الفصل الخامس والثلاثون
“لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين “
سوف أحِبُّكِ.. عند دخول القرن الواحد والعشرينَ.. وعند دخول القرن الخامس والعشرينَ.. وعند دخول القرن التاسع والعشرينَ.. وسوفَ أحبُّكِ.. حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ.. وتحترقُ الغاباتْ.
. يا سيِّدتي: أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ.. ووردةُ كلِّ الحرياتْ. يكفي أن أتهجى اسمَكِ.. حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ.. وفرعون الكلماتْ.. يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ.. حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ.. وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..
يا سيِّدتي: لا تَضطربي مثلَ الطائرِ في زَمَن الأعيادْ. لَن يتغيّرَ شيءٌ منّي. لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريانْ. لن يتوقف نَبضُ القلبِ عن الخفقانْ. لن يتوقف حَجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ. حين يكون الحبُ كبيراً.. والمحبوبة قمراً.. لن يتحوّل هذا الحُبُّ لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيرانْ..
يا سيِّدتي: ليس هنالكَ شيءٌ يملأ عَيني لا الأضواءُ.. ولا الزيناتُ.. ولا أجراس العيد.. ولا شَجَرُ الميلادْ. لا يعني لي الشارعُ شيئاً. لا تعني لي الحانةُ شيئاً. لا يعنيني أي كلامٍ يكتبُ فوق بطاقاتِ الأعيادْ.
يا سيِّدتي: لا أتذكَّرُ إلا صوتُكِ حين تدقُّ نواقيس الآحادْ. لا أتذكرُ إلا عطرُكِ حين أنام على ورق الأعشابْ. لا أتذكر إلا وجهُكِ.. حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ.. وأسمعُ طَقْطَقَةَ الأحطابْ..
أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ. أنتِ امرأةٌ.. صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ.. ومن ذهب الأحلامْ.. أنتِ امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي قبل ملايين الأعوامْ..
يا سيِّدتي: يالمغزولة من قطنٍ وغمامْ. يا أمطاراً من ياقوتٍ.. يا أنهاراً من نهوندٍ.. يا غاباتِ رخام.. يا من تسبح كالأسماكِ بماءِ القلبِ.. وتسكنُ في العينينِ كسربِ حمامْ
يا سيِّدتي: كم أتمنى لو سافرنا نحو بلادٍ يحكمها الغيتارْ حيث الحبُّ بلا أسوارْ والكلمات بلا أسوارْ والأحلامُ بلا أسوارْ
يا سيِّدتي: يا سيِّدة الشِعْرِ الأُولى هاتي يَدَكِ اليُمْنَى كي أتخبَّأ فيها.. هاتي يَدَكِ اليُسْرَى.. كي أستوطنَ فيها.. قولي أيَّ عبارة حُبٍّ حتى تبتدئَ الأعيادْ.
نزار قباني
❈-❈-❈
بمنزل إلياس
هبطَ إلى الأسفل، قابلتهُ الخادمة:
-السحور جاهز ياباشا، هطلَّعه للمدام فوق ولَّا هتنزل؟..توقَّفَ يلتقطُ أنفاسه، وحاولَ أن يهدِّئَ من روعه، فكلَّما تذكَّرَ حالتها كاد الألمُ يحرقُ روحه..أشارَ إليها إلى الأعلى:
-طلَّعيه فوق، بس ياريت يكون سحور متوازن، أنا مطلبتش منِّك تاخدي بالك من أكلها؟..ليه المدام خسِّت بالطريقة دي؟..
-واللهِ ياباشا كنت بحاول معاها، بس هيَّ اللي كانت بترفض، وغير معظم وقتها نايمة، ممكن لمَّا الباشمهندس يزن يكون موجود بتاكل حاجة بسيطة، وكمان الستِّ غادة بتضغط عليها، أمَّا إحنا مبنقدرشِ عليها..أومأ لها وأشارَ إليها بالحركة.
-تمام، طلَّعي السحور وأنا هعمل تليفون..
أومأت بالطاعةِ وتحرَّكت سريعًا..أمَّا هو اتَّجهَ إلى غرفةِ مكتبه، وهوى بجسدهِ أخيرًا حتى استطاعَ التنفُّسَ بهدوء، جلسَ وحاوطَ رأسهِ وذهبَ بذاكرتهِ إلى زيارةِ طبيبها..
دلفَ إلى الداخلِ بعد اتِّفاقهِ مع طبيبها إلى الاستماعِ لإحدى جلساتها العلاجية، كانت تجلسُ أمامَ الطبيبِ وتقصُّ له دون خوف، أو التحكمَّ بمكنوناتها..
-سامعك ياميرال، نكمِّل كلامنا، المرَّة اللي فاتت قولتي إنِّك فقدتي الثقة في كلِّ اللي حواليكي حتى مدام فريدة، إيه اللي وصَّلك لكدا؟..
تطَّلعت إلى الطبيبِ بتيه تخبره:
-أنا مفقدتش الثقة في ماما فريدة أبدًا، بالعكس، دي الوحيدة اللي بلاقي ميرال عندها، منكرشِ إنِّي زعلت منها في الأوَّل، بس بعدها عرفت إنِّ ربنا بيحبِّني، أنا مقهورة علشان مطلعتشِ أمِّي الحقيقة، عمرها ماحسِّستني إنِّي بنتِ عدوِّتها..
-طيب ليه وصلتي إنِّك تفقدي الثقة في كلِّ اللي حواليكي؟..
رمشت عدَّةَ مرَّاتِ تنظرُ إلى الطبيب، تهمسُ بخفوت:
-أنا فقدت الثقة في نفسي يادكتور، بقيت أخاف من أيِّ حد بيقرَّب منِّي، لأنِّي مش ضامنة نفسي، عندي يأس من بكرة، نفسي أفقد الذاكرة وأخرج من جلباب الشخصية دي، عمري ماكنت كدا..
طيب وإلياس، مش قولتي بتقوي بيه؟..
انبثقت دموعها تزيلها متمتمة:
– كنت بقوى بيه، بس دلوقتي بيضعفني..
-ليه..؟!
أطبقت على جفنيها وأجابتهُ بخفوت:
-خايفة عليه، خايفة يحرموني منُّه، معنديش غيره، أه ليَّا أخوات بس هوَّ عندي غير أيِّ حد.
-زعلانة منُّه؟…هزَّت رأسها:
-جدًا، زعلانة ومقهورة لأنِّي بقيت مهمَّشة عنده..
-مش يمكن مشغول..
-مش إلياس اللي ينشغل عن ميرال يادكتور، لا..هوَّ بيعاقبني، علشان اللي عملته..
-طيب ليه عملتي كدا؟..وإنتي عارفة أنُّه هياخد موقف.
-وكان مطلوب منِّي إيه، وأنا بتهدِّد بكلِّ حاجة..عمرك سمعت عن أب بيهدِّد بنته بأمَّها وجوزها؟..بعتلي فيديو للستِّ اللي ولدتني، صمتت وشهقةٌ أخرجتها بدموعٍ تنسابُ بكثرة واستطردت:
فيديو قذر فيه كلِّ ما يحمل قذارة لستِّ خاينة، وقالي هفضحك قدَّام الكل، الستِّ الصحفية المشهورة مرات الظابط اللي الكلِّ بيفتخر بيه، ابنِ سيادةِ اللوا اللي اسمه بيوقفله الناس يعظَّموا بسيرته، شوفتي هدمَّر كام واحد..
-ليه صدَّقتيه؟..مش يمكن بيضحك عليكي؟..
-وليه مصدَّقشِ واحد اتجوِّز مرات أخوه غصب عنها، واغتصبها وحاول يقتل بنته وابنِ أخوه..
-علشان كدا فضحتي جوزك؟..
-علشان كدا حميت اسمِ جوزي، عارفة هيزعل ويبعد، بس أهون من سيرته تكون بين زمايله، مستعدَّة أتحمِّل أيِّ حاجة ولا إنِّ حدِّ يبص له بشفقة،
-ماهو وكيل النيابة بص عليه بكدا..
-أبدًا، هوَّ حطّ نفسه مكانه، وحتى لو صعب عليه واحد ولَّا عشرة..دوَّرت على أقلِّ الخسائر..
-من شخصيته كان ممكن يطلَّقك..
-مش مهم، بس الأهم إنِّي مشفوش مكسور، حتى لو كسرني أنا بس مشفشِ في عيونه نظرة ندم..
-طيب ليه تعبانة دلوقتي؟..
-أنا مش تعبانة أنا عايزة أرجع ميرال، نفسي أرجع أقف وأقول لا، أنا خايفة من الناس، بقيت أمشي بين زمايلي وحاسة أنُّهم بيشاورا عليَّا ويقولوا بنتِ المجرم أهي، دموعًا كشلالٍ حتى اختفى وجهها خلفها..
-أنا مش بنته ومش عايزة أكون بنتِ حد، حاسة لو فضلت بنته هموِّت نفسي، مستحيل أكون بنتِ الراجل والستِّ دي..ارتفعت شهقاتها، وازدادت سرعة أنفاسها وشعرت بالاختناق، لتنهضَ من مكانها:
-أنا مستحيل أكون بنتِ الراجل دا، أموِّته وأموِّت نفسي، وتهديده مش خايفة منُّه، خلِّيه يقرَّب من ابني وجوزي والله مستعدة أموِّته وأريَّح الناس منُّه، الراجل دا مستحيل يعيش، طول ماهو بيتنفس أنا بتخنق، طول مااسمه موجود في الدنيا بيقتل كلِّ حاجة فيَّا..
-مدام ميرال ممكن تهدي، التفتت إلى الطبيب بعيونٍ باردة:
-أنا هادية، حضرتك شايفني مجنونة، أنا فعلًا هتجنِّن لو الراجل دا فضل موجود، أو أموِّت نفسي وأريَّح الكل ، أنا بقيت عالة عليهم جميعًا، ليه يتحمِّلوا بنتِ راجل مجرم زيي، ذنبه إيه يربط نفسه ببنتِ مجرم، لا لا..مستحيل، قالتها وحملت حقيبتها وخرجت سريعًا وهي تردِّد:
-مستحيل أكون بنتِ الراجل دا..
خرجَ من شرودهِ على طرقاتِ الخادمة:
-طلَّعت الأكل بس المدام كانت في الحمَّام..أومأ لها ثمَّ نهضَ متحرِّكًا، صعدَ إلى الأعلى، طاف بنظراتهِ بالغرفةِ ثمَّ اتَّجهَ إلى الحمَّامِ سريعًا حينما لم يجدها، دفعَ الباب ودلفَ بأنفاسٍ متقطِّعةٍ خوفًا أن تؤذي نفسها، لم يجدها، استدارَ إلى الغرفةِ الداخلية، وقعت عيناهُ عليها وهي جالسةً بحوضِ الجاكوزي مغلقةَ العينين، خطا إليها بهدوءٍ حتى لا يُفزعها، ظلَّ يراقبها بعينينِ غارقةٍ بالعشق، ابتسمَ على طفولتها وهي تتشاجرُ مع خصلاتها التي تسقطُ فوق جبهتها، وصلَ إليها ثمَّ انحنى بجسدهِ يهمسُ بصوتٍ خافت:
-طيب دا كلام يتعمل في رمضان، والله قلبك قاسي عليَّا أوي..
فتحت عيناها وارتفعت أنفاسها مع هبوطِ وصعودِ صدرها، حتى عجزت عن النُطق، أغمضت عينيها مرَّةً أخرى بعدما وجدت نظراتهِ التي تخترقُ جسدها لتهمسَ بتخبُّط:
-إلياس اطلع برَّة شوية وجاية، أنا بس كنت عايزة..بترَ حديثها الذي اعتبرهُ ثرثرةً ليست بمحلَّها وهو يسحبُ كفَّيها إلى أن توقَّفت بساقينِ مرتعشتين، بسطَ كفَّيهِ وجذب روبها يساعدها على ارتدائهِ بحالةٍ من الصمت، ورغم صمتهِ إلَّا أنَّ نظراتهِ تحكي لها معاناةَ عشقهِ المتألِّم..وضعت رأسها على صدرهِ وحاوطت خصره:
-متزعلش منِّي، أنا عارفة بخبَّط معاك كتير، مش عارفة ليه، بس عايزاك تتأكِّد من حاجة واحدة وبس أموت من غيرك، أنانية عارفة وفكَّرت في نفسي، بس واللهِ حاولت أعيش من غيرك مقدرتش، سامحني، ولو عايز تتجوِّز واحدة قدَّام المجتمع تليق بيك أنا موافقة، بس متبعدنيش عنَّك..
تجمَّدَ في مكانه، يشعر بصاعقةً ضربت روحهِ قبل جسده، لم يعد يشعرُ بقدميه، وكأنَّ الأرضَ سُحبت من تحته، والهواءَ صار خانقًا، ثقيلًا كجدارٍ يسحقُ صدره.. نظرَ إليها بذهولٍ، واتَّسعت عيناهُ بانكسارٍ لم يشعر به من قبل، كلَّ خليةٍ في جسدهِ كانت تصرخ، لكنَّهُ ظلَّ صامتًا، فقط يحدِّقُ فيها…
-هتبعد وتسبني في يوم من الأيام أنا عارفة…قالتها وهي تسحب نفسها من أحضانه
امتقعَ وجههِ حتى أصبح شاحبًا كالموتى، وكأنَّ الحياةَ فرَّت منهُ في لحظة، كلماتها لم تكن مجرَّد جُملًا عابرة، بل كانت سهامًا مشتعلةً انغرست في صدره، فتِّت ضلوعه، وأشعلت داخلهِ نيرانًا لم يكن لها مفر..كيف لها أن تقولَ هذا؟ كيف لها أن تقتلهُ بهذهِ السهولة؟
جفَّ حلقه، حاول أن يتحدَّثَ لكن صوتهِ خانه، حتى احس بأنَّهُ طفلٌ تائهٌ لا يعرفُ كيف ينطق، شعرَ بأنَّهُ رجلٌ غارقٌ في العتمة، يبحثُ عن طوقِ نجاة، رفعَ يديهِ المرتجفتينِ ليحيطَ وجهها، ويتأكَّدَ أنَّها أمامه، وليس كابوسا..نظرَ لعينيها وجدها باردة، بعيدة، وكأنَّها لم تعد تلك التي يعرفها، تلك التي أحبَّها حتى الجنون.
انحنى نحوها، يبحثُ عن روحهِ في عينيها، لكنَّهُ لم يجد سوى ظلامٍ دامس، شعر پانها صارت روحًا فارغة، مجرَّد جسدًا بلا حياة…لم تكن “ميرال” التي يعرفها، بل بقايا لامرأةٍ قتلها الحزن.
مرَّر لسانهِ على شفتيهِ الجافتين، يريدُ أن ينطق، يريدُ أن يصرخَ بها، أن يهزَّها بعنف، أن يجعلها تدركُ بشاعة ما تقوله، لكنَّهُ لم يجد سوى همساتٍ خرجت متقطِّعة، مذبوحةً من حلقهِ الجاف:
– أ ي ه…؟
رفعت كفَّها المرتعشة، ولمست وجنتهِ بحنانٍ موجوع، وكأنَّها تودِّعُ لمسةَ حبيبها للمرَّةِ الأخيرة، ثمَّ اقتربت، ولثمت وجنته، وبصوتٍ بالكاد سُمع، همست:
– عايزاك تتجوِّز واحدة تليق بإلياس السيوفي…مش عايزة أكون عقبة في حياتك…هموت ياإلياس لو حصلك حاجة بسببي.
شهقَ كمن تلقَّى طعنة، وتأرجحَ عقلهِ بين تصديقِ كلماتها وإنكارها، هل فقدت عقلها؟ هل تظنُّ أنَّ بإمكانها قولَ هذا ؟ هزَّ رأسهِ بعنف، يحاولُ طردَ تلك الفكرةِ القاتلةِ من ذهنه.
تحرَّك فجأةً..وحاصرَ جسدها بذراعيه، التصقَ بها حتى كاد يُذيبها داخله، يريدُ أن يسحبها إلى روحه، أن يخبِّئها في قلبه، أن يمنعها من الاختفاء..لكنَّه لم يكن يضمُّ سوى جسدٍ منهك، روحٍ مستنزفة، امرأةٍ لم تعد تقوى حتى على التمسُّكِ به.
أوقفها أمام المرآة، نظرَ إليها مطوَّلًا، انعكاسهما كان موجعًا، صورتها بجوارهِ كانت كالصورةِ الأخيرة قبل النهاية، وكأنهما يقفانِ على أعتابِ الفراقِ الأبدي..أشارَ بيدهِ إلى غرفةِ الملابس، صوتهِ خرجَ مبحوحًا، خاليًا من الحياة:
– هجبلك لبس.
لكنَّها أمسكت بذراعه، نظرت إليه برجاءٍ وهمست بصوتٍ بالكاد خرجَ من بين شفتيها المرتجفتين:
-اقعد اتسحر..أنا هدخل ألبس..ماليش نفس..أو شبعانة.
تحرَّك دون أن يهتم، وكأنَّها لم تتحدَّث، بعد لحظاتٍ توقَّف خلفها، رفعَ يدهِ ببطء، نزعَ روبها، لكنَّها..وكردِّ فعلٍ لا إرادي، اختبأت في أحضانه..ارتجفت بين ذراعيه، حينما وجدت في صدرهِ ملاذًا، ملجأها الأخير..
ابتسمَ بسخريةٍ مؤلمة، لكنَّه كان يبتلعُ مرارةً لا تُحتمل، وهمس:
– بتخبِّي نفسك منِّي في حُضني؟ طيب حلو برضو..بكرة غيرك يعمل زيك، بس يا ترى العروسة الجديدة هتختاريها زي الأفلام، ولَّا أنا اللي هدوَّر عليها، وفي الآخر تعملي الستِّ الشريرة وتنكِّدي عليَّا؟
رفعت عينيها إليهِ ببطء، ودموعها تجمَّعت في مقلتيها، تحاولُ جاهدةً ألَّا تسقط، لكنَّها لم تستطع..ظلَّت تحدِّقُ به، حتى تجمَّدَ الزمنُ بينهما، وصار الصمتُ أكثرَ وجعًا من الكلمات..
أغلقت عينيها للحظة، ثمَّ همست بصوتٍ يشبهُ شهقةُ روحٍ تحترق:
– سعادتك عندي أهمّ من أيِّ حاجة… شوف اللي يريَّحك واعمله..المهمِّ تكون سعيد..
نظرَ إليها، رأى في عينيها استسلامًا مُوجعًا، اقتربَ أكثر، ومرَّر أصابعهِ في خصلاتها المبعثرة، ثمَّ همسَ بصوتٍ أجشّ:
– سعيد؟..اممم…
أغلقَ لها منامتها الحريرية، قبلَ أن يسحبها نحو طاولةِ الطعام، أجلسها فوق ساقيهِ رغم اعتراضها، بدأ يُطعمها رغمًا عنها، يصرُّ على أن تتناولَ الطعام، وكأنَّهُ بذلك يعيدُ إليها جزءًا من الحياةِ التي كادت تفقدها.
استندت برأسها على كتفه، وهمست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
-أوَّل مرَّة نتسحَّر مع بعض..تخيَّل.. شفت حياتنا بقت إزاي؟
وضعَ الطعامَ في فمها، دون أن ينظرَ إليها، ثمَّ همس:
-أنا شايف حياتنا حلوة، آه تعبنا مع بعض شوية، بس الحبّ موجود يامدام ميرال..
ارتجفت شفتاها، وخرجت منها شهقةً مخنوقة، ثمَّ همست بصوتٍ واهن:
– الحبّ مش كلِّ حاجة…ساعات بتضطر تتخلى عنُّه علشان حياتك تكمل.
رفعَ رأسهِ إليها، واقترب حتى أصبحت أنفاسهِ تلامسُ أنفاسها، وهمسَ بصوتٍ قاتل:
– دا زمان..قبل ما نار حبِّك تحرقني يا ميرا..دلوقتي مفيش قوانين غير قانون عشق إلياس، افتكري لمَّا قلت لك زمان: “حبُّي نار هتحرقك”، دلوقتي بقولك إحنا عدِّينا مرحلة الحب…لا إنتي مسموح لك تتنازلي عنِّي، ولا أنا مسموح لي أبعد عن حضنك..بعدنا شهرين وشوفنا النتيجة..
– إلياس، لو سمحت…
-اخرسي يا ميرال، علشان مقلبشِ إلياس بجد..لو سمعت هلوسة شيطانك دي تاني، هتتعبي أوي، أوي فوق ما عقلك يتخيِّل.
أمسكَ كفَّها، وضعهُ على صدره، ثمَّ همس:
-احرقي دا…علشان بيحبِّ واحدة غبية وضعيفة زيك..فيه واحدة عاقلة تقول اللي إنتي قولتيه؟ عايزة أتجوِّز غيرك؟!
اقترب، وضعَ جبينهِ فوق جبينها، وعيناهُ تسكنانِ عينيها، ثمَّ همس:
-هتقدري تتحمِّلي تشوفيني بحضنِ واحدة تانية؟
شهقت، تغمض عينيها، وهزَّت رأسها بقوَّة، وكأنها تتوسلُ للقدرِ ألَّا يكتبَ لها هذا العذاب.
احتضنها بقوَّة، عندما شعر بأنها الشيء الوحيد الذي يُبقيهِ على قيدِ الحياة، ثمَّ همسَ بتوسُّل:
– ميرال، مستعدِّ أتنازل عن كلِّ ماأملك… بس عايزك ترجعي لحضني…حالتك دي كاسرة قلبي.
شهقت، وحاوطت عنقه، ثمَّ همست بتقطُّع:
– بعد الشرِّ عليك..يا حبيب ميرال…من كسرة القلب.
-حبيب ميرال موجوع أوي منها، ينفع كدا؟..هزَّت رأسها بضعفٍ ونطقت بحروفٍ متقطِّعة:
-هخسَّرك ياإلياس..
-عايز أخسر ياستِّي إنتي مالك، أنا راضي أخسر كلِّ حاجة بس أكسب حبِّي، حبّ أكتر من عشر سنين تفتكري سهل أتنازل عنُّه؟..
دفنت رأسها بعنقهِ وبكت بصوتٍ مرتفعٍ متمتمة:
-هموت ياإلياس لو حاولوا يضعَّفوك بيا، مش هتحمِّل إنَّك تخسر بسببي وينادوا عليك ويقولوا جوز بنتِ المجرم..
-اشش ياغبية، أومال أنا دخَّلته السجن ليه، ميقدرشِ يعمل ولا يثبت حاجة، عندي أوراق بخطِّ إيده إنِّك ماتقربيش له ولا يعرفك، واتنازل عنِّك وإنتي شهور لماما فريدة في سبيل يبعد عنها..رتِّبت كلِّ حاجة علشان ميجيش في وقت يضعَّفك، عملت حساب لكلِّ خطوة، واخد منه اعترافات وتسجيلات، وبلاوي مايقدرشِ يفتح بوقه ويقول إنِّك بنته، لأنه اتنازل عنِّك..وكمان نسبك لجمال الدين كان بتصريح منُّه، أومال هوَّ بعد عنِّك الشهور دي كلَّها ليه؟..أنا كنت بعمل كدا علشان عارف أنُّه شيطان وقادر يقلب الترابيزة على أمي..
-يعني مش هيعمل تحليل زي مابيقول ويفضحني؟..
طبعَ قبلةً على شفتيها وابتسم:
-خلِّيه يعمل تحليل وايه يعني، عندي مايثبت أنُّه مالوش حق فيكي، وأنُّه مجرَّد وسيلة إنِّك تيجي على الدنيا وبس، حبيبتي إنتي مع ماما فريدة وكان عندك أربع شهور، وهوَّ عمل شهادة وفاة بدا، بس أنا مش ضامنه، حبِّيت أضمن لك مستقبل، علشان لو حبِّ يتلاعب يبقى إنتَ اللي بعتها، ماهو أنا خلِّيت المحامي يعملُّه ورق يودِّيه في داهية لو حاول بس يقرَّب ويقول بنتي، بند أنُّه باعك وقبض التمن واتنازل عن كلِّ حاجة تخصِّك ومالوش حتى يسأل عنِّك..عارف هتزعلي من حتة بيعك دي، بس اللي زي راجح دا لازم أخنقه..
مسحت دموعها وابتسمت قائلة:
-يعني تهديده دا خوف مش أكتر؟..يعني مش هيعمل حاجة؟..
مطَّ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ بابتسامةٍ وتمتم:
-مش بقول شايفة جوزك ضعيف علشان كدا زعلت منِّك..
حضنتهُ وأفلتت ضحكةً..ورغم أنَّها ضحكة إلَّا أنَّها ممزوجةٌ بالوجع..
-جوزي أحسن راجل في الدنيا، مكنتش بقلِّل منَّك والله، بس كنت خايفة عليك أوي، وعلى يوسف وماما فريدة، أصلك مشفتوش ياإلياس..دا أمرهم بفتحِ بطني وقتلِ ابني، يعني منزوع الرحمة..
رجعَ بجسدهِ يسحبها بقوَّةٍ لأحضانه، وحاولَ إخراجها من حالتها:
-لا عارف، بس أنا زعلان علشان فكَّرتيه أقوى منِّي..انحنت تقبِّلهُ ثمَّ مرَّرت أناملها على وجنتيهِ تسبحُ بعينيه:
-لسة زعلان؟..هزَّ رأسهِ وأغمضَ عينًا واحدةً قائلًا:
-أه..وأوي كمان..كرَّرت فعلتها بقبلةٍ أقوى وهي تتعلَّقُ بعنقهِ؛ إلى أن تولَّى قبلتها للحظاتٍ ثمَّ ابتعدَ يمسِّدُ على خصلاتها بحنان:
-عايز ميرال بتاعة زمان، ميرال اللي كانت قرفاني في عيشتي، ترجع تتنطَّط عليَّا تاني..
تلاعبت بياقةِ ثيابه:
-امم وترجع تقولِّي غبية.. ومتخلِّفة..صح؟..أفلتَ ضحكةً يقرصُ وجنتيها:
-أحلى غبية ومتخلِّفة، بس عادي هشوف واحدة هادية وذكية..التنوُّع حلو برضو، وإنتي اللي طلبتي، مش قولتي أتجوِّز..
لكزتهُ بقوَّةٍ ثمَّ دفعتهُ ونهضت من فوق ساقيه:
-طيب يبقى اعملها، وشوف هعمل فيك إيه، إنتَ ماصدَّقت، أنا كنت عارفة الرجالة كلَّها واطية، وقال مالوش في شغلِ الستَّات..
قهقهَ عليها يسحبها بقوَّةٍ لأحضانه، حتى وقعت فوقهِ تلكمهُ وهي تسبُّه..
حاوطَ جسدها وصمتَ ينظرُ إلى وجهها الذي بدأت الدموية تعودُ إليه مع لمعةِ عينيها..توقَّفت عن الحديثِ مثله، وتعلَّقت الأعينُ ببعضها، قرَّبَ رأسها لتختلطَ أنفاسهما ثمَّ همسَ ببحَّتهِ الرجولية:
-بحبِّك أوي ومستعدِّ أحرق اللي يقرَّب منِّك ويحاول يئذيكي، عايزك تثقي فيَّا..
تعمَّقت بمقلتيهِ قائلة:
-مهما كان حبَّك ليا مش قدِّ حبِّي ياإلياس، فتَّحت عيوني عليك، وكبرت وحبَّك بيكبر جوَّايا، رغم كنت بنكر دا..بس كنت بدعي بقلبي إنَّك تحبِّني وتكون نصيبي من الدنيا، ومستعدَّة أتنازل عن حياتي كلَّها..المهم تكون سعيد..
رفعَ خصلاتها بعيدًا عن عينيها، وجذبها لتضعَ رأسها فوق صدره وحضنها تحت حنانِ ذراعيه:
-ربنا مايحرمني منِّك، منكرشِ عمري ما فكَّرت في جوازنا، بس عمري ماتخيَّلت إنِّك تبعدي عنِّي، عارف كنت بعاملك بقسوة، بس واللهِ دا مش كُره فيكي، دا محاربة لقلبي اللي كان بيتجنِّن لو حدِّ قرَّب منَّك..
أغمضت عينيها تتمتم:
-لو مُتّ دلوقتي هكون مرتاحة وسعيدة، على رغمِ الوجع طول اليوم بس النهاردة أحسن يوم في حياتي كلَّها، حتى أحسن من يوم فرحنا..
أعدلَ رأسها ثمَّ رفعَ ذقنها وأردفَ معترضًا:
-لا طبعًا، يوم فرحنا دا يُعتبر أوَّل يوم بحياتنا كلَّها، من يومها وحسِّيت إنِّي عايش، أوعي اليوم دا تساويه بأيِّ يوم مهما كانت فرحتك فيه، كفاية إنِّي أوَّل مرَّة أخدك في حضني وأنام مرتاح..
ابتسامة عاشقة لتقول:
-طيب ماإنتَ رومانسي وبتعرف تتكلِّم أهو، أومال ليه بقالك سنتين عامل زي الأرضِ البور..
-أرض بور!!..، دفعها بقوة حتى سقت بجواره وهتف
-قوم يابتِّ من فوقي، واللهِ إنتي ماينفع معاكي غير الأرضِ البور فعلًا..قهقت معتدلة، ثمَّ سحبت كفَّيهِ لتعدله..أشارَ على الطعام:
-الفجر هيدَّن ونسيتي إنِّ فيه واحد هيصوم بكرة..
جذبت كوبَ الزبادي ومازالت ضحكاتها تملأُ الغرفة، وهو يتطلَّعُ عليها بعيونهِ العاشقةِ لكلِّ حركة، ثمَّ خلَّلَ أناملهِ بخصلاتها، اتَّجهت إليه تبسطُ كفَّها بالزبادي:
-اللي يسمعك وإنتَ بتتكلِّم عن الأكل يقول هتاكل خروف..نهضَ من مكانهِ بعدما جذبَ كوبَ الزبادي وأردف:
-مش مهم..المهمِّ نحسّ إنِّنا بنتسحَّر، حتى لو مش هناكل زي ماالرسول أوصانا..نظرَ إلى كوبها قائلًا:
-اشربي العصير حبيبي وكُلي الزبادي، الفجر باقي عليه ربع ساعة.
توقَّفت بجوارهِ وهو ينظرُ من الشرفة وأشارت إلى كوبه:
-لا، عايزة آكل معاك في دا..هزَّ رأسهِ وهو يضحك:
-مش هاكل ياميرال ريَّحي نفسك، كفاية الزبادي..
-علشان خاطري، حاجة بسيطة، دي جبنة يعني..وضعَ إبهامهِ على شفتيها ينظرُ لعينيها:
-أهمِّ حاجة شوفت ضحكتك، أنا كدا شبعت، مش عايز أقولِّك كنت حاسس بإيه وأنا شايفك كدا، حبيبتي أنا مش جعان، وبدل إنتي أكلتي اعتبري أنا أكلت، هتسبيني آكل الزبادي ولَّا تاخديه وأنزل للصلاة؟..
رفعت ملعقتها تشيرُ برأسها أن يفتحَ فمه، ابتسمَ على طفولتها وتقبَّلَ محاولتها إلى أن أكل ماتُطعمه، ثمَّ أشارت إلى كوبه
-ياله خلَّص علشان فيه حاجة مهمة عايزة أقولك عليها، قالتها وهي ترتشفُ عصيرها، بعد لحظاتٍ اقتربَ متسائلًا:
-عايزة تقولي إيه؟..
دنت وحاوطت عنقهِ ثمَّ طبعت قبلةً مطوَّلةً على وجنتيه:
-ربنا يخلِّيك ليَّا يامسكَّر..هشوف يوسف…قالتها وتحرَّكت للخارج ،بينما هو جلسَ يسحبُ أنفاسهِ بهدوءٍ بعدما شعرَ بتوقُّفِ نبضهِ لفترة، وضعَ الكوبُ ثمَّ توجَّهَ إلى الحمَّام..
ظهر اليوم التالي
بفيلا المالكي:
وصلَ يزن بدراجتهِ البخارية، ثمَّ دلفَ للداخلِ متسائلًا وهو يصعدُ للأعلى:
-المدام فوق؟..
-لا يابشمهندس، الهانم خرجت من الصبح..تسمَّرَ بوقوفهِ واستدارَ يتطلَّعُ إليها بعيونٍ متسائلة:
-خرجت فين وإمتى؟..وإزاي؟!!طافَ ببصرهِ على المكان وتساءل:
-مدام زهرة فين ؟!
-مدام زهرة راحت لزين باشا، هتقضَّي باقي رمضان هناك
تراجعَ وعيناهُ تنبثقُ بالعديدِ من الأسئلة.. ولكنَّهُ خرجَ سريعًا إلى الرجلِ الذي وضعهُ على بابِ الفيلا كحارسٍ شخصيٍّ لها:
-أستاذة رحيل خرجت إمتى؟..وإزاي متعرفنيش؟..
-أستاذة رحيل مخرجتش ياباشمهندس، أنا متحركتش من هنا وهيَّ منزلتش..
قطبَ جبينهِ وتاهَ بحديثِ الرجل، صفعهُ عقلهِ بقوَّة، فتراجعَ سريعًا للداخلِ يتمنَّى من اللهِ أنَّ ماتوصَّلَ إليهِ لم يكن صحيحًا، دفعَ بابَ غرفتها يبحثُ عنها كالمجنون، وتمنَّى أن يخونهُ ذكائهِ ولم تفعل به إلى مااستنتجه..وصلَ إلى سريرها وتوقَّف أمامهِ ينظرُ إليه بعمقٍ وكأنَّ أحداثَ ليلةِ أمسٍ مازالت للتو، هزَّ رأسهِ بعنفوان:
-لا مستحيل، مستحيل تعمل فيَّا كدا..وقعت عيناهُ على ورقةٍ توضعُ بجوارِ المصباح، اقتربَ يفتحها بهدوءٍ رغم ضجيجهِ الداخلي:
“أهلًا يزن، معرفشِ هتشوف الورقة ولَّا لأ، بس أنا كتبتها وأنا ونصيبي توصل لك ولَّا لأ، بس متأكدة إنّّها هتوصلَّك،
عارفة ممكن تتصدم، أو ممكن يكون الموضوع عندك عادي، المهمِّ أنا نفَّذت شرطك، طلبت تتمِّم جوازنا في سبيل إنَّك تطلَّقني وترجَّعلي حقِّي، أنا مش عايزة حق منَّك..أنا بس عايزة تطلَّقني، وزي ماإنتَ قولت أخدت حقَّك بليلة حلوة، يارب تكون اتمتَّعت ياباشمهندس؟..
راحيل مالك العمري…
كوَّرَ قبضتهِ يضغط على الورقة حتى تقطَّعت الورقةُ بيدهِ.. وركضَ للخارجِ كشيطانٍ ماردٍ يريدُ أن يحرقَ كلَّ ما يقابله..
عند راحيل توقَّفت بالمطارِ أمام إيلين:
-خلِّي بالك من ماما، وأنا هغيب كام أسبوع كدا وهرجع على الشقة، عايزة أرتاح شوية، وكمان علشان لمَّا آدم يعرف متأكدة أنُّه هيحاول يوصلِّي، ومن غبائي من أسبوع طلبت منُّه أقعد في الشقة، فأكيد هيروح على هناك..
-طيب هتكوني مرتاحة؟..في الشقة كنَّا هنكون قريبين وكمان العيد جاي..
-حبيبتي أنا متعوِّدة على السفر، المهمّ ماما خلٍّي بالِك منها، لو خالو سألك قولي له معرفشِ حاجة، ياله أسيبك علشان الطيارة..
دلفت لداخلِ المطار، ظلَّت تراقبها بعينيها حتى اختفت، استدارت للمغادرةِ ولكن وقعَ بصرها على حنين طليقةُ زوجها وهي تتوقَّفُ مع أحدهم يواليها ظهره تستندُ بذراعيها على كتفه، وكأنَّ وقوفهم يدلُّ على علاقةٍ بينهما، وخاصةً ذاك التقارب وملامسةِ الأجساد، رمقتها بنظرةٍ محتقرةٍ ثمَّ اتَّجهت إلى سيارتها وغادرت المكان..
عند رحيل، صعدت الطائرة وجلست في مكانها المخصَّص..أخذت نفسًا عميقًا وكأنَّها تحاولُ انتزاعَ ألمها من صدرها، ثمَّ تراجعت بجسدها إلى الخلف، أغمضت عينيها، لكن خانتها دمعةً ساخنةً انحدرت رغمًا عنها، على ماتوصلت إليه… غاصت في ذاكرتها، وتراجعت إلى الوراء، إلى أسبوعٍ مضى…
كانت تجلسُ في مكتبها محاولةً التركيزَ على عملها، ولكن عقلها كان سجينَ مافعلهُ بها يزن..زفرت وحاولت سحبَ نفسٍ تهدِّئُ من روعها، انكبَّت مرَّةً أخرى على عملها، ولكنَّها رفعت رأسها بعدما شعرت بوجوده..اتَّجهت إلى عملها مرَّةً أخرى ولم تكترث لوجوده، حمحمَ حتى تنظرَ إليه، ولكنَّها شدَّت أناملها على القلم، ولم ترفع عينيها عن الأوراقِ التي أمامها..دخلَ بخطواتٍ هادئة، وسحبَ مقعدًا وجلسَ قبالتها بوجهٍ جامد..
– “مش عايزك تشتغلي تاني، وكدا كدا كلِّ حاجة بقت باسمي، يعني هعرف أدير الشركة كويس.”
سقطت كلماتهِ كخنجرٍ مغروسٍ في صدرها، لكنَّها لم تُظهر أيَّ ردِّ فعل، تراجعت بجسدها ورفعت القلمَ تتلاعبُ به بين أصابعها للحفاظِ على مظهرٍ هادئٍ مصطنع، ونطقت بصوتٍ ثابت، يخفي خلفهِ بركانًا من القهر:
-“تاخد كام وتطلَّقني، يا يزن؟”
-نعم…قالها مستهزئًا..
رفعت رأسها، تواجههُ بوجهٍ خالٍ من التعابير، وكأنَّها لم تُلقِ إليهِ شيئًا:
-عايزة أطَّلق منَّك، مش متحمِّلة الفكرة.. توتَّرت عضلاتُ فكِّه، واشتعلت عيناهُ بشرارةٍ مظلمة..رغم ذلك، ظلَّ صامتًا لفترةٍ ثمَّ أخرجَ سيجارةً وأشعلها ببطء، يسحبُ منها نفسًا عميقًا قبلَ أن ينفثَ الدخانَ في الفراغ، ثمَّ نظرَ إليها بطرفِ عينهِ وقال ببرودٍ قاتل:
-“تفتكري إنتي تستاهلي كام؟ مليون؟ اتنين؟ عشرة؟…ما أظنش.”
مالَ بجسدهِ إلى الأمام، مستندًا بمرفقهِ على المكتب، حتى لم يعد بينهما سوى أنفاسٍ متشابكة، ثمَّ همسَ بصوتٍ منخفض، لكنَّهُ اخترقَ كيانها كالسهم:
“تستاهلي كتير أوي يا رحيل، مش سهل أتنازل عنك.”
شعرت رحيل باضطربِ قلبها، ولكنَّها لم تنجرف خلفَ كلماتهِ المسمومة..سحبت عينيها عنه، لكن نظراتهِ كانت تلتفُّ حولها، تحاصرها، تأسرها كالسجان ا، جمعت شتاتَ نفسها، وردَّت بنبرةٍ حاولت أن تجعلها واثقة:
“يعني إيه؟ هترضى على نفسك أكون معاك غصب عنِّي؟”
ابتسمَ بزاويةِ فمه، وغمزَ بطرفِ عينهِ وكأنَّه يسخرُ من سؤالها، ثمَّ قالَ بثقةٍ مريبة:
– “مين قال كدا؟ إنتي معايا برضاكي، ومتأكِّد إنِّك عايزاني زي ما أنا عايزك.”
ارتعشَ قلبها، و اخترقت كلماتهِ روحها وكأنَّها نصلٌ باردٌ يمزِّقها..أبعدت نظرها عنه، وحاولت أن تسيطرَ على رعشةِ أصابعها، ثمَّ قالت بصوتٍ ثابت، لكن بداخلها كانت تنهار:
“طلَّقني يا يزن..أنا ماانكرش إنِّي كنت معجبة بيك، بس دلوقتي…”
لم تُكمل، حين انتفضَ واقفًا فجأة، انحنى نحوها حتى كادت أنفاسهِ الساخنةِ تحرقُ بشرتها، ثمَّ قال بصوتٍ غاضب، لكنَّهُ يحملُ نبرةَ تهديدٍ مخفيَّة:
“ودلوقتي عايزاني يا رحيل..حتى لسنين كتير قدام، هفضل يزن اللي قلبِك دق له.”
اهتزَّت شفتاها، وضربت كلماتهِ أعماقها، لكنَّها هزَّت رأسها بعنف، رافضةً أن تستسلمَ لما يقوله، ثمَّ هتفت بغضب:
-“أنا قلبي مادقش لحد، ما توهمشِ نفسك!”
اشتدَّت قبضتهِ فجأة، ثمَّ جذبها نحوهِ بقوَّةٍ إلى أن اصطدمت بصدره، تلاقت عيناهما في معركةٍ صامتة، وهمسَ بصوتٍ يشبهُ النيرانَ التي تلتهمها:
– “مش عايز أسمع كذب..عيونِك بتقول كلام تاني، قلبك بيصرخ ليَّا وإنتي بتنكريني.”
دفعتهُ بكلِّ ما أوتيت من قوَّة، لكنَّها كانت تعلمُ أن قوَّتها أمامهِ واهية، مجرَّد قناعٍ ترتديهِ لتخفي ارتجافَ قلبها. وأشارت إليه بإصبعٍ مرتعش، محذَّرة:
– “إيَّاك تلمسني تاني، سمعتني؟! إنتَ كذاب وخاين!”
لم يتحرَّك من مكانه، فقط وقفَ متسمِّرًا أمامها، ارتفعت أنفاسهِ يرمقها بنظرةٍ أشبهُ بالعاصفة..ثمَّ نطقَ بصوتٍ منخفض، لكنَّه حملَ داخلهِ كلَّ شيء… الرغبة، الغضب، والألم، قائلًا:
– “هتعملي إيه، منتظرك؟ أنا جوزك، سمعتيني؟! ومش معنى إنِّي صابر على إتمام جوازنا يبقى إنِّك مش مراتي، أنا بس بحاول أكون متفاهم معاكي.”
ارتعشت شفتاها، من كلماتهِ التي شعرت بأنَّها كالسيفِ الذي مزَّقَ بقايا قوَّتها.. أرادت الصراخ، البكاء، الهروب…
– “بس أنا مش عايزة أكمِّل الجواز ده.”
سقطت كلماتها كالصاعقة، تقلَّصت عضلاتِ فكِّه، و اشتدَّ صدرهِ وكأنَّهُ يحاولُ كبحَ جماحِ انفجارٍ وشيك..للحظة، نظرَ إليها نظرةَ رجلٍ متألِّم، مجروح:
-عايزة تطلَّقي؟..
هزَّت رأسها بالموافقة رغم رفضِ قلبها وهتفت بقوَّة:
-ياريت، أنا مبقتشِ أمِّن لك..
خطا حتى توقَّف أمامها مباشرة، وانحنى لتتشابكَ أنفاسهما، كما تشابكت الأعين، وهمسَ بنبرةٍ رخيمةٍ بصوتهِ الأجشِّ الذي هزَّ كيانها:
-نتمِّم جوازنا، ماهو مش معقول يتقال عليَّا مش راجل، حد يتجوِّز الجمال دا ويسيبه زي ماهوَّ برضو..
لم تشعر سوى بأنَّ كلماتهِ سكينًا باترًا يغرزُ بصدرها بقوَّة، رفرفت أهدابها علهَّا تكون استمعت إلى كلماتٍ وهمية، ولكن صدمها لينجرفَ بها إلى بحرٍ من الألمِ؛ حينما مالَ أكثر حتى كادت شفتيهِ تلمس شفاهها:
-نتمِّم جوازنا يارحيل وبعدها هطلَّقك ومش بس كدا، عايزك تثبتي فعلًا إنِّك مش عايزاني، بصي في عيوني كدا قوليلي إنِّك مش بتحبِّيني، وإنِّك مش عايزاني..ابتعدت برأسها وتجمَّعت الدموعُ بعينيها تومئُ له بعدما شعرت بذبحها بطريقةٍ مؤلمة:
-أنا مش بحبَّك..وضعَ إصبعهِ على شفتيها ودنا يفعلُ كما فعلَ منذ لحظاتٍ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-لا مش دلوقتي، وقت ماتحبِّي تطلَّقي، أكيد فاهمة كلامي، مرَّر إبهامهِ على وجنتيها:
-لو فعلًا مش بتحبِّيني يارحيل، دنا أكثر هامسًا:
-أنا بحبِّك وبحبِّك أوي كمان، ممكن أكون أذيتك في انتقامي، بس مستحيل أطلَّقك طول ماأنا شايف الحبِّ في عينيكي، عيونك كشفاكي..
-بس أنا مش بحبَّك، أنا فعلًا بكرهك.
فقط نظرَ إليها نظرةً حملت كلَّ شيءٍ من الألم، وهتف
-اثبتي انك بتكرهيني ومش عايزاني
-يعني ايه يايزن، هتفضل حابسني، وانا مش عايزاك
-كدابة يارحيل، طيب لو عايزة تخلصي مني وبتكرهيني زي ما بتقولي نتمم جوازنا ، تعمق بعيناها وابتسم ساخرا
-مش بقولك كذابة ياراحيل، لاني متأكد انك مش هتقدري تبعدي عني، ومااخبيش عليكي أنا كمان، لاني حبيتك بجد، وموضوع الشركة دا كله هيرجع لك صدقيني، ماردتش اقولك خوفت تبعدي عني، راحيل لو سمحت ادينا فرصة ..
ابتعدت عنه وهدرت بعنف
-لو كنت قولتلي دا من الاول وسبتني اختار، يمكن وقتها كنت كبرت في نظري، بس انت دبحتني، وحرقت قلبي وثقت فيك، انا دلوقتي بكرهك يايزن، سمعتني، وأنا اللي بقولك لو سمحت عايزة انسى غدرك بيا..هز رأسه ثمَّ استدارَ بخطواتٍ ثقيلة، تاركًا إياها غارقةً في عاصفةٍ من المشاعر..
خطا إلى أن توقَّف لدى الباب:
-تمام يارحيل، بتكرهيني..عايز حقِّي في مراتي، نتمِّم جوازنا، التفتَ بعينيهِ إليها واستطرد:
-هشوف مين بيضحك على مين أكيد فاهمة كلامي..قالها وتحرَّك مغادرًا المكان بالكامل.
خرجت من شرودها وازدادت دموعها بعدما فتحت عينيها ببطءٍ من ذكرياتِ الأمس، شهقةٌ مؤلمةٌ أخرجتها بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ به، أطبقت على جفنيها علَّها تُبعدُ همسهِ بأذنها، واعترافاتهِ ليلةَ أمس، أحبَّت أن تذيقهُ عشقها وتؤلمهُ بهجرها، ولكنَّها هي التي تتألَّمُ حتى شعرت بأنَّ روحها فارقت جسدها..
لماذا تشعرُ بهذا الفراغِ القاتلِ داخلها بعدما فعلت ماكانت تسعى إليه؟!
كلَّ ماتسمعهُ كلماتهِ فقط، حتى شعرت بأنَّ رئتيها ممتلئةً بعطرهِ الممزوجةِ برائحةِ سجائره، عضَّت أناملها ندمًا على ما فعلته، كيف كانت تعتقدُ أنَّ قربهِ لم يؤثِّر بها بتلك الطريقة، هي الآن تشعرُ بالطعنِ في قلبها الذي تفتَّت، ضغطت بقوَّةٍ على الكوبِ الذي بيديها إلى أن انغرسَ الزجاجُ بكفَّيها، ليشهقَ ذلك الرجلُ الذي يجاورها:
-آنسة إيدك بتنزف..
عند يزن..قادَ درَّاجتهِ سريعًا متَّجهًا إلى منزلِ زين الرفاعي..
بمكتبِ إسحاق:
دلفَ إليهِ أرسلان ملقيًا التحية:
-صباح الخير ياعمُّو..
ابتسمَ مجيبًا ينظرُ بساعةِ يده:
-قول مساء الخير، تصبح على خير، بقيت نوتي ياأرسو..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا ثمَّ زمَّ شفتيهِ مبتعدًا بنظراتهِ قائلًا:
-الواحد صايم ومش قدِّ مناهدة، وحياتي عندك..
توقَّفَ يشيرُ إليه وتحدَّثَ قائلًا:
-بدل حلِّفتني بالغالي يبقى هسامحك، المهم فوق كدا وعايز الصقر بتاع زمان معايا..
اعتدلَ بجسدهِ يطالعهُ ويستمعُ إليهِ بعنايةٍ فيما أملاهُ عليه، مسحَ على وجههِ ثمَّ أرجعَ خصلاتهِ للخلف:
-دي فيها شهور، مش مجرَّد سفرية عادية؟..
-أيوة بس مهمة تقيلة ولازم تستوعب اللي قولته كويس، أنا واثق إنَّك قدَّها وهتقدر عليها وتنفِّذها بخبرتك..
-إن شاء الله، حضرتك عارف أنا مقدرشِ أعترض، بس ليه الدولة دي بالذات؟..
جلسَ إسحاق مرَّةً أخرى وأجابهُ بهدوء:
-متخلنيش أخون ذكائك..أومأ بتنهيدةٍ قائلًا:
-حدودية مش كدا؟..أطلقَ إسحاق ضحكةً غامزًا:
-أهو كدا صقورة حبيبي رجع لحضنِ عمُّه..
-مش عايزه ياخويا اشبع بيه..
استندَ على مكتبهِ متسائلًا:
-إيه هوَّ يالا اللي مش عايزه واشبع بيه؟..ضحكَ أرسلان يضربُ كفَّيهِ ببعضهما ثمَّ غمزَ له:
-حُضنك ياإسحاقو، هعمل بيه إيه وهوَّ بارد كدا؟..
ألقاهُ بالقلمِ بوجهه، حتى توقَّف ضاحكًا وتمتم:
-والله أنا صايم ومش هردِّ عليك..أشارَ إليه بالجلوس:
-اقعد ياغبي وفهِّمني هتعمل إيه في المهمة دي؟..
مطَّ شفتيهِ وجلسَ يتلفَّتُ حولهِ بالمكتب كأنهُ يبحثُ عن شيئٍ ثمَّ أردف:
-الواحد عايز يشرب سيجارة دلوقتي، علشان يعرف يتعامل معاك..
غمغم اسحاق ثم مسحَ على وجههِ بعنفٍ يسبُّهُ بداخلهِ، إلى أن انحنى أرسلان ينظرُ بعينيه:
-طيب متزعلش وتقفش كدا، الأوَّل تجاوبني، ليه طلبت من إلياس يدخل في العملية اللي فاتت؟..دا أمنِ دولة، يعني مالوش علاقة..
-أديك جاوبت على نفسك، مالوش علاقة ومكنشِ هيتشك فيه، علشان كدا دخل وخرج من غير ماحدِّ يقولُّه حاجة..
-بس كدا حياته ممكن تكون في خطر، حضرتك عارف اللي بيخرج لعمليات زي دي اختصاصه، وكمان مش معروفين..
-متخفشِ حبيبي أنا عارف بعمل إيه، وبعدين إلياس واثق فيه، هوَّ أه مغرور ومتكبِّر شوية، بس الواد دماغه حلوة، وزي ماشوفت خلَّص في يومين، والدنيا تمام..
-طيب إيه حكاية الراجل اللي بيراقبه؟..
نقرَ إسحاق على المكتبِ وذهبَ بشرودهِ قائلًا:
-هوَّ عارف أنُّه متراقب، يعني واخد حذره كويس…توقَّفَ أرسلان يستندُ على المكتب:
-مدخلش إلياس في شغلنا لو سمحت، إحنا عارفين ثغرات أكتر منُّه، ومش معنى أنُّه نفَّذ حاجة ونجح ومقدرش يقول لا حبًّا لبلده، يبقى نجرُّه في كلِّ العمليات ويتكشف وفي الآخر يصفُّوه مش هسمح بدا..
-واللهِ ياأرسلان من إمتى وإنتَ بتوقف قدامي،وتطلب منِّي أعمل إيه ومعملشِ إيه؟!..
سحبَ نفسًا عميقًا وتنهَّدَ محاولًا السيطرةَ على عاصفةِ غضبه، نهضَ إسحاق من مكانهِ واتَّجهَ إليهِ يجلسُ بمقابلته:
-اسمعني كويس، أوعى تفكَّر أنا مش بخاف على إلياس أو أيِّ شخص تاني، أكيد عارف عمَّك ميقدرشِ يعمل حاجة تضرِّ بيكم..
-عمُّو بلاش إلياس لو سمحت، أمِّي خسرته تلاتين سنة، منجيش إحنا ونحرمه منها الباقي من عمره..
-ياحبيبي ليه بتحسِّسني أنُّه هيحصلُّه حاجة؟..
-عمُّو بلاش تستغباني لو سمحت، إحنا عارفين الناس دي، أقلِّ حاجة يقتلوه أو يعملوا حاجة في مراته..
-دا ظابط ياأرسلان مش مذيع في قناة..
-لا والله، ولمَّا حاولوا يقتلوا النائب العام..كان إيه مذيع؟..
-أرسلان..صاحَ بها بحدَّة، فتوقَّفَ أرسلان قائلًا:
-إلياس لا..دا آخر كلام عندي، كفاية شغله وحضرتك عارف أنُّه مضغوط في شغله غير التهديدات، يعني كدا كدا حضرتك هوَّ محطوط في دايرة الخطر..
-تمام ياأرسلان، مش هطلب منُّه حاجة تاني، بس عايزك تفوق معايا للمهمَّة الجديدة..
-اعتبرها حصلت..النادي عايز أجهزة جديدة هسافر أستوردها من دولةٍ ما، وأنزل أشوف أجهزة تانية في كام دولة، ومن دولة لدولة الدنيا غامضة..
-برافو حبيبي بالتوفيق يارب..
-بس بعد يومين، بكرة معزوم عند إلياس..والنهاردة حضرتك عارف بابا مُصرّ إنِّنا نتجمَّع، أتمنَّى ماتزعلوش في موضوع تيتا لو سمحت ياعمُّو..
-حاضر، ومبروك لحملِ مراتك، إن شاءالله بالخلقة التامَّة والذرية الصالحة..ابتسمَ إليهِ قائلًا:
-ماتحتكِّش فيَّا، مش هسمِّيه إسحاق ريَّح نفسك..
-شوف الواد، لا ياخويا مش عايزك تسمِّيه إسحاق، المهمِّ ربِّنا يملي عيونك بيه حبيبي..
-اللهمَّ آمين يارب العالمين، عايز أوصِّيك عليه، لو حصلِّي حاجة ربِّيه أو ربِّيها زي ماحضرتك ربِّتني وعلِّمتني..بس أوعى تشغَّله معاك..
انتفضَ بقلبٍ متلهِّفٍ واتَّجهَ إليه يجذبهُ لأحضانه وكأنَّ قطعتهِ الغالية ستفرُّ من بين يديه..
-أوعى تقول كدا، ربِّنا يبارك لي فيك ياحبيبي، إنتَ مش مجرَّد ابنِ أخويا يالا، إنتَ ابني وحبيبي وصاحبي وكلِّ حاجة، وعلى عيني حبيبي ابعتك مهمَّات صعبة واللهِ غصبِ عنِّي..
تراجعَ مبتعدًا من أحضانه:
-مالك ياإسحاق قلبت أمينة رزق ليه؟..أنا بوصِّيك مش بقولَّك اكتب شهادة وفاتي، بقيت نكد أوفر..
دفعهُ بعيدًا عنه يسبُّهُ، نظرَ إليه يريدُ أن يطبقَ على عنقه:
-يخربيت برودك، هتجيبه من بعيد، ماإنت أخو إلياس..
قهقهَ مقتربًا منهُ ونظرَ لعينيه:
-مالك وماله؟..عمل إيه مفرَّحك منُّه كدا؟..
-أيوة فعلا مفرَّحني، مش عايز أفطر عليه وحياة أبوك..قاطعهم رنينُ هاتفِ أرسلان، نظرَ إليه وارتفعت ضحكاتهِ غامزًا لإسحاق:
-حبيبك جاي على السيرة..تراجعَ يشيرُ بيدهِ بالخروجِ ولكنَّهُ ردَّ على هاتفه:
-أيوة ياإلياس؟..
-هتروح السويس إمتى؟..نظرَ بساعتهِ وأجابه:
-خارج أهو، ووقت ماأرجع هكلِّمك..
-خلِّي بالك من نفسك، وحاول ماتعرَّفش حد إنَّك ابنِ جمال الشافعي..
-لا متخافش عامل حسابي، المهمِّ إنتَ عامل إيه؟..وميرو عاملة إيه؟..
التفتَ إلياس إلى ميرال التي مازالت تغطُّ بنومها وأجابه:
-كويسة الحمدُلله، هقفل ولو فيه أخبار جديدة عرَّفني..
-إسحاق بيسلِّم عليك..
صمتَ للحظاتٍ ثمَّ ردَّ قائلًا:
-الله يسلِّمه، وصَّله سلامي..قالها وأغلقَ الهاتفَ مستديرًا لتلك التي اعتدلت تلملمُ خصلاتها:
-صباح الخير ميرا..
رفعت عينيها مبتسمة:
-صباح الحبِّ على حبيب عيوني..
-اللهمَّ إنِّي صايم وربِّنا يسامحك..
اقتربت تدفنُ نفسها بأحضانهِ ونطقت بنبرةٍ سعيدة:
-هوَّ الصايم مينفعشِ ياخد مراته في حضنه؟..ولا يسمع كلمة حلوة؟..تعرف من إمتى مافتحتش عيوني عليك؟ من زمان أوي، يمكن من وقت ماعرفت أنا حامل في يوسف، من كترِ البعدِ مش فاكرة..
حاوطَ جسدها بين ذراعيهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-آسف ميرال، مكنش قصدي أوجعك وأتعبك، عارف إنِّي ضغطت عليكي كتير..
خرجت من بين ذراعيهِ وتعمَّقت بحدقتيه:
-أنا كمان آسفة، عارفة كنت بستفزَّك كتير، بس واللهِ ماكنت بقصد في كلِّ حاجة..
-اشش، انسي كلِّ اللي فات، نبدأ صفحة جديدة مفيهاش غير التفاهم والحبِّ اللي بينا، علشان نقدر نربِّي ولادنا..
-ولادنا..ردَّدتها مبتسمة، ثمَّ استأنفت حديثها:
-خلِّيت يوسف ولادنا؟..انحنى يهمسُ بجوار ِأذنها:
-أنا صايم ولمَّا نفطر هقولِّك مين ولادنا، أنا نازل دلوقتي عندي شغل، هرجع على الفطار، ماما اتَّصلت وإنتي نايمة علشان نفطر هناك بس أنا رفضت، النهاردة عايز أفطر مع مراتي وابني، وياريت لو الفطار محشي..
لمعت عيناها بالسعادة، رفعت أناملها على وجنتيهِ وغازلته بعينيها العاشقةِ لروحه:
-أحلى محشي لأحلى راجل في الدنيا..
ابتعدَ مفزوعًا:
-يابنتي حرام عليكي، راعي إنِّ فيه واحد صايم..أفلتت ضحكةً ناعمةً تستندُ بوجنتها على كفِّها ترسمهُ كفنان، وردَّت على كلماته:
-إنتَ عارف دا تاني رمضان مع بعض، بس أوَّل مرَّة أحسِّ بيه معاك، حتى لو يوم واحد فيه، بس بجد أنا سعيدة أوي ياإلياس، بتمنَّى نفضل كدا..
اقتربَ منها وأمالَ بجسدهِ ونظرَ لعينيها مباشرة:
-ميرا، إحنا اللي بنخلِّي نفسنا مبسوطين، وإحنا كمان اللي بنتعس نفسنا، أنا من ناحيتي أوعدك هحاول اكون لك الزوج الصالح، وهعمل كلِّ اللي ربِّنا يقدَّرني عليه علشان أسعدك..
-حبِّني بس ياإلياس، مش عايزة غير إنَّك تحبِّني وتاخدني كلِّ ليلة في حضنك، إمبارح بس حسِّيت إنِّي دفيانة ومش خايفة من عواصف الكون كلَّها، متزعلشِ منِّي بس أوَّل مرَّة ألاقي فيك الأب والأخ والحبيب، أنا سعادتي ماتتوصفش صدَّقني، وزي ماقولت لك يوم واحد في رمضان عندي بالأيام الكتيرة اللي عدِّت عليَّا من غيرك..
جذبَ رأسها وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-بحبِّك يامجنونة والله ومش كلِّ شوية هقولها، ياله هتأخَّر على شغلي..
بفيلا الشافعي:
خرجت إلى الحديقة تهاتفُ شخصًا ما:
-ابنِ السيوفي جه إمبارح وهدَّدني، شكله عارف كلِّ حاجة..
نفثَ الآخرُ سيجارتهِ بهدوء، ثمَّ أشارَ للتي تقبعُ بأحضانهِ بالخروج، ونهضَ من مكانهِ إلى أن توقَّفَ في الشرفةِ ومازال يدخِّنُ تبغهِ الغالي..
-رانيا مش عايز حاجة تهزِّك، والواد دا خلال أيام هتسمعي خبره، أوعي تكوني خايفة على راجح ليعرف؟..
-أيوة طبعًا هيموِّتني لو عرف، إنتَ عارف آخر مرَّة قالِّي إيه؟..
-ولا يقدر يعمل حاجة يارانيا، وخلِّيكي واثقة فيَّا، سيبك من راجح وتعاليلي علشان وحشتيني أوي..
ارتفعَ صوتُ ضحكاتها:
-إنتَ ناسي إحنا في رمضان ولَّا إيه ياإتش، لااا حرام..
نفثَ تبغهِ بالفراغ وهو يتخيَّلها ثمَّ أردفَ دون جدال:
-هستناكي يارانيا، علشان مزعلشِ وزعلي وحش أوي، إنتي فاكرة آخر مرَّة اتأخرتي عملت فيكي إيه؟..إيه راجح ماأخدشِ باله؟..ولَّا تكوني عايشة على ذكرياتي؟..
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بعدما اقتربَ راجح متسائلًا:
-بتكلِّمي مين يارانيا؟..ارتبكت ثمَّ تحدَّثت بالهاتف:
-خلاص حبيبتي بالليل هكون عندك، والمسَّاج هدية منِّي ليكي علشان اتأخرنا، وهبعتلك أحسن البنات عندي مقدرشِ على زعلك..
تراجعَ راجح وعيناهُ عليها إلى أن جلسَ على مقعدهِ بالحديقة، أنهت مكالمتها واقتربت منه بدلال:
-صباح الخير ياحبيبي..
-صباح الخير، مين دي اللي زعلانة منِّك؟..زبونة؟..
هزَّت رأسها وسحبت بصرها عن عينيه:
-هتعمل إيه مع ابنِ السيوفي؟..هتسكت على إذلاله لينا؟؟
-هوَّ كان قصده إيه يارانيا؟..وإيه مواضيع الليالي الحمرا؟..
حاولت أن تبتلع ريقها ولكن جفَّ حلقها حتى مرَّرت لسانها على شفتيها محاولةً التفوُّه، لم تقوَ وهي تفكِّرُ كيف تخرجُ من تلك المعضلةِ التي أخنقها بها:
-أيوة معرفشِ كان يقصد إيه، يمكن قصده علينا، المهمِّ سيبك من كلامه التافه دا وشوف هتعمل فيه إيه..
استمعَ إلى هاتفه:
-الراجل بتاعنا جاهز ياباشا، شوف عايز يتمِّ المهمَّة إمتى..
كانت عيناهُ على رانيا التي تتهرَّبُ من نظراتهِ فردَّ قائلًا:
-خلِّيه بالليل، إحنا مش كفرة لدرجادي علشان أموِّته في نهار رمضان..
رفعت حاجبها وابتسمت ساخرة:
-لا، مؤمن أوي ياراجح..قالتها وتوقَّفت تشيرُ إليه:
-الواد دا هيضيَّعك، خلِّيك فاكر إنِّي حذَّرتك منُّه، أنا نازلة أشتري حاجات للبيوتي سنتر..ظلَّت نظراتهِ عليها إلى أن اختفت ثمَّ رفعَ هاتفه:
-المدام هتخرج دلوقتي عايزك تبقى ظلَّها، وأخبارها كلَّها تكون عندي..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ بنقطةٍ وهميةٍ ثمَّ همسَ لنفسه:
-ياويلك يارانيا تكوني سبب في اللي بيحصل معايا..
بغرفةِ رانيا أمسكت هاتفها وصاحت بغضب:
-شكله هيتراجع عن قتلِ الظابط ..على الطرفِ الآخرِ ردَّ قائلًا:
-ياريت علشان يكون بيكتب شهادة وفاته، أنا مبقتشِ عارفك يارانيا إنتي عايزة راجح ولَّا عايزة إيه بالظبط؟..
-لسة عايزاه، لازم اصفي حسابي الاول، مش عايزة اذيته، لحد مااخد حقي منه، كفاية السبب في قهرتي على ابني ولا لياليه الزفت مع الستات، لازم أطلعه فوق اوي وفي الاخر أنزله على جدور رقبته المهم لازم تبعد عنه الباشا الكبير علشان ..قاطعها بنبرة باردة
-رانيا اتأخرتي وانا بردت …قالها واغلق الهاتف ..
بمنزلِ آدم:
خرجت من المرحاضِ بعدما استفرغت مابجوفها، هوت على المقعدِ متألِّمة، ثمَّ رفعت هاتفها تطلبُ شيئًا ما من الصيدلية، حاوطت رأسها بين راحتيها:
-معقولة أكون حامل؟..إزاي وأنا باخد البرشام؟..ياربي إيه الوقعة دي، مش وقت طفل خالص في ظروف الكلية..عادت بجسدها على الأريكة وأغمضت عينيها تحاوطُ بطنها:
-بعدين بقى أنا مش قادرة أتحمِّل الدوخة مع الوجع دا..
فردت جسدها وذهبت بنومها سريعًا..
توقَّفَ يبسطُ كفَّيهِ إليها:
-أميرتي تسمح لي بالرقصة دي؟..
ابتسمت تضعُ كفَّيها الرقيقة داخلَ كفَّيه، لتتعانقَ الأيدي كما تتعانقُ العيون..تحرَّكت إلى ساحةِ الرقص وجميعُ الأعينِ عليهما، ظلَّت تتحرَّكُ على الموسيقى الهادئة، إلى أن حاوطت عنقهِ لتهمسَ له بعضَ الكلمات:
-آدم…مبروك هتبقى بابي..
تجمَّدَ جسدهِ وتوقَّفَ عن الرقصِ ينظرُ إليها بعيونٍ جاحظة، ثمَّ أمالَ بجسدهِ لمستواها:
-حبيبتي قولتي إيه؟..
ابتسمت وحاوطت عنقهِ تشيرُ بعينيها للرقص:
-طيب أرقص الكلِّ ببصِّ علينا، وبدل مانحتفل بالبيبي لوحدنا الكلِّ هيحتفل معانا..
-إيلين إنتي قولتي إنِّك حامل..
قطبت جبينها واغروقت عيناها بالدموع:
-إنتَ زعلان ولَّا إيه؟..
لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يحتضنُ ثغرها في قبلةٍ جامحة، حتى شهقت مريم من فعلتهِ وصاحَ والدهِ بصخب..
هبَّت من نومها تنظرُ حولها بفزع، ارتفعت أنفاسها متراجعةً بجسدها، معتدلةً تغمضُ عينيها وتحمدُ ربَّها أنَّهُ حلم..دلفَ آدم يحدِّقُ بها:
-حبيبتي إنتي ماروحتيش الجامعة؟..
هزَّت رأسها وردَّت بهدوءٍ ومازالت تحت آثارِ حلمها:
-تعبانة شوية..اقتربَ إليها سريعًا، وجلسَ على عقبيهِ يحتضنُ وجهها:
-مالك ياإيلين؟..أخدك للدكتور ياروحي؟..
ابتسمت للهفتهِ وهزَّت رأسها بالرفض:
-لا، صحيت متأخَّر وكسِّلت الصراحة، المهم، إنتَ عامل إيه وكنت فين؟..دقَّقت النظرَ بثيابه.. هنا تذكَّرت ذلك الرجلَ الذي كان يرتدي نفسَ اللون، توقَّفت تسأله:
-آدم إنتَ كنت فين؟..دلفَ ينزعُ قميصهِ قائلًا:
-يزن الرفاعي جه من شوية هنا وقوَّم الدنيا على رحيل، رحت أدوَّر عليها في شقة ناصر، أصلها كانت من فترة بتكلِّمني عليها..
خطت إلى وقوفهِ ثمَّ جذبتهُ من ذراعه:
-وليه رحت على هناك على طول؟..كلامك مش مبرر..توقَّفَ عن مايفعلهُ ودقَّقَ النظرَ بها:
-شايفك مش متفاجئة من هروب رحيل، كلِّ اللي أخد بالك الشقة؟..
ابتعدت تفركُ كفَّيها مرَّة، وتزيلُ خصلاتها من فوق وجهها مرَّة ًأخرى:
-بلاش أغير عليك ياآدم؟..ولَّا مش شايفني ست؟..
سحبها من ذراعها وجذبها تحت حنانِ ذراعيهِ يضمَّها لصدره:
-أميرتي لها الدلال كلُّه، بس استغربت مش أكتر..شعرت بتقلُّبِ معدتها من رائحتهِ التي تسلَّلت إلى رئتيها، دفعتهُ وهرولت سريعًا الى الحمَّامِ وقامت بالتقيؤ الذي أضعفَ جسدها..فهوت على الأرضية تضمُّ بطنها، دلفَ خلفها سريعًا، ركضَ إلى تشبُّثها بالحوض، حاوطَ جسدها ورفعها يغسلُ وجهها ثمَّ ضمَّها وتحرَّكَ بها للخارج، دثَّرها بالغطاء، مملِّسًا على خصلاتها بحنان:
-إيلين حبيبتي واخدة برد ولَّا إيه؟..
هربت من حصارِ عينيهِ وأغمضت عينيها تسحبُ نفسًا بعدما شعرت بأنَّ الجدرانَ تطبقُ فوق صدرها..أمالَ بجسدهِ مقتربًا ينظرُ لرماديتها:
-حبيبتي مخبِّية حاجة عن جوزها حبيبها؟..طالعتهُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ قالت:
-تعبانة ممكن تهدِّي التكيف وتسبني شوية..رفعَ نظرهِ إلى المكيف قائلًا:
-درجته مش عالية، وكمان مغطِّيكي، أوعي تكوني بردانة؟..إحنا في الصيف..
-آدم عايزة أنام شوية ممكن..
طبعَ قبلةً على جبينها ثمَّ نهضَ من مكانه:
-نامي حبيبتي وارتاحي.
عند يزن:
وصلَ إلى منزلِ أرسلان بعد محاولتهِ الاتصالَ به، ولكن هاتفهِ مغلق:
كان منكبًّا على جهازهِ بعد إغلاقهِ جميعَ الهواتفِ حتى يستطيعَ التركيزَ بعمله، دلفت غرام إليه:
-حبيبي، يزن السوهاجي على البوابة، الأمن اتَّصل..
زوى مابين جبينهِ ونهضَ متسائلًا:
-خير..معقول يكون ميرال حصل لها حاجة؟..أشارَ إليها بالدخول، ورفعَ الهاتفَ يأذنُ له…لحظات وكان يقفُ أمامه..توقَّفَ منتظرًا حديثه:
-رحيل العامري مختفية من الصبح،
-يعني إيه مخطوفة؟..معقول راجح خطفها؟..هزَّ رأسهِ وسحبَ بصرهِ عنهُ قائلًا:
-لا..عايز أعرف مكانها فين، مفيش حد هيساعدني غيرك، أتمنَّى خلال أربعة وعشرين ساعة تكون عرفت مكانها..
-تفهَّمَ وهزَّ رأسهِ قائلًا:
-معاها تليفون؟..
-أيوة بس مقفول..
-كريد كارت..بدأ يسألهُ عن بعضِ الأشياءِ حتى أنهى حديثهِ وتحرَّكَ للخارج..
خرجت غرام بعد مغادرتهِ وتساءلت بلهفة:
-ميرال فيها حاجة؟…جلسَ يرجعُ خصلاتهِ للخلفِ بحركةٍ تنمُّ عن غضبه، فمهما حدثَ بينهما، أغضبهُ هروبها..
نزلَ بكفَّيهِ ينفخُ فيهما ثمَّ رد:
-ميرال كويسة، اجهزي علشان أعدِّيكي على بابا، عندي مشوار قبلِ الفطار..
اقتربت منهُ واحتضنت كفَّيه:
-عايزة أروح عند بابا كام يوم، زياد تعبان وممكن يعمل عملية ولازم أكون جنبه..
-عملية إيه؟..وليه معرَّفتنيش؟..ربتت على كفَّيهِ وابتسمت:
-حبيبي أنا عارفة إنَّك مشغول طول الوقت، غير تعب ميرال محبتش أشغلك بمشاكلي..
-زعلان ياغرام، زعلان منِّك وفي نفسِ الوقت مش عارف أعاتبك..
رفعت نظرها ولثمت وجنتيه:
-كدا زعلان؟..نظرَ إليها بطرفِ عينه:
-بتبوسي ابنِ أختك يا غرام لا وكمان في نهار رمضان؟..
-الله أومال أعمل إيه؟..مش قولت في نهار رمضان؟..
-عايزة تجرِّيني للرزيلة ياغرام؟..
دفنت رأسها في ذراعها وأفلتت ضحكةً ناعمة:
-مش معقول إنتَ ياأرسو..حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ إلى غرفتهما مردفًا بنبرةٍ عتابية:
-مهما أكون مشغول، متنسيش إنِّك مراتي حبيبتي اللي لازم تكون مسؤوليتي الأولى..
احتضنتهُ تضعُ رأسها على صدره:
-ربِّنا يخلِّيك ليَّا يارب، وميحرمنيش منَّك ياأبو…صمتت متسائلة:
-أيوة صح لو جبت ولد هتسمِّيه إيه؟..
جذبَ ملابسهِ يشيرُ إليها:
-اجهزي، والبيبي هينزل باسمه ياروحي، مش عايز أسبق الأحداث، يجي بالسلامة وهتلاقي كلِّ حاجة..
بمنزلِ يزن:
دلفَ إلى المنزلِ وبدأ يحطِّمُ كلَّ ما يقابله، هاتفت إيمان كريم:
-كريم معرفش إيه اللي حصل ليزن، كسَّر الأوضة جوَّا، بعد ماقفل على نفسه..
-طيب حبيبتي أنا جاي حالًا..
بالداخل..
جلسَ يمسحُ على وجههِ بعنفٍ كاد أن يقتلعَ جلده، صوتها الناعم، لمساتها همسها له بحبُّها، كاد أن يُجن، ودَّ لو أحرقَ العالمَ حتى يصلَ إليها ..بدأ يبحثُ بالهاتفِ كالمجنونِ يهمسُ لنفسه:
-هموِّتك يارحيل…هموِّتك..صرخَ بها وتوقَّفَ يدورُ حول نفسهِ كالأسدِ الحبيسِ
لييييه..استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
عملت اللي طلبته يايزن؟..خلِّيك قدِّ كلمتك …
-صدَّقيني غلطك غير مغفور..نظرت من النافذة، وابتسامةٌ ساخرةٌ تجلَّت بملامحها تجيبه:
-إيه ياباشمهندس، رجعنا في كلامنا، ولَّا التخطِّيط خارج السيطرة؟..
-مش هرحمك يارحيل.
-اممم..أوكيه وأنا منتظرة يايزن ياشافعي..؟!
-رحيل إنتي فين؟..
-حبِّيتك أوي بس طلعت واطي أوي، بدعي ربِّنا في كلِّ وقت إنِّي أنسى أكتر واحد أذاني في الدنيا، حطَّمتني ودوست على قلبي، أخدتني انتقام ومفكرتش فيَّا، ليه؟. دا لو عدوِّتك مش هتعمل كدا..
-رحيل صدَّقيني لو مرجعتيش..صرخت به بانهيار:
-هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟..إيه رأيك البضاعة حلوة واتبسطِّ منها؟..بس عايزة أكدلك حاجة، مكنشِ في ترتيبي أكون مراتك، بس معرفشِ إزاي عملت كدا في نفسي، بس كويس علشان كلِّ ما أفتكر اللي حصل أكره نفسي أكتر وأكتر..ربِّنا يتعسك زي ماأتعستني، ياربِّ يحرق قلبك، متعرفشِ تحبِّ تاني يايزن..قالتها وأغلقت الهاتف لتهوي بجسدها تبكي بشهقاتٍ مرتفعة..
مساءَ اليوم:
ترجَّلَ من سيارتهِ ودلفَ للداخل، قابلتهُ المربيةُ وهي تحملُ طفله، متَّجهةً إلى الحديقة..أوقفها وهو يتلقَّفُ ابنهِ الذي رفعَ ذراعيهِ إليه ليحمله، حملهُ وطبعَ قبلةً على جبينه، ثمَّ تساءل:
-رايحين فين؟!
نتمشَّى في الجنينة شوية، المدام قالت خلِّيه يغيَّر جو، وأشعة الشمس دلوقتي حلوة له..
-حبيب بابا عايز تغيَّر جو ياسيادةِ الصغير ..توجَّهَ ببصرهِ إليها:
-لبسه دا عادي مش خفيف أوي؟.
ابتسمت وهي تمسِّدُ على خصلاتِ الطفلِ قائلة:
-لا الجوِّ حر أصلًا، وبعدين المدام اللي لبِّسته، متخافشِ حضرتك، مبخرحشِ من أوضته من غير أوامرها.
أومأ لها ثمَّ أعطاها طفله، وتحرَّكَ للداخل، يبحثُ عنها، قابلتهُ الخادمة:
-المدام فين؟وإنتي رايحة فين؟..
أشارت إلى المطبخ قائلة:
-المدام في المطبخ، وأنا أخدت إجازة النهاردة ياباشا، هيَّ قالت مش هتحتاجني..خلَّصت المطلوب منِّي، ووالدتي محجوزة بالمستشفى، واستأذنت من المدام..
أومأ لها وأشارَ إليها على الخارج:
-روحي لعلي خلِّيه يوصَّلك، وخلِّيه يدخل معاكي يعمل اللي والدتك محتاجاه في المستشفى.،
انحنت لتقبِّلَ كفِّه، ابتعدَ عنها يردعها بغضب:
-إنتي مجنونة، أوعي تنحني لحدِّ تاني، ياله روحي ومتنسيش إنِّك متربية في بيوتِ السيوفي يعني فرد من العيلة، أوعي أشوفك تتطاطي لأيِّ مخلوق سمعتي؟..
ترقرقت عيناها قائلة:
-ربِّنا يسعدك ياباشا..ابتسمَ لها مجيبًا:
-أهو كدا، مش اللي كنتي هتعمليه، ياله علشان متتأخريش، وخلِّيكي براحتك، إحنا هنرجع الفيلا الليلة..
أومأت وخرجت وعيناها تضجُّ بالسعادة..
قادتهُ قدماهُ إلى المطبخِ لأوَّلِ مرَّة، دلفَ بهدوء، يتجوَّلُ بعينيهِ في المكانِ حتى وقعتا عليها..كانت واقفةٌ وعيناها منشغلةٌ بما تفعله..لم يستطع منعَ نفسهِ من التحديقِ بها، كيف لها أن تبدو بتلكَ البساطة مغريةً حدَّ الفتنة؟
نزلَ ببصرهِ على هيئتها ترتدي تنورةً قصيرةً بيضاء، تعانقُ ركبتيها، وكنزةً حمراءَ بحمالاتٍ رفيعةٍ تبرزُ تفاصيلها بأنوثةٍ طاغية، أمَّا خصلاتها، فقد رفعتها بعشوائيةٍ بقلمها، تاركةً بعضها ينسدلُ على وجهها، ليزيدها سحرًا طفوليًا..ظلَّت نظراتهِ عليها، متذكِّرًا طفولتها وأنَّها دائمًا لم تكن بحاجةٍ إلى أن تبذلَ جهدًا في إغوائه، حقًّا نقيةً كقطرةِ ندا هوت فوق ورقةِ شجرةٍ في الصباحِ الباكر..
اقتربَ بصمت، خطواتهِ كانت ناعمةً كنسيمِ الليل، أرادَ أن يستمتعَ بتلك اللحظةِ أكثر، أن يراقبها بشغفٍ بل بدقَّاتِ قلبه، فالقربَ بجوارها حياةً منعَّمة، لكنَّهُ توقَّفَ فجأة، حينما تجوَّلت عيناها على بابِ المطبخِ تهمسُ لنفسها:
-دي ريحة إلياس، معقول يكون رجع، هزَّت رأسها تهمسُ لنفسها:
– “إيه الهبل اللي أنا فيه ده؟ معقول أكون حامل؟ يامصيبتي السودة! لا، أكيد علشان وحشني فتهيَّأت لي ريحته… وبعدين حامل إزاي، اتجنِّنتي يا ميرال؟ خلاص!”
شهقت بخفَّة، ثمَّ ألقت ما بيدها، وطافت بنظرها سريعًا نحو بابِ المطبخ، مرَّةً أخرى حينما امتلأت رئتيها من رائحته، استندت بكفَّيها على الطاولة، تهزُّ رأسها بيأسٍ وهي تهمسُ بتذمر:
– “جنِّنك ابنِ السيوفي، كمِّلي أكلك يا فاشلة، بدل ما يجي يتفلسف عليَّ ويعمل فيها الشيف الشربيني!”
ابتسم وظلَّ بمكانهِ بركنهِ يتابعها بشغف، كيف كان يمنعُ نفسهِ من تلك المتعةِ وهو يراقبها..عقدَ ذراعيهِ على صدره، وبقيت عيناهُ تتابعُ كلَّ تفصيلةٍ فيها، كلَّ حركةٍ صغيرةٍ تصدرُ منها. كانت كالأرضِ الخصبةِ التي يزرعُ فيها شغفه، كلَّما نظرَ إليها ازدادَ توقهِ إليها أكثر..
أخيرًا، لم يستطع منعَ نفسهِ من الاقترابِ أكثر…خطا بخطواتٍ سلحفية، حتى توقَّفَ خلفها..لم تلاحظ وجودهِ بل كانت غارقةً في بعملها ..
حاصرها بينهِ وبين الطاولة، جسدهِ الذي أطبقَ على صدرها من رائحته، رفعت رأسها، إلَّا أنَّهُ مالَ برأسهِ قليلًا وهمسَ بصوتٍ خافت، عميق، لكنَّه مشحون بالكثير المشاعر :
– “مين اللي جنِّنك يا ميرال؟”
شهقت بحدَّة، وانتفضَ جسدها قليلًا، قبل أن تستديرَ ببطء، عيناها متسعتانِ بصدمة، تلتقي بعينيهِ التي كانت تحاصرها بثبات، كصيَّادٍ صبورٍ وجد أخيرًا فريسته..
-إلياس..جذبَ رأسها إلى صدرهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-خضيتك ولَّا إيه؟..تناست كلَّ شيئٍ سوى أنَّها بأحضانهِ لتلتفتَ تحاوطُ خصره:
-حرام عليك فكَّرت نفسي اتجنِّنت لمَّا شميِّت ريحتك ومشفتكش..
ابتعدَ عنها يرفعُ ذقنها:
-ريحتي مميزة لدرجادي؟..
-أوي..قالتها بعيونٍ لامعة..حمحمَ متراجعًا:
-اللهمَّ إنِّي صايم..المهمّ بتعملي إيه ومشغولة فيه لدرجة محستيش بدخولي؟..
نظرت إلى الطعامِ وهتفت كالأطفال:
-حبيبي الصبح طلب منِّي محشي، عارفة أنُّه مش هياكل، بس أنا ماصدَّقت الصراحة يطلب منِّي حاجة واتحجِّجت علشان أعمل أيِّ حاجة..
-ياااه، لا لازم تقول لحبيبك على مجهودك الجبَّار، كفاية بس وقوفك في المطبخ برجليكي الحلوة دي، ورقبتك و..
صمتَ مستغفرًا ربَّهِ ثمَّ تحرَّكَ للخارج..
-إلياس..توقَّفَ مستديرًا برأسهِ منتظرًا حديثها، اقتربت منه مبتسمة:
-عايزة أقول لحبيبي وحشت حبيبتك أوي أوي، والنهاردة أسعد يوم في حياتها كلَّها..ظلَّ ينظرُ إليها بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ رد:
-وهو بيقولِّك من يوم ما لسانك نطق اسمه وأيَّامه كلَّها حلوة أوي..
هطلع ومش هنزل غير على المغرب ودا بعيدًا عن فتنةِ سيدةِ نساءِ الكون..
-سيدةُ نساءِ الكون..ردَّدتها مبتسمة..
أومأ وعانقها بعينيه:
– وسيَّدةُ قلبي حبيبتي..قالها وانطلقَ للخارج..
بعد فترةٍ وضعت الطعامَ على الطاولة، وانتهت من تجهيزِ مستلزماتها من عصائرَ وكلَّ مايُوضعُ على طاولةِ رمضان من ألذِّ وأشهى المأكولات..
صعدت إلى غرفتهما، وجدته غارقًا بالنوم، اتَّجهت إلى حمَّامها وقامت بتبديلِ ثيابها إلى رداءٍ رقيقٍ أظهرَ قوامها الرشيق، ثمَّ قامت بنثرِ عطرها المميَّز، جذبت وشاحًا خفيفًا وضعتهُ حول عنقها، ثمَّ اتَّجهت إليه بعدما استمعت إلى انطلاقِ مدفعِ الإفطار، جلست بجوارهِ على الفراشِ تخلِّلُ أناملها بخصلاتهِ تهمسُ اسمه:
-حبيبي قوم المغرب أذن…فتحَ عينيهِ بإرهاقٍ يهمسُ بخفوت:
-نمت دا كلُّه؟..توقَّفت متَّجهةً إلى إسدالها، هروح أصلِّي لمَّا تفوق..
انتفضَ وعيناهُ لا تزالانِ مثقلتينِ بالنعاس، ثمَّ أمسكَ بكفَّيها بلطف:
-“استني هتوضا بسرعة ونصلِّي جماعة.”
تألقت عيناها ببريقِ الرضا، وأشارت إلى الإسدالِ بابتسامةٍ دافئة:
– “هلبس لمَّا تخلص.”
هبطت بعد الصلاةِ إلى الأسفل، وقفت أمامَ المربيَّةِ بهدوء:
“هاتي يوسف وروحي افطري.”
– “مينفعشِ يا مدام…”
لكنها جذبت طفلها من أحضانها برفق، وأشارت لها بابتسامةٍ حانية:
– “روحي افطري، مالكيش دعوة بيه، أنا ههتم.”
قالتها بنزولِ إلياس، وعيناهُ تبحثُ عنها بين الأرجاء، وما إن وجدها تحملُ طفلهما، اقتربَ منها بحنان، طوَّقَ كتفيها بذراعهِ الدافئة، ثمَّ قادها نحو الطاولة، سحبَ مقعدها، وجذبَ طفلهِ ليجلسهُ على ساقيهِ بحب.
“حبيب بابا كان صايم هوَّ كمان؟”
ضحكت بخفوت، قرَّبت مقعدها منه، وجذبت طبقَ الطعامِ أمامه :
– “المحشي أهه…بس عادي مش هزعل لو مش هتاكل حاجة غصب عنك.”
ابتسمَ بخبث، وأمسكَ بكفِّها التي تمسكُ بالشوكة، رفعها إلى فمه، وتذوَّقَ المحشي، نظرَ إليها بمكرٍ وقال:
– “كده أنا أحبِّ المحشي.”
ضحكت، وأسندت رأسها على كتفه، همست بصوتٍ دافئ:
-“بس بقى علشان أصدَّق إنَّك إلياس، كده ممكن أروح منَّك.”
-“لا والله؟ دا كلُّه علشان باكل محشي؟”
-“الصراحة آه، إنتَ ناسي ولَّا إيه؟”
ضحكَ بصوتٍ خافت، بينما بدأت تطعمهُ بنفسها من الطعامِ الذي أعدَّتهُ بحب، ثمَّ أردفت:
– “بس عارفة، لمَّا بتاكل حاجة غصب عنَّك بتحسِّس منها، وممكن بطنك تفضل وجعاك طول اليوم، فبلاش محشي، خلِّينا في سلطاتك ولحومك، شايلة منها كلِّ حاجة، مفيش دهون، يعني زي ما بتحبَّها.”
نظرَ إليها بصمت، وكأنَّهُ يرسمُ تفاصيلَ وجهها المحبَّبة، تاهت عيناهُ في ملامحها، في ابتسامتها، في عينيها التي تعكسُ كلَّ الحبِّ إليه… فجأةً لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يهمسُ بصوتٍ خفيض لكنَّهُ مشحونًا بالمشاعر:
-“بحبِّك.”
ارتجفت أناملها، وسقطت الشوكةُ من يدها، لم تتوقَّع أن يقولها الآن، بهذهِ العفوية، بهذهِ القوة..رفعت عينيها إليه بذهول، لكنَّهُ كان ينظرُ إليها بنفسِ العشق، بنفسِ اللهفة التي تذيبها..
احتضنتهُ بعينيها، قبلَ أن تهمسَ بصوتٍ مرتعش:
– “وأنا كمان بحبَّك أوي.”
رفعَ كفَّها، ولثمها برقَّةٍ جعلت قلبها يخفقُ بجنون، ثمَّ قال:
-“تسلم إيدك حبيبتي، الأكل حلو أوي، بس بلاش توقفي تاني في المطبخ، كفاية عليكي شغلك ويوسف.”
– “بس أنا مش تعبانة ياإلياس، وبحبِّ الطبخ، وبكون سعيدة لمَّا تطلب حاجة.”
اقتربَ أكثر، واحتضنَ ثغرها للحظات، قبلةً لم تكن مجرَّد قبلة، بل كانت وعدًا، كانت لغةً لا تحتاجُ إلى كلمات..
فصلَ قبلتهِ يحتضنُ وجهها:
“أحسن أكل، وأحسن زوجة في الدنيا.”
بدأ يطعمها كما أطعمته، يبادلها الحبَّ ليس بالكلماتِ فقط، بل بالنظرات، بكلِّ لمسة، بكلِّ لحظةٍ يقضيها بجانبها.
بعد فترة، كانت تقفُ أمامَ المرآة، ترتدي عقدها، اقتربَ منها، ووقفَ خلفها، رفعَ خصلاتها الناعمة ليتمكنَ من إغلاقِ السلسلة، ثمَّ همسَ بجوارِ أذنها، بصوتٍ دافئٍ كنسيمِ الليل:
– “الحسين النهاردة هينوَّر بعصفورة قلبي.”
شعرت بقشعريرةٍ دافئةٍ تسري في جسدها، استندت بجسدها إلى صدره، ثمَّ سحبت كفَّيهِ ليحيطَ بها، ثمَّ همست وهي تشيرُ إلى قلبه:
– “مش فارق معايا حبيبي أيِّ مكان، المهم أكون هنا وبس.”قالتها وهي تشيرُ إلى حضنه..
ضحكَ بخفوت، وشدَّدَ من احتضانه، وكأنَّها كنزهِ الذي يخشى أن يضيعَ منه، طبعَ قبلةً طويلةً على رأسها، همس:
– “دائمًا إنتي هنا ثقي في دا “
-أنا كلمت اسلام وغادة هيسبقونا على هناك، وكمان رؤى معاهم، مش عايزك تاخدي منها موقف، انا عيني عليها، اوعي تفكري أنها تعنيني
-أنا واثقة فيك ياالياس، بس مش انت بتقول اختي، قلبي مش عارف يصفلها
-براحتك حبيبتي..المهم مش عايزها تفقد ثقتك فيا وتفكري ..بترت حديثه بعدما وضعت أناملها على شفتيه
-انا واثقة فيك اكتر من نفسي، بس حتة غيرة الستات دي فطرة جوانا،وزي ماانت شايف رغم أننا اخوات بس بجد مش متقبلة قربها منك، لو شايف دا مش من حقي مش هتكلم
صمت فقط بنظرات تنبض بلهيب العشق إلى أن انحنى يهمس لها بعض الكلمات مما جعلها تدفن رأسها بصدره
-بس بقى !!
قهقه عليها وهو يضمها بقوة ومازال يعبث بقلبها بمهارة رجل عاشق حد الجنون، مما جعلها تفقد اتزانها ليصل بها إلى ماتمناه
بعد فترةٍ وصلَ إلى الحسين بعددْ من حرسه، كان بانتظارهِ أرسلان وغرام، إسلام، رؤى، ملك..
جلسَ بمكانهم المخصَّص لهم وهو يحملُ طفلهِ ثمَّ أشارَ إلى أرسلان:
-خُد شيل يالا الملك بتاع العيلة، إنتَ عم ببلاش ياخويا..
تلقاهُ أرسلان يرفعهُ بالهواء، فارتفعَ بكاءَ الطفل..انتفضَ بقلبٍ مفزوع:
-والله إنتَ غبي يابني، كدا تخوُّفه..
-أخوِّف مين؟..دا ابنِ إلياس وبعدين هوَّ فاهم حاجة..
الواد دا عنده قدِّ إيه ياميرو؟..
جذبَ منهُ الطفل:
-ميرو في عينك، إحنا قاعدين في البيت، ثمَّ التفتَ إليها:
-ميرو..نظرت إليه مبتسمةً وتعلقت عيناها بهيئته وهو يقف بجوار ارسلان يحمل طفلهما، ويتحدث، كأنها لأول مرة تراه، هل جنون العشق يصل العاشق لتلك السعادة، لكزتها غادة
-وشك منور الله اكبر، ايه الحلاوة دي
ردت عليها ومازالت تحاصره بنظراتها
-لسة هطلب ايه ياغادة، ابني وجوزي في حضني ودي أهم حاجة
ربتت على كفَّيها متمتمة:
-ربِّنا يسعدك ياروحي يارب..قاطعهما وصولُ إسلام وهو يحملُ يوسف:
-خدي ابنك كفاية إيد واحدة ياستِّ الكونتيسة..
تلقَّفتهُ رؤى وتوقَّفت:
-مش من حقِّ خالتو تشيله كمان، متخافوش هروح عند باباه..قالتها وتحرَّكت به إلى إلياس وأرسلان اللذان يبتعدانِ عنهما ببعضِ الخطوات..هبَّ إلياس من مكانهِ مقتربًا منهم بعدما استمعَ الى شجارٍ بالقربِ من جلوسهم يصيحُ على أرسلان:
-لازم نمشي من هنا بسرعة..قالها متَّجهًا إلى رؤى التي تلاعبُ الطفل، بعدما ابتعدت عنهما بعض الامتار بينما ميرال تحرَّكت بجوارِ غرام وملك وغادة إلى متجرِ أنتيكات..لحظات وحدث هرجٌ ومرجٌ بالمكان، لتهربَ من الجميع تبحثُ عن إلياس وطفلها بقلبٍ منتفض..
التعليقات