التخطي إلى المحتوى

الفتاة_التى_حلمت_ان_تكون_ذئبة

      ١٠

◇◇◇

نظر رعد إلى الذئب طويلًا، محاولًا تحليل نواياه. لم يكن يشبه أي ذئب قابله من قبل، لا في بنيته، ولا في صوته المحايد، ولا حتى في تلك العيون التي لا تحمل أي انفعال. كان أشبه بكائن خرج من صفحة منسية في التاريخ، كأنه نجا من زمن آخر وعاش هنا بلا هدف.

جود تحركت بحذر بجوار رعد، خفضت أذنيها قليلًا كأنها تشعر بشيء لا يراه هو.

“من أنت؟” سأل رعد أخيرًا.

الذئب لم يبدُ مستعجلًا في الرد، كأنه كان يقيس رعد بعينيه قبل أن يقرر إن كان يستحق الإجابة. ثم همس بصوت كأنه قادم من باطن الأرض:

“أنا… من بُتر عن القطيع، كما كل من هنا.”

لم تعجبه الإجابة، لكنها لم تكن مفاجئة. أرض المهجرين لم تكن مجرد منفى، بل كانت مقبرة للأحياء، مكانًا يُلقى فيه من لم يعد لهم مكان بين الذئاب.

“نبحث عن رجل.” قال رعد، متجاهلًا محاولة الذئب جعله يتوه في الألغاز. “أعرف أنه هنا.”

الذئب لم يغير تعبيره، لكنه حرك رأسه قليلًا وكأنه يقيّم صدقه.

“هناك كثير من الرجال هنا، بعضهم نسي أنه كان كذلك.”

“لكن هذا الرجل لا ينسى.” قال رعد بنبرة قاطعة. “اسمه ليس مهمًا لك، لكنني أريده، ولن أغادر حتى أجده.”

لأول مرة، ظهر شيء أشبه بابتسامة على وجه الذئب، لكنها لم تكن ابتسامة سعادة، بل نوع من السخرية الخفية.

“إذن ستبقى طويلًا، يا ألفا.”

ثم استدار، وبدأ يسير بين الأشجار.

“اتبعني… إن كنت تظن أنك مستعد لرؤية ما تخفيه هذه الأرض.”

لم ينتظر رعد طويلًا، تحرك خلفه، وجود بجانبه، وبينهما ظل الصمت… فقط خطواتهم تتردد على التراب الذي امتص آلاف الخطوات قبلهم، ودفن معها أسرارًا لم يُرِد أحد كشفها.

لكن رعد لم يكن مثل الآخرين.

لقد جاء ليكشف الحقيقة، مهما كانت سوداء.

◇◇◇

كانت أرض المهجّرين مختلفة عن أي مكان وطأته أقدام رعد من قبل. لا تشبه الغابات التي نشأ فيها، ولا الجبال التي عبرها، ولا حتى الكهوف التي أخفته عندما كان هاربًا من ماضيه.

هنا، الهواء لم يكن مجرد هواء، بل كان يحمل ثقل الأرواح التي لم تجد لها موطنًا. كانت التربة رمادية، وكأنها فقدت لونها مع الزمن، والأشجار نمت بشكل غير طبيعي، كأنها حاولت الهروب من الأرض لكنها لم تستطع.

لم يكن هناك ضوء حقيقي، فقط توهج خافت يأتي من مكان غير معروف، كأن السماء نفسها لا تريد إلقاء نورها على هذا المكان.

تحرك الذئب أمامهما، صامتًا، لا ينظر للخلف ليتأكد إن كانا يتبعانه، وكأنه يعرف أنهما لن يجدا طريقهما إن تركهما وحدهما.

“هذه الأرض…” همست جود، صوتها كان خفيفًا لكنه اخترق السكون كطعنة خنجر. “إنها ليست طبيعية.”

رعد لم يرد. كان يشعر بنفس الشيء، لكن الكلمات لم تكن كافية لوصف هذا الإحساس.

ثم، من العدم، ظهرت حركة بين الأشجار.

لم يكن صوتًا واضحًا، بل أشبه بتموج خفيف في الظلام. شيء ما كان يراقبهم.

توقّف الذئب، نظر إلى الجانب، ثم همس:

“ابقوا خلفي.”

لم يكن رعد معتادًا أن يؤمر، لكنه شعر أن الوقت ليس مناسبًا للعناد. شيء ما في نبرة الذئب جعله يدرك أنه لا يحاول فرض سيطرته، بل ينبههم لشيء أخطر بكثير.

خرج الكائن من بين الأشجار.

كان ذئبًا، أو ما تبقى من ذئب.

جسده كان هزيلًا، مغطى بفراء متسخ ومتساقط في أماكن كثيرة. عيناه كانتا ميتتين، لكنهما لا تزالان تلمعان بضوء غريب. كانت أنفاسه بطيئة، كأنها تأتي من أعماق جسد مكسور.

لكن الأهم… لم يكن يتحرك كذئب.

تحرك بطريقة غريبة، كأنه ليس سيد جسده، كأن شيئًا آخر يقوده.

جود شهقت، وتراجعت خطوة.

“ما هذا؟”

الذئب الذي يقودهم لم يرد، لكنه انخفض قليلًا، كأنه يستعد للهجوم.

رعد لم يتحرك، لكنه أدرك أن ما يراه ليس مجرد ذئب آخر منفي.

هذا… كان شيئًا آخر.

شيئًا… لم يكن يجب أن يكون على قيد الحياة.

◇◇◇

وقف رعد في مكانه، جسده متحفز، أنفاسه بطيئة، لكن عينيه لم تبتعدا عن الذئب الهزيل الذي يحدّق بهما كأنه يرى من خلالهما شيئًا لا يدركانه بعد.

تحرّك الذئب الغريب خطوة، لم يكن صوت قدميه طبيعيًا، بل كان كصوت العظام تحتك ببعضها، كأن الجسد نفسه يحتجّ على وجوده.

“ما هذا بحق القمر؟” همست جود، صوتها مرتعش رغم أنها حاولت أن تخفي توترها.

أجاب الذئب الذي يقودهما، صوته كان ثابتًا لكنه يحمل حذرًا شديدًا:

“هذا… من بقي هنا أكثر مما يجب.”

نظر رعد إليه، حاجبُه ينعقد: “ماذا تعني؟”

لم يجبه الذئب فورًا. لكن الذئب الهزيل تحرك مرة أخرى، وعندها، رأى رعد شيئًا جعله يتصلّب.

كانت هناك علامات على جسد الذئب الهزيل—ندوب، محفورة بطريقة غير طبيعية، وكأنها لم تكن بفعل معركة، بل بفعل شيء آخر. رموز… كأنها كُتبت على جلده عن قصد.

“إنه ليس ميتًا… لكنه ليس حيًا أيضًا.” قال الذئب المرافق لهم، وعيناه تراقبان الكائن بعناية.

رعد لم يجب، لكنه شعر بذلك. الذئب الهزيل لم يكن يلهث كذئب طبيعي، لم ترفّ أذناه حتى مع نسمات الهواء، وكأنه لا يشعر بما حوله.

ثم، فجأة…

ابتسم.

رعد لم يرَ ذئبًا يبتسم من قبل. ليس بهذه الطريقة.

كانت ابتسامة فارغة، بطيئة، شقّت شفتيه الجافتين لتكشف عن أنياب طويلة، أطول مما يجب.

ثم… تكلّم.

“أنت… أتيت أخيرًا.”

صوتُه كان مزيجًا بين الهمس والتنهيدة، كأنه صوت شخص نسي كيف يستخدم الكلمات لكنه يحاول تذكّرها.

جود تشبثت بذراع رعد دون أن تدرك، لكن رعد لم يبعد عينيه عن الذئب.

“من أنت؟” سأل، نبرته كانت ثقيلة.

الذئب لم يجب فورًا. لكنه أمال رأسه، ثم قال بصوت منخفض:

“لم يعد لذلك معنى بعد الآن.”

ثم، نظر إلى رعد مباشرة، وعيناه كانتا تشعّان الآن بشيء لم يكن هناك قبل لحظات.

“لكنني أعرف من أنت.”

رعد لم يتراجع. لكنه شعر أن الهواء من حوله تغيّر.

“ما الذي تريده؟”

الذئب الهزيل ابتسم مرة أخرى، لكن هذه المرة، كانت ابتسامته… حزينة.

ثم همس بشيء جعل الدم في عروق رعد يتجمّد.

“أريدك أن تتذكر.”

◇◇◇

لم يكن رعد بحاجة إلى أن يسأل “تذكر ماذا؟” لأن الكلمات التي همس بها الذئب الهزيل كانت كأنها مفتاح لقفل ظلّ مغلقًا في أعماقه.

شعر بنبضات قلبه تتباطأ، كأن الزمن حوله فقد إيقاعه الطبيعي، الهواء صار أثقل، رائحة أرض المهجرين—المزيج الغريب بين العفن والرماد البارد—تسللت إلى رئتيه ببطء، ولم يعد متأكدًا إن كان لا يزال واقفًا في هذا المكان… أم أنه انتقل إلى مكان آخر تمامًا.

رأى نفسه صغيرًا… أصغر مما يتذكر. طفلٌ في السادسة أو السابعة، يركض وسط غابة كثيفة، أنفاسه متقطعة، قدماه العاريتان تضربان الأرض الرطبة بسرعة، أغصان الأشجار تخدش ذراعيه، لكنه لا يتوقف.

“رعد!” صوت أنثوي يناديه من الخلف، لكنه لا يلتفت.

كان خائفًا… لكن ليس بسبب ما يطارده.

بل بسبب ما تركه وراءه.

كانت هناك نار. صرخات. أضواء تشتعل في السماء كما لو أن النجوم تسقط على الأرض لتحترق.

ثم…

شيء أمسك به. يد قوية سحبته من الخلف، رفعته عن الأرض كأنه لا يزن شيئًا. ركل، حاول الهرب، لكن اليد لم تتركه.

عندما نظر إلى الأعلى، رأى وجه رجل لم يره من قبل… أو ربما رآه، لكنه لم يتذكره إلا الآن.

عيناه كانتا ذهبيتين، مثل عيون الألفا، لكن فيهما شيء أكثر ظلمة… شيء يشبه الفراغ.

“هذا ليس مكانك، صغيري.” قال الرجل، صوته لم يكن غاضبًا، ولا حنونًا. كان مثل صوت شخص يتحدث عن شيء محتوم.

ثم، انفتح شيء خلف الرجل.

فراغ، ظل، باب إلى مكان لم يكن يجب أن يكون موجودًا.

ورعد… سقط فيه.

شهق، وعاد إلى الواقع.

كان جسده مغطى بالعرق، رغم أن الطقس هنا كان باردًا حدّ التجمد. جود كانت تمسك بكتفه، تهزّه بقلق.

“سيدي! ماذا حدث؟”

نظر إليها، لكن عينيه لم تركزا عليها بالكامل. استدار ببطء إلى الذئب الهزيل، الذي لم يتحرك من مكانه، لكن ابتسامته تلاشت.

“لقد رأيت…” همس رعد، ولم يستطع إكمال الجملة.

الذئب أومأ برأسه ببطء، ثم قال:

“أنت لا تزال في البداية، أيها الألفا.”

ثم، ولأول مرة منذ أن رآه، تحرّك الذئب إلى الأمام… واقترب حتى صار وجهه على بُعد أنفاس من وجه رعد.

“لكن إن كنت ترغب حقًا في معرفة الحقيقة…”

خفض رأسه، وفتح فمه.

ثم، عضّ رعد.

◇◇◇

◇◇◇

لم يكن الألم عاديًا. لم يكن مجرد أنياب تخترق الجلد، بل كان كأنه شيء آخر، شيء أعمق—كأن الذئب لم يعض جسده فقط، بل عض روحه.

شهق رعد، جسده تصلب للحظة، ثم انفتح أمامه عالم آخر.

كان يقف في وسط مدينة غارقة في الظلام.

ليست مدينة بالمعنى الحقيقي، بل مجموعة من المباني الحجرية المتراصة بإهمال، ملتوية كأن الزمن عبث بها. الشوارع ضيقة، متعرجة، كأنها مصممة لمنع أي شخص من الخروج بسهولة. الهواء هنا أثقل، مشبع برائحة الرماد والرطوبة، كأن المكان كله تحت لعنة قديمة.

كانت هناك أصوات… همسات بعيدة، لكنها ليست بشرية. أصوات تهمس بأشياء لم يستطع فهمها.

“هذه هي أرض المهجرين.”

استدار، فرأى الذئب الهزيل يقف بجانبه. لكنه لم يكن كما كان من قبل.

لقد تغيّر.

وقف الآن على قدميه مثل البشر، جسده لم يعد هزيلًا، بل ممتلئًا بالقوة، بشرته داكنة كأنها امتصت ظلام المكان، وعيناه—عيناه كانتا ذهبيتين، تمامًا مثل عيون رعد.

“ما هذا؟” سأل رعد، لكن صوته لم يكن مرتجفًا، بل ثابتًا. كأنه يعرف الإجابة بالفعل.

“هذا هو المكان الذي لم يكن يجب أن تزوره أبدًا.” قال الرجل، صوته الآن ليس هامسًا، بل واضحًا، ممتلئًا بالقوة. “هذا المكان الذي بدأ فيه كل شيء.”

رعد نظر حوله.

“أين هم؟” سأل.

“من؟”

“المهجرون.”

ضحك الرجل، ضحكة منخفضة لكنها حملت وزنًا ثقيلًا.

“هم هنا.” قال، مشيرًا إلى المدينة حولهم.

رعد حدّق في المباني، ثم… رأى الحقيقة.

المباني لم تكن مجرد حجارة.

كانت جلودًا.

عظامًا.

أنفاسًا محتجزة في الجدران، كأن كل حجر كان كائنًا حيًا، كأن المدينة نفسها كانت كائنًا ضخمًا، نائمًا… أو مستعدًا للاستيقاظ.

“لماذا أتيت بي إلى هنا؟” سأل رعد، إحساس غريب بدأ يتسلل إلى قلبه، مزيج من الخوف والفهم في آن واحد.

الرجل، الذي لم يكن ذئبًا ولا بشريًا، ابتسم، ثم قال:

“لأن الشخص الذي تبحث عنه… ليس مفقودًا.”

تراجع رعد خطوة.

“ماذا تقصد؟”

الرجل أشار إلى صدره.

“لأنك كنت تحمله بداخلك طوال هذا الوقت.”

◇◇◇

لم يصدق رعد الكلمات التي سمعها. لم يكن من النوع الذي يقبل الألغاز بسهولة، لكنه شعر بشيء ثقيل في قلبه، كأن الحقيقة التي يحاول تجنبها كانت تقترب أكثر فأكثر.

رمق الرجل الذي أمامه—ذلك الذي كان قبل لحظات مجرد ذئب هزيل، والآن يقف أمامه ككيان آخر تمامًا.

“أين هو؟” قال رعد، صوته منخفض لكنه محمل بالغضب.

الرجل لم يرد فورًا، بل أشار إلى المدينة. “هو هنا، لكن ليس كما تتخيل.”

رعد لم ينتظر تفسيرًا، بل بدأ يتحرك.

كانت الأزقة ضيقة، الجدران الحجرية تنبض بهدوء، وكأنها تتنفس. كلما تقدم، كان يشعر بشيء يراقبه. لكن لم يكن هناك أحد. لا ذئاب، لا بشر… فقط المدينة، وكأنها حية.

“كيف يمكن لشخص أن يختبئ في مكان كهذا؟” تمتم، وعيناه تمسحان الطريق أمامه.

وراءه، تبعته جود بصمت، خطواتها خفيفة لكنها متوترة.

“سيدي، هذا المكان… أشعر أنه يحاول إخفاء شيء عنا.”

رعد لم يرد. لقد شعر بنفس الشيء.

ثم، فجأة، انفتح الطريق أمامه على ساحة واسعة.

في منتصف الساحة، كان هناك بناء ضخم، أشبه بمعبد قديم، أبوابه نصف مفتوحة كأنها تدعوه للدخول.

توقف رعد عند العتبة، قلبه ينبض بقوة.

ثم نظر إلى جود.

“ابقي هنا.”

“لكن، سيدي—”

“هذا أمر.”

ترددت للحظة، ثم أومأت.

أخذ رعد نفسًا عميقًا، ثم دفع الباب بيده.

وانفتح العالم أمامه.

لم يكن داخل المعبد كما توقع. لم تكن هناك تماثيل ولا أعمدة حجرية، بل كان المكان… سماء سوداء. فضاء لا نهاية له.

وفي وسطه، كان هناك رجل يجلس على عرش من العظام.

كان ظهره منحنيًا قليلًا، عيناه مغمضتان، لكن رعد شعر أن الرجل كان واعيًا بوجوده.

اقترب، خطوته ثابتة، لكنه شعر بثقل غير مألوف كلما تحرك.

عندما صار قريبًا بما يكفي، همس:

“أنت من كنت أبحث عنه.”

فتح الرجل عينيه.

وكانت عيناه تشبهان عينَي رعد تمامًا.

ثم، بابتسامة غامضة، قال:

“لا، رعد… أنا من كان ينتظرك.”

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *