التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السابع عشر

-خُلق القلب عصيًا: كُنتُ دائمًا خارج السِرب، لا أحد يعرف ما يدور في ذهني، لا أتعمقُ مع أحد، كأنما لي قضية أُخرى و أرضٌ أُخرى وحربٌ لا تعني الجميع.

-مُراد؟ أنتَ أيه جابك هنا؟
بمزيج من التوتر و الدهشة أردفت عالية سؤالها التلقائي الهارب من بين شفتيها المرتعشة. رفع حاجبه مُجيبًا:
-هنتكلم على الباب كده!
بدون إدراك: -هاه؟ هنتكلم في أيه!
تقدم خطوة للداخل فتراجعتها للوراء وهي تُراقب ملامحه المُقلقة الذي أكدها بجُملته المتلونة: -عن ابني مثلًا؟
لكت الكلمات في ثغرها من وقع الصدمة على مسامعها وسألته ببراءة: -ابنك أيه يا مراد! أيه الهبل ده؟

تحكم في إظهار غضبه وقال: -هو بالظبط الهبل ده اللي جاي افهمه منك.
في تلك اللحظة خرجت سوزان من المطبخ وبيدها المنشفة الصغيرة وهي تجفف يدها متسائلة بجهل عن هوية الطارق حتى سقطت أعينها على مراد الواقف يشع من بين ملامحه حُمرة الغضب المدفون. ولت عالية إليها وقالت بتردد:
-ده مراد، جاي وبيقول كلام غريب كده مش فاهماه. أنا أنا مش عارفة هو جاب الكلام ده منين.؟

اقتربت سوزان منهم وهي تفحص مراد بنظراتها الكاشفة وقالت بحدة: -عالية، شوفي قهوة مراد بيه أيه!
زمجرت رياح غضبه عندما تدخلت سوزان بالأمر وقال: -مش جاي اضايف هنا.
أشارت سوزان لعالية بنظرة فهمت مغزاها، حيث تراجعت متجهة ناحية المطبخ لإعداد قهوته، تحدثت سوزان إليه بصرامة:
-اتفضل يا مراد، وهفهمك كل حاجة. بس أكيد مش هنتكلم على الباب.

دخل مراد على مضض وجلس بأقرب مكان للضيافة، جلست الأخيرة واضعة ساق فوق الأخرى وسألته: -مالك بعالية.؟
رد بجدية: -كلامي مش معاكي خالص، لو سمحتِ نادي عليها.
تطرقت سوزان إلى الموضوع بجراءة: -أنتَ متعصب عشان عرفت أنها حامل؟
خرج مراد عن صمته معترضًا: -أنا عايز أعرف ده حصل أزاي؟
تخابثت عليه قائلة: -هو ايه اللي حصل أزاي، عالية كانت مراتك ولسه في شهور العدة طبيعي في احتمالية حمل، أنت مستغرب ليه؟

زفر مراد بنفاذ صبر وانفجر: -حامل أزاي وأنا وهي كنا في حكم المخطوبين!
أصدرت سوزان إيماءة خبيثة وقالت بمكر متعمدة إثارة غضبه: -أنا مش عارفة أزاي راجل زيك يقدر يقاوم واحدة في رقة وجمال عالية، كل الرجالة تتمنى ضفرها.
-جوازنا كان له ظروف خاصة. ومن حقي أعرف الحمل ده جيه منين!
سوزان بحدة: -أهدي يا مراد! وعرفني الأول أنت معترض على الحمل ولا على وجود حاجة تربطك بعالية.؟

ضرب كف على الأخر: -أنا بقول أيه وحضرتك بتقولي أيه؟
-يعني لو عالية طلعت حامل بجد، هتتخلى عنها حتى ولو متأكد أن محصلش بينكم حاجة!
نفذ صبره من ألاعيبها ونهض معترضًا: -ده جنان رسمي، مستحيل عالية تعمل كده!
بدت ابتسامة الرضا تشق ثغر سوزان حتى ابتلعتها قائلة: -طيب كويس أنك عارف عالية وأخلاقها، ليه العصبية دي كلها بقا؟
انعقد حاجبيه بامتعاض: -يعني أيه؟
-متقلقش، عالية مش حامل والهبل ده كُله محصلش!

جلس مراد بتأني: -أومال أيه اللي سمعته ده؟
شرعت سوزان في إيضاح الفكرة له ورواية ما أجبرها على قول هذا حتى ختمت جملتها: -طبعا تصرف بديهي منها عشان تخلص من زن خالتك، ومكنتش مفكرة أن الموضوع يكبر للدرجة دي!
اشتعلت نيران الغيرة بجوفه: -يعني أيه يتقدم لها عريس وهي لسه في فترة العدة! وكمان مفيش طلاق رسمي!

-عادي بقا يا مراد. عالية بنت رقيقة ومن عيلة و وارد يتقدم لها عريس كل شوية، آكيد مش هتوقف حياتها عشان ماضي!، ده مش موضوعنا دلوقتِ، اتمنى الصورة تكون وضحت.
هز رأسه متقبلًا الأمر بغضب حتى أتت عالية حاملة كوب القهوة بيدها المرتجفة ووضعتها أمامه: -قهوتك يا مُراد.
رمقها بنظرة تحمل الكثير من الاشتياق ممزوجة بالشُكر حتى قطعت سوزان الصمت السائد بينهم: -في حاجة تانية محتاج تعرفها يا مُراد!

حدج عالية بنظرة فضولية: -ليه ما قولتيش على اللي اسمه وليد ده وكنت هتصرف!
فركت كفوفها ببعضهم ورمقته بتوجس: -عادي مجتش مناسبة!
-والله! طيب والحل دلوقتِ، عُمر الكذب قصير وحوار زي ده مش هيعدي على خالتي بسهولة كده؟
تدخلت سوزان لتلعب على أوتار رجولته: -متشغلش بالك، كله هيتحل، المهم نقفل موضوع وليد ده لانه مكنش عاجب عالية، مسيرها تقابل اللي يعجبها وتوافق عليه. مش كده يا عالية؟
زامت ثغرها بصدمة: -هااه!

تجثمت جمرات الغضب فوق قلبه المحترق بنيران الغيرة ورمقها بنظرة حائرة: -وأنتِ أيه رأيك يا عالية في الكلام ده!
تأهبت سوزان أن تفسح لهم مجالًا للحوار خاصة بعد ما تأكدت من مشاعر مراد نحوها، وقالت: -أسيبكم تتكلموا شوية، يمكن مراد عايز يقول حاجة.
وقف مراد حاسمًا قراره: -أنا عرفت اللي جيت عشانه، هستأذن خلاص.
رمقته سوزان باستغباء وقالت بنظرة تحمل العتاب: -براحتك، نورت.
وجه سؤاله لعالية: -هتقعدي كتير هنا!

ردت ب حيرة: -مش عارفة.
أخذ مفاتيحه ونصب قامته وولى مغادرًا متجاهلًا جميع المشاعر التي هجمت على قلبه وقراراته الصائبة التي أخذها بالعمرة منتويا إراجاعها لعصمته مرة آخرى، خاصة بعد ما ألقت سوزان بجوفه شرارة الغيرة عزم ألا يتسرع في قراره ويرحل متفاديًا أي قرار متهور.

تبادلت النظرات كل من عالية وسوزان التي رمقتها بنظرة اطمئنان حتى غادر مراد فجلست عالية على مقعدها ترتعش وترتجف، جلست سوزان لمواساتها: -مالك بس! أهدي. صدقيني هيرجع، أنا قريته من أول ما قعد.
أخذت تفرك في كفيها بإضطراب: -أول ما شفته حسيت إني مهزوزة. عايزة أعيط أقول له خليك ما تمشيش. وشه كان صافي وأبيض هو طبيعي ولا أنا اللي ببالغ. أنا ليه حاسة بالدربكة دي، حتى مش قادرة اتنفس؟

ابتسمت سوزان بحب واحتوت كفيها المرتعشة: -عشان حبتيه يا عالية!
-معقولة. يعني مش ممكن يكون وهم أو تعود. أنا أيديا متلجة ليه، شايفة!

تأملت سوزان كفيها بشفقة حتى سقطت عينيها على الشامة الصغيرة المخبأة تحت معصم كُمها الشتوي، أطالت سوزان النظر بتلك الوحمة وتذكرت تفاصيل ابنتها التي جاءت بها الممرضة لتُرضعها لأول مرة سبب ضعف حالتها، فأول ما رأته كانت تلك الشامة الصغيرة التي نُقشت على مؤخرة ابهامها ونفسها التي امتاز بها والدها. تسربت قطرات الشك إليها فقطعتها عالية حائرة:
-طنط حضرتك روحتي فين!

ردت برتابة: -هاه! معاكي. معاكي يا حبيبتي، متقلقيش كله هيبقى تمام.

أمام الشاطيء بالبحر الأحمر
– لحد أمتى هتفضلي تهربي من الأسئلة اللي مش بتعجبك.
أردف تميم جملته على آذان شمس المتحررة من حجابها لأول مرة وهي تجلس على الشاطئ بجواره شاردة بعدما تهربت من الإجابه عن سؤاله الذي سيفتح أبواب موصدة بقلبها تعمدت أن تُغلقها. أرجعت خصلة من شعرها المتطاير وقالت:
-لا أبدًا، ههرب ليه؟
-أومال مجاوبتيش ليه!

فارقت مقعدها وشردت طويلًا بالبحر تشاور قلبها ثم عادت إليه وقالت: -عشان مش وقته.
-أمتى وقته يا شمس!
عادت مرة أخرى لتجلس بجواره وقالت بحيرة: -تميم، أنا عشت ظروف صعبة وعانيت، ظروف خلتني أقفل على قلبي بمفتاح. مش عايزة أجيب أطفال يعيشوا اللي أنا عشته.

سألها متحيرًا: -وأيه وصلك للحالة دي! ليه الإنسان يقتل فطرته اللي خلقها ربنا. ليه ترفضي تعيشي وتحبي وتحكمي بفشلك لمجرد أن ناس كتير فشلت قدامك! كل واحد له تجربته ياشمس.

-أنا فاهمة كُل ده، بس مش عارفة اتخطى الناس قالت أيه على عمتي لمجرد أنها حبت واحد وهربت معاه، مش ناسية الكُره اللي كنت أشوفه في عيون بابا لما ساب البلد من الفضيحة وجيه هنا بدأ حياته من الصفر. مش ناسية جدتي اللي عاشت قصة حب عظيمة مع جدي وفي الأخر سابها ومشي! مش قادرة اتخطى أني كُنت نايمة في حضن أمي وصحيت لقيتها في حضن التُراب!
أخذت تجفف عبراتها المترقرقة وأكملت: -الحُب أخرته فُراق يا تميم مهما طال.

-والحل إنك تعيشي قافلة على قلبك كده!
ردت بشك: -عارفة انه مش حل، بس على الأقل أضمن أني متوجعش بعدين، مش عايزة أعيش مهددة بالخوف من فقدان حد عزيز على قلبي…
انفطر قلبه عن كم المآسي المتكدسة بقلبها ولكنه قرر تشتيت الوجع عنها قائلًا:
-وتصرفك مع عبلة لما عرفتي أنها ناوية تخلص مني كان نابع من جواكي عشان مش عايزة تفقدي عزيز بردو!
اهتزت من مجلسها وكادت أن ترحل فأمسك بيدها: -أحنا لسه بنتكلم،!

عادت لتهدأ في مكانها بعد ما جفف عبراتها وانوت أن تفتح طاقة نور لقلبها:
-تميم أنا مش هنكر أول مرة شوفتك فيها اتشديت لك، واتشديت لذكائك، وشخصيتك، حسيتك حد مختلف عن كل اللي في القصر. بس مكنش ينفع ودوست على المشاعر دي واتعاملت معاك أنك مجرد حالة وبس.
-وبعدين!

تاهت في عينيه شاردة: -معرفش ليه الأيام جمعتنا تاني، معرفش ليه وافقت متحججة بانتقامي من عبلة وأنا أضعف من إني انتقم. بس طول الوقت كان بيراودني شعور مش عايزة اسيبك لوحدك.
انشقت ابتسامة الأمل على وجهه وسألها: -ليه!
تنهدت بتردد: -ممكن نأجل ليه دي لحد ما اطمن عليك وترجع تقف على رجليك تاني!
احتوى كفها المرتعش: -موافق، بس ليا شرط…
-شرط أيه،!

في باريس
تقترب منه بخطوات مترددة خاصة بعدما تجنبت الحديث معه تمامًا إثر قنابل الغضب المدفونة بملامحه، وقفت وراءه تفكر فيما ستبدأ به الحوار حتى استقرت قائلة:
-أنا نيمت البنات.
أومأ بعدم اهتمام وهو يطالع النافذة من خلف الزجاج دون النظر إليها، اقتربت منه خطوة سُلحفية وسألته:
-هو يسري قال لك أيه للعصبية دي كلها!
أخذ نفسًا طويلًا من السيجارة المستقرة بين أصبعيه و رد بضيق:.

-متشغليش بالك، روحي نامي أنتِ كمان.
وضعت كفها المتردد على كتفه وقالت بتوجس: -لو في مشكلة ممكن تحكي لي ونحلها سوا.
تأفف باختناق وزمجرت رياح غضبه طائحة بوجهها: -مفيش يا حياة.

تقهقر كفها من عليه بخذلان وتراجعت بدون كلمة إضافية، نزعت سترتها الشتوية وتركتها على المقعد مكتفية بمنامتها المتكونة من بنطال وسترة بحمالات رفيعه من خامة القطيفة باللون البني. ثم اتخذت من طرف فراشه مأوى لها، نائمة نومتها الطفولية التي اعتادتها عند غضبها وهي الإستلقاء على بطنها دافنة وجهها بالوسادة.

تسرب وميض الندم إلى أعماقه عندما فرغ من سيجارته ثم تخلص من ملابسه الثقيلة مرتديًا زيه الخاص بالنوم وما انتهى من مهمته وقف على طرف السرير يتأمل نومتها التي لا تختلف عن ابنتيه، تبسم متعجبًا على وضعيتها الطفولية المكنونة في جسد إمراة مثيرة مثلها.
استلقى بجوارها بهدوء وشرع في تدليك كتفيها برفق هامسًا: -لسه منمتيش!

تململت بخفة متجاهله تصرفه الذي وقع صداه على كيانها كالنيران التي تأكل بغابة. استمر في مداعبة فقرات ظهرها كأنه يحمل إعتذارًا عن جفاءه معها حتى تمتم قائلًا:
-متزعليش.
ردت بدون النظر إليه مسترخية تحت ظل لمساته الدافئة:
-مش زعلانه!

أخذ يغازل فقرات ظهرها بحركة دائرية أصابت مشاعرها بجنون لم تتحمل كتمانه برز في عروق يدها القابضة على الوسادة وهي تبتلع حلقها بصعوبة حتى باغتها بقُبلة خفيفة على كتفها العارٍ وقال:
-تصبحي على خير.
التقطت أنفاسها بعناء بعد ما أشعل بحقل مشاعرها النار التي جاءت لتصهر جبال الثلج المتراكمة بداخلها ناحيته، تمدد بجوارها رافعًا معصمه فوق رأسه متخذًا وضعية النوم، فاستدارت إليه وسألته بخفوت:
-هنرجع بكرة أمتى؟

رد باختصار: -الصبح.
تفوهت بنبرة خافضة: -تمام.
تسربت همساتها لسيل كهربائي أصاب قلبه المُكبل عنها، فاعتدل مُطلًا على بحيرتها الزرقاء هائمًا بسحرهم وقال متعمدًا فتح حوارًا معها:
-عندي مشاكل في الشغل، متزعليش لو اتعصبت عليكِ.
ردت ناصحة: -مشاكل الشغل عُمرها ما بتخلص، ومش مبرر لكل العصبية دي، لما تكون هادي هتاخد قرارات أصح.
أجابها غارقًا ببحورها: -أنتِ صح!

ثم وضع كفه على وجنتها وأخذ يُداعبها بلطفٍ: -لسه زعلانة!
اكتفت بإصدار صوتًا نافيًا وهي تتأمله بفيض من الانبهار بشخصيته الجديدة التي تجردت أمامها: -توء.

توغل في أحشاء جمالها الساحر وتناسى هم الدنيا على شفاهها التي لها مذاق يفوق سُكر النبيذ، أخذت أنفاسه المدججة بلهب الاشتهاء تحرق في ملامحها المشدوهة والتي تتأمله بحنين لم تعهده من قبل، انطبقت جفونه في اللحظة التي أوشك فيها أن يرتشف من مراده ففوجئ بسبابتها فوق ثغره تخمد مشاعره الثائرة وتقول جملتها الأخيرة قبل أن تولى وجهها عنه:
-تصبح على خير.

أغمض جفونه وزفر بصوت مرتفع ليطرد مشاعره المضرمة بثلج الرفض الذي أعلنته بوجهه. دارت إلى الجهة الأخرى تعاتب نفسها عما فعلته خاصة أن دواخلها باتت مُغرمة بقربه ولكن سيفها المتمرد لازال عاصيًا لم يخضع له بعد. طوى عاصي ستار مشاعره عنها وهو يكتظ غيظًا من تصرفها ورفضها الدائم إليه، انسحب بهدوء من جوارها واستلقى على الأريكة المجاورة للمدفأة بالغرفة. أرسلت إليه نظرة أخيرة تحمل الاعتذار ثم غاصت في بحر حيرتها خاصة بعد ما ضمت وسادته إلى أنفاسها لتملأ جيوب صدرها من عطره المحبب لها…

بالغردقة
عاد فريد حاملًا بيده كأسين من الخمر بيده لاستقبال عبلة في بيته الصيفي ووضعه أمامها قائلًا:
-أنا النهاردة مش مصدق نفسي. معقولة عبلة هانم المحلاوي منورة بيتي المتواضع.
أخذت الكأس منه وتجرعته مرة واحدة وقالت بميوعة: -شفت بقا! يلا خليك عند وعدك ليا ونسيني كل الهموم اللي هربت منها.
ارتمى فريد بجوارها وسألها: -كمية اللؤلؤ جاهزة، عاصي بيه ناوي يشيل أمتى!

قهقهت عبلة ويبدو عليها علامات التغيب عن الوعي خاصة بعد ما شدت الكأس الثاني منه وقالت بعتب:
-سيبك من عاصي دلوقتِ، أنا مش عايزة افتكر لا عاصي ولا عالية ولا حد منهم خالص.
ثم دنت منه بحركات مثيرة لها تمرر كفها على وجنتيه وقالت: -أنا عايزة انسى كُل ده.
ارتسمت ابتسامة خبيثة على وجه فريد وانحنى ليحملها بين يده ليُكمل نجاح خطته التي سعى لها طويلًا خاصة بعد تأكده من تفاعل المادة المخدرة بجسدها…

في صباح اليوم التالي
قيل قديمًا: لن ينام الليل إلا خالي القلب و البال.

أطول ليلة مرت على سوزان التي تتقلب على فراشها وكأنه مفرط بجمر ملتهب، لم يفارق ذهنها الشامة التي تُزين معصم كف عالية الأيسر، مقارنة بنفس الشامة التي كانت تحملها طفلتها من قبل، أخذت تتذكر وقوف عبلة بجوارها في أمريكا ومساندها لها أثناء فترة وضعها ومفارقتها لابنتها. حاولت تذكر ملامح الصغيرة المتوفاه التي قُدمت لها وتعصر ذاكرتها إذا كانت نفس التفاصيل الأولية للفتاة التي أرضعتها أم لا.

نفضت غبار الهواجس التي استفردت بها طوال الليل ونهضت سريعًا مفارقة فراشها وتقول لنفسها:
-آكيد في حاجة غلط.
ارتدت روبها الشتوي ولفت حزامه حول خصرها وذهبت بتمهل نحو غرفة عالية فوجدتها نائمة في حضن وسادتها كفراشة لم تجد من يعانقها فعانقت هي جميع الزهور. قفلت الباب على مهل بعد ما تسرب إليها شعور الأمومة نحوها ووقفت حائرة:
-معقولة! فوقي يا سوزان. عبلة هتعمل كده ليه، بنتك ماتت من 25 سنة.

ثم تطرقت إلى رأسها تفاصيل اختفاء عبلة المفاجئ تحججها بمرض شهاب دويدار وعودتها إلى مصر بعد أيام قليلة. هبطت سوزان إلى المطبخ لتعد كوبًا من القهوة حتى فارت منها فلعنت نفسها سرًا ثم قامت بصنع واحدة جديدة، وخرجت إلى حديقة منزلها لتتنفس هواء نقي يزيح عنها غيمة أفكارها السوداوية.

ما كادت أن تخطو خطوتين ففوجئت بسيارة مراد تصف أمام منزلها، تركت كوب القهوة من يدها وهرولت نحوه فوجدته نائمًا بداخل سيارته، طرقت الباب بخفة حتى فاق من نومته وفتح الزجاج بحرج سائد إثر سؤالها:
-مراد أنت هنا بتعمل أيه؟
بدت الحيرة تتجول على ملامحه وقال بزيف وهو يفرك عينيه:
-واضح أني راحت عليا نومة. أنا بعتذر.
فتحت له باب السيارة وطلبت منه: -طيب انزل اغسل وشك ونشرب قهوة.

اعتذر بخجل وهو يبحث عن مفاتيح سيارته: -مفيش داعي، أنا همشي.
أصرت سوزان أن ينفذ كلامها وحاولت تقنعه أنه لا يمكنه القيادة في مثل حالته حتى لبى طلبها على مضض. دخل برفقتها إلى بيتها وسألها:
-عالية لسه نايمة!
ردت بهدوء: -ااه. تحب أصحيها.
رد برفض قاطع: -ملهوش لزوم.
أومأت بخفوت وهي تشير له إلى المرحاض: -الحمام من هنا، هعملك قهوة.

تحرك مراد نحو الجهة التي أشارت عليها واتجهت سوزان إلى المطبخ لإعداد فنجانين من القهوة. وما فرغ مراد من حمامه خرج فالتقى بها تحمل القهوة بيدها وتُشير له ناحية الصالون ليجلسا.
جلس مراد بحرج وشرع في إبداء أعذار مزيفة حتى لجمته سوزان قائلة:
-ما بلاش لف ودوران يا مراد. أنت عايز أى من عالية!

اهتز الفنجان بيده وهي تكرر سؤالها بحيرة: -هكون عايز أيه منها. آكيد تهمني دي بنت خالتي وراحتها من راحتي ومش هسمح لها تكرر غلطها وتتجوز حد هي مش عايزاه!
-وبس!
رد بشك: -ااه.
-طيب ما تخليك دوغري معايا يمكن أساعدك. يعني نتكلم من غير لف ودوران.؟
-مش فاهم؟
أخرسته بسؤالها الجريئ: -أنت عايز ترجع لعالية؟

تتقلب شمس بقلق بجوار تميم النائم بجانبها تفكر في جُملته الأخيرة وطلبه الصعب وهو يخبرها:
-لحد ما ده يحصل افتحي لي باب واحد في قلبك، أنا راضي. ده لو كان فيه قبول من ناحيتك عشان محسش إني بحاول على الفاضي.
فزعت من نومتها كالملدوغة إثر ما ضرب قلبها من فيض شعوره ثم أخذت ترمق ملامحه الهادئة بتردد وتملأ عيونها منه كي تحسم قرارها، أسهبت التفكير به حتى ختمت حيرتها.

-عايزة أيه يا شمس.؟ يا ترى أخرة الحدوتة دي أيه! يا تبعدي يا تكملي، بلاش توجعيه معاكي.
غادرت فراشه واتجهت نحو المرحاض لتنفرد بحيرتها التي أحسها تميم ففتح جفونه عندما استمع لصوت قفل الباب وقال لنفسه:
-لازم موضوعنا يخلص هنا يا شمس، لازم أعرف مشاعرك قبل ما أكشف كُل ورقي قُدامك.

هبطت الطائرة مطار الغردقة وخلال الرحلة تعمد عاصي تجاهل حياة تمامًا، كان يسبقها الخُطى، يتحاشى النظر إليها، يسير بصمت مريب، حتى أثناء صعودهم طائرته الخاصة تعمد أن يجلس بمقعد منفرد بعيدًا عنهم صامتًا شاردًا.

لم تنكر أن تصرف الفظ أثار الجنون بداخلها. أخذت تُراجع نفسها مرارًا وتكرارًا عن أخطائها معه، عندما وقفت الطائرة جاء المضيفة لتساعدها في حمل حقيبتها الخاصة ومساعدة البنات أما عنه فكان مشغولًا بإجراء العديد من المكالمات الهاتفية حول فريد وهويته الحقيقية.
نزل من سلم الطائرة بمفرده دون الالتفات إليها وإلى حالتها الضعيفة التي اجتاحتها فجاة خاصة استعادة حالة التقيؤ من جديد عندما لمست قدميها أرضية المطار.

ركضت تاليا إلى أبيها مستغيثة: -بابي حياة تعبانة أوي.
تبخر غضبه منها وركض نحوها ملهوفًا وأخذ يمسح قطرات العرق المترقرقة من مسامها ويلملم شعرها المتدلي على وجهها ويسألها بقلق: -حاسة بأيه!
جففت فمها بالمنديل الورقي وطالعته بعينيها الذابلة: -دوخت شوية.
طوق خصرها وضمها إلى صدره كي تستند عليه وسألها: -هتقدري تمشي!
تشبثت بيده وهي تلهث بتعب: -بقيت أحسن.

ساعدها حتى استقلت السيارة وطلب من بناته الجلوس بجوار السائق كي لا يُفارقها وتتخذ من كتفه مسندًا. طول الطريق متشبثه بيده خشية من فقدانه كطفلة تخشى مفارقة أبيها حتى همس بأذانها قائلًا:
-انا بدأت أقلق من حوار الترجيع ده، النهاردة هنروح لدكتور عشان نطمن.
أومات بطاعة ملبية طلبه بدون قدرة منها على المجادلة واكتفت بالاستسلام بين يديه حتى بدأت تستعيد وعيها من جديد وتدرك أين هي.

أخذت عينيها تطالع شوارع الغردقة بذهول فابتعدت عنه متسائلة: -أحنا جينا هنا ليه!
-شغل…
رمقته بفضول: -هنطول!
-مش عارف، أنتِ بقيتي أحسن دلوقتي؟
مسحت على وجهها بأرق ثم أومأت بالإيجاب: -اااه أحسن…
ولت لها تاليا لتطمئن عليها: -حياة أنت خفيتي!
ابتسمت مجاملة وردت بخفوت: -أيوة يا حبيبتي، بقيت كويسة.
علي حدة جاء اتصال هاتفي لعبلة من سوزان التي لا تطمئن لنبرة صوتها وهي تُلح: -عبلة لازم اشوفك النهاردة اتصرفي.

نهض عبلة النائمة بجوار فريد عاريًا الصدر وقالت: -في أيه يا سوزان؟
ردت بحدة: -هستناكي بالليل في النادي تكوني رجعتي…
استيقظ فريد على صوتها الصاخب الذي يجادل سوزان حتى ختمته: -طيب يا سوزان، حاضر، أنا جاية…
-في أيه؟
تفوه فريد بنبرة صوته المبطنة بالنعاس بسؤاله الأخير الذي لم تمهله عبلة الجواب وقالت بحزم: -لازم أرجع القاهرة فورًا…

-كل ما بشوف رقمك عاى موبايلي بقول يا أهلًا بالمصايب!
أردفت نوران جملتها وهي ترد على كريم بتأفف ثم أتاها صوته قائلًا بنبرة مقلقة: -إنزلي مستنيكي في الجنينة! في مصيبة فعلًا
-يابني أنت تغيب تغيب وترجع بمصيبة!
زفر كريم بضيق: -مستنيكي.

مجرد ما أنهى جملته قفل المكالمة معها مما بث نيران القلق بصدرها، تناولت منامتها القطنية وهرولت تتمتم: -مايجيش من وراه غير وجع الدماغ! أما نشوف جاي لنا بأيه المرة دي يا سي كريم!
غادرت الغرفة بعجل متجهة إلى أحد الزواية المخفية بالحديقة وما أن وصلت إليه شرعت في الثرثرة المبالغة:
-أنتَ عارف لو الموضوع مايستاهلش أنا هعمل فيك أيه دلوقت! عشان لو تعبت من الجو البرد ده هيكون بسببك.

خيم الصمت على ملامحه الحائرة حتى باغتته قائلة: -لسانك أكلته القطة ما تنطق يا بني آدم!
فتح هاتفه ومد لها صورة نتيجة تحليل الحمض النووي لعبلة وعالية، حاولت نوران فهم ما يحويه الفحص فسألته بدهشة: -يعني أيه؟
رد بأسف: -مفيش أي تطابق بين خالتي وعالية، معنى كده أن عالية مش أخت تميم ولا عاصي!
اتسعت ملامح نوران بصدمة كبيرة: -مش معقول! أومال عالية تبقى بنت مين؟

وصل عاصي إلى الفندق الخاص به ضاممًا حياة إلى صدره حتى وصل إلى جناحهم الخاص. وصلت إلى فراشه برفقته ثم أشار لها: -ارتاحي وهطلب لك دكتور.
-بس أنا بقيت أحسن.
أصر بحدة: -ممكن تسمعي الكلام!
-طيب أنتَ زعلان ليه؟
هدأ سؤالها من غضبه قليلًا وقال: -متحطيش في بالك، اتفضلي ارتاحي.
وضعت يدها فوق كفه المُلتف على خصرها وقالت بهمس: -زعلك ده مني ولا من مشاكل الشغل!

أطرق بحنان زاخر فاض من عينيه وقال: -يلا نامي وكفاية دلع.
تحدته باتساع عينيها: -مش عايزة أنام. الله!
-طيب عايزة أيه؟
فكرت طويلًا ثم قالت بحيرة: -مش عارفة.
-حياة!
-نعم!
أرسل لها ضحكة خفيفة: -هتبطلي دلع أمتى؟
ابتعت عنه فجأة: -أنا بدلع! خالص على فكرة، أنا لو بدلع كنت قولت لك تعبانة وعايزة أروح عند دكتور، لكن أنا بقول مفيش حاجة.
تحمحم بفظاظة: -تمام، يعني أمشي وأنا مطمن عليكِ!

قرأ بعيونها الرفض ولكن كبريائها أعلن: -براحتك.
ثم أسرعت قائلة: -بس يكون في علمك ممكن أخد البنات وننزل افرجهم على الغردقة لحد ما تخلص شغلك. أحنا أكيد مش هنتحبس هنا.
حدجها بحدة: -خطوة واحدة بره الأوتيل هزعلك.
-أيه ده؟ مابحبش كده على فكرة!
رد متحديًا: -عايزة تجربي زعلي أعملي عكس كده.

ذهبت جيهان إلى مكتب مُراد بعد ما تأكدت من عودته، وبدون سابق إنذار اقتحمت المكتب هاتفه لمساعده بحدة: -سيبنا لوحدنا…
انصرف حمدى إثر إشارة من مقلتي مراد الذي سمح لأمه بالدخول، تقدمت نحوه حتى تأكدت من مغادرة مدير مكتبه وقالت بضجر:
-أنتَ عرفت بحمل بنت عبلة!
رد بهدوء مريب: -اااه عرفت!
ألقت حقيبتها بانزعاج: -هي ازاي مكنتش مراتك وازاي حامل؟ أنتوا بتلعبوا على مين.

-ارتاحي بس يا جيهان هانم وقوليلي أيه مزعلك! واحد مراته طلعت حامل في شهور العدة فين المشكلة!
حدجته بعينيها التي يتلهب منها النار: -معنى كده أن الموضوع جاي على هواك بعد اللي عملته فيك!
-جات من عند ربنا، والحقيقة ظهرت هنعمل أيه؟
حاولت جيهان أن تتمالك أعصابها وسألته: -هاا وبعدين؟ ناوي على أيه يا ابن بطني؟
رد بحيرة زائفة: -آكيد مش هسمح لابني يتربى بعيد عني!

ضربت المكتب بكفها معترضة: -ده على جثتي تخلف من بنت دويدار! أنت نسيت هي عملت فيك أيه.؟
حاول مراد اكتساب شر أمه المندلع وسألها: -عايزاني أعمل أيه وأنا هعمل؟
فكرت جيهان طويلًا حتى قالت: -انت تسيبها متعلقة كدة زي البيت الوقف، وأول ما تولد نخطف الولد ونسفره بره مصر. ونبقى خدنا حقنا منها ومن عيلة دويدار.
بد إعجاب مراد بالفكرة الشيطانية ممثلًا الاقتناع بها وأكمل: -نفس اللي بفكر فيه، بس عندي تعديل بسيط.

-تعديل أيه؟
-هتعرفي وقتها…

حل المساء وجاءت عبلة بلهفة إلى سوزان التي تنظرها بالنادي على نار، مجرد ما جلست أمامها سألتها:
-حصل أيه يا سوزان، وليه القلق ده كله!
تمالكت سوزان أعصابها متعمدة استخدام اسلحتها الباردة: -مراد جيه النهاردة لعالية، وعايز يرد مراته!
-ردت الميه في زوره! ده بيحلم.
سوزان بهدوء: -ده نفس الكلام اللي قُلته، بس هو رفض ابنه يتربى بعيد عنه.
صرخت عبلة بوجهها: -وكان مين عرفه أصلا حوار الحمل؟ عالية؟

أيدت سؤالها بمجازٍ لفظي: -تقدري تقولي كده، البنت بتحبه!
احتلت العواصف الرافضة جسد عبلة التي ظلت تتحدث بدون وعي: -حُب أيه وكلام فارغ أيه يا سوزان، الطفل ده لازم ينزل ونفض السيرة دي خالص. ومحدش هيساعدني غيرك.
تسرب أنين الشك إلى صدر سوزان التي لاحظت جفاء عبلة على ابنتها الوحيدة والتي لا تهتم لمشاعرها وتسعى للخلاص من جنينها متجاهلة الخطورة التي يمكن أن تحل على حياتها، حتى تمتمت بجوفها:
-سرك أيه يا عبلة؟

جاء كريم راكضًا ناحية مراد الذي تأهب أن يستقل سيارته واخذ يلتقط أنفاسه أمامه:
-كويس إني لحقتك…
تعجب مراد من لهفة أخيه وسأله: -مالك؟ حصل أيه.
أشار إليه: -تعالى نتكلم في العربية.
-طيب، أركب…
صعد كريم بجوار أخيه وشرع في رواية من حدث وما تلصص لآذانه عبر الجدران حتى تأكد من حقيقة ما سمعه خاتمًا حديثه الطويل:
-وأدي نتيجة التحليل.
شد مراد الهاتف من أخيها بذهول: -أنتَ بتخرف بتقول أيه؟

-النتيجة أهي، اتاكد بنفسك،!

رفس عاصي بقدمه القوية باب المكتب على فريد الذي يباشر شغله بالميناء في متابعة التجار والعمال وإعطاء الأوامر بتحريك السُفن. في تلك اللحظة سقط الهاتف من يده إثر اقتحام عاصي المهيب وانتشار رجاله بالخارج بكل مكان…
اقترب منه وجلس أمام مكتبه واضعًا ساق فوق الأخرى: -نتعرف ولا أنت عارف؟
صراع نفسي نشب بجوف فريد الذي لا يصدق أعينه ووجود عاصي دويدار أمامه بدون سابق انذار، حاول الحفاظ على هدوئه قائلًا:.

-وهل يخفي القمر عاصي بيه! نورت مكتبي المتواضع.
-تحب نبتدي منين؟
استند فريد على سطح مكتبه بثقة: -من سبب تشريفك ليا في الساعة دي!
هاوده قائلًا: -تحب نبدأ بعلاقتك بعبلة المحلاوي، ولا بحق مراتي اللي أنت لهفته؟
-أسف بس الأولى سهلة، اللي بيني وبين عبلة هانم شُغل وافتكر أنها قالت لك حاجة زي دي، بس مراتك ايه وورث أيه؟
تمتم بغل: -ابتدينا في الاستعباط،!

ثم ضغط على شفته السفلية وأكمل بهدوء: -اركن موضوع عبلة هانم على جمب، معقولة رجالتك مش عرفوك بأن رسيل المصري كانت هنا في الميناء!
تعمد فريد الأنكار وساله: -رسيل! رسيل بنت عمي عايشة؟ هي فين!
أشار له بكفه: -أهدى على نفسك يا حبيبي. ااه هي بنت عمك ومراتي وصاحبة المكان ده كله…
-عاصي بيه، فهمني. أنا مش فاهم حاجة.

بهدوء تام طلب منه: -كل الورق المزيف اللي استوليت بيه على أملاك قنديل المصري عمك، بله وأشرب ميته.
جهر فريد معارضًا: -أنت بتقول أيه؟ أنت فاكر أني هخاف وأكش بالبلطجة دي. أنا ممكن اسجنك…
لا زال عاصي محافظًا على هدوئه الذي يخفي ورائه العواصف ونصحه: -ما تهدا كده وتفهم، بدل ما أنت فارد ضلوعك على مفيش.

ثم أشار لأحد رجاله الذي مد له ملفًا ورقيا: -دي نسخة من أصول المستندات اللي عند المتر سراج، اللي اختفى بعد وفاة قنديل المصري، بس لحسن حظك أن الورق كله اللي يثبت حق تصرف وإدارة أملاك قنديل المصري من بعد منه لبنته رسيل ثم أخواتها كان مع مدير مكتبه.
أحمر وجه فريد إثر الصدمة: -الكلام ده مش صح! أنت بتقول أيه!

فاض صبر عاصي منه الذي ثار بوجهه بعد ما شد السلاح من خصر حارسه ووضعه في رأسه بقوة مريبة: -من بكرة ماشوفش وشك في المكتب ولا في البيت ولا تفكر تظهر لمراتي، عايزك تختفي من الغردقة أحسن ما أنا اللي اسجنك، وتمحي عبلة المحلاوي من ذاكرتك. سمعت ولا أنت لازم تتربى!

علي الناحية الأخرى تجلس حياة تعض على أصابعها انتظارًا خاصة بعد دق الساعة الحادية عشر مساءً بعد ما قتلت وقت فراغها برفقة بناته حتى غلبهم النُعاس، تيقظت براثين عقلها لانتظاره وتخمينها إلى أين ذهب؟ سبح بها علقها بأنه عاد إلى سهراته ولهوه المعتاد بالغردقة خاصة في احتفالات نهاية العام.
أخذت تجوب في الغُرفة ذهابًا وأيابًا تفكر وتملأ رأسها بالأفكار الجنونية حتى يأست فضربت الأرض بقدميها:.

-أيه الهبل ده؟ ما يروح مكان ما يروح وأنا مالي؟
هنا لقد عاد عاصي وعلى وجهه سمات العناء والتعب بعد قضائه لمهمة شاقة لمهاجمة عدوه، مجرد ظهور طيفه من الباب ركضت نحو الأريكة وأخذت تعبث بالمجلة حتى لا تلفت نظره أنها كانت تنتظره.
اقترب منها وارتمى بجوارها متسائلًا: -لسه منمتيش!
-عادي، زهقانة.
-طيب نامي عشان بكرة يومنا طويل…
رمت المجلة من يدها وسألته: -طويل أزاي؟ هنروح فين!

نزع معطفه الشتوي بفتور ونهض بكلل: -هاخد شاور وبكرة هتعرفي.
انتظرته حتى ذهب إلى المرحاض وقفل الباب خلفه فأمسكت بمعطفه وأخذت تفتش في رائحته عن عطر نسائي مختلطًا به حتى باغتها وفتح الباب فجأة فسقط المعطف من يدها المرتجفة وهي ترمقه بصدمة.
اقترب منها بنظراته الفاحصة: -أنتِ بتعملي أيه.
بد الاضطراب على ملامحه وقالت بابتسامة واسعة: -ولا حاجة، أنت عايز حاجة!
رد بعدم تصديق: -نسيت أخد هدومي…

تبادلوا النظرات طويلًا حتى مالت وأمسكت بمعطفه بارتباك بيّن ووضعته على الأريكة كمحاولة لإصلاح خطأها، سار عاصي من جوارها وأحضر ملابسه ومازالت عيناه القناصة ترمقها من رأسها للكاحل حتى عاد إليها متسائلًا:
-مش هتقولي كنتِ بتدوري على أيه؟
ردت بارتباك: -ولا حاجة، كنت كنت بشوف لو فيه حاجة مهمة قبل ما أحطه في الدولاب. بس كده.
دنى منها حد ارتطام أنفاسها بوجنتيها وقال: -متقلقيش، مكنتش مع واحدة.

شهقت بذعر وابتعدت عنه: -وأنا مالي كنت مع مين. أنت حُر، وبعدين الجاكت بتاعك أهو أنت هتلبسني جريمة ولا أيه!
ثم سارت نحو مخدعها لتستعد للنوم وتغمغم: -وأنا هدور وراك ليه! تصبح على خير عشان هنام…

تأكد عاصي من شكوكه ومن غيرتها الواضحة عليها خاصة عندما لاحظ تراقص عينيها بحركات غريبة تعمدت أن تُخفيها عنه، رمى ملابسه على كتفه ثم اتجه ناحية المرحاض وهو يطلق صفيرًا خبيثًا جن جنونها وأخذت تعاتب نفسها: -غبية، غبية…

-اليوم كان جميل أوي النهاردة، والأماكن جميلة جدًا؟
قالت شمس جملتها لتقطع الصمت السائد بينهم على الفراش الذي يجمعهم، تلاقت أعينهم حتى أعلن معترفا:
-والأجمل أنك فتحي قلبك، وعرفت مين هي شمس.
أحست بالإحراج الشديد وقفلت جفونها لتنفرد بتفاصيل اليوم بمخيلتها: -تصبح على خير.
استغل الأمر واختلس قبلة من أنامل كفها وسألها: -كلمتى نوران!
ردت بهدوء: -ااه، وقولت لها أننا هنرجع بكرة، متتصورش وحشتني اد أيه!

-اتبسطي؟
لمعت عيونها التي تشع بفرحة البحر والطبيعة ووجودهم بمفردهم والأحدايث المتبادلة بينهم التي أدت إلى فتح طاقة أمل بقلوبهم، أومأت بالموافقة ثم قفلت جفونها هاربة من سطو نظراته المُربكة…

مر الليل سريعًا حتى انشق الصباح عليهما فوجدت نفسها نائمة بحضنه وتتنفس رائحته وتتحسس دفء أنفاسه الهادئة. اتسعت عيونها بدهشة بثت شعاع نور بقلبها رغبة في لمس ذقنه المهندمة وعيناه النائمة ولكنها تراجعت على الفور ونهضت لتختبىء من ضعفها بالحمام.
استغرقت وقت طويلًا تحت الماء متناسية ملابسها بالخارج حتى سقطت في مأزق جديد، لم تجد أمامها ألا المنامة المُعلقة وراء الباب، فأجبرت على أرتداءها وهي تعتاب نفسها:.

-تستاهلي، عقلك راح فين. يارب يكون نايم.

خرجت على مهل من الباب وهي تتلصص النظر خلفها فوجدته نائمًا بهدوء اطمئن له قلبها، اتبعت الشعاع المنبعث من النافذة وهي تفتش في الخزانة على ملابسها بعجلٍ حتى باغتها بيده المُلتفة حول خصرها وما أن استدارت صارخة إثر الصدمة ابتلع صوتها بقُبلة أخرستها دافنًا أنامله في خصلات شعرها المُبللة متغاضيا عن الحالة التي حلت بكيانها فرغ شهور صبره عليها بفاهها مستسلمًا لجمالها الخالي من مستحضرات التجميل منتشيًا لقربها الذي حرك قلبه الصامد مستمتعًا بها بين يديه معلنًا رغبته في امتلاكها، ابتعد عنها ليتنفس بحُرية فوقعت عيناه على عيونها المتسعة من هول المفاجأة وهو واقفًا أمامها على قدميه بدون مقعده المتحرك، تفوهت بصدمة:.

-ت م ي م!

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *