]]الفصل الثامن والأربعون]]
•~•~•~•~•~•~•~•
“لحظات ارتجاف قلبها مهيبةٌ وكأنني ضُربت ضربةً قاضيةً في مُنتصف قلبي؛ لم أمُت؛ عانيت الألمين”.
•~•~•~•~•~•
ظلت في مكانها مُجمدةً فقد صعقتها عبارة “نجلا” الأخيرة فألجمت شفتيها عن الكلام وبرق بصرها في نتوءٍ ودهشةٍ؛ فكادت أن تُقتلع حدقتيها اقتلاعًا، لم تستطع تجرع هذه الحقائق دُفعة واحدة والتي لا تأتيها فرادى، فبدأت تبتلعها رويدًا رويدًا إلى أن وصلت حيث نُقطة مُعينة، قفزت فكرة احتمالية صدق “نجلا” معها التي تدعي بأنها أُمها وقد خُطفت منها قِسرًا وهذا يعني احتمالية أن تكون “وَميض” هي الأخرى شقيقتها؟؟ انفتح فمها على وسعه وبدأت تدعك جبينها باضطراب ثم تهز رأسها يمينًا ويسارًا وهي تقول بضع كلمات مُتعثرة:
-وَميض؟؟ وَميض بنت عمي علَّام؟؟ إنتِ عمالة تقولي في عجايب من لحظة ما شوفتك، وَميض أيه اللي بنتك؟؟ ومين أوحى لك بدا!
أسرعت “نجلا” بقوة وثبات زائفين تكفكف دموعها بظاهر كفها قبل أن ترتخي ساقيها وتجلس على الأرض أمام الأخيرة وتقول بأنفاس مضطربة تهدأ بتحرير الأسرار من مكمنها تدريجيًا:
-اسألي ابن عمك يا سكون؛ قولي له مين اللي أنقذ “يُسر” من الغرق وهي عُمرها سنتين وسحبها من قلب الماية.
زوت “سكون” ما بين عينيها فأدركت “نجلا” استغرابها فتابعت بهدوءٍ:
-قصدي وَميض.
أطرقت برأسها قليلًا في صمتٍ يخبرها عن أوجاعٍ تساوي عُمرها فخرجت كلها في تنهيدة “نجلا” التي أكملت بثبات:
-ربنا أراد إني أوصل لها وأنا بدور عن بنتي اللي خطفها عثمان؛ وللمرة الأولى اللي عثمان السروجي يقدم لي فيها خدمة لمَّا طلبت من الخدامة عندكم بالقصر تجيب لي عينة منك علشان التحليل وهو عرف منها عن خطتي فقرر يبدل العينة وقرر ياخدها من وَميض.. كان فاكر إني واخدة القَطر بتاعك علشان أأذيكِ بيه فزاح الأذى عنك ولبسه لوَميض وبعد ما بعت التحليل للمعمل كلمني تليد وبلغني إنه عرف بحكاية العينة وإنها مش ليكِ ولكن تخص مراته.
حدقت فيها بفضولٍ رهيبٍ وانطلقت من عينيها سهام تحث الأخيرة على المُتابعة؛ فقالت بابتسامة مهزومة:
-قولت كدا خلاص التحليل مالوش لازمة لأن العينة مش ليكِ واستسلمت للأمر الواقع وقررت أفكر في خطة تانية علشان أوصل لك ويوم ظهور النتيجة كانت العينة متطابقة مع عينتي.
شهقت “سكون” بخفوتٍ وهي تضع يدها على فمها في ذهولٍ؛ فتابعت الأخيرة تومىء برأسها:
-كلمت تليد وطلبت أقابله علشان يلاقي معايا تفسير للي بيحصل وفي وسط كلامنا قال لي “مستحيل وَميض تكون بنتك لأن أنا اللي أنقذتها من البحر وهي طفلة عمرها يادوب سنتين واللي إنتِ بتدوري عليها بنت لسه مولودة حديثًا”.. وقتها تأكدت إن نتيجة التحليل صحيحة مليون المية.
شعرت “سكون” للحظة بأنها قد تكون فقدت عقلها حتى كاد رأسها أن ينفجر بعد أن زلزلت الحقائق جدرانه، شرعت تبسط كفها وتصدمه بجبينها مرات مُتتالية قبل أن تقول بنبرة مختنقةٍ:
-يعني وَميض بنتك؟؟ لو دا صحيح فوَميض مُستحيل تسامحك.. من عشرتي ليها فهي عُمرها ما هتقبل بيكِ خاصةً لو عارفة حقيقة ماضيها كضحيةٍ متاخدة من وسط البحر والفاعل أُمها حتى لو عرفت أسبابك مش هتقدر تسامحك.. لأن زي ما إنتِ تظلمتي وعانيتي هي كمان عانت ليالي بعد ما عرفت إن علَّام وسُهير مش أهلها الحقيقيين، يمكن أنا وهي مش قُريبين من بعض وقد نكون مش متقبلين بعض ولكن أنا مُتأكدة إنها عانت مشاعر اليُتم وفقدان الهوية وقتها.
ظل “كاسب” يُتابع حديثهما المُلتهب على صفيحٍ ساخنٍ فهدأت فرائصه حينما رأى تفاعل “سكون” مع كُل ما مرَّت به “نجلا” ما بين متعاطفة ومستنكرة؛ أراد بشدة أن تلين وتتخذ الحياد سبيلًا حتى تتضح لها الحقائق كبزوغٍ الشمس في وضح النهارٍ ويبدو أنها استمعت إلى نصيحته، ابتلع ريقه على مهلٍ فقرر أن يطرح بنفسه على الأرض في سكينةٍ اقتبسها من هدوء صفحة وجهها واندماجها في الحديث؛ فجاءها رد “نجلا” التي أردفت بنبرة تتقطع وتيرتها فتعلو تارة وتخفق أخرى:
-بس إنتِ قولتي الأفضل إني أواجهها؟؟.. نفسي أخدها في حُضني وأصرخ.. مُستعدة أبوس إيديها وأوطي أبوس رجليها بس تسامحني.
تحررت دمعة من عينيها فنحتها فورًا عن وِجنتيها ثم تابعت في صلابةٍ اجتهدت في إظهارها:
-بعد خروجي من المصحة النفسية بعد خمس شهور من الواقعة، جريت على الجسر اللي رميتهم منه، كُنت ببوس إيد كُل الناس علشان بس يدوني خبر عنهم أو يوصلوني لطرف خيطٍ يوصلني ليهم.
تحشرجت نبرة صوتها وهي تقول بانهزام:
-أنا اتدبحت بسكينة تلمة من يوم ما فارقوني.. أنا بكره نفسي كُل يومٍ.. شايفة إني مستحقش أكون أُم وفي نفس الوقت أنا كُنت أحن أُم عليهم.. كانوا عيني اللي بشوف بيها وكُنت بجاهد في الدنيا علشان يعيشوا ويعلم ربنا إني موعتش على اللي عملته غير بعد علاجي.
شردت بعقلها لتلك اللحظة، التي وقفت فيها بنفس المكان الذي ألقتهم منه، بقيت تنظُر في صدمةٍ كاسحةٍ للمياه الساكنة التي احتضنت صغيريها، ظلت في حالة سكون لبعض الوقت حتى خرجت من حلقها صرخة عاتية وهي تنادي بألمٍ أحرقها:
-يحييييييييييى.. يُســـــر!!
كان صوت صراخها المدوي ينتشر بسهولة بين سُكان البلدة القريبين فهرول الناس واحتشدوا حولها فبدأت تميل على أكفهم تُقبلها برجاءٍ ومذلة وتسألهم واحدًا يلي الآخر عن أطفالها وما إن كانوا قد سمعوا عن حادثة غرق تخص طفلة رضيعة وطفل قد تجاوز السبع سنوات؟؟ فلم تصل إلى شيءٍ سوى السراب، قضت سنوات عديدة تنتحب بمرارة قاسية على صِغارها الثلاث؛ ظلت تبحث عن أثرٍ لهم دون استسلام ولكن رغمًا عنها استسلمت في النهاية بعدم وجود أية خيوط تُصيب هدفها لتُقرر في لحظة انتقامية أن تستعيد توازنها وتقتل شخصيتها القديمة للأبد وتبدأ في رحلة البحث عن طفلتها المخطوفة ورد مَظلمة لها بقيت بحوزته حينما جَارَ عليها وسلبها كُل شيءٍ في الحياة وهدم أحلامها فوق رأسها.
تذكر أنها وبعد مرور الكثير جدًا من السنوات ومحاولاتها الوصول إلى “حمدي زهران” الذي سمعت بعداوته الشديدة مع عدوها البغيض فأرادت أن تتخذ صفه ويتبنى قضية ثأرها، ظلت سنوات عديدة تحاول الوصول إليه أو العمل داخل الشركة ولكن طلبها العمل عنده كان يُقابل دومًا بالرفض حتى قررت في النهاية أن تُكمل تعليمها الجامعي وتحصل على شهادة تستطيع من خلالها تحقيق هدفها بطريقة تستحقها، أنهت دراستها وبدأت العمل في الكثير من الأماكن ولكن حلمها برد حقها لم يكُن يبرح خاطرها حتى جاء اليوم الذي سمعت فيه بقبولها بشركة “زهران” في قسم المحاسبة وفق خبراتها التي عرضتها في السيرة الذاتية وما أن وطأة قدماها الشركة حتى طلبت بشكل عاجلٍ لقاء مع مالك الشركة، لم تكُن الاستجابة سريعة بقدر لهفتها ولكن تحت الحاحها استجاب لطلبها، تذكر أنها حينما جلست أمامه مُباشرةً كان يتعرق جبينها وترتجف أطرافها ورغم ذلك تذكر جيدًا أيضًا كيف قالت بأنفاس ساخنة مُتلهفةٍ لنيل حقوقها المسلوبة:
-أنا مش جاية هنا علشان أشتغل.. أنا جاية لك تساعدني أجيب حقي؟؟؟
استطاعت “سكون” أن تستنتج الباقي في القصة وكيف لمعت عينا “حمدي” بظفرٍ وطلب منها أن تتروى وتتعقل لكي تصل بمهنية أكبر؛ دارت الأيام وتزوجها “حمدي زهران” بعد أن وقع في حُبها واحترم الصدق فيها حينما جاءته تطلب مساعدته ولم تستغله على الإطلاق ووعدها أن يعود حقها إليها يومًا ما ولكن بالحكمة والمُثابرة.
أومأت “سكون” تستنتج الباقي من الحديث وهي تقول بلهجة شديدة:
-وطبعًا جوازك من حمدي زهران قربك من هدفك بسهولة!!
طالعتها “نجلا” بعينين تقدحان بوَميض مُنتصر؛ فأكملت “سكون” بفضولٍ غلبه الحيرة:
-ويحيى؟؟ كدا خلاص مفيش أمل توصلي له؟؟
كورت “نجلا” شفتيها قبل أن تردد بيأسٍ التهم طبيعتها الثابتة:
-كُل المؤشرات بتقول إنه توفى.
كان التفوه بالكلمة الأخيرة من جملتها مؤلمًا قاسيًا على قلبٍ أُم مكلومة ضاع صِغارها بين غياهب الماضي وكانت هي الضياع لهم، تهدج صوتها وهي تقول بلهجة مهزوزة أفقدتها ثباتها:
-وبتمنى لمَّا نتقابل أنا وهو يوم الحشر يسامحني، يسامح أُم عجزت عن توفير لُقمة تشبع بيها بطنه، كان العجز والفقر بيحاربوني في أولادي.
صمتت لثوانٍ ثم أكملت بصوت باكٍ:
-يحيى مات وهو جعان وعطشان.. مات حبيبي وهو بيعيط من الجوع والتعب.
تدمرت أعصاب “سكون” تمامًا وانهمرت دموعها تسيل على خديها بغير روية، بينما استكملت “نجلا” بوعيدٍ يتأجج ناره بين طيات كلماتها:
-بس والله ما هسيب حق موت ابني من الجوع قبل موته غرقان.. ورحمة أبويا اللي مات مكلوم على شرفي وفراق عيالي عني سنين عمري كله ما هسيب حقي، ويفرق بيني وبين حقي الموت يا سكون.
مدَّت “نجلا” ذراعها تجاه “سكون” ثم لمست ذقنها بأطراف أناملها وهي تقول بحزمٍ:
-على فكرة يا سكون.. النتيجة لو نفت انتمائك ليا أنا وقتها مش هكون ندمانة على صراحتي معاكِ؛ أنا كُل حرف خرج مني كان حقيقي وصادق وكُل سر عرفتيه عن أبوكِ هو صحيح مليون المية.
التفتت سريعًا بعينيها تنظر إلى الباب ثم أكملت:
-ودلوقتي بعد ما عرفتي كُل حاجة تقدري تروحي تواجهي بيها أبوكِ ولو لسه شايفاني مُفترية أو بعادي أبوكِ بدون أسباب.. تقدري تبلغي عني بكُل بساطة.
عاودت النظر إلى عينيها الباكيتين مرة أخرى ورددت بقليل من اللين:
-استني مني نتيجة التحليل بكرا.. حاجة أخيرة.. إنتِ خسارة في عُثمان.
قامت “نجلا” من مكانها وما أن وقفت أمامها بشموخٍ حتى رددت في هدوءٍ:
-أشوفك على خير.
توجهت “نجلا” مُباشرة صوب الباب ثم خرجت منه باندفاعٍ شديدٍ فكان آخر قطرة قوة تجرعتها فهرولت تختلي بنفسها داخل غُرفتها قبل أن تنهار كبُرجٍ عالٍ صار أنقاضًا.
صفقت الباب فور دخولها بطريقة عنيفة قبل أن ترتمي على السرير باكيةً تدفن وجهها به رغبةً في كتم صرخاتها المشتعلة، ضربت الفراش بقبضتها ترفع رايات استسلامها لأوجاعٍ تعصف بها من خريف لآخر وسيول تجرفها منذ عدة سنوات حتى حافة الهاوية.
انتفضت “سكون” مندفعةً بانفعالٍ ناقمٍ صوب الباب فكان يقف “كاسب” حائلًا يعوق خروجها فبقى راسخًا وهو يقول بلهجة ثابتة:
-ناوية على أيه يا سكون؟؟
أغمضت عينيها بنفاد صبرٍ قبل تردف بأنفاسٍ مُشتعلةٍ:
-دي حاجة تخصني لوحدي يا كاسب.. سامع؟.. يعني ملكش حق السؤال عنها.
ضربت صدره بكف يدها في غضب مُتفاقمٍ فأسرع بالقبض على كفها يضغطه كيلا تسحبه وقال بثبات:
-إنتِ بتدفعيني تمن أفعال أبوكِ؟؟ وإنتِ عارفة إن التمن قلبي؟؟
طفق يستخدم كفها لضرب صدره عدة ضربات متتالية قوية ثم صرخ في حدةٍ:
-دا قلبي يا سكون.. مش عربية أبوكِ جابها لك ووسط تهورك دمرتيها!.. فوقي.. التمن مش هيكون قلبي ولا مشاعري.
سكون وهي تحدق فيه بنظرات محتدةٍ وتصرخ:
-بدفعك تمن لكذبك وعدم صراحتك ودخولك حياتي بشخصية غير الحقيقية.. إنتَ قررت تدخل حياتي على إنك كاسب السواق وأنا قبلتك على وضعك بس أنا دلوقتي شيفاك كاسب تاني خالص وسامحني مش هكرر غلطتي مرة تانية.
كاسب بصوت مخنوقٍ:
-أنا مليش مليون شخصية، أنا كاسب واحد بس وبحبك!!.. افهميني؟
رفع كفها إلى فمه يُقبله بلوعةٍ؛ ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وهي تتطلع إلى عينيه اللامعتين بكبرياءٍ؛ كادت أن تذوب من نظراته، كادت أن تقترف خطأً كبيرًا وتغفر له وينتهي غضبها منه ولكنها أظهرت استماتةً ضاريةً ترفض من خلالها الصفح عنه؛ سحبت كفها من بين كفه فورًا وقالت بألمٍ عميقٍ:
-الحُب مش كفاية يا كاسب.. الثقة عند ست ناضجة تسبق الحُب.. وأنا ثقتي فيك مفقودة.
تجاوزته دون رحمةٍ تتكفل بقلبه، مرَّت بعيدًا عنه وقد غفل قلبها عن رفيقه مُتجاوزةً مشاعرٍ تضرب ثنايا قلبه الذي يشتعل هائمًا بها، قلبه هرول إليها يستجديها البقاء بينما بقى جسده في مكانه ينازع كبريائه الذي يُجبره عُنوة ألا يهرول خلفها وباتت عيناه تبكيان عزاءً على وداعها الذي تدفق بكُره من عينيها إلى خاصته.
هرولت مسرعةً خارج البيت تمامًا، ظلت تركض في الشوارع تهيم على وجهها لا تدري أين تتجه ومَنْ تقصُد؟؟ أجهشت باكيةً بمرارة وكلما انسكبت دموعها تمحوها بطرف سترتها حِرصًا ألا تلفت الأنظار إليها، كانت خطواتها غير مُتزنة وحاجة قاتلة داخلها تدعوها إلى الصراخ وطرد أوجاعها السامة قبل أن تنتشر بين جدران روحها وتقضي عليها.. لم تسيطر على حالتها طويلًا فتمنعت عن الصراخ ولكنها ذرفت أنهارًا من الدموع دون أن تأبه بنظرات الناس المتعاطفة معها وفي لحظة خاطفة لعقلها وبعد أن استجمعت ما بقي من تركيزها وجدت نفسها تقف أمام مزرعة عمها!!!
عمها دومًا هو الخيار السليم لألم دميمٍ يسعى لتشويه روحها؛ فيحارب من أجلها بتلاوة عذبة.
كانت نظرات الأخير لا تفارقها حتى وقفت أمام بوابة المزرعة ثم خبطت عليها وبعد دخولها، بدأ “كاسب” يتنفس الصعداء ثم ضرب جبهته بمِقود السيارة ضربات قوية وهو يصرخ بصياح مكتومٍ خالطه بُكاءٍ لا يطيق الفراق:
-آآآآآآه.
•~•~•~•~•~•~•
“في صبيحة اليوم الموالي”.
ربتت “تماضر” على كتف ابنها بدعمٍ وحنانٍ كبيرين أثناء وقوفه وزوجته بردهة البيت استعدادًا للذهاب بعد إلحاح وإصرار غريبين من والدته للعودة إلى القاهرة والتزام رأس عمله وأن لا جدوى من بقائه أكثر من يومٍ؛ فقد أتم مهمته بوصل رحم أخيه وتهنئته بمولوده الجديد والآن عليه أن يُباشر عمله وألا يهدر وقتًا بين الصخب وأمور لا تعود على حياته العملية بالنفع، كان في قمة دهشته من رغبتها المُلحة وهي التي طلبت قدومهما وبقائهما لعدة أيام والآن تودعهما دون تبريرٍ.
-يا أمي ما كُنا قعدنا كام يوم تاني علشان حسان ميزعلش؟؟
أومأت سلبًا وهي ترد بصلابةٍ:
-حسان مش هيزعل يا قلب أمك.. هو عارف إنك مشغول.. روح شوف مصالحك يا ولدي.
أومأ “عِمران” باستسلام واقتناعٍ، فمال يُقبل ظاهر كفها بينما ربتت على ظهره بحنوٍ وفيرٍ قبل أن تلتفت إلى “شروق” وتقول بابتسامة صافية:
-وإنتِ يا شروق هتوحشيني!
اتسعت حدقتي عينيها من تصريح أبعد ما يكون عن خيالها وَمنٍ قائله؟؟ حماتها؟؟ التي لا تطيق رؤيتها أو البقاء في مكان تتواجد به؟؟ تحولت بنظراتها إلى “عِمران” الذي ابتسم بهدوءٍ فيما فتحت “تماضر” ذراعيها في دعوة صريحة وواضحة لاستقبال الأخيرة بين ذراعيها، ابتلعت ريقها على مهلٍ ثم تقدمت بتردُدٍ إلى أن استقرت بين جنباتها ورددت بخفوتٍ:
-إنتِ كمان هتوحشيني يا ماما.
ربتت “تماضر” على ظهرها برفقٍ فشعرت لأول مرة بدفء لم تكن تنتظره يومًا منها، مالت تضع رأسها على كتف الأخيرة في سعادة تمهلت في إظهارها.
ودعتهما بسلامات حارة، ظلت ابتسامة هادئة تستقر بهدوءٍ على ثغرها حتى غادرت السيارة فتحولت صفحة وجهها إلى أُخرى عابسة وظهرت نظرات نارية في عينيها ثم التفتت مُندفعة بهياجٍ داخل البيت، سارت بملامحٍ ناقمةٍ حتى وصلت إلى “راوية” وما أن وقفت أمامها حتى تابعت بنبرة جامدة:
-راوية، تعالي ورايا عايزاكِ!!
زوت “راوية” ما بين عينيها ثم أردفت تتظاهر بألم العملية:
-مش قادرة أقوم من مكاني يا أمي، تعالي قولي لي في وِدني؟؟؟
حدقت “تماضر” في عينيها وصاحت بحنقٍ:
-راوية.. فِزي!!!!
انتفضت أطرافها في توترٍ وهبَّت واقفةً في مكانها ثم سارت خلف الأخيرة إلى أن دخلت الغرفة الخاصة بها؛ فقالت “راوية” بتوجسٍ:
-خير في أيه؟؟
أطبقت “تماضر” أسنانها بقوة وقالت بنبرة حادة:
-منين هييجي الخير من وش البومة؟؟
اتسعت حدقتاها وتساءلت في صدمةٍ:
-ليه؟؟ أنا عملت أيه؟؟
تقدمت “تماضر” منها أكثر ثم كورت قبضتها وضربتها في غلٍ وبنبرة تعبق بحرارة عميقة صرخت:
-هسألك السؤال مرة واحدة وقبل ما تجاوبيني.. فكري فيه بدل المرة ألف.. لأن الإجابة هيتوقف عليها كُل النِعم اللي إنتِ عايشة فيها دي.. جوازك من ابني واقف على إجابتك.. استمرارك مع ابنك واقف على إجابتك.. فكري!!
زوت “راوية” ما بين عينيها في توجسٍ واضطربت أنفاسها في هلعٍ واستمرت تنظر إلى شفتي “تماضر” التي تساءلت بصرامةٍ:
-حاطة العمل اللي عملاه لشروق فين؟؟؟
تصلبت كالصنمٍ في مكانها بينما عيناها تجحظان في صدمةٍ، همَّت تتكلم فقاطعتها الأخيرة بنظرات مُحذرة وكلمات صارمة:
-فكري!!!!
جاهدت رغم ذعرها أن تنفي الاتهام الموجه إليها ولكنها ارتابت من نظرات حماتها التي ذكرتها بشدة أن تتأنى في الإجابة للحفاظ على بيتها وطفلها وإلا ستقع تحت براثن وجبروت “تماضر” التي تتخلص منها في لمحٍ البصرٍ بعد أن تسوء صورتها في نظر “حسان” الذي يرى كلام والدته فرمانًا لا يمكن الإخلال له.
بللت شفتيها بطرف لسانها قبل أن ترد مُتلعثمة في رضوخ:
-في الزريبة.
رمقتها “تماضر” شزرًا قبل أن تدفعها بقوة دون الالتفات إلى كونها قد أنجبت حديثًا، دفعتها أمامها بكُل ما أوتيت من قوة وهي تصيح ساخطةً يضرب الغضب والانتقام رأسها:
-قدامي على الزريبة.
•~•~•~•~•~•~•
جمعت ساقيها إلى صدرها أثناء جلوسها فوق الأريكة، كذلك وضعت رأسها على المسند في فتورٍ يتنافى مع تأجج كُل ذرة داخلها، كانت مُغمضة العينين لا تقوى على الخروج أو مُجابهة الواقع وبدا من خلال شحوب وجهها وغياب نضارته بأنها لم تنم الليل وتنعم بدفئه، تساقطت عَبراتها الساخنة بينما حالتها صامتةً منذ حضورها بالأمس.
-يلا يا سكن.. الفطار يا روح عمك!!
رمقتهُ بطرف عينيها فوجدته يضع الأطباق على الطاولة المُجاورة لها؛ أسرعت بمحو دموعها قبل أ تفع رأسها في خمولٍ ثم تقول بصوت ودود:
-ربنا يبارك لي فيك يا قلبي ويديمك تاج على راسي.
اقترب “سليمان” منها ثم قبض على كفها وقال بلهجة ثابتة لا تقبل النقاش:
-دا كلام معسول علشان ييجي بعده عدم رغبتك في الأكل وتجبريني أوافق، بس دا مش هيحصل، ما أُخذ بسيف الحياء؟؟ وأنا مش هتنازل عن قعدتك جنبي نفطر سوى.
قامت بسحب قبضته ثم قبلت ظاهرها بحُبٍ وفيرٍ وقالت بصوت مُتحشرجٍ من كثرة البكاء:
-لا يا عيوني مستحيل أسيبك تاكل لوحدك.
ربت “سليمان” على ظهرها برفقٍ ثم حثها على الإسراع والجلوس إلى المائدة وهو يقول بتحفيزٍ:
-بسرعة قبل طبق البيض بالزبدة البلدي ما يبرد.
ابتسمت بخفوتٍ وجلست إلى المائدة بجواره، التقطت رغيف الخبز رغم فقدان شهيتها ولكنها لم تُرد إحزانه عليها أكثر من ذلك، قطعت لُقيمة وهي تقول بصوت مخنوقٍ:
-عمي إنتَ من ساعة ما عرفت اللي حصل معايا وإنتَ ساكت، إنتَ عارف كويس أوي إن رأيك وكلامك يفرقوا لي أوي، حتى سؤالي مردتش عليه؟؟
صمتت لثوانٍ ثم أكملت تكرر سؤالها في ترجي:
-تليد لقى وَميض غرقانة في الميه وهي صغيرة؟؟
لم يجد “سُليمان” بُدًا من الكلام الذي يدعم نفسيتها ويُريح عقلها المتسائل رغم حزنه الشديد على ما مرَّت به الفتاتان وغضبه المتأجج من أخيه الذي يُصر على أن تكون نهايته يتحاكى بها الناس!!
-أيوة يا بنتي.. وَميض كانت طفلة رضيعة لمَّا تليد شاف ست بترميها في القناة في بلدنا اللي فيه بيت جدك القديم.. يومها أنقذها وكان متعلق بيها أوي.. وقتها خوفت التعلق دا يتحول لحُب والناس يلوموه إنه حب واحدة اتربت معاه وكانت زيّ أخته، فقررت أديها لعلَّام يربيها ويحنو عليها.. الحمد لله إني عملت كدا لأن اللي توقعته حصل.. وتليد فضل عُمره كله بنفس التعلق ونفس المشاعر.
تجمعت الدموع في عيني “سكون” ورددت بأنفاسٍ مضطربة:
-ولو طلعت بنت نجلا فعلًا؟؟ وَميض تبقى أختي؟؟
أومأ “سليمان” إيجابًا في تروي ليمد يده ماسحًا على ظاهر قبضتها وهو يقول بصوت دافئ:
-دي كلها احتمالات يا سكن، بلاش نسبق الأحداث، ونصيحتي ليكِ إنك تكوني أقوى وأهدا في أي مواجهة جاية وأي حقيقة تتعرض عليكِ.
سقطت عبراتها رغمًا عنها وهي تومىء برأسها في صمتٍ، في تلك اللحظة كان انتظارها للنتيجة قد بلغ مبلغه منها فطفقت تأكل في صمتٍ حينها طُرق الباب فهمَّت أن تذهب ولكن “سليمان” أوقفها وهو يتجه صوب الباب ويقول بهدوءٍ:
-كملي إنتِ أكلك.
-صباح الخير يا شيخ قلبي وتاج راسي.
فتح “سليمان” الباب فظهر أمامه ابنه وزوجته اللذان عادا للتو من بين “علَّام”، قابلهما بابتسامة صافية قبل أن يتحرك صوب الطاولة مرة أخرى ويقول في دعوة حماسية:
-يا دوب تلحقوا الفطار وهو سُخن.
وَميض وهي تسبق زوجها للداخل وتقول بمرحٍ:
-أكلك لا يُقاوم يا بابا طبعًا و…
سليمان بحُب يردد:
-بألف هنا على قلبك يا روح أبوكِ.
تسمرت في مكانها بعد أن خطت خطوتين بالضبط فقد تفاجأت بوجود “سكون” تجلس إلى المائدة بوجه عابسٍ، تنحنحت وهي تنظر إلى “سليمان” مرة أخرى وتقول:
-خلاص يا بابا.. أنا مش هزعجكم وكمان لازم أغير هدومي وأكون مع مُهرة قبل ما خالها يوصل.
دخل “تليد” بعدها بدقائق فور إنهاء اتصالًا طارئًا ورده؛ وقبل أن يتكلم أو يتفاعل أيًا منهما على كلامها ردد “تليد” مُتفاجئًا في ترحيبٍ:
-سكون عندنا.. وأنا أقول البيت منور ليه؟؟
تدبرت “سكون” ابتسامة هادئة قبل أن تنظر إلى “وَميض” وتقول بهدوءٍ:
-مفيش إزعاجك يا وَميض.. اقعدي خلينا نفطر مع بعض.. أنا ضيفة عندكم.. معلش استحمليني لو ضيفة تقيلة.
تحولت ببصرها إلى ابن عمها وقالت بودٍ صادقٍ:
-البيت منور بأهله وصُحبته.. مبسوطة إني شوفتكم قبل ما أمشي.
لمست “وَميض” حُزنًا يحيط بها ويتملكها، فأردفت تُصحح حديثها ببعض اللين:
-مش قصدي، كُنت عايزاكِ تكوني على راحتك مع عمك.
تقدم الاثنان من المائدة وجلسا إليها على الفور بعد أن استعجلهما “سليمان” الذي بدأ يسكب الشاي داخل الأكواب لتناوله مع الأكل.
أومأت “سكون” متداركةً تبريرها وأنها لا تقصد منه سوى عدم إزعاجها خاصةً أنهما لا تجتمعان في مكانٍ واحدٍ إلا ويتشاكلان بطريقةٍ سيئةٍ، في هذه اللحظة سمعت “سكون” صوت اشعارٍ يأتي من هاتفها، خفق قلبها بقوة عنيفة تضرب جدرانها فأسرعت بأطراف مُرتجفة تمرر كلمة المرور ثم قصدك تطبيق “واتساب” لتجد رسالة قد وصلتها للتو من رقم غير مُسجل لديها، ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة وهي تضغط على أيقونة فتح الرسالة فتجدها ورقة تحتاج إلى التحميل أولًا، أغمضت عينيها بقوة قبل أن تتأهب بضرورة استقبال النتيجة مهما كانت، فتحت الصورة بعد تنزيلها ثم دققت النظر فيها بينما تقرأ سطورها فوجدت اسم والدها مُدون بجوار إحدى العينات واسم “نجلا” مدون على الناحية الأخرى وفي نهاية الورقة قرأت أن عينة الابنة -مذكورًا اسمها- تتطابق بنسبة كاملة مع الوالدين.
نظر “تليد” إلى ابنة عمه وقال باهتمامٍ بعدما رأى وجهها الشاحب فجأة وتركيزها بالهاتف:
-في حاجة مش طبيعية فيكِ؟؟ إنتِ كويسة يا سكون؟؟
كان سؤاله بمثابة القشة التي قضمت ظهر البعير، تحملت حقائق لا يستوعبها رجلًا عتيدًا هُيأ للشدائد وما أن تلقت سؤالًا عن حالها حتى انفجرت باكيةً تشهق شهقات قوية مُلتاعة، أطرق “سليمان” بمشاعرٍ حزينةٍ فور رؤيته دموعها وقد فهم إلام كانت تنظر في هاتفها، استبد القلق في قلب “تليد” الذي قابل انفجارها بالبكاء في دهشة، ابتلعت “سكون” ريقها على مهلٍ قبل أن تُقرر فورًا الاقتراب منها وبرد فعل تلقائي منها أسرعت بضمها إلى صدرها وهي تقول في ارتيابٍ:
-بتعيطي ليه؟؟ مالك؟؟ في حد ضايقك بحاجة أو بيهددك بحاجة؟؟
هبَّ “تليد” في مكانه واقفًا يتفقد وجهها الشاحب ويقول بقلقٍ كبيرٍ:
-سكون رُدي وقولي لنا في أيه؟؟ حد بيهددك بحاجة؟؟ في مشكلة حصلت في البيت أو مع عُمر؟ عرفيني علشان أتصرف!!
كانت تصرخ باكيةً في حُرقة وما أن ضمتها “وَميض” إليها حتى أسرعت “سكون” بالتشبث بقوة بها فقامت بشبك ذراعيها حول جسد الأخيرة بمشاعرٍ حميمية دافئة وصلت بقوة إلى “وَميض” التي تعجبت هذه المودة المُفاجئة ومدى عُمقها، ظنت أنها تتخيل تشبث “سكون” بها واحتضانها بقوة كمن لا يرغب في الابتعاد أبدًا، لم تفهم جيدًا ما يحدث ولكنها تجاوبت معها بدافع المُساندة وتطييب الخاطر، مسحت “وَميض” على غُرة رأسها وهي تقول ببعض اللين:
-إحنا فاهمين إنك مش قادرة تتكلمي بس إحنا عايزين نساعدك!!
بدأت شهقاتها تخفض تدريجيًا وصوت بكاءها الذي تضاعف تقل حدته ورغم تراجعها عن الانهيار إلى أنها ظلت تطبق بذراعيها على ظهر “وَميض” لا تتركها وبصوت مكلومٍ قالت:
-بابا ضرب عُمر.. علشان كدا أنا زعلانة.
بدأت تربت “وَميض” على ظهرها بحُنوٍ وقد تجمعت الدموع في عينيها بينما تابع “تليد” بغيظٍ مكتومٍ:
-وعُمر عامل أيه دلوقتي وفين؟؟ مع كاسب؟؟؟
سؤاله ذكرها بخسارتها الأخير فعادت تبكي مرة أخرى وتقول بألمٍ دفينٍ:
-كاسب ضرب بابا دفاعًا عن عُمر وبعدها مشي من القصر خالص.
تليد بنبرة مخنوقة يلومها:
-كُل دا حصل وأنا آخر من يعلم؟؟ طيب كُنتِ كلميني؟؟
أجابته بصوت مُتحشرجٍ:
-إنتَ عارف كويس إن مينفعش إنتَ وبابا تجتمعوا حتى في نقاش.
وَميض بصوت حزينٍ تهدئ من روعها:
-اهدي وكُل حاجة هتكون كويسة والله!.
بدأت “سكون” تستعيد توازنها وهي تفارق ذراعي الأخيرة على مضضٍ ثم تمسح دموعها وتقول بهدوءٍ لا يشبه داخلها وهي تنظر داخل عينيها:
-شُكرًا.
وَميض ترد بابتسامة ناعمة:
-العفو.
كان “سليمان” يتابع تطور حالة “سكون” التي رق قلبها سريعًا لرابطة الدم التي تجمعها بالأخيرة، لاحظ تقبُلها الفوري لأخوية نشأت فجأة ودون ترتيب وكيف أن قلب سكون ناعمُ رقيقُ يسامح دون عتابٍ ويرق ولو كان الخلاف عظيمًا ولوكان بينها وبينك ألف بابًا تفتحهم دون كللٍ أو مللٍ إن عاملتها برفقٍ أو عبرت آسفًا عن ذنبٍ اقترفته في حقها.. لينة كوردةٍ تتفتح أوراقها كلما سقيتها حُبًا وتصير مُقاتلة بارعة تدافع عن مشاعرها وتوهب روحها باستبسال فداءً لقلبك.
تنحنح “سليمان” برصانةٍ وقال منتشلًا نفسه من حُزن أوشك أن يضرب قلبه:
-سكَن.. أنا شايف إنك تفضلي معايا هنا في المزرعة لحد ما تهدي وبإذن الله الفرج قريبًا.
قالها ببُسطة قول بينما نفسه تُهيئها لأمرٍ آخر، فود أن تطيل مُدة بقائها بجانب شقيقتها وتعمُق شعورها بالأمان والطمأنينة معها كي تتشبع من رؤيتها وتتقبل الأمر الواقع بسرعة كبيرة حتى لو كانت “وَميض” لا تعي عن الأمر شيءُ؛ فمعرفة “سكون” بالأمر كافيةً لخلق المشاعر واسترداد الودٍ.
تنهد “تليد” مُستسلمًا من وقاحة عمه، تحول بنظراته إلى والده قبل أن يقول بلهجة حاسمة:
-طيب أنا هطلع أخد حمام سريع وأغير هدومي علشان أروح لنوح أوضته قبل ما نتحرك عند خالتي رابعة.
عاد ببصره إليها مرة أخرى وقال بثباتٍ:
-إنتِ النهاردة بايتة معانا يا سكون زيّ ما أبويا قال، مفيش جدال؟؟؟
أومأت بتقدير لقرارهما، ربتت “وَميض” بحُنوٍ على كفها قبل أن تستأذن للصعود مع زوجها إلى شقتهما استعدادًا لحضور لحظة تقدُم “نوح” لخال مُهرة وطلب الزواج منها وفض النزاع الذي دار بين الشابين.
وما أن غادرا حتى التفت الشيخ لها وقال بابتسامة مسالمة:
-تقبلتي وَميض بدورها الجديد في حياتك بسُرعة.. قدرت أحس أد أيه كُنتِ حاسة بالمسؤولية ناحيتها والراحة في قُربكم من بعض.. عارفة ميزتك أيه يا سكن؟؟؟
طالعته بعينين تلمعان بضياء مهزوم فتابع بلهجة ودودة:
-ميزتك إنك بتفكري في مشاعر الناس اللي بتحبيهم وبتغضي الطرف عن مشاعرك.. يمكن إنتِ دلوقتي في أضعف لحظاتك بس شاغل تفكيرك وجعك على وَميض وإزاي هتتقبل حقيقة زيّ دي مش كدا؟؟؟
أومأت في صمتٍ ودموعها تتساقط منها فاندفعت نحوه ثم جثت على ركبتيها أمامه ووضعت رأسها على ساقيه وطفقت تبكي بمرارة غصَّت قلبها؛ مسح الشيخ على رأسها وقال راغبًا في نثر الصبر على قلبها:
-احساس المسؤولية ناحية وَميض نمى جواكِ بسرعة أوي.. أنا عارف إن قانون البقاء الخاص بيكِ قمته هي إخواتك.
•~•~•~•~•~•~•~•
نامت على ظهرها فوق الفراش وفردت ذراعيها على آخرهما وظلت مُحدقةً في السقف لدقائق طويلة كافية أن تُكسبها بعض التروي خاصةً بعد تلقيها نتيجة التحليل من قِبل طبيب المُختبر الذي أرسل التحليل فور اتصالها به؛ كانت صدمتها أقل من السابقة فقد كانت تتوقع أن “سكون” هي ابنتها المخطوفة بنسبة كبيرة، لم تنصدم أو تنهار ولكنها لا تُنكر سعادتها بالوصول إلى ابنتها أخيرًا وكيف رأت في عينيها بعض القبول والتقبل، التقطت “نجلا” الورقة الموضوعة بجوارها ثم وضعتها أمام ناظريها مرة أخرى تتأمل النتيجة بظفرٍ وعينين تلمعان بوَميض غلبه الانتصار، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمق قبل أن تحتضن الورقة بين ذراعيها في سرورٍ وملامح “سكون” تقفز أمام عينيها كما لو كانت تراها الآن.
سقطت دموعها على الوسادة فأسرعت بمحوها وهي تقول بلهجة ثابتة:
-مفيش عياط تاني خلاص يا نجلا.. لقيتي بنات وقُريب هيكونوا في حُضنك ودلوقتي لازم تركزي على حاجتين.
تنفست بقوة قبل أن تستكمل حديثها مع نفسها:
-موتي نفسك علشان وَميض تسامحك وتسمعي منها كلمة “أمي” ودمري عُثمان.. حُطي خطة نهاية طغيانه بنفسك.. خليه يكتشف إن سيناريو حياته كان من تأليفك وإنتِ المُتحكمة في مصيره.
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقه ورددت:
-خليه يدوق من أطنان العجز اللي دوقه ليكِ وقررتي تحتفظي بجُزء منهم له، حوليه ورقة في خريفك.. ورقة مش قادرة تواجه ريحك.
مدَّت ذراعها حتى التقطت علبة الكبريت ثم قامت بالتقاط عود ثقاب منها وأشعلته فورًا ثم ثبتته بين أسنانها الضاغطة عليه، ظل مُشتعلًا وظلت نائمةً كما هي تراقب تآكل العود وتحوله إلى عودٍ من الرمادٍ حتى بدأت النيران تقترب من شفتيها فأسرعت بفتح فمها ثم أدخلت العود داخله وأغلقت عليه فانطفأ فورًا من الهواء الصادر عن فمها، قام بالتقاط هاتفها في لهفةٍ حينما وصلها اشعارًا فظنته ردًا من “سكون” ولكن ارتخت تعابير وجهه بخيبة أملٍ وما أثار حزنها أكثر رؤية الأخيرة لصورة التحليل دون رد!!!
•~•~•~•~•~•~•~•
وقفت أمام المرآة تتطلع إلى هيئتها المُنمقة في إعجابٍ، فكانت ترتدي ثوبًا جديدًا اشترته خِصيصًا لهذه المُناسبة السعيدة، لم تستوعب حتى الآن قدومه بعد قليلٍ لطلب يدها من خالها، هل سيكون لها فعلًا؟؟ هل سيضع خاتمه حول إصبعها؟؟ هل سيأتي اليوم فعلًا طالبًا إياها كشريكةٍ معه في حياته للأبد وأن تكون هي أول من يرى في صباحه وتكون رؤيتها لوجهه بعد أن تُبصر عيناها في أول صباحٍ بينهما من أجمل الخيرات والمسرات بالنسبة لها، خفق قلبها بقوة واضطراب لا يهدأ فطوال الليل وهي تدعو أن يسير اليوم على النحو الذي يُرضيها وتفوز في النهاية بالخاتم الذي وعدها أن يُحضره لها في أول لقاء رسمي يجمعه بأهلها.
بدأت تدور حول نفسها في سعادة غامرة ولكنها توقفت فجأة حينما تذكرت خالها المُستبد في طلباته وكيف ينوي إعادة “نوح” خالي الوفاض من هذه القعدة ونية “إبراهيم” الشريرة في شحن خاله ضد نوح.
عبست صفحة وجهها فرأتها “رابعة” التي ضربت كفًا بالآخر وهي تسأل في توجسٍ:
-مالك بوذتي ليه ما كُنتِ مُنشكحة من شوية؟؟؟
التوى شدق “مُهرة” وأسرعت تصيح باحتجاج:
-ما هو أنا مش مغتاحة لأخوكِ دا بصغاحة ولا إبغاهيم دودة العلق دا.
رفعت “رابعة” أحد حاجبيها قبل أن تقول بنبرة ماكرة تخفي وراءها ابتسامة:
-وأيه الجديد يعني.. نوح زيّه زيّ أي عريس هيقعد مع خالك وهيختبره ولو معجبوش يبقى كُل حي يروح لحال سبيله.
اكفهر وجهها في غضب صريحٍ وصاحت سخطًا:
-نعم؟؟؟ نوح أيه اللي زيه زيّ أي عغيس؟؟ لأ بقول لكم أيه دا أنا أغوح فيكم في داهية، جوزي المُستقبلي يتعامل بكُل احتغام وتقديغ ويتوافق عليه فورًا وبدون اختباغات.. أنا خلاص اختباغته.
رابعة وهي تحدق فيها وتقول بغيظٍ:
-اختباغتيه إزاي يا مُهغة؟؟
ابتلعت ريقها على مهلٍ قبل أن تُصحح حديثها بكلمات أخرى:
-قصدي يعني أنه عنده واسطة.
تخصرت “رابعة” أمامها ورددت بتساؤل حاد:
-واسطة أيه دي بقى إن شاء الله؟؟
مُهرة بابتسامة عريضة تجيب:
-قلبي.. واسطته قلبي.
افتر ثغر “رابعة” عن ابتسامة عريضة قبل أن تسمع رنين الجرس وتقرر الذهاب إليه إلا أن “مُهرة” عاقت طريقها وردد بلهجة ثابتة حاسمة:
-هتوافقوا عليه بما يُغضي الله ولا أتجوزه من وغاكم؟؟؟
انفتح فم “رابعة” على وِسعه وهي تهتف بغيظٍ بعدما دفعتها برفقٍ بعيدًا عن طريقها:
-مخلفة بِجحة.. كان على زماننا نتكسف نفتح في أهالينا أو نعبر عن رغباتنا.. بقى أنا كُنت استجري أقول لأبويا “هتجوزوني دا ولا أتجوزه بالعافية” والله كان طخني في التو واللحظة.
ظلت تتحدث “رابعة” إلى نفسها بصوتٍ مسموعٍ تُعبر عن غيظها الفكاهي من جرأة وشجاعة ابنتها التي رددت بصوت عالٍ في مزاحٍ:
-الله يغحم أبوكِ.
تصلبت “رابعة” في مكانها وقد جحظت عيناها في صدمة قبل أن تلتفت إلى ابنتها وتصرخ في دهشةٍ:
-يجحم أبويا!!!
أومأت “مُهرة” سلبًا على الفور وهي تصيح في دهشةٍ مثيلة:
-يغحمه يا ماما.. يغحمه.. إنتِ ناسية إني لادغة!!
ضربت “رابعة” جبينها بكفها واستأنفت سيرها وهي تردد في تذكر:
-صح كُنت هظلمك.
توجهت فورًا إلى الباب تستقبل شقيقها وابن شقيقتها ثم دعتهما إلى الجلوس في غرفة الضيافة وأخبرتهم بقدوم الآخرين بعد قليلٍ، وما هي إلا لحظات حتى دق باب البيت مرة ثانية وقبل أن تضع “رابعة” يدها على مقبض الباب وجدت يد “مُهرة” تسبقها فرمقتها بذهولٍ وهي تقول من بين أسنانها المُطبقة:
-طب شوية خجل من بتاع العرايس دا؟؟؟
مُهرة بابتسامة عريضة ترد:
-لأ
أسرعت بفتح الباب وما أن ظهر أمامهما الشيخ سليمان حتى تهللت أسارير وجهيهما، رحبت “رابعة” به بحفاوة كبيرة ثم قادته إلى غرفة الضيافة بينما بقى “نوح” واقفًا يتطلع إليها بُهيامٍ مُحتجزًا البقية وراءه ثم ردد بتغزل وهو يقدم باقة من الزهور لها:
-مساء المانجا يا مانجا!!!
تخضبت وِجنتاها وهي تتناول الباقة منه بينما دفعه “تليد” بغيظٍ ثم قال:
-يا عم ادخل.. إنتَ بتعاكس من قبل ما يتوافق عليك!!
تنحى “نوح” جانبًا موسعًا الطريق لهم للمرور داخل البيت بينما بدأ يتجول بعينيه في أرجاء البيت ثم تساءل بصوت خفيضٍ:
-خالك جه؟؟؟ صحيح هو عنده كان سنة؟؟
أومأت إيجابًا ثم ردت بخفوتٍ:
-عنده ستين سنة.
فتابع بلهجة تتأرجح بين المزحٍ والغيظٍ:
-طب أيه هو مش ناوي يموت!!
انطلقت ضحكة عالية من فمها فأسرعت بكتمها قبل أن تتجه الفتيات إلى غرفة “مُهرة” ويذهب الشباب إلى الغرفة، فركت “مُهرة” كفيها معًا في توترٍ بينما جلس “نوح” بجوار الشيخ سليمان وجلس “تليد” على الجانب الآخر منه وبقى الشيخ في المنتصف ليتكلم بنبرة هادئة ودودة:
-قبل ما نتكلم في اللي إحنا جايين علشانه، لا بد أن نُصلح بين الشابين لبقاء ود النسب قبل أي شيء.
أومأ الخال مؤيدًا كلامه ثم قال بلهجة ثابتة:
-يرضيك يا شيخ سليمان إن ابنك يضرب إبراهيم علشان بيدافع عن بنت خالته.. إنتَ عارف إني مكلفة ياخد باله منهم في غيابي ونوح تجاوز كل الحدود باللي عمله دا.
أومأ “سليمان” قبل أن يرد بلهجة شديدة:
-وإبراهيم لما مسك دراع البنت بالعافية مكنش تجاوز الحد يا توفيق؟؟؟
توفيق بلهجة غاضبة يُبرر:
-بنت خالته يا شيخ سليمان وهو حُر فيها.
سليمان يرد ردًا قاسيًا بعض الشيء رغم ثباته الذي لا غبار عليه:
-الشرع مفيهوش بنت خالته يا توفيق الحرام بيّن والحلال بيّن وبالنسبة لحريته فحريته دي في قول رأيّ أو فعل لا يؤذي غيره.. الحرية اللي بتتكلم عنها بنودها تُنفذ إلى الحد الذي لا يجعلك تمس أو تضر شخص تاني.. أنا شايف إن هم الاتنين كانوا على خطأ وأتمنى تتقبل الحقيقة دي.
تنفس “توفيق” بقوة حينما عجز عن الرد أمام قامة كالشيخٍ “سليمان” خاصةً أنه لم يجد موضع خطأ في كلامه، في النهاية أومأ مُذعنًا؛ فأكمل “سليمان” بهدوءٍ:
-إحنا جايين بنية زواج بنتنا (مُهرة) من ابننا (نوح) على سُنة الله ورسوله.
سكت هنيهة قبل أن يُتابع بابتسامة هادئة:
-ما شروطك للموافقة؟؟
دخلت “رابعة” في هذه اللحظة بعد أن طرقت الباب ثم تقدمت بصينية المشروبات فأسرع “نوح” بتناولها منها ووضعها بالمُنتصف وبعدها خرجت مرة أخرى على الفور.
تنحنح “توفيق” قبل أن يقول بحسمٍ:
-طلباتنا بسيطة.. عايزين شقة مِلك علشان بنتنا متتبهدلش.. 100 جرام دهب عيار 23 .. وفرش شقة كامل خشب.
دمدم بخفوتٍ وغيظٍ من بين أسنانه المطبقة فلكزه “تليد” أن يتحكم في أعصابه أكثر من ذلك، لم يكُن يجرؤ أيًا من الشباب الحديث أو الاعتراض أثناء تكلُم الكِبار فرغمًا عنه لم يستطع الانفجار في وجه ذلك العجوز الذي ظنه يلد المال ولا يجنيه!!
تنهد “سليمان” بهدوءٍ ثم رد:
-في البداية.. أنا شايف إن دي شروط تعسفيه وتعجيزيه.. لأن لو نوح ابني كان قِبل مساعدتي من البداية كُنت هوافق على شروطك لأن مال الدنيا كله لا يتساوى بأدب وأخلاق مُهرة ولكن زي ما إنتَ عارف إن أنا اللي ربيت نوح وهو من زمان رافض مساعدتي المالية وقرر يشقى ويتعب ويكبر بنفسه ومجهوده.
سكت هنيهة يرتشف بضع قطرات من الماء قبل أن يستكمل بصلابةٍ:
-وإنتَ دورك كوصي على بنت الناس إنك تيسر لها الحلال وتقنن مشاعرها ناحية الراجل اللي اختارته وتحولها لمشاعرٍ يقبلها الله ورسوله لأن قبولك أو رفضك لن يُغير ما في القلوب!!!
ابتسم في خفةٍ وتابع بكلمات خيطت من تجاربه كمأذونٍ:
-كُن رحيمًا يرحمك الله.
التعليقات