التخطي إلى المحتوى

الفتاة_التى_حلمت_ان_تكون_ذئبة

           12

لم تكن أرض المهجرين كأي أرض عرفها رعد من قبل، 

كانت قاحلة في بعض أجزائها، وغارقة في الضباب في أجزاء أخرى.

 لا شيء فيها بدا مستقرًا—حتى الهواء كان يحمل معه همسات غريبة، كأن المكان يتحدث بلغة لا يفهمها سوى من تخلوا عن ماضيهم هنا.

كل شيء هنا كان يعيش في الظل.

“ابقِ عينيك مفتوحتين،” قال رعد لجود، التي كانت تمشي خلفه بحذر، أنفها يلتقط الروائح المتداخلة في الأجواء.

“أنا أشمهم،” همست. “ليسوا وحدهم.”

رعد لم يكن بحاجة إلى تحذيرها ليعرف ذلك، كان قد شعر بهم منذ اللحظة التي عبر فيها الحدود غير المرئية إلى هذه الأرض.

كانوا يراقبونه.

عند منعطف ضيق بين الصخور، قطع عليهم الطريق ثلاثة ذئاب. لم يكونوا مجرد رحّالة أو صيادين، بل كانوا مقاتلين—أجسادهم تحمل ندوبًا تروي قصصًا عن معارك سابقة، وأعينهم لا تخفي عدوانيتهم.

“لا أرى أحدًا هنا مرحبًا به، قال أكبرهم، صوته أجش كحجر يُسحق تحت القدم.

رعد لم يتوقف “أنا لا أبحث عن الترحيب.”

ضحك الثاني، شاب أصغر لكن لا يقل خطورة. “إذاً ماذا تبحث عن؟”

“رجل.”

نظروا إلى بعضهم، كأنهم يتبادلون حديثًا غير مسموع، ثم قال الأكبر: “كل من يأتي إلى هنا يبحث عن شخص، لكن بعضهم لا يعود أبدًا.”

جود همست لرعد، “لا أعتقد أنهم سيتركوننا نمر بسلام.”

رعد لم يكن يخطط لذلك أيضًا.

في اللحظة التي تحرك فيها الذئب الثالث—الأصغر، والأسرع—كان رعد قد تحرك بالفعل.

انقضّ عليه، ضربه بقوة جعلته يطير إلى الخلف ويصطدم الصخور، لم ينتظر أن ينهض، بل استدار إلى الثاني الذي حاول مهاجمته من الجانب، فتصدى له بضربة خاطفة على ضلوعه، جعلته يتراجع وهو يلهث.

أما الأكبر، فقد كان الأذكى،لم يهاجم مباشرة، بل راقب رعد، منتظرًا لحظة ضعف لكن رعد لم يمنحه هذه الفرصة.

في خطوة سريعة، كان قد أمسك به من عنقه، ودفعه إلى الأرض بقوة تكفي لتحطيم عظامه—لكن رعد لم يقتله.

اقترب منه، صوته منخفض لكنه يحمل تهديدًا واضحًا:

“أنا لا أبحث عن معارك بلا معنى. أريد إجابة واحدة: أين الرجل الذي جاء إلى هنا قبل أشهر؟”

الرجل تأوه لكنه ضحك، بصوت مليء بالسخرية رغم الألم.

“أي رجل؟ هذه الأرض مليئة بالهاربين.”

رعد ضغط أكثر.

“الرجل الذي تبحث عنه ساحرة.”

توقفت ضحكته، وعيناه ضاقتا بشك.

“إذا كنت تقصد هو… فهو ليس شخصًا يمكنك العثور عليه بسهولة.”

رعد لم يتحرك. “لكن يمكنك إرشادي إلى المكان الذي بدأ منه، أليس كذلك؟”

تردد الرجل، ثم قال:

“اتجه غربًا، ستجد قرية مهجورة عند النهر الأسود، إن كان لا يزال هنا… فآثاره ستكون هناك.”

رعد لم ينتظر أكثر، أطلق سراح الرجل، واستدار إلى جود.

“هيا.”

كانت الرياح تحمل معها أصواتًا غريبة وهم يعبرون نحو النهر الأسود.

لكن رعد لم يكن يفكر في الأشباح أو الأسرار التي تخبئها هذه الأرض.

كان يفكر فقط فى وعده

وكان مستعد لتمزيق اى شيء يقف فى طريقه

النهر الأسود

لم يكن النهر مجرد مسطح مائى، كان أشبه بشق في الأرض، جرح قديم ينزف ظلامًا بدلًا من الماء. سطحه لم يكن ثابتًا، بل كان يتحرك ببطء، كأن شيئًا في داخله ينبض بالحياة، الماء لم يكن شفافًا، بل أسود كثيف، أقرب إلى الزيت المحترق منه إلى الماء، كل من اقترب منه شعر أن العتمة فيه ليست مجرد لون… بل كيان يحدّق إليه.

الهواء هنا أثقل، كأنه محمّل بأصداء صرخات قديمة. لم يكن هناك صوت واضح، فقط همسات بعيدة، كأن النهر يهمس بأسرار لا ينبغي لأحد سماعها. الضباب فوقه لم يكن طبيعيًا، بل كأنه يتنفس، يتحرك بأشكال غير منتظمة، ينسحب فجأة ثم يعود ليغطي السطح كما لو كان يحرس شيئًا في الأعماق.

وقف رعد على الضفة، يراقب بعيون ضيقة. “هذا ليس نهرًا عاديًا.”

جود هزّت رأسها، وقد بدا على ملامحها القلق. “لا أشم رائحة حياة فيه… فقط شيء آخر.”

“شيء مثل ماذا؟”

نظرت إليه، ثم همست، كأنها لا تريد أن يسمعها شيء في النهر. “مثل الموت، لكنه لم يكتمل.”

من وسط الضباب، خرج ظل يتحرك بسلاسة فوق الماء، طويل وهزيل. لم يكن له ملامح بشرية، لكنه لم يكن حيوانًا أيضًا،كان أشبه بظل رجل ممتد، جسده نحيل وكأنه يتكون من الضباب نفسه.

لكنه لم يكن وحده.

من الأعماق، بدأت رؤوس أخرى تظهر، عيون مضيئة بوهج شاحب، أجساد مغطاة بقشور سوداء كأنها انبثقت من قاع النهر نفسه،لم تكن هذه المخلوقات تسبح—بل تزحف تحت السطح، تتحرك بطريقة غير طبيعية، وكأن النهر لا يحكم قوانينها.

واحد منها اقترب أكثر، فخرجت يده من الماء—أو ما يشبه اليد—أصابع طويلة، كأنها مصنوعة من العظام المتآكلة.

جود تراجعت خطوة، أنيابها بادية. “إنها ليست كائنات حية كما نعرفها.”

رعد لم يتحرك. لم يكن خائفًا، لكنه كان يراقب. هذه المخلوقات لم تهاجم، لكنها لم تتراجع أيضًا.

وفجأة…

“لماذا جئتم إلى هنا؟”

الصوت لم يكن صادرًا من أي من المخلوقات.

بل جاء من النهر نفسه. كان عميقًا، متحشرجًا، كأنه يحمل أصداء أصوات كثيرة مجتمعة.

رعد لم يجب فورًا، لكنه لم ينظر بعيدًا. “أنا أبحث عن رجل عبر من هنا قبل أشهر.”

“الكثير يعبرون… القليل يعودون.”

السطح تحرك، وكأن شيئًا عملاقًا في الأعماق غيّر موقعه.

“لماذا تبحث عنه؟”

جود التفتت إلى رعد، لكنها لم تقل شيئًا.

رعد أبقى نظره على الظلال، ثم قال بوضوح: “لأنني وعدت.”

كان هناك صمت… ثم ضحكة، لكنها لم تكن ضحكه بشرية، بل كانت كالصدى يضرب الضفاف.

“الوعد… شيء ثمين هنا.”

ثم، شيء ما بدأ يتشكل في الضباب.

ظلال في الماء

رعد لم يكن بحاجة لمن يخبره أن هذه المخلوقات لم تكن مجرد حراس للنهر بل النهر نفسه 

عادت الحركة إلى الماء. هذه المرة، كانت أبطأ… وأكثر خبثًا.

ثم ظهر شيء جديد.

شيء خرج من أعماق النهر، ليس مخلوقًا كالأخرى، بل يد.

فجأة، تحرك الماء.

لم يكن مجرد اهتزاز على السطح، بل كان كأنه استيقظ بالكامل، وكأن شيئًا في أعماقه قرر أن الوقت قد حان.

رعد شعر بالضغط يتزايد حوله، وكأن الهواء نفسه أصبح أكثر كثافة. الأرض التي يقفان عليها لم تعد ثابتة، بل بدأت تنحني، تغوص ببطء في الطين الأسود.

ثم انفجر النهر.

لم يكن موجة، بل يد ضخمة من الماء المظلم، امتدت نحوهما بسرعة هائلة، وكأنها مخلوق بحد ذاته، لا مجرد ماء.

“رعد!” صرخت جود، لكن لم يكن هناك وقت للتحذير.

ابتلعتهما الظلمة.

لم يكن السقوط في الماء مجرد سقوط عادي. كان أشبه بالتمزق، وكأنهما لم يغرقا، بل تم سحبهما إلى بعد آخر.

لم يكن هناك إحساس بالحرارة أو البرودة، فقط فراغ.

لكن الفراغ لم يكن صامتًا.

كان هناك همسات.

أصوات بعيدة، بعضها كان يضحك، بعضها كان يبكي، وبعضها كان يهمس بأسماء لم يفهموها.

ثم… اصطدموا بشيء صلب.

لم يكن قاع النهر.

كان سجن النهر الأسود.

لم يكن ما سقط فيه رعد وجود مجرد نهر. كان عالماً مستقلاً، مختبئاً داخل الماء، لا يمكن لأحد الوصول إليه إلا إذا اختاره النهر بنفسه.

كان الظلام مطبقًا، لكنهما لم يموتا، لم يختنقا كما يفترض أن يحدث تحت الماء. بدلاً من ذلك، وجدا نفسيهما قادرين على التنفس، لكن الهواء كان مختلفًا—ثقيلًا، محملاً بطعم صدأ وكبريت، وكأنه لم يكن موجودًا منذ قرون.

أجسادهم لم تكن تطفو، ولم تكن تغرق، بل كأنهم سقطوا في بعد آخر داخل المياه نفسها.

كان النهر حيًا.

كل شيء فيه يتحرك، الجدران السائلة من حولهم كانت تلتف، تتغير، كأنها تحاول فهمهم أو التلاعب بهم. لم تكن المياه عادية، كانت كثيفة مثل الدخان، لكنها شفافة بما يكفي لرؤية الأهوال التي تحيط بهم.

لم يكن هناك قاع، بل كان هناك سجن.

قفص ضخم، مصنوع من أضلاع عملاقة متشابكة، كأنها بقايا كائن مات منذ العصور الأولى. لم تكن حديدًا، لم تكن عظمًا، بل شيئًا بينهما، ينبض وكأنه لا يزال حيًا.

أُلقي بهما داخله، بقوة جعلتهما يرتطمان بأرض القفص التي كانت مصنوعة من طين أسود متماسك، ينبعث منه ضوء خافت، كأنما يخفي تحته شيئًا أخطر.

كان المكان مزدحمًا.

مخلوقات… ليست بشرًا، وليست ذئابًا، لكن كلاهما في الوقت ذاته.

بعضهم كانوا ذئابًا مشوهة، أجسادهم نصف متحجرة، وأعينهم تحترق بضوء أزرق غريب، كأنهم فقدوا أنفسهم منذ وقت طويل.

البعض الآخر كانوا كائنات بلا ملامح، أشباح مائية، تتحرك ببطء، همساتها تملأ المكان، لكن لا يمكن فهم كلماتها.

ثم كان هناك الأقدم.

في زاوية القفص، كان هناك ذئب هائل، أكبر من أي ذئب رآه رعد في حياته.

لم يكن مجرد ذئب، بل كائن قديم، غارق في العصور.

عيناه كانتا فارغتين، لكنه كان يراقب.

كأنما كان ينتظرهم.

الصوت العميق

ثم جاء الصوت مرة أخرى.

“أنتم الآن جزء من النهر.”

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *