التخطي إلى المحتوى

الفصل الثالث والأربعون]]

رواية

•~•~•~•~•~•~•~•~•

“وهل يُخاف ممن يخشى الله؟

 إن خاف غضبه.. أكرم مثواكِ بقلبه وإكرام مكانتك تُكرِم مكانته عند ربه.. فخير الرجال من ينظُر إلى امرأته على أنها مشروع حسناته في الدنيا.

•~•~•~•~•~•~•~•~•

تسلل بخطوات متريثة عن ناظريها حتى ابتلعه الظلام متوجهًا إلى البوابة بعد أن جاءه هذا الاتصال الغامض الذي حول ابتسامته المُضيئة إلى أُخرى مقطبة، ظلت تتابع ابتلاع الظلام له حتى اختفى تمامًا، نفخت بضيقٍ شديدٍ وقد استبد الفضول بها بعد أن غادر دون أن يُفسر لها إلى أين يتجه؟؟

تخصرت متبرمةً وهي تنظر يمينًا ويسارًا قبل أن ينفد صبرها وتُقرر تتبعه، فقصدت الاتجاه الذي مر عبره حتى تكتشف بنفسها ما الذي يجري؟

كان وجهه عابسًا، لا يفهم ما الموضوع الضروري الذي جاءت من أجله في هذا الوقت ودون سابق موعد؟ هل واجهت صِدامًا مع عمه كما كانت تُرتب؟ كان حديثها معه ذلك الصباح صادمًا ولكنه صدقها في الحال؛ فمتوقع أن يفعل عمه أي شيءٍ دون ريبة أو خوف، وصل إلى البوابة فوجد الحارس قد غفا على كرسيه ينعم بنوم عميقٍ ويظن أن الصُبح قد طلع، شرع في فتح البوابة للقدر الذي يجعله يمر من خلالها فقط ثم بدأ ينظر على جانبيه باحثًا عنها لتقع عيناه عليها تقف بجوار سيارته.

تحرك مُسرعًا إليها وما أن أبصرته حتى تابعت بنبرة ثقيلة جعلت مخارج حروفها لا تخرج مضبوطة:

-كان لازم نتقابل علشان أقول لك المفاجأة اللي عندي.

وقف قبالتها بملامح واجمة وبعد تصريحها قطب حاجبيه وقال متوجسًا:

-مُفاجأة أيه؟ اللي جابتك لحد هنا يا نجلا هانم مع إنك كُنتِ ممكن تبلغيني بيها في التليفون؟!

اِفتر ثغرها عن ابتسامة ساخرة وهي ترد:

-لأنها تستحق.. تستحق وتهمك.

خارت قواها في هذه اللحظة فأوشكت أن تسقط بالأرض ولكنه تشبثت سريعًا بنافذة سيارتها فأدرك “تليد” أنها ليست على طبيعتها وتأكد من شكوكه بشأن تناولها الخمر الذي أوصلها إلى هذه المرحلة، فأردف بانفعالٍ خفيفٍ:

-نجلا هانم إنتِ شاربة؟! أنا مش عارف أيه اللي وصلك تعملي ذنب زيّ دا ولكن إنتِ مش تمام ولازم دلوقتي تكوني في بيتك؟!!

انطلقت ضحكة طويلة ساخرة من بين شفتيه وأردفت:

-في بيتي؟ أنهي بيت يا أستاذ تليد؟؟ بيتي اللي اتهد من أكتر من عشرين سنة؟ ولا بيتي المبني من الخوص والخشب اللي كُنت عايشة فيه بسلام مع أبويا؟؟ ولا تقصد بيت حمدي؟؟ أنا من يوم فراق ولادي وأنا مُشردة.. شعور اليُتم مكنش من فقد أبويا بس.. أنا اللي تيتمت من يوم فراق ولادي مش هم.

لانت ملامحهُ قليلًا مترفقًا بحالها ثم أردف بصوت هادئ:

-إنتِ محتاجة ترتاحي وتفوقي وبعدين نتكلم في كُل اللي إنتِ عايزة تقوليه؟!

انهمرت دموعها أنهارًا وتقطع صوتها المبحوح وهي تقول:

-لحظة خليني أكمل.. يمكن تفهمني.. مش عايزة أكتر من إني ألاقي حد واحد يفهم أنا بتوجع إزاي!!!

قطب حاجبيه وانتظر متفهمًا رغبتها في طرد أوجاعها الكامنة بين خلجات نفسها، ولكنه لم يتصور مُطلقًا أن يتلقى منها صفعة دامية كانحنائها إلى النافذة ثم التقاط الورقة التي وضعتها بهدوءٍ بين  كفيه وهي تقول بصوت مكلومٍ:

-اقرا يا شيخ تليد!!

ظل مُثبتًا بصره إليها في استغرابٍ قبل أن يتفحص فحوى الورقة ليجدها تقول بابتسامة مهزومة:

-التحليل!!

ضيق عينيه فجأة، فلم تصيبه كلماتها سوى باستغرابٍ أكبر، ألقى بصره بين سطور الورقة يقرأها في حيرة من أمره، فما المُثير في تحليل لا جدوى منه، فهي لم تحظَ بعينة الفتاة التي تظنها ابنتها بل أُلقي إلى حجرها عينة زوجته عِنادًا بها ومحاربة لها وفي النهاية لن تُسفر النتيجة عن شيء سوى السلب!!

هكذا ظن، إلى أن وصل إلى نهاية السطور فخرجت مُقلتيه في نُتوء وجحوظ وهو يقرأ تطابق عينة زوجته مع عينة “نجلا؟!”، ما هذه التُرهات وكيف انتهى المطاف إلى إيجابية النتيجة؟ كيف لأمرٍ حدث عبثًا أن يُصبح حقيقيًا؟ فالعنبُ لا يُثمر من بذور الشوكٍ!!

رأرأت مُقلتيه في صدمة كاسحة أفقدته تركيزه تمامًا وما زال عالقًا بين الأسطُر لم يبرحها بنظراته فأسرع بدعك عينيه ربما سيقت له ضعف الرؤية هذا العبث، فرك عينيه للحظات ثم تطلع مرة ثانية إلى الورقة ولكنه سمعها تقول بصوت خافتٍ يغلفه الوهن:

-أنا حالتي أكبر بكتير من اللي إنتَ حاسس بيه دلوقتي.. إنتَ تايه؟! لكن أنا الوجع بينهش فيا يا تليد.. وَميض بنتي؟؟

رفع عينيه إليها يرمقها بنظرات ثاقبة ينبعث منها التيه والدهشة قبل أن يردف بلهجة حادة وصوت أجشٍ:

-إزاي يعني تقصدي إن وَميض بنتك من عُثمان؟؟؟ 

وقفت متسمرةً في مكانها، صوت شهقاتها يرتفع جليًا فكانت تبكي بمرارة غصَّت قلبها بينما أومأ برفض قاطعٍ الاعتراف بما تقوله هذه الورقة فصاح بانفعال هائجٍ:

-وَميض مُستحيل تكون بنتك.. وَميض عاشت جُزء من طفولتها معايا.. أنا بنفسي مخرجها من الماية بعد ما الست رمتها ومشيت.

كمن قبض على حجر كبيرٍ وأعانه على حمله فتية عُتاه ثم ألقاه على قلبها فدمره تدميرًا، ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وهي تستمع إلى تصريحه الأخير، أجال هذه الذكرى في رأسه يُحاول تذكر ما دار تلك الليلة جيدًا؛ فأكمل باستنكارٍ:

-أكيد عُثمان السروجي بيحاول يحاربك بأفكار غير منطقية أو عايز يوصل لك دا علشان تتعذبي أو يضلل سعيك في الوصول لبنتك.. أما وَميض مُستحيل تكون بـ…

قطع كلامه صوتها المخنوق وهي تقول بانهزامٍ:

-بنتي يا تليد.. وَميض بنتي.

احتقن وجهه بحُمرة الغضب بعد أن فقد السيطرة على انفعالاته فصاح بلهجة جهورية غاضبة:

-أنا مش عايزك تتعلقي بحبل أمل دايب.. بقول لك وَميض مش بنتك.. أنا بنفسي مخرجها من الماية وكانت طفلة عندها سنتين مش لسه مولودة!!

انفجر بركان غضبها فجأة وهي تصرخ في وجهه بصوت مقهورٍ:

-أنا اللي رميتها.. أنا اللي رميت بنتي في الماية يا تليد.

حدق فيها بعينين متسعتين مشدوهتين وبصوت مُنخفض أصابه سهام الصدمة قال:

-نعم؟؟؟

خارت قواها تمامًا فألقت بحملها كله على الأرض وهي تجثو على ركبتيها، وضعت رأسها بين كفيها تبكي بقهرٍ فيما جلس أمامها بسرعة مُستندًا على رجليه وهن يقول بانفعال يخالطه الصدمة:

-إنتِ بتقولي أيه؟؟؟

صرخت هادرة من وسط بكاءها:

-أنا اللي رميت عيالي يا تليد.. كان غصب عني.. رميتهم قبل ما الجوع هو اللي يموتهم.. مكنتش في وَعيي!!

قدح الشرر من عينيه قبل أن يصرخ فيها بنفورٍ واستحقارٍ:

-إنتِ إزاي جالك قلب تعملي كدا؟؟ بني آدمة معدومة الإيمان والرحمة.. رميتي عيالك في عِز البرد في الماية؟؟؟؟ وراجعة بتدوري على بنتك اللي خطفها عثمان؟ على أي أساس؟ عايزة تلاقيها علشان تخلصي منها هي كمان!!!

سكت هنيهة يمسح على وجهه بعصبية مُفرطة قبل أن يرمقها بنظرات مُستهجنة تشمئز رؤيتها:

-إنتِ الأمومة خسارة فيكِ.

رفعت وجهها الباكي تنظر إليه بعينين حمراوين كالدماء، أسرعت تمحو دموعها وهي تقول بلهجة ضعيفة تثير عطفه وتلمس الرفق الكامن بقلبه: 

-إنتَ متعرفش أي حاجة من اللي مريت بيها.. إنتَ متعرفش عمك عمل فيا أيه ولا وَصلني لأيه؟ إنتَ متعرفش غير اللي حكيته لك.. أنا ندمانة ولحد اللحظة دي بدفع تمن تفريطي فيهم!

رمقها شزرًا قبل أن ينهض ثم يقول بلهجة صارمة بل يمقت ما فعلته ولم يميل لحديثها قدر إصبع:

-متحاوليش تستعطفيني لأني مش هلين ولا هلتمس لك أي عُذر بعد اللي عملتيه فيها.. إنتِ عارفة عملتي فيها أيه؟؟؟

كانت منكسةً الرأس في خزي وما أن طرح سؤاله حتى رفعت عينيها الباكيتين إليه فأكمل باختناقٍ شديدٍ:

-دمرتيها.. كسرتيها.. حرمتيها طعم العيلة.. دوقتيها اليُتم من وهي عندها سنتين.. أفقدتيها ثقتها بنفسها.. عارفة هي حاسة بأيه دلوقتي؟؟ بالزرعة اللي نبتت وسط صحرا وملهاش جذور.

تشنجت أطرافها وصفحة وجهها وهي ترد متمنعة عن البكاء بينما تذرف الدموع رغمًا عنها:

-مكنتش في وعيي، أنا من حقي أعرفها إني أُمَّها؟!

انفلتت من بين شفتيه ابتسامة ساخرة وهدر بحنقٍ:

-هتقولي لها أيه؟؟ أنا أمك اللي رميتك في عِز البرد في البحر علشان تتجمدي وتموتي وبعدها روحت البيت عادي؟؟؟ إنتِ فاكرة إنها لو عرفت هتسامحك؟؟؟ 

رماها بنظرة جامدة نارية قبل أن يرفع سبابته أمام وجهها ثم يستكمل بتحذيرٍ لاذعٍ:

-اوعي تفكري تعرفيها إنك للأسف أمها، ابعدي عن مراتي تمامًا، أنا ما زلت بعالجها من جحودك وتأثير ماضيها المُر على كل لحظة بتعيشها حاليًا، للمرة الأخيرة وَميض مش مُستعدة نفسيًا أبدًا للحقيقة دي!!.

استدار بانزعاجٍ ينوي الانصراف من أمامها فلم يعد يطيق رؤيتها أكثر من ذلك، قام بوضع الورقة في جيبه ثم أجَّ في سيره مُبتعدًا عنها عدة خطوات ليجدها تقول بصوت وَهِنٍ مكلومٍ:

-وابني؟؟؟

أغمض عينيه مخنوقًا منزعجًا من سماع صوتها ولكنه استدار بوجهه دون جسده يطالعها باستحقار وقال متهكمًا:

-تقصدي اللي رميتيه مع وَميض؟؟ البحر كان قبره.

سكت هنيهة ثم أضاف ناقمًا عليها:

-ليوم الدين ذنبه هيفضل متعلق في رقبتك.

قرر إنهاء هذه المُناقشة التي صرعت مشاعره صرعًا، يتذكر وجه تلك المرأة جيدًا فكيف لم يتعرف عليها؟ كان هذا سؤاله في بادئ الأمر إلا أنه حينما دقق النظر في ملامحها وجدها ربما عدلت في وجهها الكثير من التفاصيل قد يكون هذا باستخدام عمليات التجميل أو ربما بمساحيق التجميل التي لا تُفارق صفحة وجهها منذ رؤيته لها فكان كم الصعب عليه التعرف عليها!!!

تركها خلفه تُنازع عذابًا شديدًا نتيجة نيران عاتية قد اضرمت في قلبها، لم يأبه بانهيارها أو بقاءها بالأرض فقد كان ناقمًا عليها بشدة، توجه إلى بوابة المزرعة يَؤج في سيره بخطوات مُلتهبة، في اللحظة نفسها هرولت “وَميض” تعود إلى مكانها بعد أن كانت تراقبه طوال الوقت من خلف بوابة المزرعة للتعرف على السيدة التي يقف معها ويتحدثان، تمكنت من التعرف عليها، فمطت شفتيها متذمرةً وهي لا تفهم سبب قدومها في هذا الوقت وما الحديث الذي يدور بينهما فقد كانا بعيدين جدًا عن البوابة ولم تستطع الانصات إلى كلمة واحدة ولكنها دُهشت حينما رأت انهيار “نجلا” جالسةً بالأرض وانفعال “تليد” الذي ظهر في وجهه وفي النهاية كل ما استطاعت رؤيته بوضوح لهذه الدقائق؛ هي الورقة التي دسها زوجها في جيبه!!!

تجاوز البوابة ثم مضى يعود إلى “وَميض” التي كانت تُتابع هطول رذاذ المطر في ثبات وتخرج من بين شفتيها زفرة جزع لانتظاره طويلًا أو هكذا فسر تصرفها، وقف أمامها مُباشرة فتنحنحت وهي تقول مستفسرة في هدوءٍ:

اتأخرت عليا أوي.. كُل دا بتتكلم في التليفون؟؟؟

تنحنح بخفة وتدبر ابتسامة لم تصل إلى عينيه حتى محاولًا أن يستبدل وجوم وجهه اللا إرادي بملامح غيرها هادئة لا يشوبها ذرة انفعال، نبش غُرة رأسه بأنامله قبل أن يوجز قولًا:

-مُكالمة شغل.

أومأت في هدوء كبيرٍ وداخلها يشتعل غيظًا من اتيانه بالأكاذيب؛ لا يروقها اقتراب “نجلا” منه بهذه الطريقة الملحوظة وعدم دفعها عنه أو وضع الحدود لها من قِبله، تفحصت ملامحه لبعض الوقت فكان مُرتبكًا ولكنه أخرج ابتسامة عريضة وهو يفتح ذراعيه لها ثم يقول بصوت دافئ:

-هلُمَّي إلى داركِ!

زوت ما بين عينيها ثم سألته بصوتٍ خافتٍ شاردًا فيما مرَّ قبل دقائق:

-أروح فين؟؟؟

أسرع بالقبض على ذراعها حتى اجتذبها إلى صدره ثم تابع بصدرٍ يجيش بالهموم ونبرة لينة لبث الطمأنينة إلى وجهها العابث:

-إلى دارك.

استقرت بين ذراعيه وضمها إليه بقوة في محاولة منه لاستخدام جسده كسورٍ يردع الآلام عنها وتعود خائبة في النيل منها، ود لو يحتفظ بها داخله دائمًا في مأمن، لا يعلم كيف ستستقبل هذه الحقيقة التي علم بها توًا؟! قد تنهار في لحظتها وربما تذوب روحها الضعيفة ألمًا وقهرًا ولن يكون في ذلك سعادة له، يضمه إليه بقوة.. يربت على ظهرها برفق وفيرٍ.. يُقبلها عدة قُبلات تتأرجح بين الجبين وغُرة الرأس.. يداعب وِجنتها بنعومة ثم يهمس بالقُرب من أذنها:

-بحبك.

كل هذه التفاصيل هي محاولة منه للاعتذار لها عمَّا تفعله بها الدنيا من ظُلمٍ يُقهرها  ويطفئ وَميض قلبها الرقيق الذي لا تشوبه سوداوية العالم حتى الآن، لا يزال نقيًا فاتنًا كالقُطنٍ لا يُدرك عن الحُزن سوى البكاء ولا يُدرك عن الغضب سوى الانعزال؛ لم تصل بعد لمفاهيم أُخرى كتدبيرٍ المكائد وقت الحُزن وتنفيذها وقت الغضب، كانت تضع رأسها على صدره في سكونٍ رغم بعثرة أفكارها المتحيرة بشأن كذبه عليها إلا أن مشاعر الحب الجارف لها قد وصلتها بقوة فتخرج من بين نبضاته إلى سمعها نغمة مُريحة تدعوك إلى الاسترخاء ورفع رايات الاستسلام بكُل حُب وقبول.

داهم رأسه ألمًا شديدًا فلم يحفل به بقدرٍ انشغاله بمنحها كُل مشاعره الجياشة دون ادخار إلا أن ملامحه بقيت غامضة قليلًا ونظراته خاوية من التفسير فوقع الصدمة عليه لا يزال قائمًا!!

على الجانب الآخر، أبصرها تقف على الحَجر وفي حِجرها تقبع ماعزها الصغيرة، كانت شاردة الذهن ولا تبدو في مزاجٍ جيدٍ فأراد أن يراوغها ويبدل سكونها إلى ضحكتها الرنانة، سار متبخترًا يضع كفيه داخل جيبي بنطاله ووقع خطواته أحدث جلبة مقصودة منه للفت انتباهها إلا أنه لم ينجح في ذلك، كان يحك الأرض بقدميه بينما هي في عالم آخرٍ، قطب ما بين عينيه باستغرابٍ ثم اقترب منها أكثر وواصل سيره متجاوزًا إياها ليجدها فجأة تنادي عليه متوجسةً:

-نوح!!

التفت نحوها مُسرعًا ثم تظاهر بالدهشة وهو يقول:

-أيه دا مُهرة؟ كُنت فاكرك واحدة من العاملات!!.. أيه اللي مقعدك برا في الجو دا؟

تنهدت بهدوءٍ قبل أن تلقي نظرة شمولية من حولها ثم تقول باستمتاعٍ خافتٍ:

-بحب أقعد تحت المطغ.. بغتاح نفسيًا لمَّا بيلمسني.

افتر ثغره عن ابتسامة عريضة ثم مال يسحب حجرًا ويقربه منها ثم يجلس عليه بعد ذلك وهو يقول مازحًا:

-كدا هييجي لك برد إنتِ والمعزة الغلبانة دي وبعدين إنتِ أيه عرفك إن هي كمان بتحب المطغ يعني؟؟ ما يمكن بتدعي عليكِ دلوقتي في سرها!!!

التوى شدقها وهي تشيح بنظراتها عنه ثم ترد باقتضاب:

-ملكش دعوة، هي بتحب أي حاجة أنا بحبها.

رفع أحد حاجبيه ثم مد ذراعه يلمس جلد المعزة فوجدها تقول بامتعاضٍ وهي تسحبها بعيدًا عنه:

-سيبها علشان متضايقة.

ضيق عينيه ثم سأل مازحًا:

-وعرفتي منين إنها متضايقة؟؟

سكت هنيهة ثم تابع حينما لم يجد منها ردًا:

-آآآه نسيت إن في بينكم تواصل فكري وإنك دكتوغة بقغ ومعيز وسلاحف وزواحف…

قاطعته تستكمل مزمجرة في غيظٍ:

-ودكتوغتك.

انفلتت ضحكة عريضة من بين شفتيه وهو يقول في ثقة:

-ليه إنتِ دكتوغة أسود!!

مطت شفتيها وهي تقول بحنقٍ:

-لا دكتوغة حلاليف.

اتسعت عيناه في دهشة فأسرع بالقبض على فكها ثم أردف وهو يكز على أسنانه بغيظٍ:

-إنتِ بتشبهيني بالحلوف يا حُقنة عضل، طب يمين تلاتة لأحرمك نيل الأمجاد.

رفعت أحد حاجبيها واستفسرت باستنكارٍ:

-أمجاد أيه دي إن شاء الله؟؟

نوح بابتسامة ماكرة يرد:

-إنك تتجوزيني.. أمجاد دي ولا مش أمجاد.. رُدي؟؟

قررت أن تستدير فتعطيه ظهرها وهي ترد بلهجة ناقمة:

-مش هتجوز واحد متعدد الاستخدام زيك.

ارتخت شفته السُفلى وكرر جملتها ببلاهة:

-متعدد الاستخدام؟؟ ليه هو أنا صابون سائل ولا تاتش قاهر الدهون!!

نفخت بقوة قبل أن تسأله بلهجة حادة:

-مين اللي كانت في العيادة دي يا نوح؟ وكانت عايزة منك أيه؟؟

اندهش من سؤالها وتابع في حيرة:

-مين؟؟ مش فاكر!

ثواني فقط وتذكر قصدها وإيلام تُلمح بسؤالها فتابع بنبرة تترقب ردة فعلها:

-مين قصدك؟؟؟

أسرعت بالالتفاف إليه ثم رددت بملامح واجمة ولهجة متذمرةً:

-بالظبط كدا.. مين ميان بقى؟؟

أومأ مُتفهمًا وفي قرارة نفسه حسم الأمر بالتصريح بشأن “ميان” والعمل الذي يجمعه بها؛ فتابع بلهجة ثابتة:

-ميان يا ستي تكون أشطر هاكر أنا قابلته لحد دلوقتي وطبعًا احتاجتها في الوصول للشخص اللي سرب التسجيل لتليد ولكن معرفتش ساعتها توصل لحاجة ومن كام يوم كلمتني إنها قدرت توصل لعنوان الشخص دا، بس يا ستي.

اتسع حاجبيها تعجبًا ونسيت غضبها منه وهي تسأل بفضولٍ:

-طيب وعملت أيه مع اللي سغب التسجيل؟

نوح بجدية يرد:

-لحد دلوقتي مأخدتش خطوة بخصوصه ومستني لمَّا تليد يفضى من مشاغله ويقضي شوية وقت مع مراته وبعدين هعرفه أكيد.

مُهرة وقد انخرطت في التفكير بالأمر:

-طيب ما تتعامل إنتَ أو تبلغ البوليس على طول؟؟؟

نوح بنفي قاطعٍ:

-لا مينفعش طبعًا، لمَّا أتأكد الأول من صحة المعلومات اللي وصلتني وبعدين مينفعش أتصرف من نفسي لازم في الأمور اللي زيّ دي نستشير بعض.

أومأت تتفهم وجهة نظره، وقبل أن تستطرد في حديثها معه رأتهما يأتيان صوبهما وصوت “تليد” يقول مازحًا:

-عصافير الحُب بيعملوا أيه برا في البرد دا؟؟

انطلقت ضحكة رقيقة من بين شفتي “مُهرة” بينما رد “نوح” بنبرة مغتاظة:

-ولا حاجة يا سيدي، مُهرة شافت إني بتنمغ عليها فقررت تقعدني تحت المطر علشان يجيني برد وأخنف ونبقى مُتعادلين، قصة تجلي الأخنف والكاتعة.

حدقت فيه وهي تصيح بغيظٍ:

-نعم؟؟

نوح بضحكة مراوغة يعدل:

-واللدغة قصدي.

في هذه اللحظة، ارتفع صوت بوق السيارة فأدركوا جميعًا أن الشيخ “سُليمان” قد وصل أخيرًا فانسحب “تليد” فورًا يتحرك مسرعًا نحو بوابة المزرعة ليفتحها لأن الحارس يبدو عليه أنه قد غرق في خبر “كان” ولا يمكنه الاستماع إلى أبواق السيارة التي تصدح عاليًا وتثقب مسامع الكُل

فتح البوابة على مصراعيها فمرت السيارة ثم أشار “تليد” للسائق أن يَصُفُها أمام باب الشقة بالضبط كي لا توحل أقدام الشيخ بالطين ففعل، فتح “تليد” باب السيارة له فترجل منها “سليمان” وهو يُقابل ابنه بابتسامة منشرحة:

-مساء التفاؤل برؤيتك يا عِز الناس.

بادلهُ “تليد” ابتسامة هادئة وهو يعطيه ذراعه كي يتأبط إياه ويستند عليه:

-مساء المِسك الطيب.. اشتريته من ورايا يا راجل يا طيب مش كدا؟؟

شبك ذراعه بذراع ابنه ثم تابع بابتسامة ودودة:

-أبدًا والله، دا المِسك اللي كُنت جايبه لي هدية من شهرين.

أومأ “تليد” وما زالت البسمة تعتلي وجهه فيما أكمل الشيخ وهو يتنقل ببصره في أرجاء المزرعة:

-أخدت جولة يا ولدي في المزرعة وتأكدت إن المواشي كلها في مساكنهم اتقاءً للبرد؟ أخاف اتسأل عنهم أو حاجة منهم لا قدر الله تموت من البرد فيتأذى قلبي.

تليد يؤكد إتمام الأمر لطمأنته:

-العُمال عملوا اللازم، متقلقش إنتَ سايب وراك ناس مسؤولة.

تحرك به “تليد” صوب باب الشقة فيما تابع الشيخ بلهجة نافية:

-لا مش عايز أدخل الشقة دلوقتي.. خُدني للبيت الخشب.. عايز أولع الكانون وأشرب كوباية شاي.. هذه الأجواء لا تُفوت.

لم يصر “تليد” عليه واحترم قراره رغم شدة البرد فتابع بهدوءٍ ما أن رأى توقف الأمطار:

-اللي تحبه بس إنتَ كدا هتعمل شاي للمجموعة كلها لأن  الفريق كله صاحي!

تحرك به من جديدٍ إلى الساحة الخشبية التي يقضي فيها أغلب وقته وهي عبارة عن سقف من الخشب تحيطه أعمدة خشبية كذلك لا تصل إلى السقف فتبدو صالة مكشوفة، يضع الشيخ على أرضيتها سجادًا ويقبع في بدايتها مدفئة رخامية يشعلها طوال الوقت ثم يقوم بإشعال القدر الحديدي الذي يمتلىء بالسنط والخشب لزيادة التدفئة ولكي ينعم ببعض الدفء الداخلي يقوم بوضع غلاية المياه على السنط ويضع بداخلها الشاي وحبيبات السكر ويتركهم يندمجون معًا ويمكنك وقتها أن تتذوق أطيب كوبًا من الشاي قد تراه في حياتك وكأنما وضع داخل الغلاية الكثير من دفء قلبه وحلاوة روحه.

تنهد “تليد” تنهيدةً ممدودة بعُمقٍ بينما تابع “سليمان” بحرص شديدٍ:

-كيف حال الأُترُّجة؟!

ابتسم ابتسامة عريضة حال ذكرها ورد بصوت هادئ:

-بخير، منورة قلبي قبل بيتي، الحمد لله، عامةً هتلاقيها جايبة الجيش وجاية دلوقتي.

كان يتفادى السير في مناطق الوحل وتمكنا من الوصول بسلام إلى البيت الخشبي، فأسرع الشيخ بالجلوس بجوار المدفئة وبدأ في إشعالها بينما قرر “تليد” إحضار زوجته ورفقائه لتذوق كوبهم المميز الذي ينتظرونه بين الحين والآخر، سار مسرعًا إليهم ثم طلب قدومهم وطلب من العُمال المستيقظين أن يأتوا كذلك للتدفئة؛ فمُجاورة الشيخ سليمان تبعث الدفء إلى قلوبهم بينما كوب الشاي خاطته يدفئ أطرافهم ودواخلهم.

توافد الجميع إلى البيت الخشبي ولحقت بهم “رابعة” التي انتهت توًا من عملها داخل المطبخ ولكنها قررت أن تُعيد ذكريات الأيام الماضية فقبضت على علبة بلاستيكية بيضاء مزجت داخلها السمن البلدي بالعسل الأبيض ثم التقطت كيس الخبز وسارت بهما، جلسوا في حلقة يترأسها الشيخ، ابتسم “تليد” بسعادة غامرة ثم تابع:

-اللي عليكِ يا خالة رابعة وإنتِ رايقة.

بدأت تعد لهم شطائر السمن بالعسل وتضعها أمامهم حتى ينتهي تحضير الشاي ويستطيعون تناولهما معًا، أردفت “وَميض” بفضول كبيرٍ:

-بابا سُليمان عملت أيه في زيارتك مع عُمر!!

رمقها بنظرة دافئة وظهرت على مُحياه ابتسامة مُحبة وهو يتابع:

-قرأنا الفاتحة يا حبيبة أبيك.

مطت “مُهرة” شفتيها ثم تساءلت باستفهامٍ:

-مش قراءة الفاتحة بِدعة يا شيخ سليمان؟؟ أنا سمعت شيخ بيقول كدا!!!

ابتسم برصانة زينت شفتيه وهو يلتفت إليها ثم يقول بهدوءٍ:

-ما مفهوم البدعة أصلًا يا دكتورتنا؟ كُل ما جاء بعد وفاة الحبيب ولم يعاصره بدعة، أمر مُحدث لم يكُن عليه الصحابة والتابعين، كُل شيء لم يكن على أيام النبي فهو بدعة.

سكت هنيهة ثم أضاف وهو يعير بعينيه الإنتباه إلى البراد ويُكمل:

-ونعم، قراءة الفاتحة بدعة ولكن هل كُل بدعة حرام؟؟؟

نعم الابتداع في الدين حرام طبعًا أما العادات وغيرها من أمور حياتنا فالابتداع فيها نُرجعه إلى خمسة أحكام فقهية وبناءً على القياس أيضًا شريطةً ألا نخالف الشرع.

ما هي الأحكام الفقهية؟ 

وجوب؛ فتارك الفعل يؤثم وفاعله يؤجر.

جواز؛ تارك الفعل لا يؤثم وفاعله يؤجر.

ندب؛ تارك الفعل لا يؤثم وفاعله لا يؤجر.

مكروه؛ تارك الفعل يؤجر وفاعله لا يؤثم ولكن هذا الحكم يقود المرء للشُبهات.

محرم؛ تارك الفعل يؤجر وفاعله يؤثم، ونقيس على ذلك التبرك بآيات الله لتيسير أمورنا أو عند بداية حياة جديدة؛ فأنا أرى أن تارك الأمر لا يؤثم وفاعله يؤجر؛ فقد استعنت بكلام الله في تيسير أموري.

هكذا ببساطة.

بدأ يجمع الأكواب أمامه ثم يسكب الشاي داخلهم ويبدأ في تمرير الأكواب بين الجالسين الذين يستمعون إليه في انصات شديدٍ، كان كلامه موجزًا وقصيرًا ولم يرد التطرق إلى أكثر من ذلك فلا بأس بالاستعانة بآيات الله لإتمام أمر جلل في نفس المرء.

التقط “تليد” منه طرف الحديث ثم قال بهدوءٍ:

-بالظبط زيّ مكبرات الصوت في المسجد؛ مكبر الصوت على أيام الرسول مكانش موجود فإذن هو بدعة؛ ولكن غرضي منه أيه؟! إيصال الآذان للناس، طبعًا اللي بيستخدم مكبر الصوت أثناء الأذان لا يؤثم بل يؤجر زيّ اللي مش بيستخدمه بالظبط.. عامةً زمننا يختلف عن زمن النبي وطبيعي هيكون في أمور مُحدثة كتير الأهم إنها متكونش في الدين.

أومأ “سليمان” ثم أضاف بورعٍ:

-ربنا يعفو عنا وعنكم ويسامحنا إن قصرنا غير قاصدين.

تطرقوا لأحاديث أُخرى عن الحياة اليومية وقص عليهم الشيخ بعض القصص الشيقة ومرَّ الوقت سريعًا إلى أن جاء موعد نومه فاستأذن الجميع وغادر إلى فراشه، ذهب الجميع إلى أماكنهم وتحرك “تليد” مع زوجته إلى شقتهما وما أن دخلا حتى تابع “تليد” بتأفُف وهو ينظر إلى الأريكة:

-مش قادر أنام على الكنبة النهاردة الصراحة، ممكن أنام جنبك على السرير وهديكِ ضهري؟؟؟

رفعت أحد حاجبيها وهي ترميه بنظرات ثاقبة ثم تقول باعتراضٍ قاطعٍ:

-لااااااا.. ما هو أنا مش بثق فيك نهائي.

كشرت ملامحه وهو يقول بلهجة حادة:

-عيييييب، أنا امتى خونت ثقتك؟؟

وَميض بصراحة قاتلة:

-ولا مرة.

رماها “تليد” بنظرات ساخطة وأدف:

-أمال أيه مش بثق فيك دي؟!!

تنحنحت “وَميض” مرتبكةً وهي تصرح عن مخاوفها:

-ما هو بصراحة بقى إنتَ قطراتك دي بتكبر بالليل وتقريبًا كدا الماية عندك مش بتقطع باين!!

رماها بغمزة من عينيه وقال موجزًا:

-ما وعدتك بقى!!

نبشت خصلاتها بتردد ولكن في النهاية تقبلت طلبه على مضضٍ ثم أسرعت تهرول داخل الغرفة فسأل مندهشًا وهو يتبعها:

-بتجري ليه؟؟

وَميض وهي تقفز إلى الفراش وتدثر نفسها داخل الغطاء وتقول بابتسامة ماكرة:

-أنا بحب أنام على الطرف دا، قولت أحجزه يعني قبل ما تستولى عليه.

انفلتت ضحكة بسيطة من بين شفتيه وهو يضرب كفًا بالآخر ويستقر على الطرف الآخر من الفراش قائلًا بإرهاقٍ:

-طيب يلا تصبحي على خير.

امتعض وجهها في استغرابٍ؛ فلم يحاول مراوغتها كعادته بل استدار يعطيها ظهره واستسلم تمامًا لفكرة النوم ولم يدللها أو يتودد إليها قليلًا أو يعبر عن حبه لها ككل مرة تكون فيها بقُربه، التوى شدقها بضيقٍ وقررت أن تنتقم لكبريائها منه، فكيف يتجاهل فاتنة مثلها ولا يداعبها بكلمات لطيفة؟؟

ضوى بريق شرير في عينيها فأبعدت الغطاء قليلًا حتى ظهرت ساقيها ثم تحرك بإحداهما نحوه وقامت برفع سترته قليلًا بأنامل قدمها ثم لصقت قدمها الباردة على جلده لينتفض متأوهًا يجلس في مكانه وعيناه تقدحان بالشرر وهو يقول غيظًا:

-حرام على أهلك.. ليه؟؟ ليه ترويع المواطن الآمن.. ليه؟؟

أسرعت بغلق عينيها قبل أن يجلس فتبدو نائمةً لا تعي ما تفعل ولكنها تمكن من كشفها حينما أخذت جفونها ترتجف وارتسمت ضحكة مكتومة على شفتيها؛ فتابع وهو يكز على أسنانه:

-إنتِ كدا نمتي يعني؟؟ دا إحنا كُنا بنتكلم من خمس دقايق؟

لم تتحمل أكثر من ذلك فانفجرت ضاحكةً، أثارت حنقه فمال إليها وانقض يقبض على ساقيها معًا ثم وضعهما بين ساقيه وأغلق عليهما بإحكام وقال بلهجة حازمة:

-إنتِ مش هينفع معاكِ غير قلة الأدب والقطرات، هم اللي بيسكتوكِ.

أسرعت بدفن وجهها بين ذراعيها بينما قام هو باجتذابها إليه وطوق جذعها العلوي بذراعيه ثم أكمل بحزمٍ:

-هتنامي ولا عايزة أيه؟؟

ردت بتلعثم وإصرار:

-طيب على الأقل عرفني هتخرجني إمتى زيّ ما وعدتني؟؟

جاراها في رغبتها على التحدث وغياب النوم عن جفونها، أومأ يتذكر جيدًا وعده الذي قطعه لها بأن يعوضها بفسحة مختلفة، مال للجانب الآخر قليلًا ثم التقط هاتفه وعاد بجسده إليها مرة أخرى وبنبرة هادئة قال:

-بما إنك مش عارفة تنامي؛ فتعالي أفرجك على فيديوهات حلوة أوي، أما بالنسبة للفُسحة فشوفي حابه تروحي فين بكرا وأنا تحت أمرك.

أومأت بسعادة غامرة، بينما اعتدل متسطحًا على ظهره في نومته ثم أمرها برفق أن تضع رأسها على صدره وما أن قرأ التردد في عينيها حتى جذبها ذراعه عُنوة وأحاط خصرها بذراعه وبالذراع الآخر فتح الهاتف واختار مجموعة الفيديوهات التي ينوي مشاهدتها معها، كانت تخص أحد البرامج الشهيرة في الآونة الأخيرة وهي نوع من الأعمال الخيرية؛ حيث يرتدي مُقدم البرنامج لِثامًا حتى لا يرى الناس وجهه ثم يبدأ في الانغماس حيث الأماكن العشوائية والفقيرة ويساعد ناسها محققًا أغلب مطالبهم من أموال، مأوى أو إصلاحات اقتصادية أخرى، تابعت “وَميض” في صمتٍ وما أن وصلا إلى نهاية الفيديو حتى علقت بامتعاضٍ:

-تفتكر بقى اللي بيعمله دا حقيقي ولا شو علشان يزود مشاهداته!!!!

تنهد “تليد” تنهيدة طويلة قبل أن يرد ببساطة:

-الحقيقة أنا مش بحب أحكم على الناس في المُجمل وشايف إنه حُر سواء الخير دا خارج من قلبه تقرُبًا لله أو للتفاعل؛ بس هو لو عايز شهرة حقيقية ليه هيغطي وشه؟؟

مطت شفتيها تفكر في سؤاله المنطقي؛ فتابع بلهجة لينة مسترخيةً:

-سؤال تاني، مين مجنون هيصرف كُل المبالغ دي علشان التفاعل لما أكبر همهم كسب المال، هيضيعوه بالسهولة دي ومش محتوى سهل وكام جنية وخلاص.. الراجل بيبني بيوت وبيعمل عمليات لكتير منهم وبيدخل لهم مرافق عامة من ماية وكهرباء.

سكت هنيهة ثم ذيل حديثه بكلمة واحدة قاضية:

-مُطلع.

أشار لها أن الله ينظر إلى قلوب الناس ونواياهم ولا يجدر بنا إلا أن ننظر فقط من حولنا وننتظر أن يكشف الله النفوس لنا وأن يعطي الله كُلَّ على قدر فعله، تابع مشاهدة المقاطع بينما هي تنظر باهتمامٍ كان هو يشرد في عالم آخرٍ، ما حدث معه اليوم لا يزال يؤرق نفسه ويُلهب قلبه ويؤجج انفعالاته، لا يقوى على طرد التفكير في الأمر فهمه الوحيد كيف يكشف هذه الحقيقة لها بطريقة لا تجعلها تفقد إيمانها بكُل شيء من حولها أو تتعرض لانتكاسة تدمر نفسها الواهية بالفعل، ظل هكذا حتى ارتخى كفه وسقط الهاتف منها، فرفعت نظراتها إليه فوجدته قد غط في سبات عميقٍ.

تأملته للحظات ثم تأكدت من تغطيته جيدًا قبل أن تُقرر النوم هي الأخرى؛ ولكن هيهات، فالسبب الذي دفعه للكذب عليها ما زال مبهمًا حتى لاحت صورة الورقة التي دسها في جيب معطفه أمام عينيها؛ فبدأت تتحرك رويدًا وببُطء كي لا يشعر بها فيستيقظ، تدلت من الفراش وسارت تمشي بحيطة على أطرف أناملها إلى أن التقطت معطفه المركون على الطاولة، أسرعت بدس كفه في جيبه حتى التقطت الورقة بالفعل مقررةً إشباع فصولها ومعرفة السر الذي دفعه لعدم مصارحتها حول التقائه بنجلا، نظرت إليها سريعًا في ارتباكٍ قبل أن تفتح الورقة وتنظر فيها باهتمامٍ بالغٍ.

يتبع

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *