رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثالث والخمسون
متألمٌ، ممّا أنا متألمُ؟
حار السؤالُ، وأطرق المستفهمُ
ماذا أحس؟ وآه حزني بعضه
يشكو فأعرفه وبعضٌ مبهمُ
بي ما علمت من الأسى الدامي وبي
من حرقة الأعماق ما لا أعلمُ
بي من جراح الروح ما أدري، وبي
أضعاف ما أدري وما أتوهمُ
وكأن روحي شعلةٌ مجنونةٌ
تطغى فتضرمني بما تتضرمُ
وكأن قلبي في الضلوع جنازةٌ
أمشي بها وحدي وكلي مأتمُ
أبكي فتبتسم الجراح من البكا
فكأنها في كل جارحةٍ فمُ
فلسفة الجراح – للشاعر/ عبد الله البردوني.
حتى ذلك الشيء الذي تظنه أنت من موقعك لا يوجد أسهل منه، ربما لو وُضِعت في نفس أماكننا لصفعتك حقيقة كم هو عسير.
حالته شديدة السوء، نفسيا وجسديا، والكارثة أنه سأم الحرب، حتى المعافرة هذه المرة ثقيلة عليه، وزاد هذا حين تذكر زيارة ملك التي لم تكتمل بسبب سؤال لم يستطع الجواب عليه، هل فعلت هذا حقا؟
لم يكن ينتظر أحد، ولكن قدوم هذا الشخص تحديدًا كان هاما وبشدة في هذا التوقيت، كان صاحب الزيارة هذه المرة هو معالجه نور الذي جلس على المقعد المجاور لفراشه وقال بابتسامة: ألف سلامة عليك
بابا اللي جابك؟
سؤال طرحه عيسى ولم يكن مناسبا لرد ترحيب الزائر ولكن نور تفهم الوضع فصارحه بهدوء: هو فعلا أنا عرفت باللي حصل من الحاج، لكن لو كنت عرفت من أي حد تاني كنت هاجي برضو، وعايزك تفهم حاجة يا عيسى، أنا أي كلمة بيني وبينك مبتطلعش برا، ده شغلي ومش هطلع أسرار حد عندي حتى لو علشان خاطر مين
ثم أضاف بمزاح: وبعدين إيه الاستقبال الناشف ده، أنا حتى صارف ومكلف وجايبلك شوكولاتة.
ابتسم عيسى واطمئن نور لكسر حدة الأجواء ثم استدرجه: لو حابب تتكلم أنا سامعك، مش عايز أنا كده كده جاي اطمن عليك وبس.
لمح في عينيه الرغبة ليتحدث، وتيقن من هذا حين شاهده يتنفس بعمق قبل أن يقول بأسى: مقدرتش أواجهها، مقدرتش أقولها إن اللي وعدتها بيه خلفته في نفس اليوم، كنت حاسس إنها مش هتفهمني، وأنا اخر حاجة هبقى عايزها دلوقتي إنها متفهمنيش.
لمعت العبرات في عينيه واستكمل بتعب يقص عليه الأمر من البداية حتى وصل إلى منزل صديقه واكتشف ما حدث ثم اقتحام شاكر لسيارته، عند هذه النقطة تحديدا بانت ثورته في نبرته: النوبة جاتلي، مشوفتش قدامي، معرفتش أتصرف بعقل، كنت عايز أخلص كل حاجة حتى لو هخلص معاها، معرفش لو اتحطيت في نفس الموقف تاني هتصرف ازاي، بس كل اللي اعرفه إني مش هتردد لحظة في أذيته، ولعلمك هو مكانش يفرق معاه النهاية تبقى ازاي، هو كل اللي يهمه إنه يطلع كسبان، وإن حتى لو النهاية جت تبقى بإيده هو، بس أنا مهتمتش بأي حاجة لحظتها، كنت عايزها تخلص بس، تخلص وأنا شايفه مش مصدق إني بعمل كده.
تنهد نور بعد أن استمع لأقوال الجالس أمامه ثم قال: قبل كده لما قولتلك تبلغ وتبعد عن كل حاجة اتضايقت، أنا كنت فاهم اللي أنت بتعمله، عايز تفضل شوكة في ضهره، طول الوقت واقفله وبتبوظ خططه، حتى ملك خدتها منه يعني اللي عمل علشانها كل ده هو عايش كل يوم بحسرته إنها مع حد تاني، لكن ده مكانش هينفع يا عيسى وأنا ساعتها حذرتك منه.
بان حرصه عليه في نبرته وهو يتابع: كل حاجة في حياتك أولى بالوقت اللي ضاع مع شاكر، احنا كنا بنشتغل على إن طاقة الغضب اللي جواك مش هي اللي تتحكم فيك، أنت اللي تسوقها على الأقل علشان نفسك، وعلشان منوصلش للنقطة اللي احنا فيها دي.
قاطعه عيسى يوضح ما لم يستطع البوح به من قبل لزوجته: وأنا عملت ده، أنا قبل كل ده ما يحصل، قولت لملك إني هبعد عن كل حاجة، أنا لما جيت عيادتك كان علشان ملك قبل ما يكون علشاني، علشان ماتسببش لحظة في إني أبقى واجعها، لما فكرت في حياة هادية ارتاح فيها بعيد عن كل حاجة كان علشانها قبل نفسي، أنا مكانش يفرق معايا أي استقرار أصلا قبلها، وده مش فضل مني عليها ده حقها، أنا مع ملك حسيت بعيسى اللي اتحرمت منه سنين.
وزاد وجعه وهو يقول بألم: مقدرتش أقولها إني خذلتها، حتى مقدرتش أقولها إنه كان غصب عني، لما شوفته يومها حسيت إني شايف فريد بيروح قصادي تاني، لما شوفت الكلب على إيد بشير، مبقتش داري بأي حاجة إلا إني جوايا كتير أوي عايز يطلع، نسيت كل حاجة إلا إني أعمل اللي عملته علشان أخلص ونفضها بقى، أنا حتى دلوقتي معرفش هو عايش ولا ميت بس أنا حاسس إنه عايش.
ابتلع غصة مريرة في حلقه وهتف بحزن: أنا زعلان من نفسي إني خلفت وعدي معاها غصب عني، وزعلان منها علشان حسيت في لحظة إنها خايفة عليها هي بس، مش عايزة تجرب مرارة إنها تخسر حد تاني، ومش مهم أنا حاسس بإيه، المهم عيسى ميعملش كذا علشان ملك تفضل كويسة، لأنه لو عمل كده ملك مش هتبقى كويسة، أنا مش قادر ومش عايز افكر في حاجة، هما حتى مش سامحين ليا أعرف حاجة، قوم روح يا نور.
أنهى جلستهما بقوله الأخير الذي بان فيه مدى تعبه وأوجاعه، وحدثه نور بهدوء: أنا هتكلم مع الدكتور بتاعك هنا، وهكتبلك دوا، ياريت تنتظم عليه الفترة دي حتى لو هيخليك تنام كتير، أو يهمدك.
استقام واقفًا وربت على كتفه وهو يتابع: ردود الأفعال الباردة أو المبالغ فيها دواك اللي كنت بتاخده بيساهم فيها بنسبة كبيرة، وده زي ما قولتلك من عيوبه، لو حسيت انك مش قادر خد نص الجرعة من الجديد مش كلها، و متفكرش في حاجة حتى لو ردة فعلك مش مناسبة للي حاصل، ارتاح بس، وألف سلامة عليك.
قال جملته الأخيرة بابتسامة قبل أن يرحل ويتركه هائما على وجهه، يتقلب بين أوجاعه وأفكاره ولا يرحمه أحد.
ردت يا مريم؟
كان هذا سؤال هادية سألته بلهفة وهي تدخل إلى غرفة ابنتها الصغرى، انتظرت الإجابة على أحر من الجمر وبالفعل أرضت ابنتها فضولها قائلة: ردت بس حساها مش كويسة، مخبية حاجة، وبعدين يا ماما أنا مش فاهمة إصرار الحاج نصران إن محدش يروح المستشفى.
حرام كده، وأكيد هي محتاجة حد جنبها
ضاعف قول مريم من حزن والدتها التي طلبت منها: طب كلميهالي تاني كده يا مريم.
وبالفعل استجابت لرغبة والدتها آملة أن يهدأ فؤادها الذي أوشك القلق على قتله، بينما في نفس التوقيت وصل عز إلى منزل نصران، كانت رفيدة تجلس في الحديقة وما إن رأته حتى هبت واقفة وأسرعت ناحيته تسأله بأمل: بابا كلمك وقالك هينفع نروحلهم؟
خاب أملها حين أتى جوابه بالنفي ثم طالبها برفق: اندهيلي حسن.
فتجاهلت ما قاله واقترحت عليه: عز أنا عارفة إنك هتروح لبابا تاني، ينفع تاخدني، وأنا والله هقوله إنك ملكش دعوة أنا اللي أصريت.
لم يكن ليرفض طلبها ولكنه يدرك مزاج والدها التالف، وتوتر الأجواء هناك فرفض ذلك قائلا: بلاش يا رفيدة، اسمعي الكلام الفترة دي على الأقل، وبعدين هو مش كلمكم وطمنكم عليه.
لم تتحمل وذرفت الدموع وهي تقول: بس أنا عايزة أشوفه.
لم يتحمل أكثر أمام حالتها هذه فخفض من صوته وهو يخبرها: طب بصي أنا هروح بالليل، هحاول مع الحاج لو رضي هعدي اخدك.
لم تتوقف عن البكاء فمازحها قائلا: خلاص متعيطيش بقى والله اخدك واروح دلوقتي.
أزالت عبراتها وهي تبتسم وطمأنها هو مبادلا إياها الابتسامة: إن شاء الله شوية وهتلاقيه داخل عليكم البيت هنا، كله هيعدي يا رفيدة.
كلماته الحنونة ونظراته المؤثرة ولينه في طمأنتها، كل هذا كان كافيا لإخماد ثورة قلقها على الأقل في حضرته هو.
إن ما يجعل الألم في الفؤاد أضعافًا لا ننساه أبدا، وكذلك هي لم تنس إخراجه لها من الغرفة دون أن يرد على سؤالها الذي شعرت وكأن مصيرها معلق به، لم يستطع أن يواجه بأنه أخلف وعده، ساءت حالتها وحتى نصران لم يفلح في فعل شيء لها، كل ما أخبرها به: اهدي وهعملك اللي أنتِ عايزاه.
ولم ينطق بأكثر.
كانت الليلة باردة، نجحت في مضاعفة حاجتها للدفء، لم تذهب إليه منذ إخراجها، وبعد أن طالب ألا يدخل له أحد، صامتة، ذابلة، وكأن هناك ما تسبب في إطفاء روحها.
علمت بنومه مين بشير وهو يحدث نصران الذي لا يفارق مكانه في المشفى فقادها ساقاها إليه، دلفت بهدوء وجلست على المقعد المجاور لفراشه، هل تحفظ تقاسيم وجهه، تنظر وكأنها المرة الأخيرة، حتى العبرات في مقلتيها لم تشعر بها، شردت بذاكرتها إلى نقاط متفرقة في حياتهما، دعمه اللامتناهي، حثه لها على إكمال دراستها، دروس الدفاع عن النفس، قبضته التي احتضنت كفها وهو يخبرها: أنتِ قوية يا ملك.
محاوطته لها والتشبث بها حتى ولو أمام الجميع، أول مرة لاقترابه الحذر ومراعاة ما تمر بها بعرضه: لو خايفة هبعد.
احتضانه لها وهو يطالب: متمشيش يا ملك.
لمسات أنامله على اسمه الذي رسمته على جسدها مازالت دافئة، ذكريات كثيرة صنعها في وقت ليس بطويل ولكنه تمكن من زلزلتها، وبسبب كل هذا قررت أنها لن تتحمل أن تعاني مجددا، لن تتحمل أن تقتلها اللهفة في كل لحظة، وقبل أن تقف لتغادر الغرفة فتح عينيه، كان مستيقظا يستمع لتنهيداتها، وطلبت نظراته قبل فمه: خليكي.
تكرر أمام عينيها مشهده وهو يطالب الممرضة أن تخرجها، فاستقامت واقفة وتوجهت ناحية الباب قائلة بجفاء: تصبح على خير.
يا ملك.
ندائه كاد أن يفقدها ثباتها، نبرته هذه تحديدا، ولكنها أبت وخرجت دون أن تنطق بحرف آخر معه.
تأفف بانزعاج، كل شيء يؤرقه، وخاصة احتجازه هنا، مرت الأيام وسأم هو من عدها، وعلى الرغم من ضجره من المشفى، لكن كان يتمنى لو بقى بها تخوفا من مواجهتها، من مطالبها، ولكن ليست كل الأماني تُدرك، انتهت فترة مكوثه هنا، فترة قاربت الشهر فرض والده فيها عليه حظر إجباري، لا يعلم أي شيء عن الخارج، يطلب من الجميع ويسأل بلا ملل والكل لا يستجيب تنفيذًا لأوامر والده، اعتاد التجاهل من ملك، ولم يحاول اقتحام أي مواجهة خاصة في هذه الفترة، تتيقن أولا من نومه ثم تدخل لتطل عليه وبداخلها الكثير، وهو على يقين من جهلها بأنه تفنن في تصنع النوم مرات كثيرة ليعجل من دخولها، لتبقى فقط جواره، حتى حين تأتي إليه بالطعام أو لتسأل عن حاجته لأي شيء، كانت تتجنب الانخراط في أي حديث عدا ما أتت لأجله، لا تتركه وتتركه في نفس الثانية، تفننت التجاهل في نفس اللحظة التي كانت فيها بقربه تراعيه خوفًا عليه، ولم يحملها ما لا طاقة لها به، تركها تفعل ما يحلو لها ظنًا منه أن هذا عقابها وواجب عليه احترامه وتقبله بصدر رحب، اليوم يغادر عائدا إلى الإسكندرية برفقتها هي ووالده الذي لا يسمح له بأي شيء، حتى سؤاله عن شاكر تجاهل والده الجواب عليه ولم يترك له فرصة للاستعانة بأحد لمعرفة أي شيء.
وصلوا إلى المنزل، كان من يسنده طاهر، ولم يتفاجأ من الاستقبال الحافل بداية من خالته وشقيقته ويزيد الذين لم يتحملوا وكسروا القواعد وقاموا بالذهاب إلى المشفى لزيارته ولم يعودوا إلا تنفيذًا لرغبة والده، ثم حسن الذي هرول ناحيته وقبل أن يقترب حذره طاهر: اهدى بالراحه
مشيرا على الجبيرة الطبية المحاوطة لذراع عيسى، بالإضافة إلى سيره الذي لم يتحسن بصورة كلية بعد.
انطلقت زغاريد تيسير مهللة فرحًا بعودته ثم قالت سهام وهي تربت على كتفه: ألف سلامة عليك، الحمد لله إنك قومت بالسلامة.
لمح عيسى في نظرات طاهر الترقب ليرى كيف سيرد، لمح فيهم رغبته لمعرفة هل سامحها حقا وكان صادقا حين قال له ذلك ليهون عليه الأمر أم أنه كان مجرد حديث، أدرك اضطرابه وتشتته بين والدته وبينه لذلك أعطاها ابتسامة مرغمًا ورد: الله يسلمك، شكرا.
هذا هو أقصى ما يقدر عليه جبرًا لخاطر أخيه، وأخرجه من الموقف قول رفيدة بحماس: أنا وماما وطنط ميرت بقى عاملين ليك كل الأكل اللي بتحبه، خلي بالك أنا دخلت المطبخ علشانك مخصوص يعني تاكل اللي يتحط ومتتريفش
فشاكسها حسن: كده هتدخليه المستشفى تاني.
ضحك على مزاحهما قبل أن يسمع سؤال ملك: هتطلع ترتاح فوق، ولا هتقعد هنا؟
هطلع فوق مش قادر.
استجابت لرغبته، وبالفعل صعد معها إلى غرفتهما، ساعدته في التمدد على الفراش ثم سألت: عايز أي حاجة؟
أخبرها وهو يطالبها بإغلاق الضوء: لا هنام، أنتِ راحة فين؟
جاوبته بهدوء وهي تتوجه ناحية الخزانة لتبدل ملابسها: هروح أشوف ماما
اقترح عليها بتعب: ما هي هتيجي يا ملك علشان تشوفني، ملهاش لزمة تروحي.
اللي تحبه.
قالتها ببرود ثم جذبت ملابسها وتوجهت ناحية المرحاض ولم تتوقف إلا حين سمعته يقول: لحد امتى يا ملك؟
استدارت له تسأله متصنعة جهلها بما يتحدث عنه: إيه هو اللي لحد امتى؟
طالعها بهدوء قبل أن يرد على سؤالها بسؤال: طب عايزة إيه وهعملهولك؟
ابتسمت وهي تصارحه: لا أنا طلباتي بسيطة خالص، عايزاك يومين كده إن شاء الله وتبقى كويس، علشان تطلقني.
روحي يا ملك شوفي هتعملي إيه، بلاش قلة مزاج على الصبح بقى.
هتف بذلك بضجر وألقت هي عليه نظرة غاضبة قبل أن تتوجه ناحية الدرج تفرغ به ما في حقيبتها، ولكن لفت انتباهها كيس بلاستيكي به الحلوى المفضلة لديها، التفاح المغطى بالعسل، ابتسمت بحزن وسريعا ما تصنعت أنها لم تلحظه عن طريق إفراغ باقي محتويات الحقيبة، والتوجه إلى المرحاض تحت نظراته التي سيطرت عليها خيبة الأمل.
لم يشعر بالراحة في الأيام الأخيرة، بقدر راحته في نومه على فراشه الوثير الذي افتقده كثيرًا، نزل إلى الأسفل، أراد استنشاق الهواء في الحديقة، سمع ضوضاء آتية من مرسم حسن فتوجه إليه، هرع إليه حسن ما إن لمحه وساعده ليجلس وهو يقول: أنت نزلت ليه يا عم أنت غاوي تعب.
ضحك باستهتار ثم طالب شقيقه: بقولك إيه يا حسن، ما تجيبلي…
قاطعه حسن رافضًا بتذمر: اجيبلك أخبار لا، أبوك محرج على الكل.
تناول عيسى إحدى علب الألوان المغلقة يعبث بها وهو يسأله: طب قولي في إيه بينه وبين طاهر، ومكانش مخلي حد يقرب ناحية المستشفى ليه
بان التردد على وجه حسن فضغط عليه شقيقه: خليك جدع بقى، أنا واقف معاك قبل كده كتير.
فرد عليه حسن بغيظ: ما أنا بقولك الحاجة بتروح تعمل مصيبة، وأبوك بيعرف إن أنا اللي قولت وبتاخد أنا في الرجلين.
خلاص يا عم براحتك.
قالها عيسى متصنعا الحزن فتراجع حسن وهو يعرض عليه بحذر: طب هقولك بس محدش يعرف حاجة، وتهدى كده وتسيب بابا يتصرف علشان هو قال محدش ليه دعوة بالموضوع ده.
بدا بريئا ليشجع حسن على الإكمال فصارحه: اللي سمعته إن منصور كان بيخرب وعايز يبعت حد المستشفى وناوي على شر، معرفش أبوك عرف منين بس هو حرج على حد يروح المستشفى ومش عارف هيعمل إيه.
لم يظن عيسى هذا حتى مع عدم معرفته بملابسات ما حدث، ولكن ما أخبره به شقيقه كافيًا جدا ليشعل غضبه، ولكن أخفى ذلك بمهارة حين سمع حسن يقول متخوفًا من ردة فعله: اوعى تعمل حاجة يا عيسى، أبوك قال هيتصرف.
فنفى ذلك يقول بابتسامة: هعمل إيه يعني، أنت شايف فيا حيل اعمل حاجة.
أنا مسالم خالص اهو.
رمقه حسن بغيظ قبل أن يتابع إكمال تلوين لوحته.
دلف ثروت إلى قسم الشرطة بعد أن طلبه أحدهم، دخل إلى المكتب وتساءل: خير يا حضرة الظابط؟
بدا الجالس أمامه متحيرًا، لا يعلم كيف يواجهه، فقط نادى أحدهم طالبا: شوف يا بني معالي الوزير يشرب إيه
فرفض ثروت: لا من غير شرب، ياريت اعرف في إيه، عرفتم حاجة عن شاكر؟، وصلتوله؟
فهتف الضابط بأسف: والله يا فندم أنا مش عارف أقول لحضرتك ازاي.
حثه ثروت على الإكمال فصارحه الضابط: احنا جالنا بلاغ عن عربية محروقة في منطقة مقطوعة، للأسف المكان ده مفيهوش كاميرات مراقبة، لكن واحدة من كاميرات المراقبة اللي في الشارع الرئيسي ظهر فيها شاكر جوز مدام بيريهان في عربيته وهو داخل المنطقة دي، والعربية اللي اتبلغ عنها قدرنا نتعرف عليها ومواصفاتها نفس مواصفات عربية أستاذ شاكر اللي حضرتك قولت عليها
ثم ألقى قنبلته الأخيرة بأسى: وللأسف جواها جثة متفحمة.
كان مضطرا للمواجهة ولكنه أشفق على حالة الجالس أمامه خاصة وهو يرى حالة الإنكار التي سيطرت على ملامحه والتي توحي بأن ما يقال له كارثة كبرى ناجحة وببراعة في أن تفقده اتزانه.
لم يأخذ عيسى أي ردة فعل طوال أيام عودته الأولى إلى هنا حيال ما سمعه من حسن، قبضة نصران المحيطة به لا تفلته، استغل الصغير الذي لا يتركه منذ عودته أثناء جلوسه معه في الغرفة وقال وهو يرتب المكعبات: بقولك إيه يا يزيد، أنا زهقت من المكعبات، قوم قول لتيسير تعملنا حاجة تتشرب، وأنا هشوف ملك وراجعلك.
وافق يزيد بحماس ونزل عيسى إلى الأسفل فلم يجدها إلا في غرفة مكتب والده، وقف من الخارج وقبل أن يدق سمعها تقول: عمو حضرتك قولتلي هتعملي اللي أنا عايزاه، دي رغبتي.
أنا اتكلمت مع نور يا ملك، وهو قالي أي حاجة عيسى عملها في الليلة دي حصلت غصب عنه، وبعدين مش أنتِ بتحبيه؟
محاولته لإرجاعها لم تفلح حيث ردت عليه بحزن: أنا كمان مش كل الحاجات اللي بعملها بتبقى بإرادتي.
أنا مش هستحمل يا عمو، أنا علشان بحبه مش هستحمل، كل لحظة والتانية خايفة يتقالي إن جراله حاجة، حتى يوم ما خد قرار واحد صح، خلف وعده بعدها معايا، ولما طلبت منه كلمة واحدة بس تطمني طردني.
قالت جملتها الأخيرة بوجع وتكونت العبرات في مقلتيها وهي تكمل: يمكن ارتاح في البعد، يمكن وجعي وأنا بعيدة يبقى أهون كتير من وجعي وأنا قريبة.
اقتحم الغرفة ولم يدق بابها، قبل أن يعنفه والده بادر هو بالحديث قائلا بابتسامة: كليشيه أوي الكلام ده يا ملك، لو كنت عارف إنك هتفهميني لما أقولك إنه غصب عني كنت قولتلك، لكن أنا وأنتِ عارفين إن كل اللي همك اللي وعدتك بيه.
استقامت واقفة وردت على حديثه مدافعة بحدة: في الآخر بقيت أنا اللي وحشة، بعد كل ده بقيت أنا اللي بتخلى صح؟، مش من حقي أتعب مش كده، أنت من حقك أعذرك مرة واتنين وتلاتة وألف، لكن أنا متعبش لا، حتى خوفي عليك فسرته بمزاجك، كفاية بقى يا عيسى.
حثها نصران على تركهما بمفردهما وهو يقول: اهدي يا ملك واطلعي فوق.
أنا هروح عند ماما يا عمو، وعيسى الحمد لله بقى كويس كفاية إنه ينفذ اللي أنا عايزاه.
فرد عليها نصران: استهدي بالله يا بنتي طيب.
طالعت عيسى خلسة، عيناه الصافيتان يطالباها أن تتوقف عما تفعل وهو ينطق: هترتاحي يعني يا ملك لما اعمل كده؟
انهارت أمامه وهي تخبره صراحة بما في داخلها: لا مش هرتاح يا عيسى، مش ده اللي عايز تسمعه؟..
بس أنت مبتعملش غير اللي أنت عايزه حتى لو مش هيريحني، إيه رأيك تسيبني مرة أعمل اللي أنا عايزاه، مش من حقي؟، على الأقل لما نبعد كل واحد هيعمل اللي هو عايزه ومش هيشيل هم التاني.
لم يستطع أمام انهيارها هذا إلا أن يحتضنها بذراعه السليمة، كلماتها كالسياط، ودموعها أقوى، تجمعت العبرات في مقلتيه أيضا وهو يسمعها تقول: مش هقدر المرة دي اسمع كلامك لو قولتلي متمشيش، علشان أنا نفسي عايزة أقولك خليك جنبي يا عيسى بس كل حاجة بتحصل بتقول لا.
تنهد بتعب، وأغمض عينيه بشدة وعبراته الساخنة تلهب وجنتيه ابتعد عنها يزيلهم، ثم طالعها بألم، بروح ممزقة كانت تسعى للسكن جوارها والآن ها هي تفقد سكنها، ولم تكن حالتها تختلف عنه، كان الوجع عندها أضعاف، لطالما مسكت هذه اليد بها ومسكتها هي، هل الآن يتفرقا، وكأن الوقت توقف هنا، هذا الوداع يعني مغادرة الأرواح، طلبها هذا مزق روحه، وجعله يقول: يعني ده آخر كلام عندك؟
لم ترد فقط تبادله النظرات بدموع وبعد دقيقة صمت همست بوجع: ده الأحسن لينا.
تدخل نصران بينهما وطالبا مجددا بالتريث: طب علشان خاطري يا بنتي هدي الدنيا بس الفترة…
قاطع والده حين اقترب منها، مال على رأسها يقبلها، أغمض عينيه بحزن امتزج بحسرته على كل شيء، وكأن الأمل الذي وجده معها يتبخر الآن، يتحول إلى ألم، ولم يتوقع والده أن يلقي قنبلته الآن أبدا، ولكنه قال بعد أن قبل رأسها: أنتِ طالق.
طالعه والده بذهول، أما هو فنظر لها يتفحص ملامحها فلم يجد إلا أنها تجاهد لكي لا تنهار، الصدمة جلية على وجهها على الرغم من أنه كان طلبها، لم يتحمل التواجد أكثر فترك المكان كليا، أما هي فحررت وجعها الحبيس، وانهارت باكية في حضن نصران وهي تقول بصعوبة من بين شهقاتها: قلبي واجعني أوي يا عمو، حاسة إني هموت.
بكت بحرقة ولا يتردد في ذهنها إلا المشهد الأخير وكأنه أبى أن يرحل إلا بعد أن يترك بصمته في هيئة قبلة على رأسها ثم يحررها بما كان شديد الصعوبة على روحها، جملة من كلمتين فقط: أنتِ طالق
كانت كافية لأداء مهمتها ببراعة في إفناء روحها، روحها التي لم تجد ما يعبر عنها أبلغ من قول الشاعر عبد الله البردوني:
قد كنت موثوقا إليك
من التي قطعت وثاقي؟
لمّا وجدت القرب منك
أمرّ من سهر الفراق
آثرت حزن البعد عنك.
علي مرارات التّلاقي
وكذلك فعل فؤادها تماما فعل وهو يدري أن حزن البعد عنه مر، أن هذا الحزن وبكل أسف لا يُنسى أبدا.
التعليقات