الفصل الثامن والثلاثون]]
رواية
جمعت أمتعتها على عجلة من أمرها حينما جاءتهم أنباء من الريف حول ولادة زوجة ابنها “راوية” التي تعرضت لنزيفٍ حادٍ وبوادر ولادة مُبكرة عن موعدها، كانت “شروق” تُعين “تماضر” على جمع الأغراض لكسب بعض الوقت حتى أنها قررت مرافقتها إلى البلدة وبقاءها بجوار زوجة سِلفها في أوقات كربها وأخبرت عن نيتها لزوجها الذي رحب بقرارها كثيرًا وقرر أن يصحبهما إلى موقف الحافلات وما أن تصلا إلى موقف المدينة سيقوم أحد رُفقاء “عِمران” بنقلهم بعربته الخاص حتى باب البيت على وعد بالمجيء خلفهم عقب انتهاء عمل الغد.
أسرعت “شروق” بارتداء حجابها بشكل غير مُنظم تستعجلها الأخيرة بشكل مُتكررٍ وملامح متوترة فانصاعت تهرول خلفها إلى الباب وهنا تابعت “تماضر” بأنفاس لاهثة:
-اوعى يا عِمران تنسى تيجي بكرا تطمن على مرات أخوك وتبارك لأخوك؟
أومأ مجيبًا بإيجاز وهو يفسح لها الطريق كي تمر قبله:
-مش هنسى يا أمي، هخلص شغل بكرا وهكون عندكم.. خلي بالك إنتِ بس من شروق!.
ضغط على كلماته الأخيرة فهزت رأسها بتفهم ثم هرولت إلى الحديقة بينما التفت “عِمران” إلى زوجته التي تقف بجواره يرمقها بنظرات عطوفة قبل أن يحتضن كفيها بخاصتيه ويقول بهدوء:
-متأكدة إنك عايزة تسافري مع أمي؟!
أومأت دون تردد ثم أجابت بسجية طفلة تنسى الأذى الذي تلقته بسهولة:
-أكيد طبعًا علشان أكون مع طنط وراوية ونستقبل البيبي!!
سكتت هنيهة ثم أردفت بلهجة يغمرها الحماس:
-فرحانة أوي وكأني همسك ابني أنا بعد شوية.
اتسعت شفتيه بابتسامة ودودة فرفع كفيها إلى شفتيه ثم قبل الكفين تباعًا وهو يسقط غارقًا للمرة التي لا يعرف عددها في بحور براءتها؛ فهي أول مثال يقابله في هذه الحياة ويكون مُحبًا بشدة للخير الذي يطرق أبواب الناس حتى لو كانت تفتقده وتموت بشدة لامتلاكه؛ ولكنها مؤمنة بأن الشيء الذي لا يطرق بابها لم يحن به الله بَعد وأن الدور لم يأتِ عليها؛ فهذه المرة اختص بخيره عبده هذا وتلك المرة اختص به عبده ذاك وذات مرة سيختصها الله بذلك الخير دونًا عن غيرها.
أردف “عِمران” بعينين يفيض العشق منهما:
-قريب أوي هنمسك حتة مننا زيّ كُل الناس، ربنا مُطلع كويس أوي على قلوبنا وأكيد هيجبرنا.
أشار بسبابته في هذه اللحظة نحو قلبها وأكمل:
-مش علشاني.. علشان القلب الأبيض دا.
افتر ثغرها عن ابتسامة ناعمة وقالت بقليل من الأملٍ:
-إن شاء الله هيجبرنا.
أومأ يؤكد ظنها بالله، ثم طوق كتفيها بذراعه وباليد الأخرى حمل الأمتعة ثم تحركان سوية خارج جدران البيت تمامًا ليجدا “تماضر” تمكث في السيارة تنتظر قدومهما بأعين مُترقبة وما أن رأت ابنها حتى صاحت بصوت متوترٍ:
-يابني يلا يا دوب نلحق!!
ركب داخل السيارة على الفور وجاورته زوجته ثم انطلق بهما إلى موقف الحافلات لاستقالة الحافلة التي ستتحرك بعد نصف ساعة من الآن، بدت “تماضر” أمثر ضيقًا لأن ابنها قد احتجزها في بيته لكثير من الوقت وهي التي تمنت لو رافقت “راوية” في هذه اللحظة وكانت أول من تحمل الجنين، أزاد “عِمران” من سرعة السيارة كلما طلبت منه والدته بإلحاح شديدٍ، وصل للتو إلى الموقف فترجلت “تماضر” بهمَّة فتاة عشرينية تهرول إلى الحافلة بينما تابع “عِمران” وهو يقبل يد زوجته التي لا تستطيع اللحاق بالأخيرة المتوترة:
-خلي بالك من نفسك ولما توصلي كلميني!
أومأت وهي تسحب كفها من بين كفه برفقٍ ثم هرولت خلف حَماتها صاعدةً على متن الحافلة، تحولت بنظراتها للجانبين حتى وجدتها تجلس على أحد الكراسي المجاورة النافذة فاقتربت منها وجلست بجوارها وهي تحاول استرقاق النظر عبر النافذة لرؤية زوجها وتوديعه وما أن وقعت عيناها عليه حتى وجدته يلوح لها بيده في اهتمامٍ ونظرات تُخبرها أنه سيشتاق لها!
ظلت تلوح بيدها لبعض الوقت حتى أنها مطت شفتيها بامتعاضٍ لأن حماتها تحيل بينها وبين رؤيته وما أن أدركت “تماضر” ذلك حتى ضربت كفًا بالآخر وتبادلت معها الأماكن لتنشرح أسارير وجهها وهي تضع جبهتها على زجاج النافذة وتتابع وجوده باشتياقٍ شديدٍ وهنا ابتسمت “تماضر” بهدوء ثم تابعت:
-هو إحنا مهاجرين؟ بكرا هييجي لك يا قدري، كفاية حبكم نفخ لي بطني.. هولد منكم!
قطبت “شروق” حاجبيها ثم أردفت متوجسةً في دهشة وهي تلتفت بنظراتها إليها:
-إنتِ حامل يا طنط؟ مستحيل!!
تماضر بغيظٍ مكظومٍ:
-معاكم المستحيل ممكن يا ضنايا.. خليتي ابني ملزق.. روحي ساخت عليا من المُحن.
التوى شدق “شروق” ثم تابعت بتبرم:
-بودعه علشان هفتقده!!
تماضر وهي تصك أسنانها بغيظٍ:
-أنا اللي هتفقد وهروح منكم.. لفي وشك وسيبي جوزك يروح يشوف مصلحته.
أومأت “شروق” على مضضٍ وقررت أن تجلس باعتدال في كرسيها وأن تتركه يذهب إلى البيت والاستراحة قبل بداية يوم عمل شاق غدًا، ركب سيارته ثم انطلق بعد أن اطمأن على سلامتهما داخل الحافلة وما أن تحركت السيارة عدة مترات حتى توقف فجأة مرة أخرى فارتد قليلًا للأمام وهو يُنصت إلى المُتحدث إليه عَبر الهاتف ليقول بلهجة فزعة:
-تمام.. جايين حالًا.
أسرع بغلق المكالمة ثم ضغط فورًا على رقم زوجته التي أجابت على مكالمته بسرعة غريبة وكأنها تنتظر أن يُنير اسمه هاتفها:
-أيوة حبيبي!!
أتاها صوته يقول بعجلة وتوتر:
-انزلي بسرعة من الأتوبيس.. أنا راجع لك تاني.
خفق قلبها هلعًا وهي تستفسر بتوجسٍ:
-ليه يا عِمران؟ حصل أيه؟!
ابتلع ريقه على مهلٍ قبل أن يُقرر مصارحتها بالحقيقة حتى لا تظل تسأل عن السبب طوال الطريق:
-سكون عملت حادثة بعربيتها وهي حاليًا في المستشفى!
أصاب جسدها رجفة قوية وهي تنتفض واقفةً في مكانها حتى أصابعها التي ارتعشت بصورة ملحوظة جعلت “تماضر” تنظر إليها بانتباه داهش حينما سقط الهاتف على الأرض لأن أناملها المرتخية لم تعد تقوى على حمل الهاتف على الإطلاق، أسرعت “تماضر” تهز الأخيرة التي تقف مُتسمرة بجسد مُتيبس لا يتحرك منه شيء سوى دموع تنجرف بلا هوادة وقالت بصوت مرتعبٍ:
-شروق! مالك وأية اللي حصل؟!
لم تجد ردًا منها فمالت تلتقط الهاتف ثم وضعته على أذنها تتساءل عما يجري إلى أن أخبرها ابنها بما تمر به “سكون” فقامت “تماضر” بوضع الهاتف في يدها ثم أردفت بنبرة مُشفقة تدفعها إلى مغادرة الحافلة:
-انزلي يا شروق بسرعة قبل الأتوبيس ما يتحرك، لازم تكوني جنب أختك!
سحبتها كلمات حماتها من داخل هوة عجزها السحيقة التي أوقفتها متيبسة في مكانها، هرولت مُسرعة عَبر ممر الحافلة ثم هبطت درجاتها وراحت تجهش باكيةً وهي تنظر حولها بنظرات تائهة وعقل فقد قدرته على التركيز والتصرف، طفقت تمشي بقوة خائرة تنظر على جانبيها باحثةً عنه إلى أن وجدت سيارته تقف أمامها ويترجل مُسرعًا منها وهنا كان هو ملاذها الوحيد دومًا لتركض بقلب مُلتاعٍ ونظرات فزعةً تخشى الفقد حتى استقرت بين ذراعيه وراحت تتشبث به بقوة وصوت نواحها يعلو تدريجيًا وهي تقول بانهيارٍ كاملٍ:
-سكون!! أختي يا عِمران!
أسرع باحتوائها بقوة بين ذراعيه عله يستطيع طمأنتها أو يخفف عنها ولو قليلًا من الألم الذي تشعر به، ابتعد قليلًا ثم تابع بلهجة ثابتة:
-إن شاء الله سكون هتكون كويسة لأنها بنت قوية وإنتِ لازم تحسني الظن بالله، تعالي!
أنزل ذراعيه عن كتفيها ثم قبض على كفها وقادها معه إلى السيارة مقررين الإسراع إلى المستشفى التي اُحتُجزت فيها شقيقتها حتى أن قلبها الخافق سبقها إلى هناك منذ زمنٍ.
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•
هرع الجميع إلى المستشفى ما أن تلقوا الخبر بحُزن ملأ قلوبهم قبل أن تكتئب وجوههم، شرعت “نبيلة” تبكي بكاءً مريرًا لا يتوقف أو تخف حدته كما قابل “عثمان” الخبر بملامح فزعة وقلبٍ يخفق بهياجٍ ما لبث أن امتد إلى حركات جسده وهو يهرول مسرعًا إلى سيارته واقتيادها إلى المستشفى ومعه زوجته، فيما استغلت هي ذهابهم جميعًا حتى عُمر الذي ذهب بسيارة خاصة بأمر من والده، كان القصر شاغرًا تمامًا فقررت أن تنفذ ما أملاه عليها قبل تلقيه الخبر، انتفض جسدها فزعًا وهي تجد كفًا يضغط على كتفها وصاحبته تقول متوجسةً:
-سرحتي في أيه يا هند؟
التفتت “هند” بعينيها إلى زميلتها ثم افتعلت الحُزن بملامحٍ مُكفهرة وراحت تقول بصوت خافتٍ:
-زعلانة على سكون هانم.
أجابتها الأخيرة تلقائيًا بنية صادقة:
-والله قلبي وجعني عليها، بس إن شاء الله تقوم بالسلامة.
أومأت “هند” بتفاعل فاترٍ ثم تنحنحت قبل أن تقول مرة أخرى:
-تفتكري يا بت يا سعاد دا حق سُهير وبنتها وربنا بيخلصه من عثمان؟!
رفعت “سعاد” كفيها وأنزلتهما ببلاهة فيما كانت كلمات “هند” الموحية تحمل مغزى أكبر بكثير من مجرد الاشفاق على زميلتها السابقة وابنتها؛ فهناك ما تسعى إليه بعد تلقيها الأوامر منه، كانت “هند” دومًا أفضل وأهم العاملات بالقصر وأقربهم إلى قلب عثمان؛ فهي ذراعه الأيمن الذي يرشده وينبهه بكل ما يدور داخل القصر تفصيليًا كما أنها الصديقة المُقربة لسهير ولكن الصلة بينهما انقطعت بعد ذهابها من القصر إلا أن “سعاد” بقيت على تواصل مع زميلتها المطرودة من القصر ظُلمًا.
مطت “سعاد” شفتيها ثم رددت بنبرة متوترة حذرة:
-معرفش يا هند، بلاش نتكلم في حاجة متخصناش.
رمتها الأخيرة بنظرة نارية ثم رددت بحنقٍ:
-يخربيت معرفتك.. هتفضلي جبانة طول عمرك.
أشاحت “سعاد” بوجهها في ضيقٍ تتجنب النظر إليها والاحتكاك بها فيما لم تترك لها الأخرى حرية تجنبها وأسرعت تقبض على ذراعها وهي تقول بلهجة حازمةً:
-طيب والله سُهير لازم تعرف إن حقها رجع لها، هاتي رقمها!
رمقتها “سعاد” بضيقٍ من إلحاحها ولكنها في النهاية استسلمت لها فانتشلت “هند” الهاتف من يد الأخرى وطفقت تبحث في هاتفها عن الرقم الذي وجدته بسهولة في سجل المكالمات القريب لتتابع بضحكة سمحة:
-متكلمين من 4 ساعات 37 دقيقة!!!.. دا إنتوا رغايين موت.
همَّت “سعاد” أن تسحبه منها في محاولة بائسة بينما ضغطت الأخيرة زر الاتصال وما هي إلا ثوانٍ حتى وصلها صوت سهير تقول بهدوء:
-أيه يا سوسو.. خلصتي شغل؟!
ظهرت ابتسامة ماكرة على شفتيها وهي تقول بخبثٍ:
-لأ أنا هوهو يا روح قلبي.. أنا هند.. عاملة أيه؟ وحشاني خالص!
زوت “سهير” ما بين عينيها في استغرابٍ ثم أجابتها:
-وحشاكِ فعلًا! أمال من ساعة ما مشيت من القصر مرفعتيش عليا سماعة تليفون ليه؟!
هند تفتعل الضيق والمذلة:
-أعمل أيه يا سهير ما إنتِ عارفة القواعد المشددة هنا وأنا بجري على كوم لحم وعايزة أعيش وأعيشهم.
سكتت هنيهة ثم أكملت:
-المهم أنا بكلمك علشان أقول لك إن حقك رجع لك إنتِ وبنتك.
انتبهت “سهير” لكلماتها بكل حواسها وتابعت بفضولٍ شديدٍ:
-إزاي؟
هند بابتسامة انتشاءٍ تابعت:
-سكون هانم عملت حادثة بعربيتها وحالتها باين كدا خطيرة أوي.
تفاجأت “سهير” مما تسمع حتى أنها وبسرعة فائقة وجدت فرصة كي تعود ابنتها من سفرها مرة أخرى؛ فتابعت بعقل مُزدحم بالأفكار تتطلع إلى سماع التفاصيل:
-والحادثة دي حصلت لها إزاي وبسبب أيه؟
نفت “هند” بكلمات ثابتة ترفض إرواء فضولها:
-لأ، دا الموضوع يطول شرحه وإنتِ بصراحة وحشتيني وعايزة أجي أشوفك وأشوف وَميض، عندك مانع نتقابل النهاردة؟!
أجابتها “سهير” على الفور:
-لأ خالص بس وَميض في شهر العسل ومعرفش هيرجعوا بعد ما يسمعوا الخبر ولا لأ!
هند بنبرة تحفيزية للأخيرة كي تتصل بابنتها وتخبرهم بالحادثة رغم رفض الجميع اخبارهم وتعكير صفوهم:
-دا لازم يعرفوا.. ما تنسيش إن سكون بنت عم الشيخ تليد وهيزعل أوي لمَّا يعرف إنكم خبيتوا عنه!
سهير ترد بحسمٍ:
-دا أنا هتصل بيهم حالًا.. مع السلامة.
أغلقت “سهير” فورًا ونجحت في تنفيذ خطتها بكُل سهولة ويُسر مُعتمدةً على مكر “سهير” وعداوتها الشديد لزوج ابنتها، ضوى بريق مخيف من عينيها وهي تمد يدها بالهاتف نحو “سعاد” التي تسللت الشكوك إلى نفسها ولم تشعر براحة تجاه تصرف زميلتها.
)على الجانب الآخر)..
جلسا الاثنان إلى المائدة بأوجه مُقتضبة يتناولان العشاء في أجواء صامتة تمامًا؛ فتليد يرفض قطعًا التكلم معها نتيجة لما فعلته من تلاعب بمشاعره المُتأججة نحوها والتي تشتعل رغمًا عنه كلما اقتربت منه وشعر بأنفاسها بجواره، يحاول مليًا أن يتحكم في غريزته نحوها في محاولات بائسة وكانت هي السبب الوحيد والأوحد الذي يقيد عزيمته ويقتلها ويستخرج من أسفل قوته آخر يهرول مُتلهفًا إلى إشباع غريزته منها؛ وهو الذي يجعل الغريزة خاتمًا في إصبعه ولكن ما أن تبصرها عيناه تتحول غريزته المسيرة بإرادته وقوته إلى مسيطرة.. لا تفهم جيدًا الحالة التي أوصلته إليها.. لا تُدرك انتظار شخص لشخص آخر يحبه ويموت في سبيل لقائه؛ كيف يكون حينما تخضع الظروف لرغبته وتسير إليه الشخص الآخر؟! بالفعل عليه أن يروي ظمأ لحظات الانتظار التي كابدها ولكنها لا تفعل سوى زيادة الحلقة النارية داخله وهي تجمع أشياء أخرى وترميها داخل النار كي تزداد اشتعالًا وتتأجج.
رفعت الملعقة إلى فمها بفتورٍ وهي ترمقه بطرف عينيها بمشاعرٍ تكتظ بالغيظٍ وهي تجده صامتًا منذ ذلك الموقف الذي دار بينهما حتى باتت الأجواء كئيبةً وساد الصمتُ المكان فشعرت بالضجر الشديد والوحدة، تنحنحت قليلًا قبل أن تتابع بنبرة خافتة:
-إنتَ هتفضل زعلان كدا؟!
رماها بنظرة خاوية من المعاني وتابع تناول طعامه، فامتعض وجهها غيظًا وتابعت بصوت مغلولٍ:
-تليد أنا بكلمك!!
وضع الملعقة جانبًا قبل أن يشبك كفيه معًا ثم يقول بلهجة حازمة:
-صدقيني التواصل بينا هيكون أفضل في حالة إنك تعقلي!!
التوى شدقها وردت متبرمة:
-ليه؟ أنا مش عاقلة؟!
أجابها ببرودٍ:
-وهم بيوزعوا العقل والحكمة كُنتِ غايبة يا وَميض للأسف.
اكفهر وجهها حنقًا وردت باحتجاجٍ:
-كُل دا علشان هزرت معاك!!
لم يتحمل غباءها أكثر من ذلك، خبط سطح الطاولة بكفه وهدر محتدًا بالغضب:
-إنتِ مش فاهمة حاجة… خالص.
سكت هنيهة ثم تابع بصوت يعبق بحرارة عميقة:
-مش فاهمة يعني أيه واحد يعيش عُمره كُله مستني ربنا يجمعه بواحدة معينة.. اتعرض عليه كتير وشاف كتير وبردو فضل قافل بابه عليه مستني ربنا يقدرها له.. مش فاهمة يعني أيه تبقي جنبي ومراتي ومش عارف أعيش معاكِ الحياة اللي رسمتها.. مش عارف حتى أرضي رغبة سنيني اللي فاتت فيكِ.. أنا ضميري رافض الدونية دي مع إن قلبي بيحرضني وإنتِ شاكرةً دمرتِ لي عزيمتي وجيتي مع قلبي عليا.
حركت رأسها نافيةً وهي تقول بندمٍ:
-مكنش قصدي يا تليد.. أنا كُنت عايزة أهزر معاك بس!!
تليد بعد هدأت فرائصه قليلًا ما أن باح بما يملأ خلجات نفسه:
-اللي عملتيه دا عِند فيا واستفزاز لعزيمتي مش هزار أبدًا.
ابتلعت ريقها على مهلٍ، همَّت أن تنفي ظنونه ولكنها وجدت هاتفها يصدح عاليًا فالتقطته فورًا ووجدته رقم والدتها وكان هذا الاتصال في وقته هربًا من غضبه وتبريراتها التي لا تجدي نفعًا أمامه:
-أيوة يا ماما.
سكتت تستمع إلى والدتها ثم ردت بفتورٍ:
-أنا كويسة الحمد لله، وإنتِ؟!
أتاها صوت والدتها يقول بتوترٍ:
-الحمد لله يا بنتي، بس في خبر عايزة أقوله ليكم لأني محبتش تكونوا آخر من يعلم!
انصتت “وَميض” لها بكُل جوارحها؛ فتابعت الأخيرة تتصنع الضيق:
-سكون عملت حادثة بعربيتها وحالتها خطيرة أوي.
شهقت “وَميض” في صدمة ورددت بصوت مندهشة:
-سكون عملت حادثة.. إمتى الكلام دا!!
تملكته الدهشة وانتفض واقفًا في مكانه بملامح قلقة وما أن أنهت المكالمة حتى أردف يتساءل بخوفٍ وترقُب:
-سكون كويسة مش كدا؟!
تابعت الأخيرة عن جهلٍ حول الأمر:
-مش عارفة.. بس ماما قالت حالتها خطيرة.
تحرك مُندفعًا بسرعة كبيرة نحو الغرفة وبنبرة حاسمة تابع:
-البسي يلا.. لازم نمشي دلوقتي.
أومأت بتفهم وهي تتعقبه إلى الغرفة استعدادًا لمغادرة مطروح والعودة إلى القاهرة والبقاء بجوار ابنة عمه وصديقة طفولته؛ فمهما بلغ خلافه معها لا يستطيع التفريط بها وأخواتها ولا يرى سوى بقائه داعمًا وعصبًا متينًا لأوقاتهم العصيبة.
•~•~•~•~•~•~•
تجمع كل من وصله الخبر أمام غرفة العمليات التي دخلتها سكون منذ ساعتين تقريبًا وتشخصت الأبصار نحو الباب في انتظاره أن يُفتح وتخرج هي سالمةً محملةً على سرير مُتنقل ثم يخبرهم الطبيب أنها أصبحت على ما يُرام ولا داعي لقلقهم؛ هكذا تمنت قلوبهم وبشدة ولكن القلق استبد بهم مُنذ زمنٍ وهم يجدون العملية قد طال وقتها ولا يخرج أحدُ إليهم ويخبرهم باستقرار الوضع.
كان الممر مكتظًا بالعائلة بأكملها يترقبون خروجها، راح “عثمان” يصول ويجول أمام باب الغرفة في قلقٍ وجنونٍ بينما يجلس الباقية مجهشين في بكاء وعويلٍ إلا “كاسب” الذي جلس بعيدًا على الأرض واضعًا رأسه بين كفيه في انهيارٍ تملك من جسده وأفقده القوة الجسمانية تمامًا فبقى مرميًا بالأرض في قوة خائرة يتوجس خيفة أن يفقدها أو تروح من بين يديه بعد أن وجدها.. بعد أن تدق قلبه للمرة الأولى بعُنفٍ.. خرجت دموعه عن سيطرته كلما خُيل له أن تفارقه ولم يعيش حبه لها بَعد ولم يُخبرها بما تجيش به مشاعره تجاهها!!
بينما جلس الشيخ “سليمان” يقرأ في كتاب الله بنية خروجها سالمةً لأحضان أبويها، دعا كثيرًا ألا يرى فيها مكروهًا وأن تخرج بكامل عافيتها وتعيش شبابها الطويل وتهنأ به، كان قلبه يعتصر ألمًا كلما طال الوقت ولم يأتِ خبرًا عنها ولكنه يُحسن الظن بالله ويعلم أنه لن يُضيع فتاة شابة أينعت بذور حُبها للتو، في هذه اللحظة التفت يُمنة فرأى جسدًا خائرًا فاقدًا للأمل، لم يحتج الشيخ سليمان أن يطلع على سريرة نفسه كي يعلم أنه يموت خوفًا على ابنة أخيه وأنه يكن لها حُبًا مديدًا، بهدوء شديد أغلق دفتا المُصحف ثم نهض عن كرسيه متجهاً إلى ذلك الخائر بالأرض، لمس الوهن الذي أصاب نفسه عن كثب ما أن وقف أمامه مُباشرةً فلاحظ “كاسب” وجوده فرفع حدقتاه عاليًا يطالعه بعينين ذابلتين، باغتهُ “سليمان” وهو يتحامل على ساعده حتى جلس أمامه ثم تبسم بهدوء وسكينة وراح يقول:
-شايفك حزين أوي على سَكن، بس في المجمل يا ولدي ربنا بعتك ليها علشان تكون سبب في إنقاذها.
نكس “كاسب” وجهه بالأرض في وهن ولكنه تفاجأ بأنامل الشيخ تمسك ذقنه في رفقٍ ثم ترفع وجهه لتلتقي عينيه به مرة أخرى وبنبرة هادئة أكمل:
-اليأس مش طرف كسبان في اللحظات اللي زيّ دي يا ولدي، اليقين يكسب عنه، خليك في الجهة الرابحة دايمًا، أنا عارف إن بُكاءك لسبب أكبر من مُجرد شخص عاصر الموقف وتأذى من صعوبته، أنا فاهم إنتَ بتعاصر أيه دلوقتي.
حدق ناظرًا إليه بعينين استفاقتا قليلًا لمجمل الكلام فيما تابع الشيخ “سليمان” وهو يضع كفه على صدر الأخير قاصدًا قلبه:
-ربنا يربت على قلبك.
كطفلٍ وجد ذراع حانية تطقطق على قلبه بمواساة، ذرف الدموع بصوت مُتحشرجٍ حاول كتمه داخله بينما طقطق “سليمان” على كتفه بحنان بالغٍ وهو ينهض عن الأرض مرة ثانية.
وما أن همَّ الشيخ سليمان واقفًا حتى انفتح باب الغرفة على مصراعيه ليجدوها تخرج على سرير مُتنقل بصُحبة مجموعة من الأطباء والممرضات مهرولين بها إلى غرفة العناية المشددة ليخرج عليهم الطبيب المسؤول عن العملية ثم يتابع بصوت يتخلله بعض المواساة:
-الحمد لله قدرنا نوقف النزيف الداخلي ومن حُسن حظها إن أغلب جروحها كانت سطحية ومتشكلش خطورة على حياتها ولكن…
انتبهت له الآذان وتشخصت الأبصار منتظرين بقية حديثه في ترقُب ليتابع بهدوء:
-لسبب غير معلوم المريضة دخلت في غيبوبة ولكن أوعزنا الأمر لسبب نفسي، وارد جدًا المريضة قبل الحادثة كانت بتعاصر مشكلة نفسية كبيرة!!
رمقهُ “عثمان” باختناقٍ خاصةً حينما التفتت “نبيلة” إليه ورمته بنظرات نارية حادة ثم تابعت وهي تلتفت للطبيب مرة أخرى:
-يعني بنتي هتفضل في الغيبوبة دي كتير!!
تابع الطبيب بثبات:
-مقدرش أجزم بالمُدة ولكن حالة جسمها بتقول إنها كويسة أوي ومفيش أي خطر على حياتها يعرضها لغيبوبة وبناءً على دا أعتقد أن خروجها من الغيبوبة دي مش هيستغرق غير أيام في حالة إنها تستجيب للعلاج وتساعدنا.
بدأت “نبيلة” تلطم وجهها في خوفٍ وانهيارٍ فلم يزيدها كلام الطبيب إلا وجعًا، أسرعت “شروق” بجذب والدتها إلى أحضانها ثم تابعت من وسط بكاءها:
-طيب إحنا نقدر نشوفها يا دكتور!!
الطبيب مومئًا بهدوء:
-أكيد.. إحنا نقلناها لغرفة العناية.. ولكن يُفضل دخول فرد فرد لسلامة المريضة.
انصرف فور إمدادهم بكل الأمور التي تخص حالة ابنتهم ثم غادر فورًا، قررت “نبيلة” أن تكون أول الزائرين لها فظلت تبكي بمرارة غصت حلقها تستجديها بقلب أمٍ مكلومة أن تقاوم وتنهض للحياة بهمتها ونشاطها الطفولي مرة أخرى، يخرج شخص ويدخل آخر هكذا دواليك للاطمئنان عليها حتى حل الليل ولا يوجد جديد يطرأ على حالتها الساكنة.
انقضى الوقت سريعًا ووصل “تليد” إلى المستشفى بعد أن أوصل زوجته إلى بيت والدها رافضًا قدومها معه حتى لا تحتك بعمه الذي ما أن يراها يشتد غضبه ويثور، شعرت “وَميض” بالغضب الشديد منه ولكنها انصاعت لرغبته في النهاية كي لا ينشب جدالًا جديدًا بينهما، استقبلتها “سهير” بفرحة عارمة من نجاح خطتها التي أتت بابنتها إلى بيت أهلها من حديدٍ؛ وللوهلة الأولى تشعر وكأن حُب “سهير” لابنتها بات خطيرًا مريضًا فترغب بشدة في احتجازها بين جدران البيت لها وحدها دون مشاركة أحد فيها أو استقبال ابنتها لمشاعر الحب من أحد غيرها.
-نورتي الدنيا كلها يا قلب أمك.
بادلتها “وَميض” الابتسام وهي تمر داخل الشقة لتجد “هند” جالسةً على الأريكة وما أن رأتها حتى صاحت بصوت مهللٍ:
-الشاطرة بتاعتنا اللي قدرت توقع واحد من عيلة السروجي وتبقى سيدة القصر.
ما لبث أن تحول الابتسام إلى ملامحٍ واجمة، عقدت حاجبيها بحنقٍ من ادعاءاتها المريضة وسارت تخطو بهدوء نحوها وما أن وقفت أمامها حتى تابعت بلهجة حادة:
-أنا موقعتش حد لأني مش هند، ولا أيه؟
رماها بغمزة موحية من عينيها ثم التفتت إلى والدتها وقالت بهدوء:
-أنا داخلة أخد شاور وهعمل محاولة تانية مع تليد علشان عايزة أكون جنب شروق.
أومأت “سهير” بتفهم فحدقت “وَميض” في الأخيرة بنظرة نارية قبل أن تتجه للداخل، تنحنحت “هند” بحرج قبل أن تتابع بنبرة تفتعل فيها الحُزن لإثارة عطف سهير:
-يرضيكِ كدا يا سهير أسلوب بنتك؟ أنا مش عارفة مبتحبنيش ليه مع إني بحبها!
سهير وهي تقترب منها ثم تربط على كفها وتقول:
-معلش يا هند ما إنتِ عارفة الوضع اللي هي فيه وإنها مغصوبة على الجوازة!
أومأت الأخيرة ثم تابعت بحماسٍ:
-تعالي بقى أما أحكي لك الحوار كُله من أوله.
انصتت لها بكُل انتباه تستمع للقصة التي دفعت “سكون” على الانتحار كما أخبرتها “هند” وأن “عثمان” هو الذي قادها داخل هذه الهوة السحيقة حينما تعمد توبيخها وإذلالها أمام كل من بالقصر.
اندمجت “وَميض” في الاستحمام لأنها لم تكن تأخذ راحتها وهي معه ثم ارتدت رُوب شتوي وتحركت إلى الغرفة لتُسرع في تمشيط شعرها على عجلة من أمرها وبعد محاولات مُضنية وكثيرة تمكنت من الحصول على موافقته بصدد حضورها فقرر أن يُرسل لها سيارته مع أحد السائقين لاصطحابها، انصاعت على مضضٍ وأغلقت الهاتف ثم تعجلت في ارتداء ملابسها ثم توجهت للخارج مرة أخرى وهي تقول ببرودٍ:
-كلتي ودنها.. كفاية ارحمي نفسك!
ثم التفتت إلى والدتها وقالت بهدوء:
-أنا ماشية يا ماما، تليد بعت لي السواق مع عربيته.
تنهدت “سهير” بهدوء قبل أن ترد مرغمةً:
-ماشي يا وَميض.. بس ابقي تعالي تاني؟!
أومأت بابتسامة هادئة فيما تابعت “هند” بنبرة تفتعل فيها الحُب والود:
-مش غلط عليكِ تنزلي في البرد دا وإنتِ لسه واخدة دُش؟ دا حتى شعرك ملحقش ينشف ولا سرحتيه!!
افتر ثغرها عن ابتسامة متهكمة ظهرت من جانب شفتيها وردت باقتضاب وهي تتجه إلى باب الشقة:
-نشف وسرحته ياختي.. متخافيش إنتِ بس عليا.
هند بضحكة سمجة تلحقها قبل أن تغادر:
-استعجلي بقى يا وَميض وخلي أستاذ تليد يشتغل كويس عايزين نشيل عيالكم قريب!
رمتها “وَميض” بنظرة ناقمة مغلولة قبل أن تصفق الباب بقوة وهي تردد بخفوتٍ:
-سِمجة صفرا.
التفتت “سهير” إلى الأخيرة ثم تابعت على نفس وتيرة حماسها الذي ينبض في مصائب الناس:
-كملي يا هند!!
مطت “هند” شفتيها ثم تابعت باستنكارٍ:
-ياختي من ساعة ما جيت مقولتليش تعالي أفرجك على الشقة الجديدة، دا حتى أول مرة أجي لك فيها!
استشعرت “سهير” الحرج من كلماتها ثم تابعت وهي تنهض في مكانها مُرحبة:
-اندمجت مش أكتر يا هند، تعالي أما أفرجك على الشقة.
سارت معها تستكشف كُل رُكن بالشقة وعلامات الانبهار باديةً على وجهها بينما يكمن في خبيئة نفسها مزيجًا من الغل والرغبة في أن تحظى بمصير كهذا.. زواج من أحد الأغنياء وشقة لا ينقصها شيئًا.. أخذت جولتها بأنفاس متأججة من الغيظ حتى أن وصلت إلى القسم الذي جاءت خصيصًا من أجله حينما تابعت “سهير” بابتسامة عريضة:
-دي بقى أوضة وَميض من ساعة ما اتجوزت وهي مقفولة ومحدش بيدخلها.
فتحت الباب بهدوء بينما أخذت “هند” تتفحص محتويات الغرفة باهتمام بالغٍ إلى أن وقعت عيناها على التسريحة فأسرعت تسعل بقوة مرة تلي الأُخرى حتى هرولت “سهير” إلى المطبخ لجلب الماء فيما اندفعت “هند” نحو المشط القابع على التسريحة تنظر إلى خصلات الشعر العالقة به والتي ما تزال مُبتلة فتيقنت أنها تخص وَميض، دفنتها بسرعة داخل حمالات صدرها بابتسامة متشفية واستمرت تسعل حتى ناولتها “سهير” الماء وارتشفت القليل منه، والآن أتمت مهمتها وحانت لحظة مغادرتها.
•~•~•~•~•~•~•~•
دعمه “تليد” كثيرًا بكلمات طيبة وطلب منه أن يُثابر ويظن خير الأمور، ثم قرر “تليد” اصطحاب الجميع إلى مطعم المستشفى لتناول القليل من الطعام الذي يمدهم بقليل من الطاقة لاستمرار، جاهد في إقناعهم بأن الامتناع عن الأكل ليس حلًا فانطلق هو وعِمران والباقية لتناول وجبة خفيفة بينما رفض “عُمر” مرافقتهم وسار بكرسيه إلى الحديقة شاردًا بوجه متجهمٍ غلفه اليأس إلى أن وجد ظِلًا يقترب منه ثم يد تستقر على كتفيه وبنبرة هادئة تقول:
-عُمر!
لم يحتج أن يلتفت للتعرف عليها فصوتها لا يفارق أذنيه أبدًا ولا يمكن أن يخطئ حول شيء يخصها، تنهد تنهيدة طويلة قبل أن يجدها تستدير واقفةً أمامه وهي تقول بصوت خافتٍ:
-سكون هتقوم بالسلامة يا عُمر لأنها قوية ومش بتتهزم بسهولة.
كانت عيناه تنظر إلى الأرض بأنفاسٍ مضطربة ووجه تكسوه الحسرة يرفض قطعًا التقائه مع عينيها فأسرعت تجثو على ركبتيها أمامه ثم احتضن كفيها كفيه وهي تقول بصوت خافتٍ مُعتذر:
-أنا آسفة لو كُنت ضغطت عليكِ بكلامي وعارفة إن دا مش وقته، بس أنا نسيت خصامنا وقررت أكون في ضهرك وقت شدتك!!
حاول جاهدًا أن يخرج صوته طبيعيًا ولكنه خرج متحشرجًا يغلبه بوادر بكاء حينما قال:
-أنا ماليش غير سكون في الدنيا دي.. أنا محدش بيقويني أدها.. خايف أخسرها يا رويدا.. خايف آخر أمل ليا في الدنيا يروح مني.
شعرت بمدى الوهن النفسي الذي يسيطر عليه فقامت برفع ذراعيها ثم وضعت وجهه بين كفيها وهي تجبره على النظر داخل عينيها مرددةً في صلابة:
-إنتَ أكبر من الضعف اللي رامي نفسك فيه يا عُمر، سكون هتكون كويسة، ودي لحظة عابرة مش هتاخد وقت كتير، تمام!!
سقطت قطرة ساخنة من عينه وقال بلهجة مضطربة:
-خليكِ معايا يا رويدا.. إنتِ الوحيدة اللي كلامك بيلملم المتشتت من روحي.. ادعميني كل ما غصب عني أضعف!!
بادلته ابتسامة ودودة ثم تابعت بدعمٍ:
-معاك لآخر نفس يخرج مني يا عُمر.. إنتَ كمان على فكرة بتلملم المتشتت من روحي.. أنا بحبك رغم كُل الظروف وكُل الوجع اللي مختارناش نعيش فيه واتفرض علينا.
قبض بلين على كفها ثم قربه من شفتيه وقبله في امتنان؛ فيبدوان كنصفين مهما وضعت أنصاف أخرى لهما لا يكتملان سوى ببعضٍ.
على الجانب الآخر، وصلت “وَميض” إلى المستشفى ولكنها لم تصل إلى زوجها الذي أغلق هاتفه أو بالأحرى يجلس في مكان لا يلتقط شبكة، اندفعت للداخل صاعدة الدرج بعد أن سألت موظفة الاستقبال عن الغرفة التي تُحتجز فيها سكون.
•~•~•~•~•~•~•~•
كانت تتسطح على السرير بجسد وَهِن أصابه الجروح من كل مكانٍ، تنام في سكينة داخل عالمها التي رغبت أن تفر هاربةً إليه، تناثر شعرها على الوسادة كما أن لون وجهها بات شاحبًا يشبه في لونه شحوب الموتى اللذين مرة على وفاتهم وقت وما أن أبصر شكلها حتى خارت قواه وجلس يجثو على ركبتيه أمامها.
ألقى بدماغه على السرير بالقرب من كفها تحديدًا وطفق يبكي بصوت كتمه لكثير من الوقت ولم يعُد يتحمل أسره داخله أكثر من ذلك، خرج صوت بكاءه مُتحشرجًا مكلومًا وهو يقول بانهيارٍ:
-سكون.. قومي.. علشان خاطري قومي.. أنا رسمت أحلام كتير معاكِ ومن حقي أعيشها!!
كان جبينه ملتصقًا بالفراش وكفه قابضًا بقوة على كفها كأنما يجبرها بقبضته ألا تفارقه وأن تبقى إلى جواره ثم بدأ يرفع رأسه قليلًا ويعود بها مرة أخرى إلى الفراش باستنكارٍ تامٍ للوضع الذي يعيشه ظل هكذا للحظات إلى أن سمع صوت آخر يأتي بالقرب منه:
-أيه اللي وصلك للحالة دي يا كاسب؟! معقول واحد بقوتك وحزمك بيموت من بُعد واحدة ست عنه؟!
رفع وجهه قليلًا بعد أن تعرف على صوتها ثم رمقها بنظرات ساخطة قبل أن يصرخ بصوت هادرٍ:
-سكون مش واحدة ست عادية.. سكون النفس اللي بيخرج مني.. افهمي بقى!!
تنهدت بعُمق قبل أن تتحرك نحو الفراش ثم تجلس إلى طرفه وتبدأ بوضع كف “سكون” بين كفها تمرر أصابعها عليه برفقٍ ثم تقول بحزم:
-بس دا مكانش اتفاقنا يا كاسب.. أنا مش جايباك هنا علشان تحب؟!
بدأ يضغط على رأسه بألم جارفٍ ثم ردد بأنفاسٍ مختنقة:
-غصب عني.. غصب عني حبيت يا نجلا.. استوعبي بقى!!!
لم تنتبه إلى كلماته قدر دهشتها وهي تجد أنامل “سكون” تتحرك بين كفها لتلتفت إليه ثم تصيح بمشاعر متهللة متناسيةً أنها ابنة عثمان السروجي:
-ايديها بدأت تتحرك يا كاسب!!!
يتبع
التعليقات