التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل التاسع والأربعون

حتى ولو رحلنا، وفرقتنا الطرق، وعدت الغريب التائه بين طرقات المدينة، سأتذكر دائمًا أنه حين فقد يعقوب فلذة كبده يوسف، راح البصر حزنًا على الحبيب، وما أراني إلا فاقدًا لنفسي إن فقدتك.

حين يخبرك عقلك أن تتوقف فتوقف، الكثير من التجارب السابقة أثبتت أن في مواقف بعينها لا يكن هناك صواب أكثر من قرار العقل، وهذا ما تيقنت منه علا التي كانت تقف بمفردها في هذه الليلة تتأمل المياه في انتظار بشير ولكن أتى عيسى، حدثها وبادلته، ومع طلبه الذي رأته وقح بالبعد عن صديقه، وردها المتحدي شعرت بأن هناك خطب ما حل، الواقف أمامها ليس على ما يرام، وبدا هذا واضحا حين صرخ فيها أن ترحل، وأبت نفسها ذلك ولكن عقلها دق جرس إنذار بأن أفضل ما تفعله الآن هو الرحيل، وقبل أن يعنفها من جديد لمح سيارة صديقه تتوقف، هرولت هي ناحية بشير، طوق النجاة الذي عثرت عليه للتو لتحتمي به، وقبل أن يقول أي شيء وجد صديقه يفر إلى سيارته بوجه مكفهر، وقادها بسرعة جنونية جعلته يدرك ما حل به، تنهد بانزعاج قبل أن يستفسر منها: حصل إيه؟

قصت عليه ما حدث بتوتر فاعتذر منها على فعلة صديقه مبررا: متزعليش، عيسى بس مضغوط الفترة دي، أنا معرفش هو عرف إننا هنتقابل هنا ازاي، أكيد شاف الموبايل.
طالعته بهدوء قبل أن تقول بابتسامة حزينة: هو مش حكاية مضغوط يا بشير، يمكن يكون الكلام وجعني ورديت، بس عيسى عنده حق، أنا دخلت نفسي في حياتك فجأة وحطيتك في مشاكل مش بتاعتك
ابتلعت غصة مريرة في حلقها قبل أن تضيف: وده أجبرك تكون جنبي…

بتر عبارتها بقوله: أنا مفيش حاجة أجبرتني، بالعكس أنا فرحت لما لجأتيلي.
أنت جدع يا بشير.
قالتها بمشاعر صادقة، وابتسامة رقيقة تاه فيها قبل أن يمدحها أيضا: وأنتِ إنسانة كويسة يا علا، يمكن بيئتك هي اللي مكانتش كويسة لكن جواكي نضيف.
وأمام مدحه هذا لم تستطع إلا أن تصارحه بعينين فضحهما الحنين: أنا ماما وحشتني، هما أهلي، عملوا علشاني كتير.

لمعت العبرات في مقلتيها وهي تحكي له: صحيح فجأة بقوا عايزين يشكلوا حياتي على مزاجهم، ويلغوني، بس مقدرش محنش، ليهم حلو كتير يا بشير، اللي هربت منهم هي علا اللي لقت نفسها تدريجي بتتمحي وتتحول لمسخ
أغمضت عينيها بألم وهي تقول الحقيقة التي يصدقها كل إنش بها: لكن هي علا دي نفسها اللي وحشوها، أنا مش مأيداهم في أفعالهم، وكنت بحاول كتير مبقاش جزء منها، لكن روحي متعلقة بروحهم، أنا من دمهم.

بان تأثره من فرط صدقها الذي وصل له وكذلك من دموعها التي حاربتها بضراوة حتى تمكنت منها وهي تكمل: شاكر ده كانت أسراره كلها معايا أنا، مكانش بيحكي لماما قد ما كان بيحكيلي، على قد ما كنت بكره تحكمه وتصرفاته و علطول أنا وهو في خناق، بس هو أول واحد قال لبابا لما كان عايز يقعدني بالثانوية، علا مش أقل من حد وهتكمل، شاكر هو اللي وداني المدرسة أول يوم، ولما عيطت خدني ورجع ومن ساعتها مبقوش يبعتوه معايا تاني و…

قاطعها بضجر وقد ضايقه حديثها: شاكر مبيحبش حد يا علا غير نفسه وبس، لو كان بيحبك مكنتيش هتهوني عليه، يعمل فيكي كل اللي عمله ده
وطالبته بدموع: أنا مبحسنش صورته، أنا بقولك اللي في قلبي، لو كنت عايزة أحسن صورته مكنتش بلغت عنه، بس للأسف يا بشير في حاجات مهما حصل ما بتتنسيش، زي ما عمري ما هنسى شاكر اللي خد شعري وغصب عليا، مش هقدر أنسى برضو اللي إنه أخويا، وإن كوثر أمي اللي نفسي أشوفها حتى لو من بعيد.

كل شيء يؤلمها وبان هذا في سؤالها بوجع طغى على عينيها: أنت فاكر إنه كان بالساهل كده أبلغ عن شاكر؟
عاتبها بشير ولم يعنف بل رفق بحالتها: بلغتي عنه علشان نفسك، بلغتي لما أذاه طالك، لكن مفكرتيش في روح تانية أذاه طالها برضو يا علا.

ودافعت عن نفسها بكل طاقتها وهي تمسح دموعها بكبرياء: لو كان على الأذى، فمن ساعة اللي شاكر عمله في فريد الله يرحمه، وهو أذاه طايل الكل، الأذى طايلني من ساعتها يا بشير بس سكتت عن أذى نفسي علشان خاطره.

ثم لانت نظراتها ورأى فيها خوفًا حقيقيا عليه وهي تستكمل: بس مقدرتش استحمل أكتر لما هددني بيك، أنا حتى شعري كنت مسامحة فيه، بس لما فكرت إني ممكن أتسبب في ضياع إنسان هو الوحيد اللي مدلي إيده لما أهلي نفسهم زقوني، مقدرتش، خدت أصعب قرار في حياتي…
تنهدت بعمق، وفرت دموعها لتشعر هي بسخونتها على وجنتيها أثناء إضافتها بقهر: أنا أسفة على كل حاجة يا بشير، حتى إني حبيتك أسفة فيها.

تصريحها هذا لم يتوقعه أبدا، معجزة إلهية، نراها كثيرًا ولا نتدبر فيها، قدرة الله المذهلة التي نراها في تأليف القلوب، القدرة التي تطوع الفؤاد لتجعله يسكن فقط في حضرة أحدهم، ومهما كان حذرنا يكن قدر الله أقوى، ننجذب بلا وعي إلى هذا الطريق، وكأنه السبيل الوحيد، والدنيا بأسرها لا تسوى شيء دون من هام به القلب، الشخص الوحيد الذي لا يصلح أن تربطنا به صلة، وقعنا فيه وانتهى الأمر.

بان تأثره في عينيه ولم تحد نظراته عنها ثانية حتى استطاع أخيرًا أن يقول: ياريت كل حاجة كانت تبقى غير كل حاجة يا علا، يمكن ساعتها فرصتنا مع بعض كانت تنفع، بدل ما أنا مش عارف هي نهايتها إيه كده.
أكدت على قوله تردد بحزن: يمكن، بس مش كل ممكن بيحصل للأسف
ثم مسحت عبراتها وهي تردف وقد حسمت أمرها: علشان كده أنت مش هتشوفني في حياتك تاني.

قالت هذا وقبل أن ترحل، هرع يتناول مرفقها مانعًا إياها من الرحيل وهو يطالعها بلهفة، بمجرد أن توقفت أبعد يده وهو يعتذر: أنا أسف، بس يعني إيه مش هشوفك تاني، أنا هبقى قلقان عليكي، على الأقل خليني جنبك لحد ما موضوع شاكر ده يخلص.
ونتعب قلب بعض ليه؟، أنا مش عايزة أتعلق أكتر من كده، ولا عايزاك تتأذي وتضر بسببي، أنا بعيد عن حياتك يعني المشاكل بعيد وكده أحسن.

كمن يطعن فؤاده بلا رحمة كانت هذه حالتها وهي تلقي على مسامعه ما ألقت وبمجرد أن انتهت رد هو برجاء ألا تبتعد: أنا مشتكتش من حاجة، وبعدين أنتِ مش هتتعلقي لوحدك يا علا، بلاش تحطيني في الحيرة دي، أنا عارف إن مفيش حد جنبك دلوقتي، أنت لجأتيلي وأنا مش هبقى جبان أوي كده وأقولك ابعدي علشان خايف، لما كل حاجة تخلص ساعتها اعملي اللي عايزاه.

وأمام أقواله هذه ابتسمت، وردت عليه: سيبها لربنا، بس عايزاك تتأكد إنك مقصرتش، شكرا على كل حاجة.
ولم تتوقع رده حيث أخبرها بما أسر فؤادها: لو كل حاجة خلصت وبقى لينا فرصة مع بعض، أنا هبقى مبسوط جدا.
كان صادقًا لدرجة جعلتها تتمنى لو أن كل شيء حولها خرافة ولا حقيقة في هذه الحياة سواه وحده.

في مكتبه استطاع أخيرا أن ينفرد بها ليحدثها، بعد يوم تكاثرت فيه الأعباء، جلست ميرت أمام نصران الذي استفسر عن أحوالها بقوله: أنتِ أحسن دلوقتي؟، رفيدة بتقول مبتطلعيش من الأوضة خالص، أنا قولت لعيسى نجيبك هنا علشان تبقي في وسطنا مش علشان تحبسي نفسك.

أكدت له بابتسامة هادئة: أنا كويسة الحمد لله، محتاجة أهدى بس علشان الفترة الأخيرة مكانتش أحسن حاجة عليا، وكويس إنك خليت عيسى وملك يبعدوا شوية، عيسى فعلا محتاج يبعد عن كل حاجة.
ما تحكيلي أكتر كده عن عيسى و كارم يا ميرت.
داهمها بقوله الذي تسبب في تقلص معدتها بقلق، وأن ترد بضيق بان على وجهها: ليه، إيه لزومه الكلام ده؟

وقبل أن يرد عليها وجد زوجته تدخل المكتب، شملتهما بنظراتها وهي تقول بانزعاج: لو سمحت يا نصران عايزة أتكلم معاك.
وجدتها ميرت فرصة مناسبة فاستأذنت لتصعد إلى غرفتها، وبمجرد رحيلها هتف نصران بغضب: بتتكلمي كده ليه، وأنتِ عارفة إنك كده بتحرجيها.

فأفرغت طاقتها السلبية كاملة وهي تقول بضجر: علشان زهقت، حرام عليك، أنت حتى صباح الخير مبتقولهاليش، ده عدل؟، خلتني أغير حتى من الست اللي ضيفة عندنا علشان هي عارفة تقعد مع جوزي وأنا لا
تنهدت بعمق قبل أن تتابع: بس أنا ساكتة وصابرة واستحملت، لكن مش هقدر أشوفك بتبعد عيالي كمان يا نصران، حسن عمل إيه علشان باعده
ابتسم بسخرية قبل أن يسأل باستهزاء: هو قالك تتكلمي بالنيابة عنه.

فردت تدافع عن حقها في المعرفة: أنا سمعتك بتقوله لو جيت ورايا هكسر رجلك، وأظن من حقي أعرف حصل إيه لكل ده
وهو فين وأنا أعرفك قدامه
وأمام قوله هذا وقفت بانفعال على بوابة المكتب تنادي: حسن.
كانت على علم مسبق بأنه في الردهة ينتظر أن يسمح له والده بالانفراد به، هرول ناحية غرفة المكتب وما إن دخل حتى قالت سهام بنزق: ممكن أفهم بقى.
اقترب نصران وقف أمام ابنه يسأله بنظرات متفحصة: كنت هناك صح؟

لمح التوتر الذي ظهر على وجه ابنه وهو يرد: هناك فين؟
وسمع حسن ما لم يعجبه حيث ألقى والده على مسامعه ما ضايقه: متبقاش كداب، يعني هيبقى حالك مايل وكداب، خليها حالك مايل وصادق أهو تبقى أخف.
عايز اخطبها
قالها صراحة، يطالبه بالصدق وهو الآن يعلن مطالبه بوضوح، وحين استنكرت والدته سائلة: هي مين دي
فرد بوضوح: مريم بنت الست هادية.

تجمدت سهام مكانها، ولم تستطع أن تتفوه بأي شيء، كانت في طور استيعاب ما يقال أما زوجها فرد على ابنه بغضب: وهي مش عايزاك، وأنا بقى ولي أمر البت دي ومش هجوزهالك حتى لو قالت إنها عايزاك، اللي يدي بنته لعيل زيك يبقى بيرميها، وطالما أنت عايز تسوق العوج ومش هتلتفت لمستقبلك استحمل بقى.

كانت والدته قد طالبته في الهاتف بأن يحضر لها لشعورها بأن هناك نية لدى عز لطلب شقيقته، وشكها في ميل ابنتها لهذا، ومباركة نصران وعدم رفضه لذلك استخدم هذه النقطة وهو يرد بانزعاج ساخرًا: اللي يدي بنته لعيل زيي يبقى بيرميها، إنما حضرتك لما تروح ترمي بنتك للميكانيكي تبقى بتعيشها في الجنة.

جذبه والده من تلابيبه فشهقت سهام وهرعت تقترب منهما لتحاول منع نصران عن ابنها بينما سأله نصران بحدة: عز؟، بتتكلم عن عز؟
طالعه حسن وقد ندم على ما تفوه به وزاد ندمه حين سمع والده يوبخه بأقواله: عز ده أرجل منك، الميكانيكي اللي بتتكلم عنه ده بيشقى ويصرف على نفسه وعلى أمه.

دفعه نصران بغلظة وهو يستكمل: الميكانيكي ده يقدر يفتح بيت ويبقى مسؤول عنه من الصبح، إنما أنت حتة عيل بتاخد المصروف من أمك ومن غير فلوس أبوك ولا تسوى، هو بيشقى ومتقي الله، ومعاه صنعته، يعني مبيشتغلش في الحرام علشان تعيب عليه.
إنما أنت تعرف إيه، شغلتك إيه غير الملاوعة والجري ورا البنات.

ضرب حسن بضيق على الطاولة، بينما خرجت أمه لتستدعي طاهر يفض بينهما، وحين رأى نصران تأثير حديثه على ابنه، سأله باستهزاء وقد بان انفعاله جليا: إيه مش عاجبك الكلام، ما طالما هتجيب سيرة الناس وتشوف نفسك كبير عليهم، أعرفك مقامك يا بن نصران، الميكانيكي ده أنت معرفتش تبقى ربعه حتى.

رأى نصران الدموع في عينيه ولم يخفها حسن بل طالع والده معاتبا ونظراته تطالب الواقف أمامه بأن يكف عن حديثه ولكنه ختم وكأنه لم ير هذه الدموع: يوم ما تعرف تبقى زيه، ابقى تعالى كلمني كراجل، وساعتها ابقى احترمك، إنما أنا مبقدرش عيال.
حضر طاهر ومن خلفه والدته، حالتهما تشرح كل شيء، وخاصة شقيقه الذي رأى العبرات على وجنتيه، فتناول مرفقه طالبا بهدوء: تعالى معايا يا حسن.

طالع طاهر والده برجاء حتى لا يعترض، وبالفعل لم يعترض ولكنه ألقى على مسامع الجميع ما لم تستطع سهام التوقف أمامه بسبب غضبه: خد اللابتوب بتاعه يا طاهر كفاية عليه أوي الموبايل يحمد ربنا، ومفيش فلوس تاني، ملكش عندي غير الأكل والشرب وده كرم مني أوي، لكن أنا مبرميش فلوسي في الأرض.
ولم يحتمل ابنه أمام كل هذا فهتف بنفاذ صبر: خليهم الأكل والشرب مش عايزهم، ومش قاعد فيها كمان.

قال هذا وتحرر من شقيقه نحو الخارج، هرول طاهر و سهام خلفه وهي تتوسل: حسن استنى يا حبيبي، استنى علشان خاطري.
ولم يرد حتى أمام قول طاهر الذي هتف: ما تستنى هنا وتقول هببت إيه علشان يقلب عليك كده.

توقفوا ثلاثتهم عن السير حين وجدوا رزان في الردهة برفقة تيسير، ساد الاستغراب، لحق بهم نصران ليجد الوضع هكذا، وتيسير تخبره: الست كانت عايزة تقابل الأستاذ عيسى يا حاج نصران، أنا قولتلها والله إنه مش هنا، بس قالت مش هتمشي إلا لما تدخل تقابل أي حد يوصلها بيه.
اقتربت رزان من صاحب المنزل، وقفت أمامه تحت نظرات ابنيه وزوجته وسألت بهدوء: فين عيسى؟
رد بهدوء جاهد ليستدعاه: مش هنا يا بنتي، خير؟

أنا رزان يا حاج، رزان طليقة جابر ابن الحاج منصور، وقاصداك في خدمة.
فكرر طاهر باستنكار: طليقته!
بينما وقف والده حائرًا أمام قولها، لا يعلم لماذا ولكن الريبة رافقته بشأنها وشأن طلبها، ولكن في النهاية اختار أن يسمع لها.
لم تتحمل الجلوس بمفردها، ذهبت إلى الشرفة من جديد وجلست تستمتع بنسمات الهواء ثم هاتفت والدتها والتي ما إن ردت حتى هتفت ملك بفرح: كنت هزعل أوي لو كنتي نمتي.

لا ما نمتش، لسه طالعة من تحت، هو جوزك لسه مرجعش من ساعة ما قولتيلي إنه خرج
قول هادية هذا أصاب ابنتها بالحرج، ساعات طويلة يتركها هنا بمفردها، حتى لم تعرف وجهته، اختارت الكذب وقالت: لا رجع، اتغدينا وخرجنا شوية وقالي هيروح مشوار وراجع.

تنهدت هادية بهدوء ثم دعت لهما وطلبت منها بعد ذلك: بقولك إيه يا ملك، ابقي كلمي شهد كده بس كأنه من نفسك، هي راحت للدكتور بتقول مرتاحة، بس أنا مش عارفة هي بتفكر في إيه، ومش عايزة اضغط عليها أوي
ردت ملك بمزاح وهي تعدل من وضعية الطاولة: فبتسلطيني أنا ومريم عليها، عموما حاضر يا ستي هشوفهالك.

انتظرت الرد ولكن ذهبت الإشارة فلم تعد تسمع شيء، تأففت ملك بانزعاج، وعادت لملل الانتظار من جديد، حتى جذبت دفترها وقلم، وفتحت على صفحة بيضاء، واحتارت ماذا تدون، بداخلها الكثير ولكنها عاجزة عن التعبير، تجرأت يدها أخيرا، وخطت بقلمها: أنا محتارة أوي يا رب.
تنفست بعمق وأكملت بقلب شريد: محتارة وخايفة، ممكن تساعدني؟

تلألأت العبرات في عينيها وهي تدون: أنا عارفة إن سبحانك دايما واقف معايا، مكنتش ببقى مرتاحة وأنا بشتكي غير ليك، طمنتني وجبرت خاطري، وبتهون عليا اللي شوفته
فرت دموعها وسقطت على الورقة التي تكتب بها، ولكن هذا لم يعيقها أن تكتب: أنا مش عارفة إيه اللي جاي، بس أرجوك مش عايزة أعيش اللي عيشته تاني، خلي ذكرى الليلة دي في قلبي بس، لكن أنا مش هقدر أعيشها تاني وأحكي تفاصيلها قدام حد.

كان هذا الجزء الأكثر وجعًا وبان هذا في انهيارها التام وهي تتذكر كل ما مرت به معه وتضيف: عيسى يارب أنا بحبه، رسيني على بر معاه، أنا مش عايزة غير حياة هادية أعيشها معاه بعيد عن المشاكل والخوف، نفسي في حياة طبيعية زي كل الناس، ممكن تديني حياة طبيعية زي كل الناس؟
وكانت آخر عبارة بفؤاد غمره الأمل بأن الله لن يضيع صاحبه: اعملي الأصلح وارشدني ليه بس طمن قلبي على عيسى، اغفرلي اللي زعلتك فيه وخليك جنبي.

أغلقت دفترها وتركته جوارها، ثم لمحته وقد أتى، أثار استغرابها أنه لم ينزل من السيارة، فانتظرت دقائق ثم خرجت له، انتبه لها فحثها: ادخلي يا ملك أنا جاي.
ركبت جواره وسألته بقلق: مالك في حاجة؟
طالعها ولم يرد، بقى صامتا وأتى رده عكس ما توقعت حيث سأل: كنتي بتعيطي؟
هل بان هذا على عينيها، سألت نفسها وهي ترد: لا أنا كنت نايمة ولسه صاحية.

احنا هنرجع، عندي حاجات كتير، ومش عارف اخلصها، وباخد وقت بسبب طول المشوار لما باجي راجع هنا.
أثار قوله هذا غضبها فطالعته بانزعاج وردت بنزق: هو ده اللي هنقضي كام يوم سوا بعيد عن المشاكل؟..
تعالي يا ملك حاضر، تجيب ملك وتسيبها بالساعات وتخرج ومتعرفش عنك حاجة و كإنها مبتحسش ملك، معمولة من شمع هي
وقابل ثورتها هذه بقوله: ملك أنا مسيبتكيش غير النهاردة
فردت: واحنا قعدنا كام يوم أصلا؟، أنت خارج من امتى يا.

عيسى، هو العادي إن اليومين اللي هنقضيهم سوا، اقعد منهم يوم بطوله لوحدي، ياريت نرجع فعلا على الأقل البيت هناك فيه ناس اقعد معاهم، بدل ما اقعد هنا مع الحيطان.
أشعل لفافة تبغ قائلا بهدوء لم تتوقعه بعد انفعالها: ادخلي لمي حاجتك.
فضاعف هذا من غضبها منه، نزلت من السيارة وصفعت الباب بكل قوتها فسمعت قوله: ملهاش ذنب، بالراحة عليها، لسه جديدة ومش واخدة على البهدلة.
فاستدارت له تسأل بحدة: هي إيه دي؟

جاوبها بابتسامة أثارت غيظها: العربية.
ففتحت الباب من جديد وأغلقته بكل قوتها ثم ألقت على مسامعه بضجر: في ستين داهية العربية.

ضحك في صمت على الرغم من أنه ليس على ما يرام، طالعها وهي تعود إلى الداخل، وتبدي اعتراضها حتى في خطواتها، أما هي فدخلت إلى الغرفة لتجمع أشيائها وهي تحدث نفسها بضيق: ما هو علشان أنا اللي غلطانة، أنا اللي مليش كلمة، لما كان يجي ياخدني كده من عند ماما، كنت أصريت على موقفي وقولت لا، بس معلش
كادت أن تصرخ وهي تكمل: والمستفز قاعد يضحك ويقولي
ثم قلدت نبرته حين قال: العربية.

فتحت الخزانة وهي تعلق: خايف أوي على عربيته، خاف يا حبيبي على مشاعري الأول وبعد كده خاف على عربيتك وقال إيه مش واخدة على البهدلة
جذبت الملابس بانفعال وهي تهتف بتذمر: العربية مش واخدة على البهدلة، لكن أنا معايا ضمان خمس سنين اتبهدل عادي.
توعدت وهي تتجه ناحية الحقيبة: أنا هكسرهالك العربية دي.

بدأت في وضع ملابسها بعشوائية، و أتت لتأخذ المتبقي في الخزانة ولكن جذب انتباهها ورقة مطوية موضوعة على الرف الأول، انكمش حاجبيها باستغراب، وخاصة أنها تشبه كثيرا الورق الموضوع في الدفتر الذي أحضرته له، فتحتها بحذر وبدأت قراءة ما خطه، قراءة عباراته التي تقطر إحساسًا: ربما ليس اليوم، ولا حتى اليوم الذي يليه، ولكني على يقين من أن هناك لحظة ما سنكون فيها كما أراد فؤادك العذب، وروحك النقية…

اتسعت ابتسامتها وبان تأثرها في نظراتها وهي تقرأ البقية بحب: هناك دقيقة ربما يتوقف عندها الزمان ستأسريني ببراءتك ولكن هذه المرة لن ينفك الأسر أبدا، لا أعلم هل سيتحقق ما تعلقنا به على هذه الأرض أم لا.

لمعت عيناها بحزن على جملته هذه ولكن سريعا ما انقشع هذا الحزن وتحول إلى أمل وهي تواصل قراءة البقية: ولكني على أمل أن يوما ما على أرض ما في حياة آخرى إن لم يكن في هذه الحياة، سنلتقي، سأعرفك من بينهن، وحينها ستسكن أرواحنا بإذن مولاها، حينها سنكون كما أرادت أمنياتك، وكما أراد فؤادي المُعذب الذي احتجز العشق لكِ…

وكأن فؤادها سيفر من بين ضلوعها من فرط فرحه، تارة يتسبب في فرحة عارمة له، وتارة يحزنه وهدأ حين أحزنه وهي تقرأ بقية ما دونه: حتى ولو رحلنا، وفرقتنا الطرق، وعدت الغريب التائه بين طرقات المدينة، سأتذكر دائمًا أنه حين فقد يعقوب فلذة كبده يوسف، راح البصر حزنًا على الحبيب، وما أراني إلا فاقدًا لنفسي إن فقدتك.

هزت رأسها بنفي لا تريد الفقد، تريد السكن، النعيم بجواره وأكملت ما كتبه لعلها تجد النهاية التي أرادتها هنا بين الكلمات: فلو أُرْغِمنا على فعل ما لم نرد، فلتعلمي أن عيسى فقد عيسى الذي وجده فقط بجوارك، وكيف لا يفقده؟..
ربما يصف ببلاغة ما أردت التعبير عنه قول علي بن أبي طالب لروحه السلام: فقد الأحبة غربة.

هزت رأسها بتأكيد على ما تقرأ، فقده غربه وأي غربة، غربة تسلب الروح، وتضرب القلب في مقتل، وعبر آخر ما دون عن هذا حيث قال: إن كُتِب علينا مرها، وتغربنا، كلي أمل أننا سنعود يومًا ما، سيفارقنا الشقاء، ويصادقنا الفرح، أنا وأنتِ بعيدًا عن ضجيج الحياة، وغوغاء البشر التي لم تلق بكِ يومًا ما يا ملك.

وفي الأسفل امضاء باسمه، اتسعت ابتسامتها وهرولت نحو الخارج، تريد أن تحدثه الآن، أن يحتضنها طويلا، فتحت الباب ولكن توقفت على عتبته ولم تكمل نحو الخارج حيث رأت ما جمدها من الصدمة والانفعال والضيق، سيارة توقفت بعيدًا، ونزلت منها إحداهن، تعرفت عليها جيدا حين اقتربت، رأت قسمت، كانت هذه المرة غير، مبتهجة، سعيدة، نزلت من السيارة متجهة ناحية عيسى بكل حماس واحتضنته صارخة: وحشتني يا ندل.

ضحك وهو يرى حالتها هذه، ولكن سريعا ما وقعت عيناه على زوجته الواقفة في الخلف تضع يدها على خصرها وتراقب المشهد بنظرات متوعدة، وكيف لا تراقب مشهد هكذا، وكل شيء به مثير، قسمت التي اعتادت رؤيتها على مقعد متحرك، تراها الآن تسير على قدميها، حتى ولو كانت تستند على عكاز، وسيرها ليس الأفضل، ولكنها لم تعد قعيدة، ابتعدت قسمت عنه بعد أن لاحظت صمته، وأدركت السبب حين لمحت زوجته، فرسمت ابتسامة قائلة: ازيك يا ملك.

الحمد لله.
ردت ملك بجفاء فعلقت قسمت: مش هتدخلوني بيتكم ولا إيه ده أنا أول مرة أجيلكم كده.
ابتسمت ملك ابتسامة صفراء وهي تقول: لا ازاي طبعا، اتفضلي.
أشارت لها لتدخل، فسبقتها قسمت إلى الداخل وحين أتى عيسى يمر جوارها وهو يبرر: اسمعي بس
باغتته بضربة في ساقه بغل، وهي تكمل بنفس ابتسامتها الصفراء: اتفضل يا حبيبي أنت كمان اتفضل.

سبقته إلى الداخل كإعصار، يُنذر بأنها لن تأتي بخير أبدا، إن استمر هذا اللقاء دقيقة واحدة آخرى.

لم يعد محسن يأبى شيء، عرف عيسى مكانه وأتى إلى هنا برفقة صديقه، وطارداه حتى نالا منه، ما لم يفهمه حتى الآن ذلك الحوار الذي دار بين كوثر و عيسى والذي عطله عنه أيضًا، حاول أن يجعل كوثر تفصح عن أي شيء ولكن كانت تبريرات سخيفة لم تنطل عليه، كان الأهم عنده الآن أن ينفذ ما قرره، دون أن يثير أي شبهة، انتظر حتى سنحت له الفرصة وأتته على طبق من ذهب، والآن وبعد مرور وقت ليس بقليل حدث فيه الكثير، وجدت علا نفسها في إحدى المخازن القديمة، المكان مظلم، ورائحته لا تحتمل، كل شيء هنا يحث على الفزع، حتى الطريقة التي تم إحضارها بها إلى هنا، دقت على الباب المغلق بعنف تصيح: افتحوا الباب ده.

كانت ترتعد خوفا، انتظرت حتى وجدت أحدهم يدخل، كان محسن، طالعته بغير تصديق، وهي تراه يغلق الباب خلفه من جديد فهرعت إليه صارخة: افتح الباب ده أنا هوديك في ستين داهية.
دفعها بغلظة وهو يرد عليها بغضب: بس يا بت أنتِ، خليكي كويسة لمصلحتك.
دافعت باستماتة وهي تحقر منه ومن شقيقها: شاكر اللي قالك تجيبني هنا مش كده، لو حصلي أي حاجة هتلبسوها أنتوا الاتنين.

أخرج محسن ورقتين من جيبه قائلا بابتسامة صفراء أثارت الهلع في نفسها: اه قالي اجيبك هنا، وقالي لو ما مضيتيش على الورقتين دول أخلص عليكي.
لا يفعلها، كل شيء يحدثها بأنه كاذب، عقلها ينكر أن يطلب منه شاكر شيء هكذا وأخبرته أنها تشم رائحة كذبه بقولها: أنت كذاب، شاكر عارف إن مش من مصلحته في القضية إن يحصلي أي حاجة، شاكر مش غبي.

اقترب منها محسن يلوح بسلاح أبيض وهو يقول بتحدي: سواء كذاب أو صادق، اللي قولته هو اللي هيحصل
ثم ضرب بما في يده على وجنتها وهو يحذرها: ده لو عايزة تخرجي من هنا سليمة.
حاولت سلك طريق آخر وحدثته برجاء: ليه يا محسن كده، هو أنا عمري أذيتك، استهدى بالله وخرجني وأنا والله العظيم كإني ما شوفتكش.
ضحك باستهزاء، قبل أن يرد عليها: اشتريتك بالغالي، بس فراغة عينك هي اللي وصلتك لهنا.

دفعها مرة ثانية وهذه المرة سقطت على الأرضية وهو يسألها: يفرق عني إيه الواد اللي أنتِ ماشية معاه ده.
كانت تزحف ناحية الباب بذعر ولكنه نجح في إفساد محاولتها ومال ليجلس على الأرضية أمامها يحثها بمراوغة: انسي، علشان نجيب من الآخر، هتمضي هتروحي، مش هتمضي هتخرجي برضو بس على نقالة.
حسبي الله ونعم الوكيل فيك.

قالتها بقهر وهي تسحب الأوراق والقلم منه، لم يسمح لها حتى بأن تطالع أي شيء، فقط تضع توقيعها، وضعته ليكون سبيل تحريرها من هنا، وما إن وضعته حتى انتشل الورقتين منها وقال: شاطرة.
استقامت واقفة ليفتح لها الباب ولكنه اعترض طريقها سائلا بنبرة ملتوية: على فين؟
ذكرته بقوله وقلبها أوشك على التوقف: قولتلي امضي وهخرجك.
وهز رأسه موافقا وهو يخبرها: ما أنا هخرجك فعلا، بس مين قال إنه دلوقتي؟

عادت للوعيد من جديد أمام مماطلته هذه: خاف مني يا محسن.
رد عليها بشماتة: والله لو حد هيخاف من التاني دلوقتي، هو أنتِ.
أتاه اتصال جعله ينشغل عنها، وعلم أنه شقيقها حين رأى رقم غير مسجل، لم يهاتفه منذ اختفائه إلا مرة واحدة، سريعًا ما رد: ألو.
وأكمل يخبره وهو يطالعها بشماتة: أنا عندي ليك خبر بمليون جنيه، أنا جبت علا، معايا دلوقتي اهي، ودلوقتي تبقى في القسم لو عايز، شوف عايزها تقول إيه وأنا هتصرف.

وأمام أقواله صرخت علا: يا شاكر الحقني، ده خاطفني، ومضاني على ورق
أفزع صراخها شقيقها الذي عنف محدثه بغضب: أنت مالك ومال علا، أنا قولتلك تعمل حاجة؟
ما هو مش لازم تقولي، وأنا مش هسيبها دايرة على حل شعرها كده، لو مش عايز حاجة منها دلوقتي، يبقى خلص مشاغلك أنت ومتشغلش بالك واهي تبقى تحت طوعنا علشان وقت ما يجد في الأمور أمور نعرف نتصرف.

لم يطمئن لما يقول، وكان على يقين من الغدر لذلك ألقى على مسامعه: سيب علا تمشي يا محسن، وأنا مني ليها، اخرج منها دلوقتي.
فرد عليه محسن بتبجح: بقولك إيه أنا استحملتكوا كتير، وشيلت وسكتت، بس خلاص بقى نجيب نهايتها، أختك بتاعتي.

فانفعل شاكر وتملكه خوف شديد خاصة وهو يسمع استغاثتها ورد عليه باستنكار: إيه بتاعتك دي يلا، أنت اتجننت، فوق كده لروحك، أنا لو هجوزهالك يبقى بمزاجي، إنما تمس شعرة منها وتفتكر نفسك حاجة يبقى متلومش غير نفسك.
ثم حاول إغراءه بقوله: طلعها ومش هتخسر وأنت عارف إن كلمتي معاك واحدة حتى لو أنت متستاهلش.

فضحك محسن وعلق على حديثه متحديا كل الحواجز بحماقة: لا صدقني يا صاحبي هو أنا كده كده مش هخسر، أنت أصلك مش مركز الفترة دي فمش شايف المصلحة فين، وعموما أنا مش عايزك تجوزهالي خلاص، الصبح الحاجة كوثر هتجوزهالي لما تعرف باللي هيحصل علشان هتخاف من الفضيحة.
علا نحيبها وحاولت جذب الهاتف منه وهي تستغيث بشقيقها: يا شاكر قوله يفتح الباب ده بالله عليك.

هوى فؤاد شاكر أرضًا، اهتز كل إنش به لأجلها، حاول كسب أي وقت وهو يخرج ويهرع إلى سيارته طالبا: متقربلهاش يا محسن، أنا هجيلك، انا اتفقت مع المحامي هظهر وهروح الجلسة وهو هيطلعني، متخسرنيش وسيبها وأنا هجوزهالك، الصبح لو عايز.
سلام بقى دلوقتي يا شاكر علشان مش فاضيلك.

قال هذا محسن بسهولة وقد اتخذ قراره بتنفيذ ما نوى عليه، واستطاع بقوله ضرب شاكر في مقتل، شاكر الذي سبه الآن وقبل أن يكمل أغلق محسن الهاتف، حاول شاكر مسرعا الاتصال به من جديد وهو يقود سيارته مسرعًا، ولا يغادر أذنيه صوت صراخ شقيقته، لا يرى من الطريق أمامه شيء إلا صورة علا ودفعه هذا ليقول بإصرار وهو منفعل: لا مش هيعملها حاجة لا.

شريط طويل يُعرض أمامه الآن، امتزجت الأصوات في عقله بنبرتها وهي تخبره ذات مرة: يا شاكر أنت أخويا، أنا بحبك وخايفة عليك.

هو من يخشى عليها وبشدة الآن، لم يتصور هذا حتى في أسوء كوابيسه، لم يتوقع أنها ستفتك به هكذا حين تصرخ وتستغيث حتى بعد ما فعلته، سأل نفسه هل تدفع هي الآخرى ثمن خطأ له كما دفع والده مسبقا، ولم يقدر على الإجابة، لم يقدر إلا أن يحاول التفكير في أي طريقة لنجدتها، حتى مع شبه يقينه من أنها ستكون فاشلة، من أن محسن فاز هذه المرة والضحية هي شقيقته…

شقيقته التي لا يصفها الآن إلا قول: وكأن قلبي في الضلوع جنازةٌ
أمشي بها وحدي وكلي مأتمُ
أبكي فتبتسم الجراح من البكا
فكأنها في كل جارحةٍ فمُ
(الشاعر/ عبدالله البردوني).

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *