافعة شديدة الجمال تساعد والدها في عمله بقصر الأغنياء ثم ضحية استباح ذابحها كُل شيء بها من أجل إمتاع نفسه ثم موظفة ماهرة لإحدى الشركات ثم زوجة صاحب الشركة ذاتها إلى أن وصل بها الحال وأضحت سيدة ناضجة بما يكفي تسعى للانتقام!
شردت بعقلها إلى أن استقرت أعلى الأرجوحة بينما رفعت وجهها للسماء وبدأت تتحدث إلى الله خفيةً حتى اضطربت أنفاسها في حُزن وخرجت كلماتها مبعثرة لم ترتب لها:
-دعيت كتير يارب، مستنية تُجبر خاطري، يارب ما تردني مهزومة في أمر وجعني واحتسبته عندك.
ظلت تتكلم بمشاعر صامتةً وشفاه لا تتحرك بل قلبها من يصرح عن آلامه ومكنوناته، وجدت في هذه اللحظة معطفًا يُلقى على ذراعيها ثم قبعة تُوضع فوق رأسها فالتفتت ببصرها إليه وقد ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيها وهي تزم المعطف على جسدها لتحصل على تدفئة أعلى وبنبرة هادئة قالت:
-شكرًا.
استدار وهو يسحب كرسيًا يقبع بجوار الأرجوحة ثم وضعه أمامها وراح يجلس عليه قائلًا بابتسامة هادئة:
-في الخدمة دايمًا يا بطل!.
انطلقت ضحكة رقيقة من بين شفتيها ثم تابعت بلهجة مرحة عكس طبيعتها التي لا تبتسم إلا قليلًا ولكنها معه تنسى كُل ما تُكابده من هموم وأوجاعٍ وهو بدوره يدعمها ويحمي ظهرها ضد كُل مكروه:
-مش قولت لك بطل تقولي الكلمة دي يا ماكسيم؟!
مال بجسده نحو الأرض قليلًا ثم جذب وعاء معدني ووضعه بينهما قائلًا بنبرة متريثة:
-بما إن المطرة وقفت والبطل عايز يقعد في البرد يبقى نولع خشب ونتدفى.
خرجت ابتسامة هادئة من بين شفتيها وقالت باستسلام:
-مفيش فايدة فيك.
تناول قداحته ثم قربها من الحطب حتى اشتعل وبدأ رويدًا رويدًا يعلو؛ فتابع من وسط انشغاله بإشعال النيران:
-سيبك مني، قولي لي إنتِ هتبطلي إمتى مزاولة وتتجهي لسياسة الاقتحام؟!.. عايزة تخلصي من عثمان في ظرف يومين هكون مخلص لك عليه، بس مش فاهم؟ ليه بتزاوليه ومش بتاخدي خطوة لقدام؟!
عبست ملامحها ثم أجابته باستنكار:
-يعني إنتَ مش عارف ليه؟!
استقام جالسًا في مكانه ثم صرح باستنكارٍ مُنفعل:
-اللي بتفكري فيه دا درب من الجنون، وهم بيصورا عقلك الباطن علشان تصدقيه زيّ ما أنا شايف دلوقتي.. تقدري تقولي لي لو اللي في دماغك طلع غلط هيكون موقفك أيه؟! مش هتاخدي من كل دا غير الوجع.
أصاب جسدها رجفة خفيفة وهي تشيح بوجهها بعيدًا عنه في رفضٍ قاطعٍ للإنصات إلى حديثه، تنهد بهدوء قبل أن يتابع ما أن رأى اجتنابها لحديثه:
-هو دا رد فعلك طول الوقت لمَّا الكلام مش بيعجبك.. تبعدي وشك عني وترفضي حتى التفكير في كلامي!!
التفتت إليه مرة ثانية ثم صاحت في تحدٍ وإصرار:
-ولو أثبت لك إني صح يا ماكسيم.. موقفك إنتَ هيكون أيه قدامي؟!.. دا مش بيكذب عليا أبدًا.. دا غير شعوري القوي ناحية الموضوع.
قالت كلماتها الأخيرة وهي تضع يدها على قلبها وصوتها يخنقه الألم واللوعة، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يلين في كلماته مُقدرًا حُزنها:
-أتمنى إنك تكوني صح ومتمناش أبدًا أشوف الوجع والاستسلام بيتملكوا منك.. افتكري دايمًا إني في ضهرك.. أنا روحي من زمان قدمتها فدا لروحك يا نجلا.. فداكِ كُل الناس وأنا في مقدمتهم.
تخضبت وِجنتاها في خجلٍ وهي تراه ينهال عليها من رسائل غرامه المخبأ لها، تعلم جيدًا أن قلبه ينبض لها منذ زمنٍ حتى أنه أوفى رجلًا يمكنها أن تحوز عليه في حياتها وربما هو فرصة من الله لها كي تنجو وقلبها يخشى أن يفقده ولكنها تود استرداد ما سُلب منها عنوةً كي تمر إلى قلبه بكرامةً سيدة دافعت عن شرفها حتى الرمق الأخير، بادلتهُ ابتسامة ناعمة ودت كثيرًا لو تستطع الرد على كلماته الداعمة التي تخبئ بين طياتها الكثير من الأمل في الحصول عليها ولكنها كمن صُلب قهرًا وظُلمًا ثم قرر ظالمها أن يضمر النيران من حولها كي تلتهما التهامًا بينما تميل هي قليلًا إلى النار التي تستعر من حولها لإشعال سيجارتها القابعة بين شفتيها.
تنحنحت قبل أن تقول بكلمات ثابتة حقيقية:
-وجودك فارق في حياتي لأن قوتي مصدرها إنتَ يا ماكسيم.
ماكسيم بابتسامة خفيفة يقول:
-في الخدمة يا بطل.
في هذه اللحظة لاح أمام عينيها ظل رجلٍ يهرول مسرعًا إليهما وما أن اقترب وأبصرته حتى وجدته أحد رجالها يقول وهو يقف أمامهما في ثبات:
-في أخبار بتقول إن بنت عثمان عملت حادثة وعربيتها اتقلبت وهي دلوقتي في المستشفى.
اندهشت في باديء الأمر ولكنها تابعت بصوت خافتٍ يغلفه الهدوء:
-للأسف تمن وساخته بيدفعه ولاده!!
•~•~•~•~•~•~•~•
دخلت إلى الغُرفة بخطوات مُبعثرة خائفة بعد أن تأكدت من وجودهم جميعًا بالأسفل لتناول العشاء، كان قلبها يدق بخوف شديد وهي تتسلل إلى المكتب خفيةً كاللصوصٍ، تحركت بهدوء للداخل ثم بدأت تبحث بنظرات متوترة مُضطربة عن مبتغاها، كانت تلتفت بين الحين والآخر إلى الباب حتى تتأكد من عدم قدومٍ أحد فبدأت تفتش في كل مكانٍ بأنفاسٍ تضطرب كلما تذكرت أن يُمسك بها وبسرعة تحركت نحو التسريحة وفجأة تحول اضطرابها إلى هدوء وابتسامة ماكرة لتلتقط المشط الخاص به ثم تنظُر إلى خصلات الشعر العالقة بين أسنانه وتتنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ.
فجــأة انفتح الباب على غفلة منها فالتفتت بفزعٍ تنظر إليه ثم هدأت ملامحها مجددًا وهي تجده يغلق الباب بقوة ثم يتحرك إليها حتى التصق صدره بجسدها وبدأ يداعب عنقها بأنامله بينما تابعت هي بنبرة ثابتة:
-مين نجلا دي يا عثمان بيه!!
قطب حاجبيه فورًا ثم توقف عما يفعل وابتعد قليلًا وهو يقول بلهجة حادة:
-وإنتِ عرفتي نجلا منين؟!!
عضت شفتيها ثم تابعت ببرود:
-طلبت مني أجيب لها حاجة تخصك!!!
اكفهر وجهه تمامًا وهمَّ أن يستفسر عمَّا تقول فأسرع بإدارتها إليه ثم ضغط على رسغها وقبل أن يتكلم وجد باب الغرفة يُطرق بقوة وصوت “نبيلة” يأتيه من الخارج صارخةً بهياجٍ:
-الحقني يا عثمان.. سكون عملت حادثة!!!
يتبع
التعليقات