رواية عن تراض الفصل الواحدوالعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)
رواية عن تراض الفصل الواحدوالعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة الشروق للروايات)
#رواية_عن_تراض
تجمدت ملامح البدري، وتسللت موجة من الشك إلى الأعين التي التفتت إليه.
تبادلت «سراب» و«تقى» النظرات المتسائلة، قلوبهما تنبض بذات السؤال الخفي الذي لم يجرؤ أحد على نطقه…
أيعقل أن مفتاح اللغز كان هنا طوال الوقت… في بيتهما وبينهما، ولم ينتبها؟
جاءت نبرة «البدري» قاطعة حين زأر، وصوته يزلزل جدران المكان:
-اطلع برّه يا حسين… بــــــــره!
ارتسمت ابتسامة خبيثة على وجه «حسين»، وحدق بعيني البدري وعيناه تُنذر بأن ما سيأتي أخطر مما مضى، ثم قال بصوت ناعم، كالأفعى تتلوى بين الحروف:
-طالع… لكن هرجع، وتكون وقتها فكّرت بعقلك ورجّعت لي الحاجة بتاعتي، وإلا إنت عارف أنا ممكن أعمل إيه…
في تلك اللحظة، دخلت «شيرين»، والقلق يتجلى عليها، أنفاسها متلاحقة، وعيناها تتنقلان بين الوجوه المصدومة، تبحث عن إجابة وسط الصمت المشحون. بالكاد تمكنت من النطق:
-فيه إيه؟
التفت لها حسين، وقال ببرود:
-مفيش حاجة يا مدام… أنا خلاص خارج…
ثم رمق «عامر» بنظرة ثاقبة، وأضاف:
-بس ياريت تعقّلي ابنك، عشان خد حاجة أنا عيني منها.
زمجر «عامر» واندفع نحوه بخطوة غاضبة، لولا «تُقى» التي تشبثت بذراعه بقوة تمنعه، واندفعت شيرين هي الأخرى تتشبث بذراع عمرو، وتنظر إليه بعينين مذعورتين، كأنها تستنطقه بلا كلمات.
ثم ظهر «رائد»، الذي توقف عند الباب، كأن قدميه تجمدتا في الأرض، وعيناه مسمّرتان على حسين، الذي أدرك هويته على الفور.
حسين، بدوره، كان يستمتع بالمشهد، يجوب بنظراته بين الجميع، يختبر ردود أفعالهم كما لو كان يشاهد مسرحية كتبها بنفسه…
ثم، بلا استعجال، استدار ليغادر، فنطق «عمرو» وهو يرفع ذقنه لأعلى بقوة وثبات:
-إحنا مبنتهددش، ولو جاي تخوّفنا، إحنا برضه مبنخافش إلا من اللي خلقنا.
قهقه «حسين» ساخرًا، ولم يلتفت لـ «عمرو»، وعند خروجه من الباب تعمّد أن يصطدم بكتف «رائد» في حركة بطيئة، وكأنها غير مقصودة.
تململ «رائد»، كاد يستدير نحوه، لكن يد «عمرو» امتدت بسرعة، في إشارة خفية جعلته يتراجع ويبتلع غضبه.
غادر «حسين»… لكن بقي أثره في الهواء، كالندبة التي لا تزول.
-دا حسين ،صح؟
وجه «رائد» السؤال لعمرو الذي أومأ في صمت.
هوى «البدري» جالسًا على المقعد، وكأن صدمة ما حدث سحبت قوته دفعة واحدة.
امتدت نظرات البقية نحوه، مشحونة بالشكوك، وكأنهم ينتظرون تفسيرًا… أو اعترافًا.
لم يكن بحاجة لسماع كلماتهم ليعرف ما يدور في رؤوسهم، فتلعثمت أنفاسه وهو يرفع رأسه، وعيناه تتوسلان تصديقهم:
-دا شيطان… بيحاول يشكّكم فيّا… بيحاول يوقع بينّا…
التفت حوله بجزع، يبحث عن وجه مألوف يمنحه الطمأنينة، ثم قال بصوت متحشرج:
-فين بدر؟ كلّموا لي بدر، أنا عايز بدر.
ثم استدار نحو «سراب» وقال:
-كلّمي بدر ييجي…
أومأت «سراب» عدة مرات، لكن عقلها لم يستوعب بعد ما قيل، كانت الصدمة لا تزال تتمشى على وجهها، وكأنها لا تصدق ما يحدث.
أما «البدري»، فابتلع ريقه بصعوبة، ثم خاطبها بنبرة مرتجفة، محاولًا إقناعها، أو ربما إقناع نفسه أولًا:
-شوفتِ حسين عمل فيكِ إيه؟ عرفتِ ليه كنت عايز أجوزك بدر؟ إنتِ لازم تتجوزي بدر يا سراب… عشان خاطري، أنا عايز أطمن عليكِ قبل ما يحصل لي حاجة.
تجمدت ملامحها، وتحركت نظراتها ببطء حتى استقرت على «عمرو».
كانت تنتظر… تنتظر منه أن يتكلم، أن يعترض، أن يتحرك بأي شكل، لكنه ظل صامتًا، رأسه مطرق، ويداه معقودتان خلف ظهره، وصدره يعلو ويهبط ببطء، كأنه يحاول السيطرة على شيء بداخله.
لم تحتمل صمته، لم تحتمل أنه لا يبدي أي رد فعل، فاستفزته بصوت خرج كهمسة خافتة، لكنها كانت كفيلة بأن تضـ ـربه في مقتل:
-وأنا موافقة… موافقة يا جدي.
التفت «عامر» لعمرو وانتبه له بكامل حواسه بينما رفع عمرو رأسه فجأة، وكأن صوت «سراب» اخترق الضباب الذي أحاط به.
اتسعت عينا «عامر» وهو يراقب أخاه متحمسًا، زاعمًا أنه سينطق بما يجول بقلبه…
غضن «عمرو» حاجبيه، ونطق:
-بس بدر مش موافق…
التفتت إليه سراب بسرعة، تسارعت أنفاسها، وبرقت عيناها بالغضب وهي تهتف بحدة:
-إنت مالك؟ ملكش دعوة إنت… ما تتدخلش!
-هو إيه اللي مليش دعوة؟ إنتِ كده بتدبّسي الراجل فيكِ وهو مش عايزك أصلًا.
قالها «عمرو» بلهجة مستفزة، والغضب يتوهج في عينيه، رشقه رائد بنظرة حادة ليصمت، بينما زم عامر شفته واقترب يلكزه في ذراعه يستنطقه ولكن… أشاح «عمرو» وجهه للجهة الأخرى وهو يشد فكيه بحنق، في حين ارتفعت أنفاس سراب وبرقت عيناها بالدموع لكنها تماسكت. لا، لن تنهار أمامه…
زفرت بقـ ـوة قبل أن تتمتم:
-إنتَ مستفز… أنا بكرهك يا عمرو! سامعني؟ بكرهـك!
كان يجب أن تؤلمه كلماتها، لكنها آلمتها، وكأنها غرزت في صدره سكينًا، لكنها لم تدرِ أنها هي من ستنزف.
التفت لها عمرو وهدر بصوت مرتفع:
-كل مرة تقولي بكرهك بكرهك… إنتِ فاهمة معنى الكلمة دي أصلًا؟
صرّت على أسنانها، وعيناها تشتعلان بالعناد وهي ترد بحدة وبنفس نبرته:
-أيوه! بكرهك… وإنت كمان بتكرهني على فكرة؟
ابتسم ببطء، وكانت ابتسامته تحمل سخرية ممتزجة بوجع لم يستطع إخفاءه تمامًا، أومأ ساخرًا، ورد بسرعة:
-صح… أنا فعلًا بكرهك… وطبعًا ده واضح عليَّ جدًا!
حدّقت فيه للحظة، شيء ما في صوته جعل صدرها ينقبض، لكن غضبها كان أقوى من أي شعور آخر.
تلألأت الدموع داخل أسوار مقلتيها، لكنها أبت أن تسقط، ردت بصوت مبحوح ومهزوم:
-تمام! امشي بقى… امشي، ومش عايزة أشوفك تاني!
نظر إليها للحظات، وكأنه يبحث عن أي إشارة، أي تردد، أي شيء يدل على أن كلماتها ليست حقيقية… لكنه لم يجد شيئًا سوى الغضب والعناد.
ازدرد ريقه، ودنا منها خطوتين، فوقفت والدته أمامه وهي تزم شفتيها بضيق، فابتعد خطوة وخرج صوته يحمل صدمة مغلفة بالعتاب:
-إنتِ بتطرديني يا سراب؟
-أيوه… يلا امشي!
قالتها وكأنها أرادت أن تدفعه بعيدًا بالكلمات قبل أن تفقد تماسكها، أشارت للباب، فقال ببطء، وكل كلمة منه تحمل ثقلًا لا يُحتمل:
-والله العظيم، إن خرجت من هنا يا سراب، لساني ما هيخاطب لسانك طول ما أنا عايش.
التقت نظراتهما في صراع عنيد، كان ينتظر أن تلين، أن تتراجع ولو قليلًا… لكنها لم تفعل، ظلت جامدة، متصلبة، وكأنها تُعلن الحرب دون رجعة.
حاولت «تقى» التدخل، لمست كتفها برفق، تحاول تهدئتها، لكن انتفضت «سراب» فجأة، تصرخ بأعلى صوتها، كأنها تطرد أكثر من مجرد شخص… كأنها تطرد ذكرى، أو ربما شعورًا:
-امشي يا عمرو! امشي… وأنا أوعدك إن طرقنا مش هتتقاطع أبدًا بعد النهارده!
تبادل معها نظرة أخيرة، نظرة حادة تحمل من التحدي بقدر ما تحمل من وجع دفين.
لم يزح عمرو نظراته عنها، كان كلاهما جريح وكلاهما يُكابر، تحرك نحو الباب، بدا وكأنه يحمل كل ثقله على كتفيه، التفت لها مجددًا وخرجت كلماته كالقنبلة الأخيرة في معركة طويلة:
-تمام… ومن بكره هفضّ الشراكة بيننا يا سراب.
كان الجميع يتابعون في ترقب وكل منهم يلقي بكلمة ليهدأ الجو المشحون لكن لم يستجب أحدهما…
اتسعت عينا «سراب»، كادت ترد، أن تقذفه بكلمات أشد، لولا أن العصا انزلقت من يد «البدري»، وتحشرجت أنفاسه فجأة.
كان ذلك الصوت وحده كفيلًا بأن يجمّد المشهد ويجبر الإثنان على نسيان خلافهما…
أسرع «رائد» و«عامر» نحوه، بينما بدلت «شيرين» نظراتها بين «عمرو» و«سراب»، قبل أن تنفـ ـجر بغضب مكبوت:
-إنتوا الاتنين! زهقتوني… هو ده وقت عند وخناق؟
قالت جملتها الأخيرة وهي تضـ ـرب كتف «عمرو»، الذي أطرق رأسه وصمت.
كان «البدري» يلهث بأنفاس متقطعة، صوته بالكاد يُسمع وهو يردد:
-أنا عايز بدر… هاتولي بدر…
بدأ جسده يهتز، ويده ترتعش وهو يشير إلى جيبه في محاولة يائسة لإخراج دوائه.
هرع «رائد» إليه، صائحًا بقلق:
-هاتوا مية!
ركض «عمرو» يجلب الماء، بينما انحنت «تقى» بجواره، وعيناها يملؤهما الذعر، سألت بقلق وبصوت مبحوح:
-مالك يا خالي؟
تحشرجت أنفاسه أكثر، فتقدمت «شيرين» بخطوات متوترة، تراقب ارتجاف صدره ولهاثه المتسارع، قبل أن تهتف بقلق:
-شوفوه بيدور على إيه في جيوبه… يمكن معاه دوا!
لم يتردد «عامر»، جثا بجانبه وأخذ يفتش في جيوبه بخفة وقلق، حتى سحب جهازًا صغيرًا لعلاج الربو، وقبل أن ينطق، امتدت يد «البدري» المرتعشة إليه، وانتزعت الجهاز بلهفة، وكأن الحياة تتسرب منه ولن يعيدها سوى ذلك الأنبوب الصغير.
وضعه في فمه، وراح يسحب أنفاسًا متقطعة، تتباطأ شيئًا فشيئًا حتى هدأ صدره، وارتخت أطرافه المتشنجة، لكن عيناه ظلتا تلتمعان بوهج مشحون، كأن عاصفة أخرى تختمر بداخله.
ساد الصمت لدقائق متوترة، حتى أطلق «البدري» زفرة طويلة، وكأنه يعيد ترتيب شتات قوته…
رفع عينيه، وبصوت ضعيف لكنه نافذ، قال:
-حد يتصل على بدر حالًا…
لم يتردد «عمرو»، أخرج هاتفه بسرعة، وأثناء طلبه لرقم بدر كان يطالع «سراب» التي بدا وجهها شاحبًا، شاردًا، لكن قبل أن يحاول تهدئتها أو الإعتذار منها، جذبتها «شيرين» إلى صدرها، احتضنتها بقـ ـوة، بينما جلست جوارها تربت على كتفيها، وكأنها تحاول تطويقها من الانهـ ـيار.
وكان «البدري» يراقبها أيضًا، ثم حوّل بصره ببطء، ليقع على «تقى»، لم يكن بحاجة إلى كلمات ليقرأ ما يدور في ذهنها، رأى ذلك الشرخ الصامت في عينيها، الشك الذي لم يخفَ عنه.
استدار قليلًا، فرأى «عامر» يقترب منها، ثم قبض على يدها بحنو واضح، أصابعه تحيط بأصابعها بحزم، كأنه يعلن بصمت أن لا مجال للمساس بها.
عادت نظرات «البدري» تطوف بينهم، تتنقل بين الوجوه، حتى استقرت على «تقى».
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال بصوت مبحوح، يحمل بين كلماته ثقلًا دفينًا:
-إوعوا تصدقوا إني عارف حاجة… حسين جاي مخصوص يوقع بينا ويمشي.
رمقته «تقى» بنظرة طويلة، وأومأت برأسها ببطء، وبعقلها استقرت علامة استفهام ثقيلة، تتساءل هل يخفي شيئًا؟
جذب «رائد» مقعدًا وجلس قبالة «البدري»، ربت على ظهر يده برفق، ثم قال بابتسامة مطمئنة:
-بعدين نتكلم، المهم طمّنا… إنت كويس يا حاج؟
أطبق «البدري» جفونه لوهلة، وهو يومئ برأسه، ثم نطق بصوت خافت، واهن، امتزج بمرارة أثقل من الهواء حولهم:
-فين بدر؟ راح فين وسابني؟!
استغفروا
بقلم آيه شاكر
★★★★★★
على الصعيد الأخر
التفت «نادر» حوله بحذر، يتأكد أن لا أحد من العائلة بالجوار، ثم خاطبها بصوت خافت لم يخلُ من الحدة:
-عايزة إيه يا رحمة؟
تلاقت عيناه بعينيها، فوجد فيهما لهبًا متراقصًا بين الغضب والحزن، كأنها تحاول أن تكبح دموعها بالقوة. لكنها لم تستطع، فانفجرت به:
-إنت تستاهل يا نادر… تستاهل… أنا اكتشفت إني مبعرفش في الناس أصلًا.
لم يرمش حتى، فقط عقد ذراعيه أمام صدره، يراقبها بجمود، قبل أن يرد ببرود يخفي وراءه أشياء أخرى:
-وعايزة إيه دلوقتي؟
نظرت حولها بتوتر، وكأنها تبحث عن شيء تتشبث به في خضم هذا الموقف المتشابك، حين وقعت عيناها على «رغدة»، التي لا تزال توليهما ظهرها، و«بدر» الذي راقب للحظات ثم اقترب منهما.
أطرقت «رحمة» برأسها، تائهة بين أفكارها، وهمست بصوت مبحوح:
-معرفش… معرفش… معرفش أنا عايزة إيه.
لم تكن مجرد كلمات، بل اعتراف خافت بعجزها، بانهيار صامت تحاول السيطرة عليه، ترقرقت الدموع في عينيها، تحـ ـارب النزول، لكن واحدة خانتها، أفلتت على وجنتها، كأنها تُعلن استسلامها.
قاطع «بدر» تلك اللحظة المتوترة، وبصوت ثابت لكنه يحمل نبرة تحذير، قال:
-ارجعي البيت يا رحمة، لو حد شافك واقفة معانا مش هيبقى كويس لا ليكِ ولا لينا.
ازدردت ريقها بصعوبة، وقلبها يخفق بقـ ـوة، نظرت إليه بعينين زائغتين قبل أن تقول بخفوت، وكأنها تخشى وقع كلماتها:
-رغدة اللي قالت لجدي على نادر… وأنا كمان قولتله إنها راحتلك وقالتلك إنها بتحبك.
شهقت، وكأنها تدرك فداحة ما قالته، لكنها أكملت رغم ارتجاف صوتها:
-هو اتعصب… ومصمم يودينا عند تيتة داليا… وإحنا مش عايزين نروح.
عبرت نظراتها المرتبكة نحو «رغدة» التي استدارت إليها وكأنها تلقت ضـ ـربة مفاجئة بكلماتها تلك، انسحبت عيناها لاإراديًا إلى «بدر» الذي أطرق للحظة بعدما تبادل نظرة سريعة مع «نادر»، وأطبق شفتيه كأنه يحبس تعليقًا لا يرغب في التفوّه به، ثم تنحنح أخيرًا وقال بنبرة هادئة لكنها حازمة:
-ارجعوا البيت دلوقتي يا رحمة، وأنا هخلي عمي دياب يتكلم مع جدك.
هزّت «رحمة» رأسها بعناد، الدموع متشبثة بأطراف عينيها، وقالت بإصرار:
-لا، أنا هروح عند عمتو وئام… مش هرجع، مش قادرة أستحمل نظرات جدو.
تبادل «بدر» و«نادر» نظرة أخرى، لكن الأخير ظل صامتًا، وكأنه ليس جزءًا مما يحدث…
تنهد «بدر» ثم حسم الموقف:
-طيب… اركبوا، إحنا كمان رايحين للشيخ يحيى.
لم ينتظر ردًا، تحرك مباشرة نحو السيارة وفتح بابها، وكأنه لا يمنح أحدًا فرصة للرفض:
-يلا، أنا اللي هسوق.
جذبت «رحمة» يد «رغدة» برفق، وسارت بها نحو المقعد الخلفي، بينما بقي «نادر» مكانه، عيناه متجمدتان في الفراغ، وقدماه ثقيلتان كأن الأرض تمسك بهما، لكنه لم يكن مجرد تردد… كان هروبًا. فهو يعلم أن لقاء «يحيى» لن يكون مجرد لقاء، بل مواجهة مع شيء يحاول دفنه في صدره.
راقبه «بدر» عبر زجاج السيارة، تأمل انقباض ملامحه، وتلك التنهيدة التي انحبست بين شفتيه وكأنها تخشى الإفلات، ثم ناداه بنفاد صبر:
-يلا يا نادر…
زفر «نادر» بعمق، وكأن الهواء العالق في صدره أثقل مما يحتمل، استدار ببطء، كمن يجر خلفه حملاً لا يراه سواه، ثم صعد إلى السيارة أخيرًا.
ما إن استقر في مقعده حتى مرّر نظرة خاطفة نحو «رحمة» و«رغدة»، قبل أن يحوّل بصره إلى الأمام، حيث اختار الصمت رفيقًا له.
أما «بدر»، فلم يستطع مقاومة رغبته في الاطمئنان على «رغدة»، عدّل المرآة ليراها…
كانت قد أسندت رأسها إلى النافذة، تحدق في الطريق بنظرة شاردة، لكن السكون الذي يلفها لم يكن إلا قناعًا هشًا، تخفي تحته عاصفة من المشاعر المتلاطمة.
كيف وصلت إلى هنا؟
كيف استجابت لرحمة دون أدنى اعتراض، فبيت وئام على بُعد خطوات! لمَ صعدت للسيارة وكأنها لم تعد تملك رفاهية الرفض.
جاشت الأسئلة في رأسها…
تبحث عن إجابات لم تجرؤ حتى على مواجهتها.
هل كل هذا لأنهما فقدتا حنان الأم والأب؟
لا شيء في هذا العالم يعوّض غياب العائلة…
لا دفء يضاهي حضن الأم، ولا أمان يماثل وجود الأب…
كم مرة هربت من واقعها إلى عالم الروايات؟
كم مرة تخيلت نفسها ابنةً لعائلة دافئة، ولها إخوة رجالًا يحيطون بها، يحرسونها، ربما كانت ستشعر بالاستقرار والأمان الذي تتعطش إليه.
قبضت على كفيها فوق حجرها، تخفي رعشة خفيفة تسللت إليها رغمًا عنها.
كم تمقت هذه الحياة!
حياة كلما مر بها يوم جديد، زاد ثقل قلبها فوق ثقله…
كأن الأيام ليست سوى أحجار تتراكم ببطء، حتى تغرقها تمامًا.
صلوا على خير الأنام
بقلم آيه شاكر
★★★★★
كان «يحيى» يتأمل ابنته «مريم» الجالسة على مقربة منه، وصوتها العذب يتهادى في أرجاء الغرفة وهي تتلو القرآن، كنسيم الفجر يتسلل برقة إلى قلبه. كم يحب تلك اللحظات عندما ينصت لها، وكأن الدنيا تتوقف، وكأن روحه تغتسل بصوتها الشجي.
فرغم أنها لا تزال في الصف الثاني الإعدادي، إلا أنها تحفظ القرآن كاملًا منذ أربع سنوات… ربّاها على كتاب الله، سقاه في قلبها قبل أن يتفتح ويمتلئ بزحام الحياة، لكنه كلما رآها تكبر أمامه، يزداد خوفه عليها من فتنة الدنيا، من الزلل، من الانجراف خلف أهواء الدنيا.
خاصة الحب… وما يُفعل باسم الحب.
لطالما تعمد أن تحكي لها والدتها عن الحب الحلال، وعن العفة، عن غض الطرف، عن التوازن الذي يحفظ القلوب نقية رغم قسوة الواقع.
لكن… هل كان ذلك خطأ؟ هل زرع بذور الحب في قلبها مبكرًا دون أن يدري؟
لكنه يطمئن نفسه دائمًا… حافظ القرآن لا يضيع.
قد تتعثر، قد تتعرقل، لكنها ستمضي في نفس الطريق الذي وضع قدمها عليه، ولن تحيد عنه أبدًا.
تنفس بعمق، بينما أغلقت «مريم» مصحفها برفق…
تأمل وجهها الذي يحمل طُهر الطفولة وبدايات النضج، ثم ابتسم وهو يناديها:
-يا مريم…
التفتت إليه فورًا، وابتسامة مشرقة تضيء وجهها، وكأنها تعرف ما سيقول، بل تنتظره بشغف:
-يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين.
ضحكت بصوت رقيق كملامحها، ثم ردّت بعفوية، وعيناها تتلألآن بحب:
-يا يحيى خذ الكتاب بقـ.ـوة.
تسارعت دقات قلبه قليلًا، وأومأ برضا، وابتسامته تتسع، كم يحب سماع تلك الجملة منها، تُعيده إلى الماضي، تذكره بوالديه، بصوتهما، بليالي طفولته، بكل شيء جميل فقده يومًا… لكنه وجده فيها من جديد.
وقبل أن يتسرب المزيد من الدفء إلى قلبه، اخترق صوت الهاتف لحظتهما، فانتفض يحيى قليلًا، وسرعان ما رفعه إلى أذنه.
كانت «مريم» على وشك الدخول إلى غرفتها، لكن خطواتها توقفت عند العتبة، عندما التقطت أذناها اسمًا مألوفًا… «آدم».
اشتدت خفقات قلبها…
شعرت وكأن الهواء قد سُحب من حولها، كأن الزمن توقف للحظة، لتعيد استيعاب الكلمة التي سمعتها للتو… «آدم»؟
أكثر من عامٌ كامل مرّ دون أن تراه، بعدما سافر للخارج، لم تسمع صوته إلا عبر الأحاديث العابرة… مجرد ذكر اسمه كان كافيًا ليرتجف شيء ما بداخلها.
تراجعت ببطء، جلست جوار والدها، وهي تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها كانت متلهفة لالتقاط أي كلمة أخرى.
لكن نظرة واحدة من يحيى، كانت كفيلة بإخماد رغبتها…
عينيه لم تلمعا بالغضب، لكنه كان ذلك التحذير الصامت، ذلك الإنذار الذي لا يحتاج إلى كلمات.
وكأنها تلقت أمرًا غير منطوق، انتفضت واقفة وسارت إلى غرفتها بخطوات متخبطة، ثم أغلقت الباب خلفها… لكن لم تستطع إغلاق الاضطراب الذي اجتاحها.
أما «يحيى»، فظل يحدّق في الفراغ بعدما أنهى مكالمته، يمرر يده على ذقنه بشرود متسائلًا هل لمح في عيني ابنته بريقًا حين سمعته يذكر اسم آدم؟ أم أن عقله يعبث به؟
أغمض عينيه لبرهة، وكأنه يحاول طرد هذا الشعور الذي تسلل إليه، ثم وضع يده على صدره وتمتم بصوت خافت:
-أكيد بيتهيألي… دي لسه صغيرة أوي على الكلام ده!
لم تستمر أفكاره طويلًا، إذ انتشله من شروده صوت أذان العشاء تلاه صدى جرس الباب، فنهض وهو لا يزال غارقًا في حيرته…
فتح الباب ليجد أمامه الأربعة، بدل نظره بينهم، ثم اتسعت عيناه في ذهول، تردد للحظة قبل أن ينطق:
-إيه ده! جايين مع بعض ليه؟
ابتسم «بدر» ابتسامة خفيفة، وقال:
-مش هتدخلنا ولا ايه يا شيخ؟
-لا مش هتدخلوا…
قالها «يحيى» وتلفّت خلفه ينادى وئام ليخبرها لتستقبل رغدة ورحمة، وخرج هو مع «نادر» و«بدر» لصلاة العشاء بمسجد أخر، كي لا يصطدما بضياء مرة أخرى، وأثناء الطريق كان «بدر» يقود السيارة بينما «نادر» يحكي ويحيى يسمع في صمت.
ـــــــــــــ★★★ـــــــــ
ومن ناحية أخرى
دخلت «رغدة» و«رحمة» إلى الغرفة، وجلسن أمام وئام، تنهال منهما الكلمات بين شهقات البكاء…
كانت «رغدة» تتحدث بسرعة، مشوشة الأفكار، بينما «رحمة» تحاول أن تضيف كلماتها وسط الدموع.
وعلى مقربة منهما، جلست «مريم» في صمت، عيناها تتنقلان بين الوجوه، تراقب التوتر الذي يخيّم على المكان، تتلمس ارتجاف الأنفاس، وتسارع الدموع التي لم تستطع الفتاتان كبحها…
لم تقل شيئًا، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات، والأفكار تتصارع بداخلها كأمواج هائجة.
نظرت «وئام» إلى «رغدة» مطولًا، وشفتاها مزمومتان كأنها تحاول كبح ضيقها، ثم هزّت رأسها بسخرية خفيفة وقالت بنبرة محملة باللوم والدهشة:
-إنتِ أصلًا يا رغدة من أول يوم شوفتي بدر وإنتِ بتستعبطي… اتجننتِ في دماغك رايحة تقوليله بحبك! كويس إنه شخص محترم، وإلا منعرفش كان ممكن يحصل إيه!
امتقع وجه «رغدة»، وكأن كلمات «وئام» كانت صفعة أعادتها إلى فداحة ما فعلته، لم تستطع الدفاع عن نفسها… لأنها تعلم جيدًا أنها أخطأت.
التفتت «وئام» إلى «رحمة»، ازدادت نظراتها حدة، وخرج صوتها يحمل توبيخًا أشد:
-وإنتِ كمان دماغك تعبانة أكتر منها! كنتِ فاكرة نفسك هتساعدي نادر؟ ياختي ساعدي نفسك الأول! ولولا ستر ربنا، كان زمانك جبتيلنا مصيبة!
اختلط صوت بكائهما، اهتزت أكتافهما مع شهقات مكبوتة، لكن قبل أن ينهارا تمامًا، جذبت «وئام» كلتيهما إلى حضنها، احتوتهما بذراعيها وربتت على ظهريهما بحنان متناقض مع نبرتها القاسية:
-خلاص… اللي حصل حصل، اهدوا… بطلوا عياط.
ران عليهن الصمت حتى انتبهت وئام لشيء فسألت:
-هو إنتوا ليه جايين مع بدر ونادر؟
شرعت رغدة تحكي ما حدث وتلوم رحمة على ما فعلت ووئام تتابعهما بصمت…
في الزاوية، حيث لا أحد ينتبه إليها، كانت «مريم» تنصت لكل كلمة، لكل اعتراف، لكل دمعة تسقط على الأرض بثقل الخيبة.
شعرت برجفة باردة تتسلل إلى قلبها… هل هذا هو الحب؟ هل يجعل الإنسان بهذا الضعف، وبهذا الانكسار؟
لا… لن تسمح لنفسها أن تكون بهذا الهوان!
إن كان الحب يُضعف إلى هذه الدرجة، فهي ليست بحاجة إليه، لن تكون كغيرها، لن تدع العواطف تجرفها نحو هاوية الألم.
استدارت بعفوية، لتقع عيناها على مصحفها المستقر على سطح المكتب، فأحست بدفء يغمر قلبها وسط كل هذا الضياع.
ابتسمت بحب…
ستكرس كل الحب لله، ستملأ كل ثغرة في قلبها بآيات النور، لن تترك فيه فراغًا يتسلل منه الوهن أو التعلق الزائف… فهذا هو الحب الحق، الحب الذي يسمو بالروح، ويمنحها القوة بدلًا من أن يسلبها إياها.
********
بعد انتهاء الصلاة، جلسوا في مقهى هادئ، بينما كان «بدر» يتجاهل رنين هاتفه المتكرر، مرة باسم «عمرو»، ومرة باسم «عامر»، زاعمًا أنهما يريدان الاطمئنان على «نادر»…
كان «يحيى» يتابع حديث «نادر» بعينين يقظتين، ينصت لكل كلمة تخرج منه، وهو يحكي كيف التقيا بـ«رحمة» و«رغدة» قبل قليل ويروي ما قالته رحمه بالكامل، وكيف أنه بالماضي لم يكن سوى شخص يحاول مساعدة رحمه… لا أكثر.
لكن عيني «يحيى» الضيقتين فضحتا شكوكه.
لم يكن مقتنعًا تمامًا، كان يراقبه كما لو أنه يبحث عن أي تصدع في جداره، أي شرخ يكشف ما يخفيه.
رغم هدوء «نادر» الظاهري، كان هناك شيء خفي، شيء لم يستطع طمسه تمامًا.
ساد الصمت بينهما للحظات، قبل أن يميل «يحيى» للأمام، يستند على الطاولة، ثم باغته بسؤال لم يتوقعه:
-تتجوزها يا نادر؟
تجمدت ملامح «نادر» للحظة، ثم مال إلى الخلف مستندًا إلى الكرسي، يفكر سريعًا، قبل أن يهز رأسه نافيًا، وهو يجيب بتلعثم:
-لأ…
رفع «يحيى» حاجبه، تطلع إليه بتمعن، قبل أن يسأله ببطء وكأنه يقيس وقع كلماته عليه:
-ليه؟ مع إني حاسس إنك بتحبها؟
خفض «نادر» بصره للحظات، كأنه يبحث عن إجابة وسط الفراغ، لكنه سرعان ما رفع رأسه مجددًا ورد بجمود، وكأنه يحاول حسم الأمر نهائيًا:
-لأ يا شيخ… وأنا مش جاهز للجواز دلوقتي خالص.
لم يبدُ «يحيى» مقتنعًا تمامًا، لكنه لم يضغط عليه أكثر.
حول نظره فجأة إلى «بدر»، وسأله بنبرة جادة:
-وإنت مقولتيش ليه يا بدر على اللي «رغدة» عملته؟
أخذ «بدر» نفسًا طويلًا، زفره ببطء، كأنه يحتاج للحظة ليجمع أفكاره، ثم قال بنبرة هادئة لكنها تحمل ثقلًا:
-ما أنا مكنتش هقول لحد خالص… بس خلاص، «رحمة» قامت بالواجب.
ساد الصمت لثوانٍ ثقيلة، كأن الجميع يستوعب ما قيل، حتى قطعه «يحيى» بنبرة تفكير:
-طيب… وبعدين؟
قبل أن يجيب أحد، دوّى رنين هاتف «بدر» من جديد، نظر إلى الشاشة، فرفع «يحيى» حاجبه وقال بلهجة ساخرة:
-رد يا بدر على الموبايل اللي مش بيبطل ده…
-دا «عمرو»، شكله عايز يطمن على نادر…
أجاب على المكالمة، وما إن أنهى حديثه حتى نهض، وقال بجدية:
-هستأذن، جدي عايزني، بس بالله عليك يا شيخ «يحيى» تكلم عمي «ضياء» بخصوص البنتين.
ابتسم «يحيى» بمزيج من الجدية والمزاح، وقال:
-متقلقش يا رومانسي… بس ياريت ترد عليا بسرعة، هل أكلم عمك «ضياء» بخصوص «رغدة» ولا إيه؟
تردد «بدر» للحظة، ثم قال:
-متقولش حاجه يا شيخ يحيى إلا لما أرد عليك… دي خطوه صعبه جدًا.
-صلي استخاره وأنا مستنيك يا غالي.
أومأ بدر وهم أن يغادر لكن أوقفه صوت نادر:
-استنى، عشان أوصلك.
قالها «نادر» وهو ينهض عله يهرب من يحيى ولكن أشار إليه يحيى بلهجة آمرة هادئة، تحمل خلفها ما هو أكثر من مجرد طلب:
-لا لا، البيت قريب و«بدر» عارف الطريق… استنى إنت يا «نادر»، لسه هنكمل كلامنا.
ابتلع «نادر» ريقه، شعر بشيء من التوتر، لكنه لم يجادل، فقط جلس في مكانه مترقبًا ما سيقوله «يحيى»، بينما انصرف «بدر»، تاركًا خلفه جوًا مشحونًا لم يهدأ بعد.
ران عليهما الصمت للحظات، و«يحيى» يحدق في «نادر» بنظرة ثقيلة، كأنه يبحث في أعماقه عن شيء لم يُقال.
كان «نادر» متوترًا، عيناه تهربان، لكنه ظل صامتًا.
كسر «يحيى» الصمت أخيرًا، بنبرة حازمة لكنها لم تخلُ من تفهُّم:
-احكيلي بقى بالتفصيل… وإنت مش محتاج إني أقولك، سرك مش هيطلع.
تململ «نادر» في مقعده، زفر ببطء، قبل أن يقول بصوت يحمل شيئًا من القلق:
-ما أنا حكيتلك يا شيخ.
تجاهل «يحيى» كلماته، ماضيًا في قراره، وكأنه لم يسمعها:
-يلا يا «نادر»، احكي… خلّص.
التقط «نادر» نفسًا عميقًا، وكأنه يستجمع شجاعته قبل أن يرد بصوت متحفظ:
-مش إنت اللي دايمًا تقولنا نستر على نفسنا؟ ليه عايزني أكشف الستر عن نفسي؟
نظر إليه «يحيى» طويلًا، ثم قال بنبرة هادئة، لكنها قاطعة:
-عشان أساعدك تتخطى اللي إنت فيه يا نادر.
مرر «نادر» يده على وجهه، كأنما يحاول مسح التوتر العالق بملامحه، ظل صامتًا للحظات، وثقل الكلمات يحوم حوله، قبل أن يأخذ نفسًا آخر، ثم بدأ يحكي بصوت خفيض، متردد… ممتلئ بالإحراج.
رددوا
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
*********
قطع «بدر» الطريق هرولة، وكأن خطواته تحاول اللحاق بأفكاره الهائجة.
كان قلبه مثقلًا بـ«رغدة»، تتلاطم داخله الأسئلة، هل يتقدم الآن أم ينتظر قليلًا؟ هل سيكون ذلك القرار الصائب؟
فهي لازالت صغيرة، تحتاج لمن يحتويها… فهل هو مستعد لذلك الآن؟ في ظل تلك المتاهة التي يدور فيها؟
عند وصوله للشارع، اخترقت مسامعه زغاريد حادة، فرفع رأسه ليجد «سعيدة» تقف في شرفتها، وجهها يشع بالفرح، وهتفت بصوتها الجهوري:
-عقبال عندكم يا متواضع، مرات ابني حامل!
رسم «بدر» على وجهه ابتسامة سريعة وردّ، بصوت لم يخلُ من ودّ رغم توتره:
-مبارك، ربنا يكمل على خير يا خالة.
لم يُبطئ خطواته، وأكمل هرولته، بينما نظرات «سعيدة» تلاحقه بإعجاب، قبل أن تتمتم بابتسامة جانبية:
-شاب زي القمر… ياريت عندي بنت، والله ما كنت أعتقه!
عندما وصل إلى الشقة، كان صدره يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة، فقد قطع الدرج بوثبات سريعة، كأن قلبه كان يسابق قدميه للوصول.
ما إن فتح له «عمرو» الباب، حتى تسلل إلى قلبه توتر غريب…
الأجواء مشحونة، الوجوه متوترة، وكأن عاصفة قد ضربت المكان في غيابه.
اندفع «بدر» نحو جده بانفعال، وعيناه تلتهمان ملامحه القلقة، وكأنه يتأكد من سلامته، لكن صوت «البدري» عاجله، قاطعًا أفكاره:
-كنت فين؟! «حسين» جه هنا… كنا محتاجينك… هجم علينا وضـ ـرب «سراب»!
استدار «بدر» بسرعة، عيناه تائهتان تبحثان عنها بين الحضور، حتى استقرتا عليها…
كانت تجلس بجوار «شيرين»، التي احتضنت كتفيها بحنوّ، لكن وجهها كان شاحبًا، ونظراتها شاردة، وكأنها لا تزال عالقة في اللحظة التي انقضّ فيها والدها عليها.
تبادل «بدر» النظرات مع الجميع، قبل أن يتمتم بصوت مبحوح، يكسوه الأسف العميق:
-أنا آسف والله إني مكنتش هنا… أصل…
لكن «البدري» قاطعه، نبرته لم تكن مجرد أمر، بل حملت في طياتها رجاءً وضغطًا خفيًا معًا:
-إنت لازم تتجوزها عشان تحميها منه.
تسمر «بدر» في مكانه، ونظراته تتنقل بين الوجوه، كأن الكلمات اصطدمت بجدار صلب في عقله، قبل أن يمرر يده في شعره بتوتر، ويتمتم بصوت مضطرب:
-بس «سراب» مش موافقة يا جدي… والجواز مش بالعافية!
جاء صوت «البدري» قاطعًا، لا يقبل جدالًا:
-«سراب» موافقة.
كأن الزمن توقف للحظة.
التفت «بدر» إليها، والتقت نظراتهما…
كانت عيناها تترجاه بصمت، تستنجد به كي لا يوافق، كأنها تحاول الصراخ دون أن تنطق… فازدرد ريقه، قبل أن يقول بصوت مضطرب:
-بس أنا مش موافق يا جدي… «سراب» وافقت عشان حضرتك ضغطت عليها، وأنا قلتلك قبل كده إني جنبها من غير جواز، وهي زي أختي.
قالها «بدر» بحزم، ثم التفت إلى «عمرو»، اقترب منه، ولكزه بذراعه في إشارة صامتة، ليقول شيئًا، ليتكلم الآن قبل فوات الأوان…
وكان «عامر» يستشيط غضبًا من أخيه، يحدجه بنظرة ثاقبة وكأنه يطلب منه أن ينطق لكن…
هز «عمرو» رأسه رفضًا، وعيناه معلقتان بالأرض، كأنه لم يجد في صدره الشجاعة الكافية للنطق بالكلمات العالقة بين شفتيه.
ساد الصمت… ثقيلًا، مشحونًا بتوتر يخنق الأنفاس…
نهض «البدري» ببطء، متكئًا على عكازه، وعيناه تجوبان الوجوه التي لم يجد بينها ما يريده… ثم ارتفع صوته، خشنًا، متحشرجًا بمرارة لم يحاول إخفاءها:
-أنا هرجع بلدي حالًا… مليش قعدة هنا.
امتدت يد «بدر» بسرعة، أمسكت بكف جده، وصوته جاء راجيًا، يحاول التمسك به قبل أن يبتعد:
-أنا مش قصدي أزعلك، والله يا جدي…
سحب «البدري» يده، لم ينظر إليه حتى، بل انحرف نحو الباب بخطوات بطيئة، كأن خيبته تثقل قدميه أكثر مع كل خطوة.
قال «بدر» سريعًا، يحاول منعه بأي حجة:
-مفيش قطر دلوقتي يا جدي، القطر الجاي الفجر.
لكن العجوز لم يتوقف، لم يلتفت حتى، فقط نطق بحسم لا يقبل نقاشًا:
-ملكش دعوة… هروح أبات في المحطة.
التفت «بدر» إلى «عمرو»، نظر إليه نظرة أخيرة، كأن عينيه تتوسلان إليه أن يتحرك، أن ينهي هذه المهزلة، أن ينطق بالكلمة التي يجب أن يقولها الآن… لكنه لم يفعل.
فقط، أشاح «عمرو» بوجهه بعيدًا، كأنما يهرب من شيء يخاف مواجهته.
استشاط «بدر» غضبًا، تنفس بعمق وكأن الأكسجين صار أثقل من أن يدخل رئتيه، ثم ركض خلف جده، ونطق بصوت مرتجف، محمل باستسلامه الأخير:
-طيب… أنا موافق… هتجوزها يا جدي.
ابتسم «عامر» ساخرًا وهز رأسه مستنكرًا وهو يراقب«عمرو» الذي تجلت عليه الصدمة فقد تسمر في مكانه، وكأن الزمن توقف عند تلك الكلمات، جف حلقه، وشلت الصدمة دماءه في عروقه.
هدر «بدر» بغضب، وصوته اخترق الصمت كالرعد:
-متبصليش كده يا عمرو…
لم يرد «عمرو».
طاف بنظراته على الجميع، قبل أن يضغط على أسنانه بقـ ـوة، شعر بالفوضى تجتاح صدره وهو يحدق في «سراب»… كانت لا تزال جالسة، لم تحرك ساكنًا، لم ترفع بصرها حتى عن الأرض.
ثم التفت إلى «بدر»، الذي ارتدى قناع الجمود، يخفي تحته كل شيء.
شعر وكأن شيء ما في صدره انكسر… صوت الكسر لم يسمعه أحد، لكنه شعر به يزلزل روحه.
ومع ذلك، أجبر نفسه على النطق، بصوت بالكاد خرج منه، كأنه ينتزع الكلمات من حلقه انتزاعًا:
-مبروك.
خرجت الكلمة حادة… حادة كحد السكين وغرست في قلب «سراب»، التي رفعت رأسها تُطالعه بنظرة أخيرة وكأنها الوداع…
استدار «عمرو» وهملج خارج الشقة بخطوات ثقيلة، كأن شيئًا يطارده… أو كأن زلزالًا يهدد بهدم ما تبقى منه.
لكن قبل أن يبتعد تمامًا، لحقه صوت «بدر»، غاضبًا، قاسيًا، كالسوط يجلده من الخلف:
-أيوه، خد في وشك وامشي يا عمرو… هو ده اللي إنت شاطر فيه!
لم يلتفت.
خرج من البناية، لكنه وقف للحظة، نظر إلى المدخل، كأنه يبحث عن شيء لم يعد موجودًا.
ضغط قبضته حتى أبيضّت مفاصله، ثم أطلق خطاه بعيدًا…
على نحوٍ أخر
رفع «البدري» رأسه، وصوته جاء حاسمًا، قاطعًا، لا يقبل جدالًا:
-يبقى كتب الكتاب بكرة.
تشنجت ملامح «بدر» للحظة، كأن الكلمة أصابته في مقتل. لكنه تمالك نفسه بسرعة، وحاول أن يبدو ثابتًا رغم العاصفة التي تعصف بداخله. جاء صوته متماسكًا، لكنه كان أشبه بورقة تحاول مقاومة الريح:
-خليه آخر الأسبوع يا جدي… على ما أرتب نفسي.
قالها وهو ينظر نحو «سراب»… ينتظر منها اعتراضًا، رفضًا، أي رد فعل يشير إلى أنها لا تزال هنا، أنها لم تتجمد في هذه اللحظة، أنها ستوقف كل هذا…
لكنها ظلت صامتة.
كانت ملامحها متجمدة، باردة كأنها لم تستوعب بعد ما يحدث… أو ربما، لا تريد أن تستوعب.
تنفس «البدري» بارتياح، وهز رأسه موافقًا:
-زي بعضه… طلعني فوق عشان عايز أنام.
طاف «بدر» بنظراته على الجميع، كأنه يبحث في وجوههم عن شيء يريحه، شيء يخفف من ثقل قراره… لكنه لم يجد سوى الصمت، النظرات المتحفظة، والوجوه التي لم تقل شيئًا لكنها قالت كل شيء.
زفر ببطء، ثم تحرك ليسند يد جده، يقوده للخارج. لكن داخله، كان هناك صوت يصفعه بقسوة:
“ماذا فعلت أيها الأحمق؟!”
ومن الجهة الأخرى…
تحركت «سراب» ببطء، كأنها بالكاد تتحكم في جسدها، أزاحت ذراع «شيرين» عن كتفيها برفق، ثم نهضت واقفة…
لم تنظر لأحد، لم تقل شيئًا، فقط استدارت واتجهت إلى غرفتها بخطوات تشبه الهروب.
دخلت، وأغلقت الباب بهدوء… لكنه كان هدوءًا خادعًا.
فما إن انفردت بنفسها حتى انهارت.
اندفع البكاء من صدرها كأن روحها تتمزق، كأن كل ما بداخلها ينهار دفعة واحدة. لم تستطع كتم شهقاتها، لم تستطع لملمة نفسها، فقط غاصت في فوضى مشاعرها، في الخذلان، في العجز، في كل شيء لم تستطع التعبير عنه أمامهم.
انتفضت «شيرين» لتتبعها، وتحركت «تُقى» خلفها، لكن صوت شيرين استوقفها، حانيًا لكنه جاد:
-خليكِ يا تُقى، أنا هتكلم معاها شوية…
تجمدت «تُقى» في مكانها، حدقت في الباب المغلق، كأنها تحاول اختراقه بعينيها، ثم زفرت بتنهيدة ثقيلة، كأنها تحمل عن سراب جزءًا من حِملها، قبل أن تشعر بيد «عامر» تجذبها برفق لتجلس.
ساد الصمت للحظات، ثقيلًا كالغبار بعد عاصفة. حتى «رائد»، الذي راقب كل شيء وفهم أكثر مما قيل، فضّل المغادرة بصمت، تاركًا خلفه جوًا مشحونًا لم يهدأ.
كان «عامر» يراقب «تُقى» بطرف عينه، كأنه يجمع شتات أفكاره قبل أن ينطق، ثم، بعد تردد، قال بصوت هادئ، لكنه محمل بتوتر خفي:
-عايزين نعمل فرحنا يوم كتب كتاب بدر وسراب.
تأملت ملامحه، رأت في عينيه القلق الذي زرعه حسين داخله، فلم يخرج خلف أخيه ربما قلقًا عليها…
لكن رغم ذلك، لم تتردد وهي ترد بصوت حاسم لكنه هادئ:
-مش قبل ما سراب تتجوز هي كمان.
قطّب حاجبيه، ومال بجسده قليلًا نحوها، ونطق غير مصدقًا ما يخرج من فمه:
-ما هي سراب خلاص هتتجوز بدر.
هزّت تقى رأسها ببطء، ونظرتها لم تتزعزع، ظنت أنها ترى شيئًا لا يراه هو، لكنه كان يرى!
قالت بثقة لم تعرف من أين استمدّتها:
-مش هتتجوزه يا عامر… سراب مش هتوافق، وأنا مش هقدر أسيبها لوحدها.
كادت تخبره عن مشاعر سراب تجاه عمرو لكنها لم ترد أن تكشف ما يدور في رأسها فربما تكون مخطئة… وربما لا.
زفر عامر بضيق، يحاول كبح توتره، لكنه لم يستطع منع حدّة صوته وهو يقول:
-وفرضنا بقى إن سراب متجوزتش خالص، هنفضل إحنا كده؟!
ارتجفت عيناها، وأخذت نفسًا عميقًا، تحاول كبح الغصة التي تخنقها، قبل أن تهمس بصوت خافت:
-على الأقل نستنى سنة…
-سنة؟! كتير أوي سنة يا تُقى!
قالها عامر بانفعال، فضغطت تُقى جفنيها بيأس، كأنها تحاول دفع دموعها، لكن اهتز صوتها وهي تهمس برجاء:
-بالله عليك يا عامر، متضغطش عليّا… أنا أصلاً على آخري.
لم تستطع التماسك أكثر، وتساقطت دموعها كالسيل، خرجت كلماتها متقطعة بين شهقاتها:
-يمكن بابا يظهر يا عامر، هو إنت فاكرني نسيته؟ بابا وحشني أوي، ومش عارفة هو راح فين! متخيل إني هفرح وأنا معرفش عنه حاجة؟!
سقطت كلماتها كحجر ثقيل في صمت الغرفة، بينما نظر إليها عامر طويلًا، عاجزًا عن إيجاد ما يطفئ نارها… أو ناره هو.
مرّر يده على رأسها بحنان وهمس:
-أنا جنبك يا تُقى… يا حبيبتي، أنا عايز أطمن عليكِ، عايزك جنبي، وقدام عيني طول الوقت.
مسحت دموعها ورفعت رأسها ببطء، نظرت في عينيه بجدية:
-اصبر شوية، يمكن يكون خالي عارف حاجة… أنا حاسة إنه مخبي علينا حاجة.
تنهّد «عامر» وهو يحدّق بها مليًّا قبل أن يجيب:
-خالك شكله راجل طيب، بس أنا برضه شكيت فيه، يعني ليه كان مصمم إننا نروح لحسين القاهرة وهو عارف إنه بالشر ده؟ يعني مخافش علينا منه!
أومأت تُقى، ثم نظرت في عينيه وقالت بعزم:
-أسئلة كتير أوي محتاجة تتجاوب يا عامر، أنا هتكلم مع خالي الصبح بكل وضوح.
***********
على الصعيد الأخر
ارتمت «سراب»في أحضان «شيرين»، كأنها تبحث عن ملاذ من عاصفة تضربها بلا رحمة، شدّتها الأخيرة إلى صدرها، قبلت رأسها بحنو، ثم تمتمت بصوت دافئ ينساب كبلسم على الجراح:
-بتعيطي ليه دلوقتي؟
شهقت «سراب» ببكاء مخنوق، خرجت كلماتها هامسة كأنها تخشى أن تنكسر أكثر إن رفعت صوتها:
-الدنيا صعبة أوي، يا طنط… صعبة أوي.
ربّتت شيرين على ظهرها برفق، وأصابعها تمر ببطء كأنها تهدهد طفلة مذعورة، ثم همست بحكمة من اعتاد مواجهة العواصف:
-عشان هي دنيا يا سراب… لازم تبقى كده، ترخي شوية وتشتد شويتين… عشان مننساش إنها دار ابتلاء، وإن الراحة في الجنة… ولازم نستعين بالله ونرضى بقضاءه وندعي عشان نعدي منها على خير.
تشنجت كتفا «سراب»، وغصّت كلماتها في حلقها قبل أن تتكلم بحشرجة:
-أنا مش عايزة أتجوز بدر يا طنط.
ظلّت «شيرين» تربّت عليها، بإيقاع لم يختل، كأنها تخبرها أن الأمان لا يزال موجودًا.
همست بتفهّم، ونبرتها تحتضن قلقها:
-عارفة إنك مش عايزة تتجوزيه… بس بدر راجل محترم وهيحافظ عليكِ، وإنتِ محتاجة راجل يحميك.
تدريجيًا، هدأت أنفاس سراب المتلاحقة وحين شعرت «شيرين» بذلك، أبعدتها قليلًا، لتنظر في عينيها رفعت يديها ومسحت بإبهاميها آثار الدموع عن وجنتيها، وهي تتأمل احمرار أنفها، وتورد خديها بفعل البكاء. ثم ابتسمت بمكر، وغمزتها بنبرة خفيفة تحاول بها انتشالها من حزنها:
-يا بخته هياخد قمر.
تشنج حلق «سراب»، كأن شيئًا أثقل من مجرد الدموع يعتصره، وهمست بصوت مبحوح:
-بس عمرو هيلغي الشراكة بيننا.
أخذت «شيرين» نفسًا عميقًا قبل أن ترد بنبرة واثقة:
-أنا هتكلم مع عمرو، عمرو طيب وجدع، هو بس اللي بيتعصب بسرعة… لكنه بيعزّك وبيعتبرك زي أخته.
ارتفع بصر «سراب» إليها ببطء، وكأن كلماتها طعنتها دون أن تقصد، واشتدّت خفقات قلبها، قبل أن تنطق بانفعال لم تفلح في إخفائه:
-بس أنا مش أخته يا طنط.
سرعان ما أشاحت «سراب» وجهها، تحاول إخفاء الاضطراب الذي اجتاح ملامحها…
لم تفوّت شيرين ارتجافة عينيها، فابتسمت بتفهّم، ونهضت واقفة، ثم قالت بنبرة حانية:
-تيجي تباتي معانا هناك؟
هزّت سراب رأسها نافية بسرعة، كأنها تخشى أن تنهار إن تحركت من مكانها…
تأملتها «شيرين» للحظة، ثم قالت برفق:
-أنا همشي عشان عمك دياب… وهجيلك تاني الصبح، روقي كده إنتِ قوية… عايزة حاجة يا حبيبتي؟
أجابت «سراب» بصوت خافت، كأن الكلمات تستثقل الخروج من فمها:
-شكرًا يا طنط.
ربّتت «شيرين» على كتفها بحنان، نظرة عميقة طافت بينهما قبل أن تستدير وتغادر، تاركة سراب غارقة في دوامة أفكارها. بين ما يجب عليها فعله… وبين ما يريده قلبها.
عند خروج شيرين، كان عامر يُقبل جبهة تقى فانتفض واقفًا بحرج، ابتسمت شيرين وقالت:
-هتيجي معايا ولا قاعد يا عامر؟
حمحم وقال:
-جاي معاكِ يا ماما…
استأذنا تقى وخرجا، وعند نزول الدرج، قال عامر بإصرار:
-عايز تقنعي تقى عشان نعمل فرحنا في أقرب وقت يا ماما.
توقفت شيرين للحظة، كأن كلماته صدمتها، أو بالأحرى… أعادت إليها ذلك التأنيب الذي تناسته مؤقتًا، عادت تلك الوخزة في قلبها، تُذكّرها بالسر الذي ينخر روحها يومًا بعد يوم.
لم تجب. فقط تابعت طريقها في صمت، بينما نظر لها عامر طويلًا، منتظرًا ردًا… لكنه لم يأتِ.
★★★★★
كانت ليلة طويلة، مرهقة، ثقيلة على الجميع…
في بيت وئام، تمددت «رغدة» و«رحمه» على الفراش، تتقلبان تارة وندتحدقان في السقف تارة، وكلما أغمضتا أعينهما، انهالت الأفكار كطوفان لا يتوقف.
*******
في غرفة سراب، ظلت مستلقية، تتظاهر بالنوم، لكن جفونها لم تنطبق ولو للحظة. أفكارها تتشابك، ومشاعرها تتناحر، وكلما زفرت محاولة طردها، عادت أقوى لتخنقها أكثر.
******
أما بدر، فكان مستلقيًا في غرفته، عينيه محملتان بأرقٍ لا يعرف الرحمة.
كأن ذهنه ساحة معركة، تتلاطم فيها كلمات جده كأمواج هائجة لا تهدأ، لم يفارق تفكيره حديث جده عن حسين… لكنه يثق أن حسين هو مجرد شيطان يتقن بث الفتن كما يتنفس! كما توارد لذهنه نظرات سراب، ونظرات عمرو… حين نطق بأنه موافق على الزواج!
زفر بحدة، ونهض بغتة، ليتجه يفتح صنبور الماء، ويغسل وجهه بالماء البارد، علّه يطفئ شيئًا مما يشتعل في داخله.
نظر إلى انعكاسه في المرآة، كان شاحب الوجه، عابس الملامح، أدار وجهه بعيدًا، ثم توضأ، فرد سجادته، ووقف يصلي…
الآن، لن يسمع أنينه أحد سوى الله… ولن يدبر هذا الأمر سواه.
**********
في الصالة الرياضية، كان «عمرو» يلهث، متكئًا على ركبتيه، وعضلاته تشتعل بالإرهاق، وكأنه يعاقب نفسه، على تردده، على تلجم لسانه، على صمته حين كان يجب أن يتكلم!
جلس على الأرض، وجبينه يتفصّد عرقًا، ونظراته تهيم في الفراغ.
اهتزّ هاتفه، وظهر رقم والدته على الشاشة، حدّق به لثوانٍ، قبل أن ينقل عينيه إلى ساعة الحائط…
١:٠٠ بعد منتصف الليل.
زفر، وأجاب بصوت مُرهق، طمأنها بأنه سيعود بعد قليل… لكنها شعرت بنبرته المنكسرة، تمامًا كما شعر بها هو.
*******
وعند شيرين، كانت جالسة على الأريكة، تحدق في اللاشيء، وكأنها تتمعن في عمق لا يراه أحد سواها.
لم يُرهقها أبناؤها الأربعة بقدر ما أرهقها عمرو وعامر…
خرج عامر من غرفته، كان ينتظر عودة أخيه أيضًا.
جلس جوارها، تأمل وجهها طويلًا، وكأنه يحاول كشف ما تخفيه، فمنذ ارتباطه بتقى وهو يلاحظ تغير حالها، استلقى على فخذها وأغمض عينيه، فأخذت تتلو آيات من القرآن بصوت دافئ، حتى شعرت بأن أنفاسه بدأت تهدأ، فتمتمت بهدوء:
-ادخل نام في سريرك، يا حبيبي.
فتح عينيه قليلاً، تطلع إليها بصمت، لكنه لم يجادل. نهض متكاسلًا، وسار إلى غرفته، بينما عيناها تلاحقانه حتى اختفى خلف الباب.
تنهدت بعمق، أسندت رأسها إلى ظهر الأريكة، حدّقت في اللاشيء مجددًا…
يبدو أن قرارها تأجّل طويلًا…
وربما تأخر… لكن آن أوانه، في الصباح ستحسم الأمر في ذلك السر الذي يسكن قلبها…
ظلت على وضعها، تترقب… حتى فُتح الباب.
نهضت فورًا، التقت عيناها بعيني عمرو، لم ينبس بكلمة، فقط هرول نحوها، ارتمى بين ذراعيها، وكأنما وجد أخيرًا ملاذه الوحيد…
لم تسأله، ولم يحتج إلى تفسير.
كان الصمت بينهما أبلغ من أي حديث.
ربتت على ظهره بحنان، مسدت شعره كما كانت تفعل حين كان صغيرًا، حتى هدأت أنفاسه قليلًا، فقالت:
-هنتكلم الصبح… ادخل نام يا عمرو.
اومأ وقبل رأسها، ثم استدار نحو غرفته، ومضى وهي تابعته بعينيها حتى أغلق باب غرفته وقبل أن تتجه إلى غرفتها، أغمضت عينيها وهمست برجاء صادق:
-يارب…
********
دقّت الساعة التاسعة صباحًا، حيث تسلّلت أشعة الشمس عبر النوافذ، مُلونة الأرصفة والمباني بلمسات ذهبية دافئة والنسيم الصباحي لا يزال يحمل عبق القهوة الطازجة، وكأن المدينة تتثاءب قبل أن تفيق على صخب النهار.
على طرف فراشها، جلست سراب تعض شفتيها بقلق، أصابعها تعبث بحواف الغطاء دون وعي، وعقلها يُقلّب أفكارها كأنها شبكة معقدة تحاول فكّ خيوطها المتشابكة…
شعور غريب يخنقها، يوم جديد لا تدري ما يخبئه لها.
قطع شرودها صوت تُقى وهي تدخل الغرفة بخطوات سريعة، قالت:
-إيه؟ مش هتروحي الشغل؟
هزّت سراب رأسها نافية، لكن كلماتها لم تخرج، كأنها عالقة في حلقها مع كل التساؤلات التي ترفض أن تُقال.
وقفت تُقى أمام المرآة تُعدّل حجابها، إلا أن عينيها ظلّتا تراقبان انعكاس صورة سراب، تراقب الصمت المشحون في ملامحها…
أخيرًا، استدارت، وجلست بجوارها، نبرتها كانت هادئة، لكن تحتها بركان خامد:
-النار بتحب البنزين، بس لما يقرب منها بيزيد اشتعالها، وممكن تولع في المدينة كلها.
كانت سراب تائهة في أفكارها، ازدردت ريقها بصعوبة، شعرت أن تُقى ألقت أمامها لغزًا تعرف إجابته لكنها لا تود الاعتراف به.
قالت بصوت خافت:
-مش فاهمة… عايزة تقولي إيه؟
تنهدت تُقى، نظرت في عينيها بثبات قبل أن تقول:
-عايزة أقول فكّري بعقلك، مش دايمًا اختيارات القلب بتكون صح…
أغمضت سراب عينيها للحظة، كانت تفهم تمامًا مقصد تُقى، بل وتشعر أن هذه الجملة تدور في رأسها منذ أيام، لكنها تظاهرت بالجهل:
-قولي اللي عايزة تقوليه بصراحة يا تُقى.
ترددت تُقى قليلًا، ثم قالت بحذر:
-بدر مناسب ليكي، إنما عمرو… الحياة معاه هتبقى صعبة. أنا خايفة عليكِ، و…
لم تدعها سراب تُكمل، وثبت واقفة كأن كلمات تُقى أشعلت فتيلًا مخفيًا داخلها:
-إنتِ بتقولي إيه يا تُقى؟ مين قالك أصلًا إني بفكر في عمرو؟
نهضت تُقى بدورها، محاولة أن تحافظ على هدوئها:
-حاسه بيكِ يا سراب، وعمرو… مع إنه محترم وطيب جدًا، لكنه عصبي، وصعب تتحمليه.
رفعت سراب ذقنها بعناد، نظرتها كانت أشبه بشرارة قد تسبق العاصفة:
-قلتلك، أنا مابفكرش في عمرو! إنتِ ليه مصممة تعصبيني على الصبح؟ كفايه اللي أنا فيه.
-يعني إنتِ وافقتِ تتجوزي بدر بجد؟
قالتها تقى فلمعت الدموع في عيني سراب، اقتربت منها تُقى وفي حركة مفاجئة، ضمّتها إلى صدرها وهمست:
-أنا خايفه عليكِ…
دفعتها سراب برفق، كأنها ترفض أن تغرق أكثر في هذا الشعور، إلا أن تُقى لم تتركها تفلت بسهولة، فسألتها مرة أخرى وهي تتفحص ملامحها:
-جاوبيني بصراحة، بالله عليكِ… إنتِ بتحبي عمرو؟
ارتجف صوت سراب قليلًا، لكنها رفعت رأسها بثقة زائفة وقالت:
-لأ، ومش بفكر فيه…
تأملت تُقى ملامحها للحظة، كأنها تبحث عن شرخ في جدار الإنكار، ثم قالت:
-هتفضلي لحد إمتى مش عارفة إنتِ عايزة إيه؟ لحد إمتى هتفضلي مشتتة ومحتارة كده؟ اتكلمي معايا يمكن نوصل لحل…
أطلقت سراب ضحكة جافة، ساخرة، محملة بمرارة لم تستطع إخفاءها:
-كفاية إن إنتِ عارفة إنتِ عايزة إيه وأخدتِ كل حاجة بتحبيها، دخلتِ الكلية اللي بتحبيها وأنا مشيت وراكي، اشتغلتِ الشغل اللي بتحبيه وأنا مشيت وراكي، ودلوقتي اتجوزتِ الشخص اللي قلبك اختاره، لكن بالله عليكي… ما تختاريليش بعقلك إنتِ الشخص اللي أنا المفروض أتجوزه…
صمتت لحظة، كأنها تعطي كلماتها وقتًا لتغرق في عقل تُقى، ثم أضافت ببطء، تضغط على كل حرف وكأنها تؤكد أنه قرار نهائي:
-متتدخليش في قرراتي يا تقى بعد إذنك.
-أنا مش بتدخل أنا بقولك إن بدر مناسب ليكِ، اقنعي قلبك بيه زي ما عقلك مقتنع.
-واشمعنا إنتِ تتجوزي اللي بتحبيه؟
رمشت تُقى، لم تكن تتوقع ذلك، لكن خرجت منها الكلمات بلا تفكير:
-إنتِ بتغيري مني يا سراب؟
تجمدت سراب في مكانها، لم تنطق بحرف، فقط نظرت إليها نظرة طويلة، نظرة تحمل في داخلها ألف شعور متضارب، ثم استدارت وخرجت من الغرفة، وداخلها يشتعل بغضب لم تفهم كنهه.
بينما زفرت تقى بقوة وتمتمت:
-ايه اللي أنا قولته ده!!
ثم حملت حقيبتها وصعدت لخالها «البدري» وبداخلها غصة تتلوى…
أما سراب…
فكل شيء في داخلها كان يدفعها للعودة، لتصرخ في وجه تُقى، لتثبت لها أنها مخطئة. كانت الكلمات تحترق على طرف لسانها، لكنها لم تفعل. بدلاً من ذلك، دخلت الحمام، فتحت الماء على آخره، وغسلت وجهها بعـ ـنف كأنها تحاول أن تمحو أفكارها معه. رفعت رأسها ببطء، واجهت انعكاسها في المرآة، وعيناها تائهتان بين الإنكار والاعتراف، همست بصوت بالكاد تسمعه:
-بتمنالها كل الخير… بس تصرفاتي بتقول إني بغير… هو أنا ممكن أكون غيرانة؟
خرجت من المرحاض بخطوات متثاقلة، وكأن سؤالها يثقل كاهلها…
جلست على أول مقعد قابلها، بينما كلمات تُقى تتردد في ذهنها، تلسعها كلما حاولت تجاهلها…
تحركت أصابعها بلا وعي إلى هاتفها، فتحت محادثة عمرو، وكتبت دون تفكير:
-إنت فين؟
لم تنتظر وظهر لها أنه قرأ الرسالة…
على الطرف الآخر، كان «عمرو» يقرأ رسائلهما السابقة مبتسماً، مستمتعاً كعادته بذلك التوتر الخفي الذي يلون محادثاتهما، تخيل صوتها وهي تنطق كل كلمة، واتسعت ابتسامته حين رأى رسالتها، فلم بتوقع ذلك منها، وعلى الفور رن عليها فيديو.
قطعت الاتصال فورًا وأرسلت له:
-بلاش فيديو، شكلي دلوقتي مش هيعجبك.
أتى الرد سريعًا:
-طيب، تعالي نخرج نتكلم بره… عايزك ضروري.
ترددت لثوانٍ، ثم كتبت:
-هلبس وأرن عليك… استناني على أول الشارع.
وثبت من مكانها، التقطت أول ثياب وجدتها، وارتدتها في عجالة…
طالعت نفسها في المرآة للحظة، ثم زفرت بعمق وهي تهمس لنفسها:
-يا رب يعدي اللقاء زي ما أنا مخططة له يارب.
************
خرجت «شيرين» من بيتها بخطوات مترددة، تُطبق أصابعها على حقيبتها بقـ ـوة وكأنها تتمسك بثقل أفكارها، عينُها تائهة، تتلفّت حولها بحذر كأنها تخشى أن يُفتضح سرها قبل أن تنطق به…
كانت متجهة إلى المطعم المجاور، حيث ينتظرها «يحيى»، علّه يمنحها إجابة للسؤال الذي ينهشها منذ أيام: هل كتمان هذا السر عن تُقى حرام؟
فمنذ أن أخبرها «عامر» بالأمس عن رغبته في تعجيل الزفاف، ولم يغمض لها جفن.
شعورٌ بالذنب يكتم أنفاسها، تخشى أن يكون كتمان الحقيقة خيانة، لكنها في الوقت ذاته تخشى على ولدها…
وبعد.فترة وجيزة
كانت تجلس قبالة يحيى، تطلعت إلى ملامحه الهادئة ولحيته التي تمنح وجهه وقارًا، كأنها تبحث عن طمأنينة وسط العاصفة التي تعصف بها.
أخذت تفرك يديها في اضطراب، تُصغي إلى ضربات قلبها أكثر مما تُفكر في ترتيب كلماتها.
حتى قطع يحيى صمتها بنبرة دافئة:
-أأمُريني يا أمي؟ قلقتيني لما قولتي لازم نتقابل بره.
ابتلعت «شيرين» ريقها، شعرت أن الكلام ثقيل على لسانها، لكنها أجبرته على الخروج بصوت خافت:
-كان عندي سؤال يخص واحدة قريبتي…
أومأ لها بتشجيع، بنبرة جادّة لكنها مطمئنة:
-اتفضلي، أنا سامعك.
مالت للأمام قليلًا وهمست بصوت متردد، كأنها تخشى أن تُسمع حتى من نفسها:
-عندها ابن عنده مشكلة جسدية، وهي ووالده بس اللي يعرفوا بيها، ابنها خاطب… بس هي مقالتش لخطيبته عن مشكلته دي… هل كده هي عليها وزر؟
نظر إليها يحيى بتمعن، راقب ارتباكها الواضح قبل أن يسأل برفق:
-أكيد طبعًا، بس إيه مشكلته؟
تلاعبت بأطراف طرحتها، واضطربت أنفاسها حين قالت بصوت بالكاد يُسمع:
-مش بيخلف… حصلت له حادثة أثّرت عليه، والدكتور قال إنه مش هيقدر يخلف، إلا لو عمل حقن مجهري.
تغيّرت ملامح يحيى للصدمة، لكنه حافظ على هدوئه وهو يقول بكياسته المعتادة:
-عامر؟
ترقرقت الدموع في عينيها، حاولت أن تتحكم في ارتعاشة صوتها لكنها فشلت:
-أنا مش قادرة أقول لتقى، ومش قادرة أقوله يا يحيى… أنا مبنامش يا بني…
التفت «يحيى» حوله، كأنه يتحقق من أن أحدًا لا يسمع، ثم ربت على ظهر يدها قائلًا بلطف:
-اهدي يا أمي…
أغمضت عينيها لحظة، تحاول استجماع شجاعتها وسط هذا الاختناق، ثم قالت بصوت متهدج:
-أنا مقدرش أقوله، وعمك دياب فاكر إني قولت لتقى… أنا خايفة أوي على عامر… دا بحب تقى أوي افرض سابته؟
صمت «يحيى»، يزن الأمر بعينيه، عقله يُحلل، وقلبه يشعر بثقل المأزق، قاطع سيل أفكاره صوتها المضطرب:
-أعمل إيه يا يحيى؟
استند بظهره للخلف، تأمل وجه شيرين الحائر، لكنه لم يمنحها فتوى، بل قال بهدوء:
-متعمليش حاجه يا أمي، وأنا هسأل الأول وأرد عليكِ.
أمسكت شيرين يده ونظرت له بعمق وهي تقول:
-الموضوع ده سر بيننا، وئام نفسها مينفعش تعرف بيه…
-أكيد يا أمي… متقلقيش أبدًا…
وفي طريق العودة…
سارت «شيرين» إلى البيت بخطوات بطيئة، كأن الأرض تسحبها للخلف، كأن الهواء يضيق من حولها مع كل نفس تأخذه.
وقبل أن تدخل شقتها، قابلتها سعيدة، بابتسامتها المعتادة التي تحمل أكثر مما تُظهر. مدت لها علبة عصير وقالت بفرحة:
-مرات ابني حامل… عقبال عامر يا رب، هو اللي عليه الدور!
تجمدت ملامح «شيرين»، لم ترد، لم تُبارك حتى، فقط تحركت من أمامها بخطى ثقيلة وأكتاف متهدلة.
راقبتها «سعيدة» وهي تبتعد، رفعت حاجبها بدهشة، ثم تمتمت بغيظ:
-آه يا متكبرة! دي حتى مقالتليش مبروك… طيب والله خسارة فيها إني كنت هقولها على أبوها… طيب وربنا ما أنا قايلة.
دخلت «شيرين» شقتها وألقت حقيبتها جانبًا، ثم جلست على الأريكة، دفنت وجهها بين يديها وهي تسترجع نظرات يحيى وكلماته.
زفرت زفرة طويلة، كأنها تحاول أن تُخرج القلق الذي يُكبلها، لكنها شعرت أن صدرها يضيق أكثر.
مسحت وجهها وتمتمت بصوت بالكاد يُسمع من خلف شهقاتها:
-يارب…
★★★★★★
خرجت «سراب» من البيت بخطى مترددة، أخرجت هاتفها من حقيبتها لتطلب رقم «عمرو»، لكنها توقفت عندما لمحت «بدر» يقترب منها رفع حاجبه وسألها بنبرة هادئة:
-رايحة فين يا سراب؟
ارتبكت للحظة قبل أن تجيب بعفوية:
-هقابل عمرو…
ما إن نطقت حتى أدركت وقع كلماتها، وانتبهت لتدخله غير المبرر…
اعتدلت في وقفتها، متحفزة، وقالت بحدّة:
-لا، ما هو أنا حرة أعمل اللي أنا عايزاه، ومبحبش الخنقة والجو ده… أنا مش ناقصه…
افتر ثغره عن ابتسامة جانبية، أظهرت غمازاته، قبل أن يرد ببراءة مصطنعة:
-وهو أنا قلتلك حاجة يا بنتي؟!
حدّقت في غمازاته، ثم رمقته بنظرة متفحصة قبل أن تتمتم بعفوية:
-هو صحيح… إنت حلو، يعني بجد اللهم بارك، عندك غمازات وكل حاجة… بس بجد يا بدر، أنا مش متقبلة إني أتجوزك.
-ولا أنا…
لم تتوقع رده السريع وهو يرفع كتفيه بلا اكتراث، فسألته بقلق:
-ليه هو أنا وحشة؟ قصدي… يعني مش ممكن إنت كراجل تحبني؟
لاحظت احمرار وجه «بدر» أثر كلماتها العفوية ونظراتها، التي كادت تخترقه فقد كانت تحدق به وهو لم يرفع عينيه بها حتى، عضّت شفتيها، حاولت تدارك نفسها، فتلعثمت:
-متفهمنيش غلط، أنا مش قصدي كده… مش عارفة إيه اللي بقوله ده!
وبنبرة دافئة قال متفهمًا:
-متقلقيش، أنا فاهمك… وإنتِ عجباه على فكرة…
قطبت حاجبيها في حيرة، وسألته بارتباك:
-هو مين؟
أشاح ببصره يُطالغ الأفق البعيد، قبل أن يجيب بهدوء:
-اللي إنتِ رايحة تقابليه…
لم يمنحها فرصة الرد استدار ودخل البيت، تاركًا إياها في حالة من الذهول، وكلماته تطنّ في رأسها وقد اشتدت حرارة جسدها فجأة، فتحسيت وجنتيها بيديها قبل أن تزفر بضيق، وتتابع طريقها، وهي تتصل بعمرو…
بعد دقائق…
كانت تسير بجوار عمرو ببطء، تراقبه بطرف خفي في حيرة…
ظل متجاهلًا لها كأنه لا يشعر بوجودها وفجأة، توقف واستدار نحوها، وقال بحدة:
-إنتِ يا متخلفة عايزة تتجوزي بدر وهو أصلًا مش بيحبك؟!
تجمدت ملامحها للحظة قبل أن ترمقه بضيق، ثم ردّت بلهجة تحمل تهديدًا مكتومًا:
-متغلطش يا عمرو، والله أمشي وأسيبك.
زفر بضيق، ألقى نظرة حوله، وحاول أن يكون هادئ وهو يقول:
-هو أنا مش عرضت عليكِ الجواز يا بنت الناس؟ مردتيش عليا ليه؟
ردّت بانفعال لتخفي اضطرابها:
-ما إنت مسألتش تاني، وافتكرتك بتهزر، وبصراحة… إنت مستفز أصلًا.
رفع حاجبيه وقال وهو يشير لها بسخرية:
-إنتِ اللي بتغلطي أهوه، متزعليش بقى لما أتعصب!
تنفست بعمق ثم قالت بعناد وهي تشيح بوجهها:
-ريّح نفسك يا عمرو، أنا مش عايزة أتجوز أصلًا.
-أنا عارف إنك مش عايزة تتنيلي، ولا أنا عايز…
رشقته بنظرة نارية وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تحذره:
-بطل استفزاز وحسن ملافظك.
-والله أنا حر في ملافظي.
قالها ببرود، فصمتت هنيهة ثم قالت:
-تمام، والمطلوب مني إيه دلوقتي؟
-إنتِ اللي طلبتِ تقابليني، المفروض أنا اللي أسألك السؤال ده.
ترددت للحظة، ثم زفرت بضيق وقالت:
-نفض الشراكة بيننا، عشان أنا مش طايقة أشوفك أصلًا.
-ولا أنا طايقك، بس أعمل إيه؟ بدر قصدني في خدمة وعايز أساعده.
حدقت فيه بصمت، فحكّ أرنبة أنفه، ثم تابع بنبرة أخف:
-بصي… بما إنك مش طيقاني وأنا مش طايقك، وكده كده مش بنفكر في الجواز، فاحنا بالصلاة على النبي كده نتوكل على الله ونتجوز!
رفعت حاجبها بدهشة، فتابع بضحكة خافتة:
-ويا نفك عقدة بعض ونحب بعض زي ما بيحصل في كل الروايات والأفلام… يا نكسر القاعدة.
ورغم كل شيء، لم تستطع منع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها، فبادلها الابتسام قائلاً بثقة:
-وإن شاء الله مش هنكسر القاعدة.
يتبع
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
التعليقات