]]الفصل السابع والخمسون]]
رواية
•~•~•~•~•~•~•~•
“النجاة التي اعتقدت استحالتها تخرج بأمر الله من أسفل رُكام الكُرُوب”.
•~•~•~•~•~•~•
وقف بكُل ما يحمل من هزيمة وأثقال أسفل الدُشٍ فانصب الماء منه متناثرًا على جسده، رغب أن تجرف المياه أوجاعه معها وتسقط عن كاهله، اختلطت دمعاته بقطرات الماء بينما جسده بقى متسمرًا وعيناه تنظران في الفراغ من حوله، يشعر بالقهرٍ لنهاية لم يكُن يتوقعها لمشاعره التي نضجت قبل أوانها في صِغره وكانت هي السبب في أول نبضة قلب يشعر بها داخل صدره والآن هي السبب في إسكات هذه النبضات وازهاقها، يشعر بالقهر لوداعها وكان يرغب في بناء حياة سرمدية معها، خرجت زمجرة مذبوحة من داخله وهو يضع كفيه على وجهه متذكرًا ما نطق به قبل قليلٍ!!
رغم كل ما حدث وكل ما فعلته به، يخشى أن يكون قد قسى عليها شاعرًا بالذنب لمد يده عليها وخنقها، سرت رعشة مُتألمة في قلبه كلما تذكر أنه رغمًا عنه تطاول عليها بالضرب وكاد أن يخسر روحها الساذجة للأبد، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يزيح الماء عن وجهه ويستدير لإغلاق الدُش، سار خارج حيز رقعة الاستحمام ثم تحرك إلى المنشفة المعلقة والتقطها وبدأ يجفف شعره أولًا وداخله يسأله ألف مرةً نفس السؤال الذي تهرب من إجابته ولكنه في النهاية حسم الأمر في ذلك وقرر ألا يتراجع عن قراره لأنها من وضعت هذه النهاية لعلاقتهما وعليها أن تتحمل تبعات دلالها وعدم شعورها بالمسؤولية، عليها أن تتعلم أن ضمان الشخص لا يبيح استنزاف مشاعره؛ فإن طفح الكيلٍ تمزق الضمان.
طفق يجفف جسده قبل أن يلف المنشفة حول خصره، أسرع بفتح باب الحمام كي يخرج منه ليجدها واقفةً بملامحٍ بهتةٍ وأعين مُنتفخةٍ تترقب خروجه، رمقها بنظرة جامدة وقرر أن يتجاهلها متجاوزًا إياها ومُتجهًا صوب النافذة فهرعت خلفه وهي تردد باكيةً:
-تليد.. هو أنا كدا خلاص مش مراتك؟!
رد بصوت رخيمٍ موجزًا:
-أيوة.
انفجرت باكيةً بصورة أكبر وهي تقبض على ذراعه تستجديه أن ينظر إليها وأن يتوقف عن حرق روحها بتجاهله لها ورفض رؤيتها أمامه، عَلت شهقاتها وهي ترد بانكسارٍ:
-بص لي وإنتَ بتكلمني علشان خاطري؟؟ للدرجة دي مش طايق تبص في وشي!!
استدار بملامحٍ غاضبة ليقتنص عينيها بنظرات حادةٍ ناريةٍ قبل أن يردف بنبرة تعبق بمرارةٍ عميقةٍ:
-ندمان على كُل لحظة كُنت فيها مُتساهل معاكِ وفاكر إنك هتقدري دا وأه مش عايز أشوفك قدام عيني تاني، طرُقاتنا من اللحظة دي مُختلفة.
وقعت عيناه في هذه اللحظة على عنقها الذي بقى أثر قبضته عليه فارتجف قلبه بقوةٍ وأسرع يشيح بنظراته عنها وهو يلتقط بشكلٍ عشوائي سُترة وبنطالون وقطع داخليه ثم يعود بهم إلى الحمام ويقوم بارتدائهم وما أن انتهى حتى خرج وتوجه إلى الدولاب مرة أخرى وأخرج منه حقيبة سفره ثم وضعها بثباتٍ على السرير، فاتسعت حدقتيها وتنقلت بين وجهه والحقيبة قبل أن تبتلع ريقها بصعوبة بالغة وتسأل متوجسةً بنبرة متلعثمة:
-الشنطة دي ليه؟! إنتَ رايح فين؟!
لم يجبها وكأنها ذرة غبار لا يراها أو يسمع لها رِيحًا، بدأ يلتقط ملابسه ثم يضعها داخل الحقيبة مرة وراء الأخرى، ارتجفت أطرافها وغص قلبها بألم جارفٍ، وَجل قلبها ضياعه فأسرعت إليه ثم ضمته من الخلف وشدت ذراعيها على خصره وأراحت رأسها على كتفه وهي تجهش بأنفاسٍ مضطربةٍ وقد بَلغ وجعها من صمته القمم فتابعت بنبرة مهزومة:
-أنا غلطت بس إنتَ قلبك كبير وهتسامحني.. خليك جنبي.. أنا استبدلت الدنيا كلها بيك.. أنا ملقيتش راحتي غير وأنا جنبك.. ما تقفلش بيبان رحمتك في وشي.. ارحمني يا تليد.. أنا مش قادرة أستحمل كل الوجع دا.. متتغيرش عليَّا بعد ما اتعلقت بيك وحبيتك.
أسرع بفك ذراعيها عن خصره قبل أن يرد بلهجة صارمة:
-وجع حُب شهور أهون من خذلان حب سنين عُمر كامل.. لا يمكن أقبل العوض في كَسرِتي.
اندفع نحو الحقيبة ليغلق سحابها بحسمٍ قبل أن ترتعش نبرتها وهي تصرخ باختناقٍ:
-وأنا ما يهونش عليَّا كسرتك.. اديني فُرصة وكُل حاجة بتتصلح!!
انجز غلق سحاب الحقيبة ثم التفت إليه يرميها بنظرات حانقة قبل أن يندفع خارج الغرفة للحظات ثم يعود حاملًا بين يديه كوبًا من الزجاج وما أن وقف أمامها مُباشرة حتى أفلته من بين يديه ليصطدم بالأرض ويتدمر إلى شظايا حادة، انتفضت فزعًا في صدمةٍ قبل أن يرفع بصره إليها ويقول محتدًا بالغضب:
-مش كل حاجة بتتصلح؟!.. صلحي الكوباية دي.. يلا!!
صرخ فيها هادرًا مغلولًا قبل أن يرميها بنظرات شزرة ثم يلتقط هاتفه ولحظات ويرفعه إلى أذنه وهو يقول بلهجة ثابتة:
-السلام عليكم.. معاك تليد السروجي.. بكلمك بخصوص عرض الإمارات.. أنا موافق.. نمشي في الإجراءات امتى؟!
جاءه صوت الرجل مُرحبًا بانبساط شديدٍ:
-أهلًا وسهلًا يا شيخ تليد.. كُنت في انتظار ردك.. لو فاضي ممكن نتقابل النهاردة ونمشي في الإجراءات!!
أومأ “تليد” مُضيفًا بثباتٍ:
-تمام بمجرد ما أكون فاضي.. هكلمك.
كانت تحدق فيه بعينين مصدومتين تتساقط الدموع منهما بغزارة وخيبة أملٍ، انقبض قلبها بألمٍ مُفجعٍ ينخر أنحاء جسدها بأكمله وقد أفقدتها الصدمة القدرة على الكلام وتركت التعبير لعينيها الحمراوين تستجديانه بلوعةٍ وذُلٍ.. تطلبان رحمته.. وتناشدان الرفق بقلبها الضعيف الذي يفقد قدرته تدريجيًا على التحمل لتردد بخفوتٍ وصوت يتقطع من كثرة البكاء:
-تليد.. ما تبعدش!!.
أشاح بنظراته عنها وأظهر قسوةً تجاهها أدمت قلبها قبل أن يُنزل الحقيبة على الأرض ثم يفتح جرارها ويجرها خلفه متجهًا للخارج، صرخت مُسرعةً بقلبٍ هَلِعٍ:
-تليد.. خليك.. ما تبعدش أنا مش هعرف أكمل من غيرك.
ابتلعت ريقها تلتقط بعضًا من أنفاسها المضطربة وهي تخاطبه بانكسارٍ:
-أنا محتاجة لك!!
خرج من باب الغرفة واختفى عن ناظريها لتلتقط وِشاح رأسها لتغطية شعرها ثم تهرع بانقباضٍ ولوعةٍ خلفه، هبط الدرج في ثبات أخمد في باطنه الكثير من الكسرة والاشتياق ورغبة البقاء معها ولكن هيهات أن تسمح له رجولته على البقاء ولو دقيقة واحدة بعد الآن؛ فهو كالأسيرٍ في سجون كبريائه وحاكم السِجن رجولته وسجانه غيرته؛ جميعهم رجال عاتون لا يسمحون بفك قيوده قط.
-تليد!!
جرت ساقيها المنهكين خلفه وظلت تناديه بصوت يتهدج بكاءً وهي تهبط الدرج وراءه، لم يسمح لقلبه أن يلتفت لها وقد صم أذنيه عن سماع توسلاتها مسرعًا باتجاه بوابة المزرعة، أبصرهُ “نوح” الجالس في زاوية من المزرعة يترقب ظهوره ليجده يندفع كالسيل المُدمر وتهرول هي خلفه في انكسارٍ، هرول إليه ليتعرض طريقه وهو يهتف مصدومًا بعد أن أدرك بلا ريبة خطة صديقه القادمة باصطحاب حقيبة سفره:
-إنتَ رايح فين يا تليد!!.. رايح فين وسايبنا وسايب مراتك؟؟
صرخ “تليد” بلهجة شديدة:
-ما بقيتش مراتي يا نوح.. أنا مسافر لأن المكان هنا بيأذيني وبيستنزف روحي.
وقفت في مكانها تتنقل بعينيها المتورمتين بينهما في لهفةٍ تنتظر إقناع “نوح” له بالبقاء ولكن يبدو أن العدول عن قراره لن يتحقق أبدًا، تشنجت فرائص “نوح” قبل أن يهتف مختنقًا مستنكرًا:
-هي أيه اللي ما بقيتش مراتك؟! تليد إنتَ مش في وَعيك نهائي ولو كنت رميت عليها يمين الطلاق فهو مالوش لازمة، اهدى وارجع لوَعيك وأقف جنب مراتك حتى لو غلطت!!
سكت هنيهة ثم أضاف وهو يقبض على الحقيبة ويتابع:
-عارف إني مش في مكانك علشان أحس اللي إنتَ حاسس بيه بالظبط بس تأكد إني حاسس بوجعك كأنه في قلبي، تليد مراتك ساذجة وإنتَ عارف إنها ما عملتش كدا وهي قاصدة؟!!!
نفض “تليد” كف الأخير بغضب عن الحقيبة قبل أن يستكمل حاسمًا قراره بلهجة شديدة:
-دا كلام سهل بالنسبة لك وبالنسبة لأي حد مداقش طعم الكسرة من شريك روحه.. لمَّا بسببها تمشي قدام الخسيس مطاطي بعد ما كان مستحيل كبريائك يتكسر أو تنحني لك قامة.
صاحت تبكي بمرارةٍ واستعطافٍ وهي تترجى مشاعره المدفونة خلف قناع قسوته:
-تليد.. أنا آسفة.. والله أنا آسفة.. أبوس إيدك خليك جنبي.. هموت من غيرك صدقني!!.
أومأ “نوح” متفهمًا ما أن لمح لمعة الانكسار في عينيه ثم ردد بلهجة ثابتة:
-طيب إنتَ ممكن تروح شقتك التانية تاخد فيها نَفسك واعصابك تهدى وتعيد حساباتك ويا سيدي خُد وَقتك.. بس بلاش سَفر وبُعد.. فين أحلامك معاها من يوم ما عرفتك؟!
تليد بحدة وهو يسير مندفعًا صوب البوابة:
-مفيش مدبوح بيحلم يا نوح.
صرخت باكيةً ما أن رأته يصل إلى البوابة بينما يقف “نوح” بلا حيلة ينظر إليه تارة وإليها أخرى وقبل أن يتجاوز “تليد” البوابة لم يستطع السيطرة على نفسه صامدًا أكثر من ذلك ليحن على قلبه ملتفتًا إليه مستمليًا بنظراته فيها ومنها قبل أن يغيب عن ناظريها تمامًا، انهارت تجثو على ركبتيها بالأرض وصوت نواحها يتصاعد متقطعًا يملأ فراغ المكان لتهرع إليها “مُهرة” التي تابعت المشهد من بعيدٍ ثم التقطتها بيت ذراعيها تدعو لها بمداواة أغوار قلبها لكي يتحمل الفراق الذي يبدو محتومًا لعلاقتهما.
•~•~•~•~•~•~•~•
طرق “ماكسيم” الباب بقوةٍ عدة مرات قبل أن يغضب مغتاظًا ويقرر استخدام قوة الدفع لينفتح الباب وأخيرًا على مصراعيه فكانت الإضاءة بالكامل مُغلقةً والسكون يعم المكان ورائحة التبغ تملأ المكان، دعكت “نجلا” أنفها الذي تحسس رائحة غدر وعدم ارتياحٍ لتضيق عينيها بتروٍ وتبدأ في أخذ جولة في جميع أركان الشقة بينما بقى “علَّام” واقفًا أمام باب الشقة لمراقبة أية أشياء غريبة من حركة وغيرها، تجول “ماكسيم” بحدسه القوي يتفحص بصقرية كل تفصيلة بالمكان، اقتربت “نجلا” من أحد الأبواب ثم وقفت أمامه لوهلةٍ قبل أن تدفع الباب بأطراف أناملها ثم تدقق النظر جيدًا بالغرفة، داهم صدرها وَخزة مفاجأة وهي تنظر بقلقٍ وريبةٍ إلى فراش فوضوي تمامًا، سقطت ملاءته عنه وشظايا مكسرة منثورة بالأرض وثياب منثورة بعشوائية حول الفراش، اندفعت داخل الغرفة بانفعالٍ ناقمٍ وأخذت تتفحصها جيدًا وصوت اصطكاك أسنانها معًا يرتفع من شدة الغيظٍ وأثناء تطلعها بأرجاء الغرفة وقعت عيناها على ورقة مُجعدةٍ بكفٍ غاضبٍ مرمية على الأرض، مالت والتقطتها ثم استقامت واقفةً مرة أخرى قبل أن تسرع في فتحها وتقرأ سطورها بعينين متسعتين من الصدمةٍ وهنا صرخت “نجلا” بانفعالٍ:
-ماكسيم!!
هرع إليها على الفور ليجدها تنظر بصدمةٍ إلى الورقة فأسرع بالتقاطها منها وقرأ ما بها وهو يردد بلهجة ثابتة:
-الورقة دي معناها أن وَميض رجعت البيت؟!
نجلا بأنفاسٍ ناريةٍ:
-بس كانت هنا زيّ ما توقعنا، القذر حاول يعتدي عليها.
أردف “ماكسيم” مُسرعًا:
-والحمد لله محصلش.. كلمي دلوقتي تليد واعرفي منه وَميض رجعت ولا لأ.
ابتلعت “نجلا” ريقها على مهلٍ حينما جاءت سيرته لتردد بزفرة حادة:
-تليد لو عِرف إنها كانت هنا والكلب دا حاول يعتدي عليها مش بعيد يقتلها!!
ماكسيم بحسمٍ:
-يبقى لازم نتحرك وتكوني معاها دلوقتي!
أومأت تؤيد قراره، أسرعت خارج الغرفة متجهةً صوب باب الشقة وسار الأخير خلفها ليجدوا “علَّام” يقف أمامهما مُتسمرًا يضع إصبعه على فمه يحثهما على الهدوء والصمت أناء تقدمهما منه وما أن خرج “ماكسيم” إليه حتى أشار له الأخير حيث يوجد خيال يظهر بوضوحٍ على الحائط منذ وقتٍ طويلٍ؛ فيبدو أن أحدهم بالطابق الثاني يراقب الوضع!!
أومأ “ماكسيم” وبدأ يصعد درجات السلم حثيث الخطى قبل أن يستدير بوجهه ثم يبصر وجه ذاك السافل الذي ذُعر ما أن تواجهت عينيه مع “ماكسيم” هرع متقهقرًا بعدة خطوات قبل أن يستدير ثم يهرول بأقصى سرعة لديه باتجاه سطح البناية ليهرول “ماكسيم” بسرعة رهيبة خلفه ولم يبذل جهدًا كبيرًا في الوصول إليه حيث قبض على ياقته وركب ساقه فأسقطه بالأرض وطفق يقول بنبرة نارية حانقة:
-دا إنتَ أيام أبوك سودا.. الخِلفة دي لازم تنقرض أو تموت حرقًا بالنار.. تعالى يا حيلتها.. تعالى.
صرخ “وِسَام” هادرًا في ذعرٍ بعد أن وصل “علَّام و نجلا” إليه:
-أنا ملمستهاش.. معملتش حاجة.
نجلا وهي تهتف حنقًا:
-الكلام دا تقوله في القسم.
صاح “وِسَام” خائفًا:
-لأ بلاش قسم.. عاقبوني زيّ ما تحبوا بس بلاش قسم!!
رفعت “نجلا” أحد حاجبيها ورددت بنبرة ماكرة وهي تشد غرة رأسه بغليلٍ:
-إنتَ مش أد انتقامي.. عارف التعبان بيعمل أيه لمَّا بتأذي عياله؟؟!!
أومأ إيجابًا فتابعت بحدة:
-افتح لي بطنه يا ماكسيم.. عايزة أكل كِبده!
أخرج “ماكسيم” مطواته وتظاهر باستعداده لطعن الأخير قبل أن يصرخ “وِسَام” مذعورًا يستجديه ألا يفعل ثم صاح بلهجة نارية:
-أنا هروح القسم بس مش هروح لوحدي، سهير هتكون معايا لأن هي اللي حرضتني على كل اللي حصل دا وهي اللي ادتني التسجيل بتاع تليد علشان أفضحه.
في ليلة برد فارسة، كيف تشعر إن سُكب عليكَ دلوًا من الماء البارد؟! هكذا شعر “علَّام” وهو يقف متسمرًا بعينين دامعتين أمامه يومىء برأسه في صدمةٍ كاسحةٍ بينما اشتعلت كلمات “نجلا” التي رددت بغيظٍ:
-سهير!!!
أسرعت بالتقاط هاتفها ثم بحثت عن رقمه وأجرت اتصالًا به، لم تجد ردًا منه فكررت اتصالها بإلحاح حتى أجابها بلهجة شديدة:
-نعم يا نجلا!!
أتاهُ صوتها تقول بلهجة ثابتة:
-لقينا وِسَام ودلوقتي هنطلع بيه على القسم، قولت أعرفك علشان تكون موجود، وَميض رجعت البيت؟
نفخ “تليد” بقوةٍ فبدا وكأنما أُعيدت إليه الحياة بهذه العبارات القصيرة ليهتف بحرارة وانفعالٍ متأججين:
-وراكم حالًا وأسرع مما تتخيلي.
أسرع بغلق المكالمة دون الإجابة على سؤالها، التفتت إلى “ماكسيم” ثم رددت بنبرة ثابتة:
-هتاخدوه إنتَ وعلَّام وتطلعوا على القسم وهناك تستنوا وصول تليد علشان يحرر محضر محاولة اعتداء على مراته وأنا لازم أعمل مشوار مهم وبعدها هحصلكم.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
عقب القبض عليهما، تم تحويلها إلى مقر النيابة العامة للتحقيق معهما فيما شاع عنهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي وما مدى صحة ما نُسب إليه من جرائم في حق النساء أو حق المواطن الذي يستقبل من مصنعه لحومًا مُحرمةً ترجع لحيوانات ميتة، كان “عثمان” مقيدًا بالأصفاد وبجواره زوجته التي انهارت باكيةً تخشى القضبان وضياع حياتها بأكملها وأولادها.
بلغ غضبه منها أشده ليلتفت إليها ثم تردف من بين أسنانه المطبقة:
-قولت لك اخرسي بقى.. قبل الليل ما ييجي هتكون أحرار.. أما معايا ناس تقيلة مش هيسيبوني أبدًا.
نبيلة وهي تبكي بحسرةٍ:
-بس القضية اتحولت رأيّ عام واتفضحنا.. لسه عندك أمل نخرج من الورطة دي!!.. إحنا انتهينا يا عثمان!!.
بدأت تنظر من حولها ثم رددت بانهيارٍ:
-إحنا لوحدنا.. محدش فيهم فكر ييجي ورانا يا عثمان.. عارف ليه؟! علشان دي نهاية طبيعية لكُل اللي عملته وأنا كمان كُنت طماعة وأنانية.
رماها عثمان بنظرات نارية مُحذرةٍ قبل أن يردف بنبرة متأججة يغلفها الوعيد والحنق:
-اياكِ تنطقي بكلمة واحدة من الكلام دا في أوضة التحقيق.. اعقلي يا نبيلة.. انكري كل التهم اللي هتتوجه لك.. المحامي هيخرجنا منها.. بس إنتِ اعقلي!!
في هذه اللحظة جاء العسكري ثم صاح فيه أن يتقدم إلى غرفة التحقيقات دون تلكؤ ليقبض مسرعًا على ذراعه ثم يقوده أمامه داخل الغرفة ويصفق الباب في وجه “نبيلة” الذي ارتعب قلبها وَجلًا، أشار النائب له أن يجلس على الكرسي المقابل لمكتبه ففعل عثمان فورًا قبل أن يجلس الكاتب المختص بكتابة أقاويله وردوده أمامه مُباشرة بالكرسي المُقابل ليتابع النائب بملامحٍ جدية صارمةٍ:
-عامل قلق ليه يا عثمان يا سروجي الأيام دي!!!
تنحنح “عثمان” قبل أن يرد بثباتٍ:
-كلها اتهامات كاذبة يا باشا.
أومأ النائب ورد متوجهًا بالكلام إلى الكاتب:
-هنشوف دلوقتي.. ابدأ يا بني.
التفت بنظراته مرة أخرى إلى “عثمان” وقال حازمًا:
-ما قولك في التهم المنسوبة إليك من قبل محررة المحضر المدعي عليها “نجلا زهران” فيما يخص التعدي على ثلاث سيدات وسرقة أطفالهن وانساب الأطفال لزوجتك “نبيلة السروجي”؟! وقد أشارت أيضًا أن زوجتك لا تُنجب في الأصل؟! وأنك قُمت بسرقة طفلتها رغمًا عنها ومنحها لأمٍ غيرها!!!
أومأ “عثمان” دون تفكير ينفي ما نُسب إليه:
-الكلام دا كُله كِذب.
اتسع حاجبي النائب دهشة من ثقة الأخير قبل أن يلتقط مجموعة من الأوراق ثم يضعها أمامه ويقول بلهجة شديدة:
-فعلًا؟! طيب والأوراق والتحاليل والفيديوهات اللي بحوزة النيابة واللي تم التأكد من صحتها؟! بردو كِذب!!
بقى “عثمان” مُصرًا على رأيه ولم يتزحزح عنه، ظن أن الوسطة ستُنجيه وأن معارفه ثِقال جدًا ويمكنهم حل الأمر ببساطة ولكنه لم يتخيل أبدًا أن تكون “نجلا” مسنودة من قوةٍ تفوق أضعاف ما لديه من قوةٍ وأن الفرار من الحقيقة هذه المرة شبه مُحال!!
-أنا بطالب بوجود المحامي بتاعي معايا وقت التحقيق.
ابتسم النائب مستخفًا بإنكار الحقيقة التي تبدو جليةً على قسمات وجهه المتوتر:
-المحامي مجاش بس لو تحب ممكن نوكل لك محامي من عندنا مع إني أشك إن حد يقبل يدافع عن قضية خسرانة!!.. قضية الأدلة فيها سبقت المتهم للنيابة من غير تعب ولا مجهود!!
التفت حاسمًا قراره بلهجة شديدة وقال بصرامةٍ:
-خده يا عسكري ودخل لي نبيلة السروجي.
تحرك الأخير مُنصاعًا لتنفيذ الأوامر، قبض على ذراع “عثمان” ثم قاده خارج الغرفة ليتواجه مع “نبيلة” التي رماها بنظرة مُحذرة قبل دخولها.
أشار لها النائب أن تجلس بعد أن رأى ارتجاف جسدها بصورةٍ ملحوظةٍ فالتقط كوب الماء ومده إليها وهو يقول بثباتٍ:
-اشربي!!
التقطته منه وتجرعته مرة واحدة قبل أن تتركه بعد ذلك على الطاولة، تنحنح النائب بخشونةٍ قبل أن يحتد بنظراته داخل عينيها ويقول:
-مدام نبيلة.. عقوبتك مش هتكون كبيرة.. في حالة واحدة بس.. لو مأصرتيش على الإنكار.. القضية محسومة والأدلة أُثبت صحتها.. حاولي تخرجي من الموضوع بأقل الخساير.. اوعي تصدقي عثمان السروجي اللي بيحاول يخليكِ تنكري الحقيقة.. لأن المرة دي القضية والقائمين عليها أكبر مني ومنك وأعداء عثمان والمتأذين منه كتير أوي.
سكت هنيهة يتفرس صفحة وجهها جيدًا قبل أن يتابع بهدوءٍ:
-نبيلة السروجي.. ما قولك فيما نُسب إليكِ من تهمة التستر على جرائم زوجك وقبول نسب أطفال إلى اسمك وليسوا أولادك؟!!
تنحنح بثباتٍ محاولًا قراءة عينيها فور الجملة الذي سيرددها بعد ذلك لربما تخبره عيناها بالحقيقة الواضحة:
-“نبيلة السروجي لا تُنجب في الأصل ولم تخضع لعمليات ولادة من قبل وأُطالب بالتحري حول ذلك وإخضاعها للطب الشرعي؟”.. دي التُهمة الموجهة ليكِ من المُدعي عليها نجلا زهران.
لمعت دموع الانكسارٍ في عينيها وبدت مُضطربة تحاول إشاحة وجهها عنه فتأكد من صحة الاتهام على الفور وهو يضغط على سؤاله قائلًا بحدةٍ:
-ما قولك؟!
أجهشت “نبيلة” ببكاءٍ مريرٍ قبل أن ترد بانهيارٍ:
-لا أنكر.
•~•~•~•~•~•~•~•
جثت “شروق” على رُكبتيها بالأرض بجوار فراش شقيقها الذي لم يفق حتى الآن، لا تعرف من أين تسد انسكاب حسرتها تحديدًا فكل جزءٍ بها ينهار وتنسكب آلامه، في لحظة وجدت نفسها تنتمي لامرأة لم تنجبها بعد أن سُلبت قسرًا من والدتها الحقيقية كما يشاع عن الموضوع، جلست “سكون” أمامها وضمتها إلى صدرها وهي تردد باكيةً بأنفاسٍ مضطربةٍ:
-خليكِ أقوى من كدا يا شروق.. إنتِ الأكبر والأعقل.. حاولي ترضي بقضاء الله.. نصيبنا إن تكون دي حياتنا.. حياة كلها غِش في غِش.. بس بصي على بؤرة الأمل في الموضوع.. إحنا إخوات ومن صُلب بعض.. ودي الحاجة اللي لا يمكن كنت استحمل شبهة فيها.. إحنا لبعض وهنداوي بعض ونكمل!
شهقت “شروق” تقول بمرارةٍ:
-قلبي موجوع عليهم.. رغم كل القسوة دي منهم.. قلبي مش مستحمل النهاية دي ليهم يا سكون.. ماما صعبانة عليَّا!!!
سكون وهي تذرف الدمع بآهات مكتومة متظاهرةً بالصلابةٍ:
-هي اللي رسمت النهاية دي لمَّا وافقت بكل أنانية تموت أرواح تانية علشان تحيي روحها يا شروق.
شروق بحسرةٍ تردد:
-وعُمر.. عُمر ليه مستسلم؟! مش عايز يفوق يا سكون!!
تألم قلب “رويدا” التي تجلس بجوار فراشه تمسح على كفه برفقٍ، أجهشت مُنهارةً فمدت “سكون” ذراعها ومررته في حُنوٍ على ظهر الأخيرة تواسيها في إضرام نيران عاتية بقلبها وهي أكثرهن حاجة لِمَنْ يواسي روحها ويمنح السلوى لقلبها الجذع الذي أضناه احتراق كل من تحبهم، كان يقف “عِمران” بجوار الباب يتابع ما يجري في اختناقٍ متأثرًا بآلام زوجته التي لا تعزيها أية كلمات مهما قال لها بينما بقى “كاسب” خارج الغرفة ينظر من خلف زجاج نافذتها إلى تلك التي تحتضن وتحتوي في تماسكٍ وصلابةٍ بينما تآكل داخلها وذاب منذ وقت طويلٍ، فكيف يعوضها وكيف يُنسيها هذه اللحظة التي ستظل أبد الدهر في ذهنها على شكل ذكرى مطعونة بسكين الخذلان.. تبين له في هذه اللحظة بالتحديد أنها ليست امرأة عادية كغيرها من بنات جنسها.. إن قلبه أحبَ مُقاتلة شرسة بارعة في تضميد جروحها وتخييط الغائر منها وتجميع أشلاء ضعفها ودفنه والرقص بسلامٍ على قبره.. امرأة أكثر من شجاعة.. لقد حالفه الحظ حينما سرق قلبها بمهارة.. فتلك المقاتلة كانت بحاجة إلى محارب مغوار ليُحبها؛ فهي لا تعطي ما بين ضلعيها بسهولة ولطالما أعطته جوهرة تقبع داخل صدرها فإذن هو ذلك المغوار المنشود لمقاتلة أوجاعها معها.
كان يقرأ “سليمان” بعض صفحات من القرآن بعينين دامعتين بعد أن حاول مرارًا دفعهم للذهاب خلف “عثمان وزوجته” ولكنه وجد رفضًا قاطعًا من الجميع فتنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وباشر في إكمال مهمته واللجوء إلى الله والدعاء لابن أخيه علها تكون ساعة استجابة خاصةً أن الطبيب أخبرهم أن قلبه يستجيب استجابة ضعيفة جدًا وهذا مؤشر خطر.
أغلق الشيخ “سليمان” دفتي مصحفه قبل أن يتجه إلى الشرفة ثم يجري اتصالًا بابنه ليأتيه صوت “تليد” يقول بضيقٍ:
-أيه يا بويا.. عُمر فاق؟!
ردد “سليمان” بصوت هادئ يغمره القلق:
-لسه يا بني.. إنتَ ليه مجيبتش مراتك وجيت؟! إنتَ كويس يا تليد؟؟
ابتلع “تليد” غِصَّة مريرة في حلقه قبل أن يتنفس بقوةٍ ثم يقول بلهجة ثابتة:
-مش كويس علشان إنتَ مش جنبي يا غالي.. أنا محتاج أتكلم معاك لوقت طويل بس بعد عُمر ما يقوم لنا بالسلامة.
أومأ الشيخ إيماءة خفيفة رغم شعوره بعدم الراحة من صوت ابنه الذي يغلب عليه حشرجة غريبة ولكنه ردد ببعض الحُزن:
-عمك خدوه يا بني.. مش ناوي تروح له إنتَ كمان!!
أسرع “تليد” مردفًا بثباتٍ وحدةٍ كلما جاءت سيرة ذاك الظالم المستبد ليتابع أثناء اقتياد سيارته باتجاه القسم:
-لو بلغوني إن عثمان السروجي هيتشنق دلوقتي ومحتاج دعمي مش هروح له.. إنتَ ما ربتنيش أقف في صف الظلم يا حج وبالتالي أنا مش هعمل دا.. كلُّ يلقى جزاء ما عملت يداه.. مش إنتَ اللي قايل لي كدا!!
تنهد “سليمان” باستسلام وأجابه:
-عندك حق يا بني.
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•
وقفت بخطواتٍ ثابتة يغمرها الرسوخ أمام باب الشقة وبهدوء غريب يتنافى مع ما جاءت من أجله قامت بطرق الباب عدة طرقات يفصل لحظات بين الطرقة والأخرى إلى أن جاءت الأخيرة تهرول إلى الباب ثم فتحته ظنًا منها أن زوجها قد عاد يحمل اخبارًا عن “وَميض” ولكنها نظرت في دهشةٍ ما أن رأت “نجلا” تقف أمامها بملامحٍ جامدةٍ لتردد بلهجة حانقة:
-إنتِ جاية هنا ليه؟؟؟
رفعت “نجلا” أحد حاجبيها قبل أن تبتسم باستخفاف ثم تدفعها بقوةٍ كي تمر داخل الشقة ثم تصفق الباب خلفها، حدقت فيها “سهير” بنظرات ذاهلة بينما أجابت الأخيرة على سؤالها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها بصبرٍ أوشك أن ينفد:
-جاية أخد حق بنتي منك.. يا أُمها.. يا عار على ماضيها ونقطة سودا في دفتر ذكرياتها!
اكفهر وجه “سهير” التي صرخت في حنقٍ:
-إنتِ اللي أكبر نقطة سودا في حياتها يا نجلا.. أنا اللي ربيت وسهرت وكبرت لكن إنتِ مين؟!
انطلقت ضحكة عالية من فم “نجلا” التي تابعت بسخريةٍ:
-وإنتِ بردو اللي ضربتيها بالسكين في ضهرها؟! وإنتِ بردو اللي حرضتي وِسَام عليها علشان يفرق بينها وبين جوزها وإنتِ بردو اللي سربتي التسجيل علشان تبعديها عن الراجل اللي عاش عمره كله يحبها.. اسفوخس على دي أمومة يا عيوني!!
بصقت “نجلا” بحركة مفاجئة على وجه الأخيرة التي صرخت مُحتدًا بالغضب والغيظ:
-اطلعي برا يا زبالة.. برا بيتي!!
همَّت أن تدفع “نجلا” التي رمقتها بنظرات نارية محذرةً قبل أن تتخصر بثقة أمامها ثم تقول بلهجة شديدة:
-هطلع برا بس لمَّا أخد حقي زيّ ما قولت لك.. صحيح نسيت أقول لك.. وِسَام دلوقتي ف بالاسم وزمانه اعترف عليكِ وفي طريقهم ليكِ يا عيوني.
صاحت “سهير” بغيظٍ:
-حق أيه؟! إنتِ ملكيش حقوق عندي واطلعي برا.
مطت “نجلا” شفتيها بامتعاضٍ خفيفٍ قبل أن تومىء سلبًا وترد:
-حق بنتي.. إنتِ شكلك كِبرتي وبقيتي بتنسي كتير.. أنا قولت أجي كدا أمسي عليكِ وأعرفك مقامك.. فكرت أيه اللي يساوي مقامك عندي وبصراحة ملقيتش غير كعب جزمتي لأن أكتر من كدا أبقى بعمل لك قيمة.
كانت “سهير” ترميها بنظرات ناقمة لتحميل “نجلا” نحو الأرض لثوانٍ قبل أن تلتقط حذاءها ذا الكعب العالي ثم تنهال به ضربًا مُبرحًا على رأس “سهير” التي صرخت صرخات عالية من شدة الألم وأثناء محاولاتها الفرار والاختباء من الأخيرة وقعت بالأرض يعد أن تعثرت قدماها لتحميل نجلا عليها فيصيب الكعب عيني الأخيرة لتصرخ هادرةً من شدة الوجع قبل أن تتنفس “نجلا” بقوةٍ عميقةٍ ثم تستقيم قامتها مرة أخرى وهي تلتقي الحذاء في وجه “سهير” وتقول باشمئزازٍ:
-هقرف ألبسه تاني بعد ما ضربتك بيه.
استدارت فور إنهاء كلامها تتحرك صوب الباب قبل أن تلتفت مرة أخرى وتقول بابتسامة ماكرة:
-قولي لهم في القسم نجلا اللي ضربتني علشان أخلي حبايبي اللي جوا.. يهروكِ بالقباقيب حتى الموت.. وضربهم قاسي مش حنين زيّي.
اندفعت نحو الباب تخرج منه بغضب أقل ثم صفقته خلفها بقوةٍ ضاريةٍ قبل أن تُقرر أولًا أن تتجه إلى محل لبيع الأحذية لشراء حذاء جديدٍ ليأتيها اتصالًا كانت تنتظره بشدةٍ:
-كُنت مستنية اتصالك يا سيادة النقيب.
جاءها صوته يقول بثباتٍ:
-أنا موجود في مقر النيابة العامة ولكن ما شوفتكيش أثناء التحقيق مع عثمان السروجي!!
أومأت “نجلا” وهي تغادر من بوابة البناية قبل أن تلتقط الفردة الأخرى من الحذاء وترميها بأول سلة قمامة تقابلها ثم سارت حافية القدمين إلى سيارتها وردت بتنهيدة قوية:
-بنتي كانت في ورطة وكُنت مُضطرة ما أحضرش علشان أحلها.
تساءل فورًا بنبرة فضوليةٍ:
-إنتِ عندك بنات؟!!!
زوت ما بين عينيها وهي تستقر داخل مقعد القيادة وتقول بضحكة هادئة مازحة في وِدٍ:
-أه، شكلك كدا بتدور على عروسة يا حضرة النقيب، كان نفسي تناسبني بس هم الاتنين مرتبطين.
ابتسم الأخير ابتسامة هادئة ورد:
-للأسف مش هينفع أناسبك حتى لو كانوا مش مرتبطين.
زمت شفتيها وهي تنطلق بالسيارة ثم تساءلت باستغرابٍ:
-ليه بس؟؟
تنحنح الأخير بخشونةٍ قبل أن يجذب طرف الحديث لموضوعٍ آخر فقال بلهجة ثابتة:
-نسيت أبلغك إن عثمان السروجي وقع خلاص ونبيلة اعترفت بكل حاجة.
تهللت أسارير وجهها وهي تصيح بفرحةٍ عارمةٍ:
-لاااااا.. أنا كدا لازم أجي النيابة لحد عندك وأشوفك وأشكرك.
تابع بابتسامة خفيفة يقبل عرضها:
-في انتظارك.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
وقف خارج مكتب الضابط المسؤول عن استجواب الأخير مشتعلًا من شدة الغيظ والغضب ورغبة جامحة توسوس في عقله أن يدمر هذا الباب ويهجم عليه ناهيًا حياته إلا أن “ماكسيم” بين الفينة والأخرى يحذره من عواقب التصرف بجنونٍ ويدعمه “علَّام” ببعض الكلمات العابرة والمثابرة له كي يهدأ ولكن تليد بقى يصول ويجول في الممر يضرب قبضته المتكورة بكفٍ يدهٍ وكلما حاول تهدئة نفسه تستعر نار الانتقام في صدره من جديدٍ.
بقى هكذا لدقائق قبل أن يخرج العسكري ومعه “وِسَام” كي يبقيه بالحجز حتى ينتهي من التحقيق مع الجميع، لم يستطيع “تليد” كبح جماح ناره المستعرة في هيئة غضب أعمى فما أن أبصره حتى اندفع إليه بهجومٍ كاسحٍ فأسرع قابضًا بكل ما أوتي من قوةٍ على عنقه ثم سدد له ضربات مُميتة برأسه لتداهم أنفه الذي بدأ ينزف على الفور لتخرج منه صرخات مُستغيثةً، هرع “ماكسيم” إليه مُحاولًا ردعه وإيقافه عما يفعل ولكنه كلما اقترب أحدهم منه سدد له لكمة عنيفة فلم يكن يدري ماذا يفعل سوى الانتقام لقلبه ومن يجرؤ على ردعه عن نيل حقه يكن له حِصة من التعنيف، صرخ به العسكري مُحذرًا في غضبٍ من عقوبة ما يفعل، عمت الفوضى المكان فخرج الضابط مُسرعًا نحوه ليصرخ بقوةٍ في وجهه يأمره أن يسحب مخالبه عن عنق ووجه الأخير الذي غطى الدم ملامحه بأكملها، أسرع الضابط الذي أدرك أن الأخير خرج عن حيز وعيه بتكبيل ذراعيه بمعاونة بعض العساكر ليفرقوه عن الأخير بالكاد، أخذ صدره المُشتعل يعلو ويهبط في تشفٍ ويصطك أسنانه ببعضهم في غضب مُلتهبٍ وكأنه لم يشفي غليله بعد ويرغب في المزيد، حدق فيه الضابط بعينين حادتين ثم صاح وهو يدفعه بقوةٍ إلى مكتبه:
-تعالى معايا على المكتب.
لم يشأ أن يبرح عينيه الحادتين عن نظرات “وِسَام” المذعورة ولكنه في النهاية انصاع لأوامر الضابط وسار معه على مضضٍ ليصفق الضابط الباء خلفهما ثم يصيح وهو يتحرك صوب مكتبه:
-أيه اللي إنتَ عملته دا؟! إنتَ فاكر إنك علشان حد مشهور ومهم هنتغاضى عن همجيتك وتعديك على القانون!!
تليد وهو يرد محتدًا بالغضب أثناء وقوفه أمام الأخير:
-أنا مش فاكر حاجة.. أنا باخد حقي وإنتَ من حقك تاخد الإجراء المناسب ضدي.
الضابط وهو يصيح فيه من شدة الغيظ:
-إحنا هنا بنحاول نجيب لك حقك.
تليد وهو ينفخ بقوةٍ:
-أي عقوبة هتتنفذ عليه عمرها ما هتشفي غليلي منه.. حط نفسك مكاني يا حضرة الظابط؟؟ ولا اللي قولته في المحضر مش سبب كافي يبرر لي اللي عملته!!
تنهد الضابط بثباتٍ قبل أن تخف حدة نبرته ويقول بضيقٍ شديدٍ:
-عارف عقوبة اللي عملته أيه؟!! مش أقل من حبس انفرادي يومين.
تليد بلهجة شديدة:
-مفيش مشكلة.
لم يستغرب الضابط ثورته المِفرطة أبدًا ولم يستنكر كونه رجل دينٍ وكاد أن يقتل رجلاً قبل قليلٍ فحينما تمس المسألة شرف المرء لا يمكنه أن يرى أو يسمع أو يعقل حتى يسترده.
أخبر “ماكسيم” نجلا بما حدث فلجأت فورًا إلى جندها المجهول الذي أجرى اتصالًا المسؤول عن التحقيق في الأمر والتمس منه العذر مبررًا أن الأخير ليس في حالة طبيعية منذ الحادثة ليقرر الضابط تركه وشأنه.
دخلت مبنى النيابة العامة بخطوات راسخة ثم أجرت اتصالًا به ليرسل إليها شخصًا يصحبها إلى مكتبه، انفتح الباب ودخلت بتريثٍ وفضول لتبصر أمامها شابًا وسيمًا للغاية قدرت عمره نحو نهاية العشرينات أو غرة الثلاثين، استقبلها بابتسامة واسعة يملأها الودٍ قبل أن يشير لها أن تجلس، كان الانبهار البادي على وجهها مُثيرًا للضحك ولكنه اكتفى بابتسامة هادئة وقال:
-اتفضلي اقعدي.
زمت شفتيها ورددت بصراحة شديدةٍ:
-أنا كنت فاكرة إن حضرتك أكبر من كدا!!
سكتت هنيهة ثم تابعت بينما شبك هو أصابعه معًا منتظرًا استكمال حديثها مكتفيًا بالابتسام:
-بس باين عليك شاطر جدًا علشان توصل الرتبة دي بسرعة!!
أجابها بهدوءٍ ولم تفارق الابتسامة شفتيه:
-الحمد لله.
تنحنحت “نجلا” بهدوءٍ قبل أن تسأله بفضولٍ رهيبٍ:
-بس أنا بردو ما عرفتش اسمك؟!!!
قطع كلامها في هذه اللحظة صوت طرق خفيف على باب الغرفة ليسمح الأخير للطارق بالدخول في نبرة صارمةٍ ليدخل العسكري ثم يتابع بلهجة رسمية:
-يحيى بيه.. عايزينك في أوضة التحقيقات!
أومأ فانصرف الأخير لتلتفت نحوه مُسرعة تعتلي الدهشة والصدمة صفحة وجهها قبل أن تقول بخفوتٍ وريبةٍ:
-يحيى!!!
أومأ إيجابًا قبل أن يمد ذراعيه نحوها ثم يلتقط كفها بين راحته وسط اتساع عينيها الذاهلتين وهي تتابع كفها القابع بين قبضته ليتابع بلهفةٍ واشتياقٍ ظهرا في صوته المضطرب:
-أنا النقيب يحيى حافظ مدكور.. ابنك يا أمي؟!!!!!!
يتبع
التعليقات